إسلام ويب

قد تواترت الأدلة الشرعية والعقلية على علو الله تعالى على خلقه، فيجب الإيمان به دون النظر إلى اللوازم الباطلة. وأيضاً يجب الإيمان بالإسراء والمعراج، وهو من الغيب الذي ثبت للصديق منزلة الصديقية الإيمان به، فعلى المؤمن أن يثبت عقيدته ويصدق بكل ما صح به الدليل.

دين الله تعالى أصله وثمرته

نحمد الله على كل حال، ونعوذ به من حال أهل النار، ونحمد الله أن جعلنا مسلمين وأعاذنا من شر البدع والمبتدعين، ونحمد الله أن اختار لنا دين الإسلام ورضيه لنا ديناً، وأتم علينا نعمته وأكمل لنا الدين، ونحمد الله أن ثبتنا على دينه، نسأله سبحانه أن يثبتنا عليه إلى الممات.

دين الإسلام الذي اختاره الله لهذه الأمة هو دينه الباقي، وهو دين الأنبياء كلهم أولهم وآخرهم، وأصله معرفة العبد ربه ودينه ونبيه، أصله الاعتراف بالله تعالى رباً وإلهاً ومدبراً، أصله التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، فبعد أن يعترف العبد بأنه سبحانه رب الأرباب ومسبب الأسباب لا إله غيره ولا رب سواه يعقد على ذلك قلبه عقداً محكماً، فيحمله هذا الاعتقاد على أن يبادر إلى الطاعة وأن يبتعد عن المعصية، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يتفانى في خدمة ربه وفي عبادته، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يرخص عنده كل شيء في سبيل رضا ربه سبحانه وتعالى.

ويحمله هذا الاعتقاد على أن يهجر في ذات الله كل قريب وكل بعيد، وعلى أن يرضي الله بسخط الناس كائناً من كان، وعلى أن يلتمس رضا الله بجميع ما ينفق وبجميع ما يملك ولو طلب منه ربه أن يبذل نفسه وأن يبذل ماله لكان ذلك سهلاً رخيصاً عنده؛ ذلك لأنه يعلم أن رضا ربه فيه الفوز وفيه السعادة، وفيه تحصيل خيري الدنيا والآخرة.

ولكن ذلك كله يتوقف على عقيدة القلب العقيدة السليمة الصحيحة التي هي معرفة الله تعالى بكامل صفاته، معرفته بما يستحقه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وإثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى التي يستحق بها أن يعظم حق التعظيم، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ويستحق أن يعبد حق عبادته ويطاع حق طاعته، وتلك العقيدة إذا رسخت في القلب وتمكنت منه فلن تزعزعها شبهة، ولن يزيلها مزيل مهما كانت العوائق ومهما كانت الظروف.

ولاشك أن هذه العقيدة لما رسخت في قلوب الصحابة رضي الله عنهم رأينا لها الآثار، ونزل فيهم قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].. . إلى آخر الآيات.

ونتذكر أن كل من اعتقد هذه العقيدة وثبتت في قلبه ثبوتاً ورسخت رسوخ الجبال أنه يعرف بذلك بعمله، ويعرف بتفانيه بحيث لا تأخذه في الله لومة لائمة، ولو دعي إلى أن يخرج من ماله ونفسه لما توقف في ذلك، فهذه علامة الصدق وعلامة الصادق في هذه العقيدة.

روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66] يقول: أنا من ذلك القليل، لو كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا لفعلنا، أو أن نخرج من أموالنا وديارنا لخرجنا.

وهكذا كل مؤمن، ولكن كل مؤمن صادق وكل مؤمن مصدق وكل مؤمن سليم الإيمان كامل الإيمان يؤمن بأن ما عند الله خير وأبقى، ويؤمن بأن ربه هو الذي أعطاه، وهو الذي يملكه، وهو الذي طلب منه سبحانه وتعالى هذا الطلب، فيهون عليه ذلك الطلب.

إذاً فمعرفة العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة المسلمين مهمة غاية الأهمية، وأصل هذه العقدية -كما قلنا- هو معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهذا هو السبب في أن الرب سبحانه تعرف إلى عباده، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37]، وأكبر مخلوقاته السماوات والأرض، بل ومن مخلوقاته خلقك بنفسك، خلق جنس الإنسان، وخلق الأرض وما بث فيها من دابة، ولا شك أن هذه من أكبر الآيات الدالة على أنه خالق وعلى كل شيء قدير، وإذا كان هو الخالق لهذا الخلق فإنه كما قال ابن كثير المستحق للعبادة.

فيعرفه العباد ويصفونه بصفات الكمال، فيصفونه بأنه هو السميع الذي لا يحجب سمعه شيء، ولا تشتبه عليه الأصوات، وبأنه البصير الذي لا يستر بصره حجاب، وبأنه يرى عباده مهما كان ويرى كل شيء ولا تخفى عليه من عباده خافية، وبأنه العليم الذي يعلم كل ما دق وجل، وكل ما قدم وحدث، وكل كبيرة وصغيرة وبأنه الرحيم بعباده، وبأنه عزيز ذو انتقام، وبأنه صادق الوعد، وبأنه مالك الملك، وبأنه كامل الصفات له الصفات الكاملة التي أثنى بها على نفسه سبحانه ووصفه بها رسوله، فيصفونه بذلك.

فيتعلمون هذه الصفات وأدلتها، وإذا عرفوا أدلتها لا شك أنها يكون لها تأثير في قلوبهم، وتأثيرها في قلوبهم بعد رسوخها بأن تنطق ألسنتهم بذكره، وتخشع قلوبهم لهيبته، وتشتغل أبدانهم كلها بطاعته سبحانه، ويعرفون ما يحبه فيتقربون إليه بكل محبوب، ويعرفون ما يكرهه ويبغضه فيبتعدون عنه غاية البعد، ويعرفون أسباب رضاه فيأتون بها، فذلك هو السبب في التركيز على علم العقيدة.

إذاً فاهتم -أيها الأخ المسلم- بعلم العقيدة حتى ترسخها في قلبك وفي قلب كل مسلم، وتعرف بذلك صادق العقيدة من غيره الذي يعبد الله على شفا جرف.

المعصية دليل على نقص قدر الرب في القلب

واعلم أن كل من رأيته مقصراً في الطاعة، أو كل من رأيته مرتكباً لشيء من المعاصي، فإن ذلك لنقص قدر ربه في قلبه، فقدر الله تعالى وعظمة الرب في القلب لا شك أن لها تأثيرها، فإذا نقص قدرها في القلب ظهرت المعاصي، وظهر التقصير في الطاعات، وظهر ارتكاب شيء من المكروهات أو من المحرمات، فهذه علامة واضحة على كمال الإيمان وثبوته ورسوخه في القلب وعلى نقصه، وهذا هو السبب في تركيزنا على علم العقيدة في هذا الدرس، وكذلك غيرنا من الذين يهتمون به في هذه العقيدة الطحاوية، وفي غيرها من كتب العقائد، فليهتم المسلمون بأمر عقيدتهم، وليعرفوا فوائدها، وليتعبدوا ربهم بموجبها.

إثبات صفة علو الله تعالى على خلقه

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني : سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ -بعد روايته حديث النزول- يقول: سئل أبو حنيفة فقال: ينزل بلا كيف. انتهى.

وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه. فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش.

ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.

وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى].

من صفات الله سبحانه وتعالى أنه القاهر فوق عباده، قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، وقال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، فيؤمن العباد بهذا القهر الذي مقتضاه الغلبة والإحاطة، والقهر: هو قوة الغلبة، بمعنى أنه غالب متصرف في العباد ليس لهم قدرة على التصرف في أنفسهم بدون اختيار الله وقضائه وتدبيره.

ومن صفاته سبحانه أنه هو العلي بجميع أنواع العلو، علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، وكذلك فوقية القدر وفوقية القهر وفوقية الذات، ولا شك أن هذه الصفات قد دلت عليها الأدلة السمعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي مرجع الإسلام في الاستدلال، فمرجع المسلمين في استدلالهم على صفات ربهم هذه النصوص الثابتة المنقولة عن نبيهم نقلاً ثابتاً متواتراً.

ولاشك أن هذا الإثبات للفوقية بجميع أنواعها يستلزم أن يكون الرب سبحانه وتعالى بكل شيء عليم؛ فإنه إذا كان قاهراً لعباده وقادراً عليهم وعالماً بهم ومطلعاً عليهم، ويرى صغيرهم وكبيرهم وخفيهم وجليهم، كان ذلك دالاً على عظمته وعلى إحاطته.

والمخلوقون حقيرون بالنسبة إلى عظمة ربهم، فالمخلوق الذي هو الإنسان جزء صغير من مخلوقات الله، والأرض التي نحن عليها والسماوات التي فوقنا ومحيطة بنا جزء صغير أيضاً من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فإذا كانت الأرض قبضته، والسماوات مطويات بيمينه فما مقدار الإنسان؟! وما قدره في هذا الكون؟!

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السماوات والأرض في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم، وحبة الخردل هي أصغر ما يُتَصَوَّر من الحبوب، فالخردل شجر معروف وحبه صغير جداً، فيقول: إذا قبض أحدكم حبة خردل في كفه هل يحس بأنها تشغل مكاناً؟! كذلك السماوات السبع والأرضون السبع يقبضها الله وكأنها حبة خردل في يد أحدكم.

فإذاً هذا دليل على العظمة، وأن علوه سبحانه وتعالى فوق عباده لا ينافي علمه، ولا ينافي اطلاعه، ولا ينافي علمه بعباده، ولا ينافي رؤيته لهم وقربه منهم وهيمنته عليهم ونظره إليهم وعلمه بأحوالهم وبأقوالهم وسماعه لأصواتهم، وما أشبه ذلك، ألا يكون العبد مستحضراً لذلك في كل حالاته حتى يعبد ربه غاية العبادة، وحتى يخافه غاية الخوف، إذاً فمن أصل عقيدة أهل السنة الاعتقاد بالفوقية لله، وأن ذلك لا ينافي علمه وقربه واطلاعه على عباده.

كذلك عليه أن يعرف العقائد الفاسدة فيجتنبها، أو يركز على عقيدة السلف والأئمة وأهل السنة ويعرض عما سواها من عقائد المبتدعة، كوحدة الوجود والحلوليين ونحوهم من الفرق الضالة الذين أنكروا علو الله وقالوا: إنه لا فوق ولا تحت، ولا مباين ولا محايث. أو: إن وجوده هو وجود الكون، أو: إنه حال في المخلوقات بذاته -تعالى الله عما يقولون-، فكل أولئك لم يثبت الإيمان في قلوبهم ولم ترسخ معرفة الله وعقيدة الإسلام في أفئدتهم، فوسوس إليهم الشيطان أن ذات الله حالة فيكم أو في كل مكان، أو أن وجوده هو وجود الكون أو ما أشبه ذلك، يريدون بذلك أن يبرروا مذاهبهم، فعلى المسلم أن يعرف العقيدة السليمة وأن يعتقدها ويتعبد لله تعالى بموجبها.

الإسراء والمعراج وما ورد فيهما

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، فصلى الله عليه في الآخرة والأولى.

المعراج: مفعال من العروج. أي: الآلة التي يُعرج فيها أي: يصعد، وهو بمنزلة السلَّم، لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيَّبات نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته.

وقوله: (وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة) اختلف الناس في الإسراء:

فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يُفْقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه.

لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يُفْقد جسده. وفرقٌ ما بين الأمرين؛ إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذُهِب به إلى مكة وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه؛ فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت

وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظةً ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات.

وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده.

ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده.

وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق، وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر].

إثبات الإسراء والمعراج من عقائد أهل السنة

من عقائد أهل السنة الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس في ليلة المعراج، وأن ذلك كان بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين أو نحوها، وكذلك من عقائدهم ثبوت الإسراء.

وقد ذكر الله تعالى الإسراء، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] أخبر في الحديث أنه أسري به، يعني: ذُهب به من مكة إلى أن وصل إلى المسجد الأقصى الذي هو مسجد إيلياء، المسجد الأقصى الذي هو الآن معروف.

هذا المسجد هو أحد المساجد الثلاثة، ويُعرف بالمسجد الأقصى، وهو قبلة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وبعد الهجرة أيضاً ظل يستقبله ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، فلذلك يقال: إنه أولى القبلتين.

ويقال: إنه مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) بمعنى أنه يجوز أن يسافر إليه لأجل فضل الصلاة فيه، فالصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره، والصلاة في المسجد النبوي تعدل ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف كما ورد ذلك في الأحاديث، فهذه الثلاثة هي التي يُشد إليها الرحال.

فمسجد إيلياء يسمى مسجد بيت المقدس أو البيت المقدس الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد قيل: إنه جدَّده. وقيل: إنه أول من بناه.

والصحيح أنه بُني قديماً، ثبت في الحديث أنه عليه السلام سئل: (أي المساجد بُني أولاً؟ قال: المسجد الحرام. قيل: ثم ماذا؟ قال: المسجد الأقصى. قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً)، فدل على أنه بُني قديماً؛ لأن المسجد الحرام بناه إبراهيم، وقيل: إن إبراهيم جدَّده، فعلى هذا يكون المسجد الأقصى قديماً.

فالحاصل أنه عليه الصلاة والسلام أسري به ليلاً من المسجد الحرام، أي: من مكة إلى المسجد الأقصى، وأنه جُمع له الأنبياء هناك، وأنه أَمَّهم كما في بعض الروايات.

فأنكرت كفار قريش لما أخبرهم بأنه أسري به وكذبوه وقالوا: إن المسافر إلى بيت المقدس يذهب شهراً ويرجع شهراً، وأنت تذهب في ليلة وترجع في ليلتك؟! هذا كذب وهذا محال! حتى إن بعض من كان قد أسلم رجع عن الإسلام، ولكن لما قيل لـأبي بكر : إن صاحبك زعم أنه الليلة وصل إلى الشام ورجع! فقال: صدق، إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه أن خبر السماء ينزل عليه صباحاً ومساءً، فكيف لا أصدقه إذا أسري به إلى المسجد الأقصى ثم رُجِع به؟!

وفي بعض الأحاديث أنه أتاه جبريل ومعه دابة يقال لها البراق، هذه الدابة هي كما خلق الله، وكان البراق يضع حافره عند منتهى طرْفه، فخطوته الواحدة مد البصر، يضع حافره عند منتهى طرْفه، أي أن سيره أسرع من لمحة البصر، فقطع هذه المسافة في هذه اللحظات، ووصل إلى هناك ثم رجع، وهذا هو الإسراء.

الإسراء والمعراج بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم

والصحيح أنه أسري ببدنه وبروحه، وأن الإسراء كان يقظةً لا مناماً، وذلك لأن قريشاً أنكرت هذا الإسراء واستبعدته، ولم تكن تنكر المنامات، فلو قال: إن ذلك منام، أو إن ذلك أحلام أو رؤيا لصدقوه؛ لأن الإنسان يرى في منامه أنه قطع مسافات وأنه وصل إلى كذا وكذا وهو نائم على فراشه لم يفارقه، فيعترفون بذلك، ولكن لما أخبرهم بهذا كذبوه، فدل على أن الإسراء كان بجسده، وأنه ركب البراق حقيقةً وذهب ورجع، وأخبرهم بآيات وبدلالات، واستوصفوا منه بيت المقدس، واستوصفوا المسجد الأقصى، فعند ذلك وصفه لهم وصفاً دقيقاً، وفي بعض الروايات أن الله تعالى جلَّاه له لما التبس عليه بعض الأشياء، فكشفه له وصوره أمامه فصار يصفه وهم يسألونه فيقول: هذا مكان كذا وهذا مكان كذا، مع أنه لم يأته إلا تلك اللحظة أو تلك اللحظات، فاعترفوا بأن الوصف مطابق لما هو عليه في الحقيقة.

فالإسراء كان يقظةًَ لا مناماً، بجسده وبروحه.

وهناك من يقول: إن الإسراء بالروح فقط، أي أن روحه خرجت وفارقت جسده، وأن الجسد بقي ليس فيه روح، وأن الروح صارت لخفتها فوصلت إلى ذلك المكان، ولكن هذا قول من الأقوال قد استدلوا عليه بقول الله تعالى في سورة الإسراء: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء:60]، ولكن الرؤيا ليست مطلق الحلم، بل الرؤيا كل شيء يُرى ويراه الإنسان يسمى رؤيا، فرؤية الأشخاص، قد تسمى في اللغة رؤيا.

الأدلة على المعراج

أما المعراج فالمعراج هو الصعود إلى السماء، وقد دل عليه من القرآن آيات كريمات في أول سورة النجم، في قوله سبحانه وتعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:5-11] إلخ الآيات.

فإن هذا دليل على أنه رفع جسده حتى كان قاب قوسين أو أدنى، والقوس معروف، وهو الآلة التي يُرمى بها، يعني أنه دنا من ربه فتدلى، يعني: هبط.

فهذه الآيات ونحوها دلالتها على أنه رُفع وأنه أسري به وأنه رأى الملَك في قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15].

وقوله: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:17-18].

وقوله: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم:12].

كل ذلك كان في المعراج حين عُرِج به، والآيات فيها إجمال ذلك، والأحاديث فيها التفصيل لذلك كله، كما هو معروف في كتب الحديث.

فالأحاديث التي في الإسراء في الصحيحين وفي غيرهما، وقد أورد ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء جملة كثيرة من أحاديث الإسراء والمعراج، وأفردها كثير من العلماء بالتأليف وتوسعوا فيها.

فنقول: من العلماء من يقول إن الإسراء كان بالروح كما روي ذلك عن عائشة وغيرها أن الجسد لم يُفقد.

ومنهم -وهو الصحيح- من يقول: إنه كان يقظة لا مناماً، وإنه بالجسد والروح معاً، وإن جسده عُرج به بحيث اخترق السبع السماوات سماءً سماءً، ووجد الأنبياء في السماء وسلم على من وجد منهم، وفُرضت عليه الصلوات، وكلمه الله منه إليه وخاطبه، وخفف عنه عشراً عشراً إلى أن استقرت خمس صلوات، فقال الله تعالى: (لا يُبَدَّل القول لدي، أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي) يعني: عندما خففت الصلوات إلى خمس فرائض.

كل ذلك كان ليلة الإسراء، فالذين قالوا: إن الإسراء تكرر هؤلاء كأنهم يريدون الجمع بين الروايات، ولكن الصحيح أن الإسراء والمعراج لم يتكرر، وإنما هو مرة واحدة، وفي ليلة واحدة، عُرج به من بيت المقدس إلى السماء ثم نزل في ليلته، وما ذلك على الله بعزيز.

حديث الإسراء والمعراج

قال رحمه الله تعالى: [قال الشيخ شمس الدين ابن القيم : يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! وكيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تُفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: (أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي)، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس؟!

وقد غَلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: (فقدَّم وأخَّر وزاد ونقص) ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله.

وكان من حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة -على الصحيح- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكباً على البراق صحبةَ جبريل عليه السلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة.

(ثم عُرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففُتِح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم فلقيهما فسلم عليهما، فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، فرد عليه السلام ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم رُفع إلى سدرة المنتهى، ثم رُفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة.

فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئتَ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه -هذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي بعض الطرق- فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضَى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)]:

هكذا سرد الشارح مجمل حديث الإسراء والمعراج، وهذا على وجه الاختصار، ومن أراد التوسع فليراجعه في صحيح مسلم (باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي صحيح البخاري في آخره في كتاب التوحيد، وفي كتب أهل السنة.

وقد ذكرنا أن ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء أورد أكثر الروايات وساقها بنصها كما هي، وملخصها ما ذكر من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه الملَك وهو في مكة في بيت أم هانئ ، وأتى به إلى المسجد، وفي بعض الروايات أنه غسل قلبه، وملأه حكمةً وإيماناً، غسله من ماء زمزم وملأه، ثم ركب معه على البراق الذي هو دابة الله أعلم بكيفيتها، يضع حافره عند منتهى طرفه، لسرعة سيره، فوصل إلى بيت المقدس في لحظات، ثم صلى بالأنبياء هناك، وبعد ذلك عُرج به إلى السماء.

والعروج لا شك أنه الرُّقِي والصعود، ولا يُعلم كيفية ذلك، ولا شك أنه عُرج بجسده وروحه، إما على نفس الدابة التي هي البراق، وإما أن جبريل حمله فخرق هذا الجو الواسع في لحظات حتى أتى إلى باب السماء الدنيا، فاستفتح الباب فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً بك وبمن جاء معك، ففتح له، فوجد في السماوات أولئك الأنبياء في سماء بعد سماء، فوجد آدم في السماء الدنيا، فسلم عليه، وفي بعض الروايات أنه رآه وعنده أسْوِدَة عن يمينه وأسْوِدَة عن يساره، فإذا نظر إلى مَن عن يساره بكى، وإذا نظر إلى من عن يمينه ضحك، فالذي عن يمينه نَسَم أهل الجنة، والذي عن يساره نَسَم أهل النار، أي: أرواح تعرض عليه من أهل الجنة ومن أهل النار، وهي نَسَم بنيه.

فقيل: إن هذا روحه أي: روح آدم تمثلت هناك، وكذلك أرواح الأنبياء الآخرين مُثِّلت هناك، ويمكن أن تكون جُعلت في أجساد تناسبها وتلائمها، والله أعلم بكيفية تلك الأجساد.

لزوم الإيمان بالإسراء والمعراج دون اعتراض

والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام -كما أخبر الله- عُرج به حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وأوحى الله تعالى إليه، ورفعه إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام، ومر على البيت المعمور الذي في السماء السابعة، وأخبر بأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملَك من تلك السماء، ثم لا يعودون إليه، وكل يوم يدخل فيه غيرهم، وذلك هو البيت الذي ذكره الله في قوله: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:4].

ثم فرضت عليه هذه الصلوات أولاً خمسين صلاة، وخففها الله حتى صارت خمساً، فقال الله: (أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي)، ورجع في ليلته إلى الأرض وأصبح في مكة، وذلك يسير في قدرة الله سبحانه وتعالى.

فيؤمن أهل السنة بذلك، ولو استنكر ذلك من استنكره من المبتدعة ونحوهم، وذلك أن من لا علم عنده، أو من لا يؤمن إلا بالمحسوسات ونحوها قد يستبعد ويقول: إن الإنسان على هذه الأرض، وإنه لا يمكن أن يعيش إذا فارقها، وإنه إنما يعيش بهذا الأكسجين الذي يعيش به.

نقول: كيف لا يجوز أن يكون أهل السماء يعيشون كما يعيش أهل الأرض، وأن يكون عندهم مثلما يكون عند أهل الأرض، والله تعالى على كل شيء قدير؟

وعلى كل حال فالذين يستبعدون ذلك ويقولون: إنه مستحيل أن يفارق الإنسان هذه الأرض أو يرتفع إلى غيرها أو ما أشبه ذلك؛ كل ذلك تخبطات وتخرصات.

وكذلك الذين استنكروه للبعد وقالوا: كيف يقطع هذه المسافات ونحوها؟!

وقد سبق أن أبا بكر رضي الله عنه صدقه وقال: كيف لا أصدقه وهو يأتيه خبر السماء؟ ينزل عليه الملك في لحظات ويصعد في لحظات كطرف العين، فلماذا لا نصدقه؟ وما دمنا عرفنا أنه قد صدق في دعواه أنه مرسل من ربه فكذلك دعواه أنه بُعث وأنه جاء بهذه الشريعة، وهكذا أيضاً ما جاء به من هذا الإسراء والمعراج.

لا شك أيضاً أن هذا يعتبر شرفاً، ويعتبر ميزةً له، ويعتبر فضيلةً من فضائله عليه الصلاة والسلام أنه عُرج به في الحياة، وأنه صعد إلى السماء السابعة، وأنه كلمه ربه منه إليه، وأنه وصل إلى مكان سمع فيه صريف الأقلام، وأن الله خاطبه منه إليه كما يشاء.

فهذا من فضائله، ويذكر مع فضائله أنه جاوز السبع الطباق، أي: السبع السماوات، ورفعه الله فوقها.

فهذا أدخلوه في العقيدة، وذلك لأنه من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وميزته وخصائصه، مما يقد يكذِّب به مَن قَصُر علمُه عن معرفة المغيَّبات واقتصر على ما يظن أنه ظاهر، أو اقتصر على ما تدركه حواسه دون أن يؤمن بقدرة الله على كل شيء، ومن آمن بأن الله تعالى على كل شيء قدير لم يستبعد مثل هذا الحادث العظيم.

رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في المعراج

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربَّه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يرَه بعين رأسه، وقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين على صورته التي خُلِق عليها.

وأما قوله تعالى في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلِّي المذكورَين في قصة الإسراء؛ فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما؛ فإنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8]، فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلِّم الشديدِ القُوَى.

وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريحٌ في أنه دنوُّ الرب تعالى وتدليه، وأما الذي في سورة النجم أنه رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13-14] فهذا هو جبريل، رآه مرتين: مرةً في الأرض ومرةً عند سدرة المنتهى].

الدليل على أن الإسراء كان بجسده صلى الله عليه وسلم

وقال المؤلف: [ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر.

فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب -والله أعلم- أنه كان ذلك إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عِيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك؛ إذ لا يمكن إطْلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته.

وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه لمن تدبره. وبالله التوفيق].

تفسير آيات سورة النجم في المعراج

هذه الآيات من سورة النجم، وهي قول الله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] المعلَّم هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمعلِّم شديد القوى هو الملك، أي: جبريل عليه السلام.

وقوله: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو قوة.

(فَاسْتَوَى): الاستواء هنا: الارتفاع.

(وَهُوَ بِالأُفُقِ): أي ارتفع بالأفق الأعلى، والأفق: واحد الآفاق، وهي الجهات المتقابلة، فعلَّمه واستوى وارتفع وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى [النجم:7].

(ثُمَّ دَنَا) أي: قرُب منه، وذلك أيضاً بعدما عُرج به إلى السماء.

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8]: التدلي والدنو هنا للملَك الذي هو جبريل، أي: قرب منه وتدلى. يعني: انحدر إليه ونزل إليه.

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:8-9] القوس: هو الآلة التي يُرمى بها، كانوا يرمون به بالسهام قبل وجود الأسلحة.

فيقول: إنه دنا منه وقرُب منه وهو يراه، حتى كان منه قدر قوسين أو أقرب من القوسين، هذا معنى دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:8-9].

وأما قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10] فلا شك أن الوحي من الله تعالى، فهو الذي أوحى إلى عبده، وسواءٌ أكان العبد هو الملَك أم البشر فالوحي من الله إلى الملَك الذي هو جبريل، ومن الملك إلى البشر الذي هو محمد عليهما الصلاة والسلام، أوحى إليه الشيء الذي أوحى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10].

أما قوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] فالرؤية هنا قلبية، أي: ما كذَّب الفؤاد بالرؤية التي رآها، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كُشف له وأعطي مكاشفات وأنواراً وفتوحات فُتحت على قلبه فاستنار قلبه، فأصبح كأنه يرى ربه رأي عين وإن كان مع ذلك إنما رآه رؤية بالقلب.

وهذا معنى قول السلف: إنه صلى الله عليه وسلم رآى ربه بقلبه. أي: بتلك الكشوفات والفتوحات والواردات التي ترد على قلبه مما يطمئن به ويقوى بذلك يقينه، فهذا دليل على أنه لم يَرَ ربه رؤيةً بصرية؛ لقوله في الحديث السابق لما قيل له: هل رأيت ربك؟ فقال: (نورٌ أنى أراه؟!) أي: دونه أنوار فكيف أراه؟! وفي رواية: (رأيت نوراً)، فإذاً الرؤية هنا رؤية قلبية.

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ [النجم:11]، وفي قراءة: مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] أي: لم يكذِّب بما رآه من الكشوفات والإلهامات والواردات التي وردت عليه، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11].

وأما قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] فالرؤية هنا أيضاً للملك، أي: ولقد رأى جبريل عليه السلام نزله أخرى أي: مرةً أخرى. فهذه مرة رأى فيها جبريل عليه السلام وهو في السماء على الهيئة والصورة التي خلق عليها وقد سد الأفق، وله ستمائة جناح، والمرة الأولى ذُكرت في سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23]، فرآه بالأفق الأعلى، ورآه بالأفق المبين، قد سد ما بين الأفقين، له ستمائة جناح ينزل منها من الدر والياقوت ما الله به عليم، كما ورد ذلك في حديث.

فإذاً ثبت أن عائشة لما سئلت عن قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23]، وقوله: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:6-13]، فذكرت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بأنه رأى جبريل عليه السلام مرتين في صورته التي خلق عليها، نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13-14]، رآه هذه المرة بالأفق الأعلى عند سدرة المنتهى، وهي سدرة عظيمة في الجنة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن (أوراقها مثل آذان الفيلة، وأن نبقها -يعني: حملها- مثل قلال هجر)، والقِلال: جمع قلة، وهي أواني الفخار الكبيرة التي تُعمل للمياه ونحوها.

هذه هي سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى.

لزوم الإيمان بمثل هذه الغيوب

ففي هذه الآيات من هذه السورة الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم عُرج به فرأى جبريل وهو بالأفق الأعلى، ودنا منه، وأن الله تعالى (أوحى إلى عبده) يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم (ما أوحى) من فرض الصلوات الخمس.

فهذا مثال للإيمان بالغيب أو الأشياء التي لا تدركها الحواس أو يستغربها الإنسان إذا سمعها فيقول: بشر خُلق من الأرض، فكيف مع ذلك رُفع إلى السماء، وادعى أنه خرق السماوات سماءً فوق سماء، ثم نزل وهو على هيئته أو بحياته التي هو عليها، والإنسان خُلق من الأرض ولا يستطيع أن يفارقها؟

نقول: إن ذلك خلق الله وتقديره، وهو الذي يدبر الأشياء كما يشاء، فهو الذي خلق الإنسان وأعطاه الحياة على هذه الأرض، وأنزل عليها آدم وذريته وقال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وقال: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25].

فمعلوم أن الإنسان خلق من هذه الأرض، ولكن لا مانع من أن يُرفع إلى السماء إذا شاء الله تعالى ثم يهبط منها، ويكون مأواه ومماته على الأرض، ومنها يُبعث كما حصل له عليه الصلاة والسلام وللرسل من قبله.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [22] للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

https://audio.islamweb.net