إسلام ويب

إن حادثة الإسراء كانت مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبالمقابل كانت فتنة للكافرين وامتحاناً لضعاف الإيمان، الذين لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، فكفر مثل هؤلاء ولم يعودوا إلى دائرة الإسلام حتى قتلوا مفتونين. وكذلك فإن هذه الحادثة العظيمة تأييد من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعجزة عظيمة تؤكد لجميع من آمن به، أنه مرسل من عند الله عز وجل، وأنه أفضل الأنبياء، وإمام المرسلين وقائدهم.

حسن المكافأة على حسن الصنيع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله! يقول أهل السير: إن الإسراء والمعراج كانا مكافأة ربانية على ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من أفراح وأحزان، فلقد كان بعد حصار دام ثلاث سنوات في شعب أبي طالب ، وما لاقى أثناءه من جوع وحرمان، ولقد كان بعد فقد الناصر الحميم وهو عمه أبو طالب ، وفقد زوجته خديجة أم المؤمنين، ولقد كانت بعد خيبة الأمل في ثقيف وما ناله من سفهائها وصبيانها وعبيدها.

فبعد هذه الآلام كافأ الحبيب حبيبه، فرفعه إليه، وقربه وأدناه، وخلع عليه من حلل الرضا ما أنساه كل ما لاقاه، وكل ما سيلاقيه، فيعتبر الإسراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رحلة الطائف وما عاناه أثناءها تعويضاً عظيماً، وجائزة قيمة على صبره.

فتعال! رعاك الله نتأمل الموقفين، ونقارن بين الحالين: بين رحلة الطائف وبين رحلة الإسراء، فنلاحظ ما يلي:

أنه ذهب إلى الطائف ماشياً بينما ذهب إلى بيت المقدس راكباً على البراق، وكان في صحبته إلى الطائف مولاه زيد بن حارثة ، وصحبه جبريل عليه السلام في رحلة الإسراء، وفي الطائف استقبله بنو عبد ياليل بالسخرية والاستهزاء، وأغروا به العبيد والسفهاء، وفي رحلة الإسراء استقبله الأنبياء والمرسلون، وحيوه أعظم تحية. وفي الطائف لم يجد من يأويه ليبلغ رسالة ربه، وفي الإسراء قدمه جبريل ليكون إماماً للأنبياء، وفي الطائف ضاقت به الأرض فلم يجد مكاناً يأوي إليه، وفي رحلة الإسراء استضافته السماء ليكون مقدماً بين أهلها، وليقف سكانها على علو شأنه عند ربه عز وجل، وفي الطائف لم يقر بنبوته أحد، وعاد منها كما دخلها، وفي رحلة الإسراء آمن به الأنبياء، وصدق رسالته أهل السماء، فجاءت رحلة الإسراء والمعراج تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم لما قد لاقاه ولما سوف يلاقيه في طريق الدعوة إلى الله.

ذكر الإسراء في الكتاب والسنة والسير

وقت الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم

عباد الله! لقد جاء ذكر الإسراء والمعراج في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الصحيحة وفي كتب السيرة.

قال القرطبي : ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، فهو من المتواتر بهذا الوجه.

وذكر القاسمي أنه رواه عشرون صحابياً.

عباد الله! متى كان الإسراء ؟ إن هذا أمر مهم لا بد من بيانه؛ للقضاء على البدع والخرافات التي انتشرت في رجب وفي غير رجب من الشهور.

لقد اختلف العلماء في وقت الإسراء، فلا يعرف في الإسراء تاريخ محدد، ولكن أكثر أهل العلم على أنه بعد رحلة الطائف، ورحلة الطائف كانت في السنة العاشرة.

وأيضاً: ليس هناك مصلحة في معرفة اليوم والشهر إلا عند المبتدعة الذين يفعلون في تلك الليلة من البدع ما لم ينزل الله به سلطاناً، ولو كان هناك مصلحة في معرفة الوقت والتاريخ لعرفه الصحابة؛ فهم أولى بذلك.

وذكرت حادثة الإسراء لا لأنها وقعت في شهر رجب، وإنما ذكرتها لعظيم الفائدة، وحتى ننكر على المبتدعة ما يفعلونه في رجب وفي غير رجب.

بيان مفهوم الإسراء والمعراج

أحبتي! ما معنى الإسراء؟ وما معنى المعراج؟ الإسراء: هو سير الليل، يقال: سريت مسرىً وأسريت إسراءً، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1].

وأما المعراج: فهو السلم الذي يصعد عليه، قال ابن إسحاق : أخبرني من لا أتهمه عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج، ولم أر شيئاً قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه) أي: أن الميت في ساعة الاحتضار يمد عينيه إلى السماء يشاهد المعراج؛ حيث سيعرج بروحه إلى السماء، (وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا احتضر، فأصعدني فيه صاحبي -يعني: جبريل عليه السلام- حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء).

فالأمر ليس كما يظنه كثير من الناس أنه صلى الله عليه وسلم ركب البراق إلى بيت المقدس، ثم ركبه إلى السماء، بل لما وصل إلى بيت المقدس ربط البراق بباب المسجد ثم دخل، ثم صعد على المعراج إلى السماء، ولما عاد ركب البراق إلى مكة ثانية، فـ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا .

وقت صلاة النبي بالأنبياء في بيت المقدس

عباد الله! متى صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء هل ذلك حين ذهابه أو حين رجوعه؟

الظاهر من الأخبار: أنه صلى بهم بعد رجوعه من المعراج، فلما رجع من الحضرة الإلهية العظيمة هبط معه الأنبياء تكريماً له وتعظيماً، فهو قد التقاهم في السماء، وكان جبريل يعرفه بهم، فكان يقول: هذا فلان فيسلم عليه، فهذا إدريس! وهذا يوسف! وهذا هارون! وهذا موسى! وهذا عيسى! فلو كان اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى التعرف إليهم مرة ثانية حين عرج به إلى السماء، ومما يدل على أنه صلى بهم حين عودته: أنه قال في الحديث: (فلما حانت الصلاة أممتهم) ولم يحن وقت صلاة حين ذاك إلا صلاة الفجر، فصلى الأنبياء خلف سيد الأنبياء والمرسلين، فعرف الأنبياء أن هذا هو إمام الأنبياء وأعظمهم، وإلا كيف يؤمهم في محلهم ودار إقامتهم؟! ثم ركب البراق وعاد إلى مكة.

ومما زادني شرفاً وتيهاً

وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك: يا عبادي

وأن صيرت أحمد لي نبياً

فضل المسجد الأقصى ومكانته في قلوب المسلمين

قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] قال القاسمي: والأقصى بمعنى: الأبعد، سمي بذلك لبعده عن مكة، وفي قوله: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] أي: جوانبه، وذلك ببركات الدنيا والدين؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء، ومهبط وحيهم، ومنمى الزروع والثمار، واكتنفته البركة الإلهية من كل نواحيه، فبركته مضاعفة؛ لكونه في أرض مباركة، ولكونه من أعظم مساجد الله، وقد قيل في خصائص الأقصى: أنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلى، والمشهد الأسمى.

وهو بيت نوه الله به في الآيات المفصلة، وتليت فيه الكتب الأربعة، ومن أجل ذلك البيت أمسك الله الشمس ليوشع بن نون لكي لا تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به.

وهو قبلة الصلاة في الملتين، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين، وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين، ولا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه.

ومن فضائله: ما رواه أحمد والحاكم والنسائي وصححه الحاكم عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وإني أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد -يعني: بيت المقدس- إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ونحن نرجوا أن يكون الله قد أعطاه هذا)، قال العلامة أحمد شاكر : إسناده صحيح، وصححه العلامة الألباني رحمه الله.

عباد الله! مما سبق يتبين لنا فضل المسجد الأقصى ومكانته في قلوب المسلمين، ولما استرجعه صلاح الدين من أيدي الصليبيين بدأ الإمام خطبة الجمعة فيه بقول الله تبارك الله وتعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، فنسأل الله كما قطع دابر الذي احتلوه في المرة الأولى أن يقطع دابرهم في المرة الثانية، وأن يستعملنا في ذلك، وأن يمتعنا الله بالصلاة فيه، وما ذلك على الله بعزيز.

موقف الناس من خبر الإسراء

عباد الله! لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج عزاءً وتثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم لما لاقاه ولما سوف يلاقيه في سبيل الدعوة إلى الله، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراء وقد امتلأ قلبه ثقة ويقيناً، كيف لا والله يقول: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18]، كما أنه كان امتحاناً وابتلاءً لمن أسلم وآمن، فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر فما بين مصدق ومكذب، ولشدة الخبر ارتد بعض من آمن ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، ولم تخالط بشاشته القلوب.

جاء عند البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء:60]، أي: امتحاناً وابتلاءً قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم طعام الأثيم، أعاذنا الله وإياكم منها.

وكانت الفتنة في تلك الحادثة ارتداد قوم كانوا قد أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أسري به، ثم عرج به إلى السماء، وجاء المستهزئون إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فأخبروه بالخبر: إن صاحبك -يعنون محمداً- يدعي ليلة البارحة أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ثم عاد من ليلته، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أو قد قال؟ قالوا: نعم، قال: صدق، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، إني أصدقه في خبر السماء يأتيه صباح مساء. فثبت من ثبت عن بينة، وارتد من ارتد عن بينة.

والخلاصة: أن حادثة الإسراء كانت تطميناً ومواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفتنة للكافرين، وامتحاناً لضعاف الإيمان الذين زلزل الحادث إيمانهم، فكفروا ولم يعودوا إلى دائرة الإسلام حتى قتلوا، فنسأل الله العفو والعافية.

فالفتن امتحان وابتلاء قال تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].

كيفية الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم

عباد الله! كيف كان الإسراء؟ قال بعض العلماء: إن الإسراء كان رؤيا منامية، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [الإسراء:60].

وقال بعضهم: إن الإسراء كان بالروح والجسد، وأما المعراج فبالروح فقط.

والذي عليه معظم السلف والخلف من أئمة الأمة وعلمائها أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد معاً، يقظة لا مناماً، يقول ابن حجر : وإلى هذا -يعني: الإسراء والمعراج بالروح والجسد- ذهب جمهور الأمة من العلماء المحدثين، والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ومثله قال ابن القيم في زاد المعاد، قال العلماء: وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس -يعني: أن الإسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً- ويرتاح إليه القلب، إذ لو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط، وكان المقصود رؤيا منامية لم يستبعد المشركون ذلك، ولم ينكروه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في ذلك آية ولا معجزة، فـ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا .

الأحاديث الواردة في ذكر الإسراء والمعراج

عباد الله! وأما الأحاديث الواردة في ذكر الإسراء والمعراج فكثيرة يطول ذكرها، وأتمها حديث أنس عند مسلم وملخص تلك الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل بالبراق -وهو دابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، وليس له أجنحة كما يظن كثير من الجهال- فركبه حتى أتى بيت المقدس، فصلى به ركعتين، ثم عرج به إلى السماء، فالتقى بالأنبياء، التقى بآدم وعيسى ويحيى وإدريس، ورأى إبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

ثم ذهب به إلى سدرة المنتهى، وإذا بورقها كآذان الفيلة، وثمارها كالقلال، فلما غشي السدرة ما غشَّى، هناك أوحى إليه ربه ما أوحى، فأمره بخمسين صلاة، -اسمع بارك الله فيك عظم قدر الصلاة حيث أنها شرعت في السماء- فلا يزال يأتي موسى فيرده إلى ربه: إسأل ربك التخفيف؟ حتى خفف الله على الأمة من خمسين إلى خمس صلوات، وهن بأجر خمسين فأين نحن من صلواتنا؟!

ثم نزل صلى الله عليه وسلم بصحبة جبريل إلى بيت المقدس، فنزل الأنبياء يشيعونه، فصلى بهم صلاة الصبح بالمسجد الأقصى، ثم ركب البراق الذي تركه مربوطاً بحلقة الباب، وعاد إلى مكة في صبيحة تلك الليلة، وقد ذهب عنه كل كرب وغم وحزن، وعاد أكثر ثقة وطمأنينة، فقد رأى بأم عينيه ما كان تلقاه وحياً، وليس من رأى كمن سمع.

وجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو لا يدري كيف سيقابل قريشاً بهذا النبأ العظيم، فما زال جالساً حتى مر به أبو جهل ، فسأله مستهزئاً: هل استفدت الليلة شيئاً يا محمد؟

فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، أسري بي الليلة إلى بيت المقدس.

قال أبو جهل : ثم أصبحت بين ظهرانينا! أسري بك في هذه الليلة ثم عدت من ليلتك؟!

قال النبي صلى الله عليه وسلم واثقاً: أن نعم، قال أبو جهل : أأخبر قومك بهذا؟!

فقال النبي صلى الله عليه وسلم واثقاً: نعم.

فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي! هلموا فأقبلوا علي، فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم فما بين مصدق ومكذب، وواضع يده على رأسه استعظاماً للخبر، وتعجباً منه، ثبت من ثبت عن بينة، وارتد من ارتد عن بينة.

وجاء عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كرباً ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه، لا يسألوني عن شيء إلا أخبرتهم به، وأخبرهم عن عير لهم، ومتى وصولها، وصدق في ذلك، ومع هذا ما زادهم إلا عناداً وتكذيباً).

عباد الله! لقد كان الإسراء محنة قاسية للمؤمنين، واختباراً لصلابة إيمانهم، وثباتهم على عقيدتهم، لم يكن للعرب عهد بمثل هذه الخوارق، ولا ألفت نفوسهم سماع مثل هذه المعجزات التي تخالف ما تعودته نفوسهم من المحسوسات والماديات، إنهم يذهبون شهراً، ويعودون شهراً في رحلة الشام، فكيف يذهب محمد ويرجع في ليلة واحدة؟ بل في جزء من الليلة، فأخذ الشك يتسرب حتى إلى نفوس المؤمنين، وإن خبر السماء لأهون على نفوسهم من ذلك؛ لأن الذي يأتي بخبر السماء ملك من أهل السماء، وأهل السماء يقدرون على ما لا يقدر عليه أهل الأرض، ولهذا قالوا: والله إن العير شهراً من مكة إلى الشام مدبرة وشهراً مقبلة، أفيذهب محمد ويرجع في ليلة واحدة؟ لذلك قال أهل العلم: لم يكن الإسراء والمعراج مجرد خارقة من الخوارق أجراها الله لنبيه لتكون دليلاً على صدق ما ادعاه من النبوة، فإن صدقه صلى الله عليه وسلم قد ذاع قبل هذا، ولا يحتاج إلى دليل أو إلى غيره.

دروس وعبر من رحلة الإسراء

لقد اشتمل الإسراء على دروس وعبر أهمها:

أولاً: إثبات القدرة الإلهية، وأنه لا يستعصي على قدرته شيء، لهذا قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا أي: تنزه عن كل نقص وعيب، إنها قدرة لا يقف أمامها حدود، ولا تعطل سيرها سدود، قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].

ثانياً: هذه الرسالة عامة لجميع الأمم، فلقد وصل بيت المقدس وصلى فيه، ثم أم فيه الأنبياء وهو مهبط رسالاتهم ووحيهم، ولم يكن الاجتماع فيه لمجرد الاجتماع به، وإنما كان للإقرار بنبوته، وتفوقه عليهم في المكانة، وعلو قدره ومكانته عند ربه، وصلاته بهم اعترافاً منهم بحقه، ودعوة لأممهم لطاعته والاقتداء به، وإن تحول القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام دليل على أن أهل القبلتين لا بد لهم من اتباع قبلته.

ثالثاً: الإسراء دليل على أن الأرض كلها دولة إسلامية، وأن الدولة الإسلامية ليس لها حدود تنتهي عنده، فنبي الإسلام ولد في مكة، وأسري به إلى بيت المقدس، وهاجر إلى المدينة، وهاجر أصحابه إلى الحبشة، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، قال الله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:105-106].

وفي ذهابه إلى بيت المقدس وهو واقع في نطاق الإمبراطورية الرومانية إشارة إلى زوال تلك الإمبراطورية، وضمها إلى رقعة الدولة الإسلامية، ولقد تحقق ذلك مصداق قوله تبارك وتعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].

فمرت أعوام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفتح بيت المقدس، وذلك في عهد عمر رضي الله عنه واليوم:

نساء سراييفو يتلفعن بالأسى

وفي بيت لحم قاصرات وقصر

أيا عمر الفاروق هل لك عودة

فإن جيوش الروم ترغي وتزبد

جيوشك في البلقان شدوا سروجهم

ونحن في بيوتنا نلهو ونلعب

اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين!

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

شهر رجب والبدع الواردة فيه

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.

اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.

عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].

عباد الله! رجب شهر من الأشهر الحرم الأربعة، وهي ثلاثة متصلة: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وواحد فرد هو شهر رجب، واختلف في سبب تسمية هذه الأشهر حرماً على أقوال:

فقيل: لعظم حرمتها وحرمت الذنوب فيها، وقيل: سميت حرماً لتحريم القتال فيها، وكان ذلك معروفاً في الجاهلية، وقيل: إن سبب التحريم لأجل التمكن من الحج والعمرة، فيأمن الحجاج على أنفسهم ذهاباً وعودة.

ومما يجب أن يعلم: أن رجب شهر كسائر الشهور يستحب فيه من الأعمال الصالحة ما يستحب في غيره من الشهور بلا تميز عن سائر الشهور، ولقد انتشرت بدع كثيرة لا بد من التنبيه عليها:

أولها: صلاة الرغائب، وهي صلاة يصليها المبتدعة في أول خميس من شهر رجب بين المغرب والعشاء يصلون اثنتي عشرة ركعة، وهي ما أنزل الله بها من سلطان، قال الحافظ العراقي وغيره: حديثه موضوع لا أصل له.

ثانيها: صلاة ليلة المعراج، وإحياؤها والاحتفال بها، قلنا: ليلة الإسراء والمعراج ليلة غير معروفة، فلم يعرفها الصحابة فكيف يعرفها من بعدهم؟! فيحيونها في ليلة السابع والعشرين مبتدعين ومغيرين في دين الله، وليلة المعراج لم يعرف لها وقت معين.

ثالثها: تخصيص بعض الأيام بالصيام أو العمرة كالعمرة الرجبية، أو غيرها، وهذا أمر لم ينزل الله به سلطاناً، ولا دليل على ذلك.

ومما انتشر بين الناس في جوالاتهم وفي رسائلهم: التهنئة بدخول شهر رجب، بقولهم: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، قال أهل العلم: هذا حديث ضعيف، بل أنكره بعض أهل العلم.

فعليكم عباد الله بسنة نبيكم وسنة الخلفاء المهديين من بعده، عضوا عليه بالنواجذ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

فاحذروا من البدع رعاكم الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما وقع هؤلاء في بدعهم إلا لجهلهم بما أنزل الله تبارك وتعالى، والجهل يدفع بالعلم ويصده، فتعلموا بارك الله فيكم أمور دينكم، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين.

اللهم أقم علم الجهاد، واقمع على أهل الشرك والزيغ والعناد.

اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمتك، اللهم حرر أقصانا من أيدي اليهود، ورد العراق لنا رداً جميلاً يا رب العالمين!

اللهم أخرج الكفرة الصليبيين من بلاد المسلمين أذلة صاغرين، اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.

اللهم عليك بهم وبمن والاهم، يا رب العالمين! اللهم اشدد وطأتك على أمريكا وأعوانها، اللهم اشدد وطأتك على اليهود الغاصبين، والشيوعيين والمنافقين يا قيوم السماوات والأرضين!

اللهم فك أسرانا في كوبا وفي كل مكان، وهيئ لهم من أمرهم رشداً، واجعل لهم من أمرهم مرفقاً، وثبتهم على طاعتك يا رب العالمين!

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا رب العالمين!

اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، لا خزايا ولا مفتونين.

اللهم لا تؤاخذنا بالتقصير، واعف عنا الكثير، وتقبل منا اليسير، إنك يا مولانا! نعم المولى ونعم المصير.

عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإسراء والمعراج وبدع رجب للشيخ : خالد الراشد

https://audio.islamweb.net