إسلام ويب

الماء ينقسم إلى: طاهر وطهور ونجس، خلافاً للأحناف وابن تيمية، فهم يرون أن الماء لا يخرج عن كونه طاهراً أو نجساً، ومن المسائل التي كثر الجدل فيها بين الفقهاء: مسألة الماء المستعمل، ففي مذهب الإمام الشافعي أن الماء المستعمل طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، واستدلوا على ذلك بالأثر والنظر، وللماء المستعمل حالات وصور كثيرة لا ينبغي للفقيه أن يجهلها.

أقسام المياه عند الشافعية

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد.

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم المياه على أربعة أقسام: طاهر غير مطهر، وهو الماء المستعمل، والمتغير بما خالطه من الطهارات، وماء نجس، وهو الذي حلت فيه نجاسة، وهو دون القلتين أو كان قلتين فتغير، والقلتان خمسمائة رطل بغدادي تقريباً في الأصح ].

تكلمنا فيما سبق عن أقسام المياه ، وبينا أن تقسيم المذهب هو التقسيم الراجح والصحيح، وما خالف في ذلك إلا الأحناف، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبينا أن هذا فيه ضعف، وقلنا: إن المياه على ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس.

الأدلة من الأثر والنظر على الماء الطهور

وهذا يؤيده الأثر والنظر، أما من الأثر: فقوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، ولم يذكر: (طاهراً)، وقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ، ولم يذكر (طاهراً).

وقلنا: إن الطهور لا بد فيه من بيان معناه؛ حيث وأن الأدلة جاءت مجملة، غير مبينة لمعنى (الطهور)، ولعل سائلاً يسأل: ما معنى الطهور المذكور في الآية والحديث؟

فيجاب بأن الطهور يطلق على أمرين: الأول: الطاهر في نفسه.

والثاني: الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وعند ذلك يتضح لنا معنى الإجمال في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الأنفال:11]، فإنه قد جاء بيان هذا المجمل بقوله: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]، فتعدى الطهارة ليصبح طاهراً مطهراً لغيره.

وأما من النظر: فإنك إذا نظرت إلى الماء وجدته باقياً على أصل خلقته لم يتغير منه أحد أوصافه الثلاثة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه) ، وهذه الزيادة في الحديث، وإن كانت ضعيفة، إلا أن الإجماع وقع عليها، فإذا تغير أحد أوصاف الماء بشيء طاهر خالطه فعند ذلك قد يسأل سائل: تحت أي قسم من أقسام المياه يندرج هذا لدى الأحناف وابن تيمية، فمثلاً: ماء اختلط به كافور، أو ورد، أو مسك؟ فالجواب: أنه يندرج تحت قسم الطهور).

الماء الطهور، وأقسامه

والصحيح أن الماء: طهور، وطاهر، ونجس، وقد قلنا: بأن الطهور على قسمين: الأول: طاهر في نفسه مطهر لغيره بلا كراهة.

الثاني: طاهر في نفسه مطهر لغيره مع الكراهة.

وذكرنا أصنافاً وأقساماً أخرى، وآخرها الماء المشمس.

أحوال الماء المشمس

الحالة الأولى: إذا كان شديد الحرارة.

الحالة الثانية: إذا كان معتدل الحرارة، وعند ذلك يستطيع المكلف أن يسبغ الوضوء، وأن يوصل الماء إلى كل عضو من أعضاء الوضوء.

وإسباغ الوضوء محل خلاف بين العلماء، فالقول الأول: إن كان الإسباغ هو للعضو نفسه، أي: للجزء المفترض على المكلف، فإن إسباغ الوضوء هو إتمامه على وجهه المفترض الذي أمر به الشارع الحكيم.

القول الثاني: الزيادة في غسل الأعضاء، بأن يشرع في الغسل إلى العضد والساق، وبهذين القولين للعلماء في الإسباغ فقد نظروا إلى الماء المسخن، فقالوا: إن استطاع بهذا الماء إسباغ الوضوء صح وضوءه دون كراهة، وإن لم يستطع إسباغ الوضوء صح وضوءه مع الكراهة، والقول بالكراهة متفرع عن تفسير العلماء للإسباغ، وقد جاءت السنة النبوية بالزيادة في غسل الأعضاء، وقد ورد ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يتوضأ فيشرع في الغسل إلى العضد والساق. وقد قرر الحافظ ابن حجر أن هذا من المرفوع، وليس من المدرج، وعلى ذلك قال بعض العلماء: إن الإسباغ هو: الزيادة في موضع الزيادة، وتفرع عن هذا القول قولان لأهل العلم، القول الأول: الحرمة، والقول الثاني: الكراهة.

فإذا ترك مستحباً فهو مكروه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا توضأ شرع إلى العضد والساق، ويحرم بناءً على من قال بأن الإسباغ هو: وصول الماء للعضو نفسه فقط بدون زيادة؛ لأنه يكمل غسل الفرض كما جاء في حديث أبي هريرة السابق، والصلاة تكون عند ذلك صحيحة، لكن الوضوء غير كامل.

الماء الطاهر، وأقسامه عند الشافعية

والخلاصة: أن الشافعية جعلوا الماء المشمس -المسخن- في مصف المياه المكروه استعمالها، وإن كانت طاهرة مطهرة لغيرها.

القسم الثاني الذي قسمه العلماء: وهو الماء الطاهر، والماء الطاهر عند الشافعية أقسام: ماء طهور باق على أصل خلقته، ثم تغير بالاستعمال أو سلبت طهوريته بالاستعمال، ويسمى بـ: الماء المستعمل، وماء طهور باقٍ على أصل خلقته، وتغيرت أحد أوصافه الثلاثة بمخالطة الطاهرات له.

الماء المستعمل

القسم الأول: الماء المستعمل، فالكلام عليه عند الشافعية من وجوه، الوجه الأول: ضبط تعريف الماء المستعمل، الثاني: أقسام الماء المستعمل، الثالث: حكمُ استعمال الماء المستعمل.

ضابط الماء المستعمل

والماء لا يكون مستعملاً إلا بقيدين عند الشافعية:

القيد الأول: أن يكون منفصلاً عن العضو مستخدماً في الطهارة، فخرج بذلك: الماء المتردد على العضو، وقد جاء من حديث رقية وغيرها: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ فلم يمسح على رأسه فوجد بللاً في لحيته، فأخذ البلل ومسح به رأسه) ، فهذا الماء الباقي على اللحية يُسمَّى عند الشافعية، بـ(الماء المتردد على العضو)، ولا يسمى (مستعملاً) عند الشافعية، فقد يقال: كيف يقول الشافعية بأن الماء المستعمل غير طاهر وعندهم حديث ظاهر في هذه المسألة، وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أبق لي أبق لي، ويقول: أبق لي أبق لي). ففي هذا الحديث دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الماء المستعمل، وعائشة كذلك استعملت الماء المستعمل؟ فالجواب: أن هذا التفسير غير صحيح للحديث؛ لأن هذا الدليل أجنبي عن النزاع، ولأن ما في الإناء لا يسمى مستعملاً.

والقيد الثاني: أن يستعمله في طهارة فرض، فخرج بذلك: الطهارة للنفل.

فلو أن رجلاً توضأ لصلاة الفجر، وبقي على الوضوء إلى صلاة الظهر، ثم توضأ لصلاة الظهر، وهو لا يزال على طهارة من الفجر، فجاء رجلٌ آخر وأراد أن يتوضأ بهذا الماء المستعمل (من طهارة نفلٍ) فإن هذا الماء لا يكون مستعملاً؛ لأنه لم يُستعمل في الطهارة للغرض، وإنما استُعمل في الطهارة للنفل.

وهذا القيد صراحة فيه ضعف؛ لأنك لو دققت النظر فيه لوجدت أن النية هي التي تفرق بين أن تكون هذه الطهارة لفرض أو نفل.

أيضاً قالوا: إن النية للفرض تسلب الطهورية عن الماء، وهذا ليس بتقعيد صحيح في المياه؛ لأن النية لا تسلب الطهورية عن الماء، فيبقى القيد الأول هو السالم والصحيح لأن يكون قيداً للماء المستعمل.

أقسام الماء المستعمل، وآراء العلماء فيه

أقسام الماء المستعمل:

القسم الأول: ماء استعمل لإزالة النجس؛ لأن الطهارة الحسية طهارتان: طهارة لإزالة النجس، وطهارة لرفع الحدث، ولذلك جاء في حديث المغيرة بن شعبة في الصحيح قال: (ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأشجار -يعني ذهب فأبعد- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد قضاء الحاجة أبعد فقضى حاجته، فأتاه بإداوة فيها ماء فأخذ الماء فاستنجى به، ثم توضأ ومسح على الخفين)، فالاستنجاء بالماء هو: استعمال الماء، ويسمى: (الاستطابة).

القسم الثاني: ماء استعمل لرفع الحدث.

فأما القسم الأول المستعمل في إزالة النجس فهو نجس بالاتفاق، ولا تصح الطهارة به ولا استعماله، والدليل على ذلك: أنه ماء قليل لاقى نجاسة، سواء تغير أم لم يتغير، وهذا على المذهب وهو الراجح.

والخلاصة: أن الماء المستعمل لإزالة النجس، غير طاهر وغير طهور.

وأما القسم الثاني -وهو الذي وقع فيه الخلاف- فهو الماء المستعمل في رفع الحدث، بشرط أن ينفصل عن العضو، وشرط آخر: أن يستعمل في طهارة فرض لا نفل.

وسبق أن قلنا بترجيح القيد الأول أو الشرط الأول.

وهذه المسألة في المذهب لها قولان، وقبل أن أدخل في هذه المسألة فإنه إذا قال الشافعية: في المسألة قولان، فالمراد بذلك قولان لإمام المذهب، وإذا قالوا: في المسألة وجهان، فالمراد بذلك: تخريج الأصحاب على قول للشافعي ، فهو لم يرد القول للشافعي ، وإنما أخذوا أصول الشافعي وخرجوا له منها قولاً.

إذاً: في المسألة قولان ينقل عن الشافعي: القول الأول: عدم استعمال هذا الماء؛ لأنه مسلوب الطهورية، فهو طاهر في نفسه وليس بطهور، ورجحه النووي.

والقول الثاني: قاله أبو ثور ، -وأبو ثور من أصحاب الإمام الشافعي - والصحيح أنه قول للشافعي بأنه: طهور، ويترك تعبداً، ورجحه الرافعي .

وأدلة الفريقين على النحو الآتي: فالفريق الأول لهم أدلة من الأثر والنظر: أما من الأثر: فاستدلوا بحديث في سنن أبي داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة)، وقد حسنه بعض العلماء، وضعفه آخرون.

فقالوا: نحن نتفق جميعاً على أن المتبقي في الإناء من فضل طهور المرأة يصح للإنسان أن يتوضأ به ويستعمله؛ لأنه ليس بمستعمل، ولم ينفصل عن العضو، ثم يبقى لنا توجيه هذا الحديث الذي نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن التطهر والوضوء بفضل طهور المرأة، فنقول: توجيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بفضل طهور المرأة محمول على الماء المستعمل.

ومما استدلوا به كذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح، قال النبي: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) وتوجيه الحديث: أن الماء هذا لا يصير نجساً بالاغتسال فيه، فلو انغمس الجنب في البئر، فإنه يرفع الحدث الأكبر عنه، ولا يصير الماء نجساً بذلك، قالوا: فنهي النبي صلى الله عليه وسلم هنا يتوجه على أن الماء يصير مستعملاً، فيأتي المكلف فيريد أن يستعمل الماء، فيعلم أن من الناس مَنْ قد استعمله، فلا يصح له استعماله؛ لأنه قد سلبت طهوريته بالاستعمال.

وأما دليلهم من النظر: فهو القياس على الماء الذي اتفقنا عليه؛ لأن هناك قاعدة عند العلماء تقول: عند التنازع نرد المختلف فيه إلى المتفق عليه، ونحن معاشر الشافعية متفقون على أن الماء الذي استعمل في إزالة النجاسة نجس، فعند ذلك نقيس هذا الماء على الماء المستعمل في إزالة النجاسة، فبالقياس ينبني لنا أن هذا الماء لا يصح استعماله.

وأما الفريق الثاني فلهم أدلة من الأثر والنظر: فأما من الأثر: فقوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، قالوا: وتفسير الطهور بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيَّر طعمه أو لونه أو ريحه) ، وهذه الزيادة وقع الإجماع عليها كما ذكرنا وهذا الماء لم يتغيَّر منه أحد أوصافه الثلاثة، فلم تسلب منه الطهورية، ولم يتغير منه شيء.

أيضاً استدلوا بحديث، أنه صلى الله عليه وسلم عندما دخل على ميمونة ، وكان قد بقي ماء من طهورها، فأراد صلى الله عليه وسلم استعماله فقالت: يا رسول الله! إني كنت جنباً، يعني: اغتسلت من هذا الماء وأنا جنب، فقال لها: (سبحان الله! إن الماء لا يجنب) ، وهذا فيه دلالة على أن الماء باقٍ على أصل خلقته.

وأما دليلهم من النظر: فقالوا: نحن وأنتم متفقون على أن الماء الطهور: هو الماء الذي بقي على أصل خلقته، فلم يتغير منه طعم أو لون أو رائحة، وهذا الماء قد بقي على أصل خلقته، ولم نر فيه تغييراً في الطعم ولا في اللون ولا في الرائحة، فهذه أدلة من الأثر والنظر تبين لنا أن الماء المستعمل لم تسلب طهوريته، فلما قال ذلك الرافعي ، اعترض النووي ، وقال: أنت وأنا نتفق على المنع من استعماله، فلم تمنع من استعماله مع أنك قلت بطهوريته؟ قال الرافعي : قلت ذلك تعبداً، قال النووي : أنا ألجئك بالقول بسلب طهوريته، فقال له: وكيف ذلك؟ قال: إن أصحاب رسول الله عندما كانوا يسافرون ومعهم الماء، فكانوا يتوضؤون، فإذا احتاجوا إلى الماء لشربهم أو غيره تيمموا، ولا يجمعون الباقي من المستعمل في طهارتهم، فدل ذلك على أنه لو كان على الطهورية، لفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ولاستعملوه، فقال له الرافعي : ألزمتني الحجة، وأنا أوافقك على أن الصحابة كانوا يتوضؤون ولا يجمعون هذا الماء ليستعملوه مرة ثانية، لكن ليس لعدم الطهورية، بل تعبداً أو استقذاراً، وهذا كلام المالكية.

والخلاصة: أن الراجح والصحيح: أن الماء المستعمل لرفع حدث باق على أصل خلقته، وهو على الطهورية، فلم تسلب الطهورية منه، وهو الراجح من المذهب، لكنه لم يستعمل إما استقذاراً وإما تعبداً.

وأما الرد على ما استدل به الفريق الأول فإننا نقول: أما الحديث الذي استدلوا به (أنه صلى الله عليه وسلم: نهى الرجل أن يتوضأ بفضل طهور المرأة) ، فهو حديث متكلم فيه، أي: حديث ضعيف، وقد صححه الإمام النووي رحمه الله تعالى، وعلى فرض القول بصحته، فإن لنا فيه توجيهاً، وهو: أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يتوضأ الإنسان بفضل طهور المرأة، فنقول: إن هذا النهي هو للاستحباب، وليس للوجوب، ويكون لعلة الاستقذار فالإنسان عندما يرى امرأة تتوضأ أمامه يستقذر أن يستعمل هذا الماء المنفصل عن عضوها، فالنهي هنا ليس لأنه سُلِبَ منه الطهورية، ولكن للاستقذار أو للتعبد، فإذا قلنا فرضاً لصحة هذا الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ الماء الذي استعملته ميمونة ، واغتسل به، فبطل الاستدلال به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل الماء الذي بقي من استعمال ميمونة له. والحديث عام في المتبقي من الماء وفي المستعمل، ولا يوجد دليل على الخصوصية، ومن زعم ذلك فعليه بالدليل، وأما بالنسبة للحديث الصحيح، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الجنب في الماء الدائم)، فنقول لأصحاب القول الأول: نحن نتفق معكم على هذا النهي، لكن لا نتفق معكم على توجيهكم لهذا النهي، بأن الماء سيصير مستعملاً بل لا يصير مستعملاً، ولو صار مستعملاً فلن تسلب الطهورية منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك سداً للذريعة، حتى لا يأتي المكلف فينظر إليك، فيجدك قد وقعت أو غصت في هذا الماء، فيستقذر الماء فلا يستعمله، وأيضاً لا يوجد دليل صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تغتسل في الماء الدائم وأنت جنب؛ لأنه سيصير مستعملاً فيسلب طهوريته، بل إن الماء إذا وقع فيه أحد، ثم خرج منه، فإنه لم يتغير منه أحد أوصافه الثلاثة، فدل ذلك على أن هذا الماء باق على أصل خلقته، وهذا الرد عليهم من جهة الأثر.

والرد عليهم من جهة النظر: أنهم قاسوا الماء المستعمل في النجاسة على الماء المستعمل في الطهارة، فنقول: إن هذا القياس قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، وهذه قوادح في العلة، والأصل هنا لا يساوي الفرع في العلة، فلا يمكن أن تقيس؛ لأن الأصل لا يساوي الفرع؛ لعدم المطابقة بينهما فالماء الذي استعمل لإزالة النجاسة قد لاقى نجساً، أما الآخر فقد لاقى محلاً طاهراً. وعند ذلك اختلف المحلان، فالمحل الأول نجس، والآخر طاهر، فلا يصح قياس المحل الطاهر على المحل النجس.

وأما الاستدلال بأن الصحابة لم يستخدموا هذا الماء، فنقول أيضاً: توجيهكم بعدم استخدام الصحابة في أسفارهم للماء المتبقي توجيه غير سديد، بل التوجيه الصحيح: أن لهذا الدليل توجيهان: التوجيه الأول: أن هذا الماء كان قليلاً، ولا يمكن جمعه؛ لأنه يتناثر على التراب، فلا يبقى منه ماء كثير يُمكن أن يُتطهر به. فمثلاً: لو أن رجلاً في صحراء ومعه زجاجة ماء، فاستعمل نصف الزجاجة في الشرب، ثم أخذ الشطر الآخر، وقال: أتوضأ لأصلي، وبينما يتوضأ يتناثر ويتساقط الماء على الرمال فلا يمكن أن يجمعه ليستخدمه في طهارة أخر.

التوجيه الثاني: أنه للاستقذار، أي: استقذر هذا الماء لا أنه سلب منه الطهورية.

والخلاصة: أن الماء المستعمل في (طهارة الحدث) بقي على أصل خلقته، لم يتغير منه طعم أو لون أو رائحة، فينزل تحت عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، ويصح استعماله أيضاً خلافاً للشافعية، لا تقذراً أو تعبداً كما قال المالكية. والراجح في ذلك: أن الماء المستعمل لو بقي مدة طويلة، فله استعماله.

حكم الماء الطاهر إذا اختلط بغيره من الطاهرات

النوع الثاني: الطاهر الذي خالطه طاهر، وهو قول واحدٌ عند الشافعية، فهو طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، كماء القطران، وماء الورد، وماء الزعفران، وماء السدر، وماء الكافور.

أنواع المتغير من المياه

المتغيِّر أنواع: منها: المتغير بالطاهرات وهو أقسام: القسم الأول: المتغير بالإضافة، والإضافة إضافتان: إضافة تسلب الطهورية، وإضافة لا تسلب الطهورية.

أولاً: الإضافة التي لا تسلب الطهورية: كإضافة مقر، كأن تقول: ماء بئر، وماء بحر، وماء نهر، فهذه تسمى إضافة مقر، وهي لا تسلب الطهورية، مع أنه ماء مقيد، فهي ليست إضافة لازمة. مثاله: أن تقول عن ماء البحر وأنت واقف على الشاطئ: هذا ماء فتتوضأ منه، فيمكن أن يتخلى عن هذه الإضافة.

الثانية: إضافة وصف، كأن تقول: ماء زلال، وماء عذب، وماء أجاج، فهذه لا تسلب الطهورية منه.

ثانياً: إضافة تسلب الطهورية، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إضافة جنس، وإضافة حكم، وإضافة غلبة.

فأما القسم الأول: إضافة غلبة، فهو الذي يحدث فيه التغيير، والتغيير هنا تغيير بالمخالطة، وتغيير بالمجاورة.

فأما المتغير بالمخالطة فهو: الذي ذابت فيه جزيئات المخالط في الماء مثل: ذوبان جزيئات السكر في الماء، وذوبان جزيئات القطران في الماء، وهكذا.

وأما المتغير بالمجاورة: فهو إما أن يكون تغيير مقر، أو تغيير جوار.

فالتغيير بالمقر مثل: الطحلب الذي يكون في الماء، والتغيير بالجوار، مثل الميتة توضع على حافة البئر، والأشجار التي تتساقط أوراقها في الماء، فتؤدي إلى تغيُّر الماء؛ بسبب المجاورة.

ومن المتغير ما يكون بسبب طول المكث.

والخلاصة: أن المتغير بالمخالطة طاهر، لكن لا يصح استعماله، وأما المتغير بالمجاورة فلا تسلب الطهورية منه، بل يبقى على أصل خلقته ويتوضأ به عند الشافعية، ويقولون: للضرورة، والصحيح أنه على الطهورية؛ لأنه يشق صون الماء عنه.

الرد على شيخ الإسلام، ومن وافقه في تقسيمه للمياه

أختم هذا الباب بالرد على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، في تقسيمه المياه إلى قسمين: طاهر، ونجس، وأقول: ليس عندهم إلا أثران في ذلك، الأثر الأول: حديث في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اغسلنها بماء وسدر)، ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن العربي أنه قال: وهذه فيه دلالة على أن الماء المتغير بما خالطه من الطاهرات، طاهر يصح استعماله؛ لأنه قال: (اغسلنها)، وهذا الغسل هو للميت، وقد صح بماء وسدر، بل وقال: (واجعلن في الآخرة كافوراً)، فهذا أيضاً ماء مخلوط بكافور، ففيه دلالة: على أنه يصح استعمال الماء المتغير بالطاهر.

الأثر الثاني: حديث عند أبي داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ هو وميمونة من قصعة كان فيها أثر العجين).

فأما الرد على الأثر الأول: فإنه قد يعتريه بعض الاحتمالات، الاحتمال الأول: أنه إذا غُسِلَ الميت بماء وسدرٍ، ثم غسل بماء فقط، فهل يصح أن نقول: بأننا قد ائتمرنا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أننا قد غسلنا الميت بالماء الذي خالطه سدر، ثم غسلناه بالماء فقط؟ الجواب: قد يحتمل هذا وقد لا يحتمل.

الإجابة الثانية: أن الماء كان كثيراً، وكان السدر قليلاً، فائتونا بالدليل على أن السدر قد غير الماء؛ لأنه قال: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً إن رأيتن ذلك)، فإذاً لا بد أن يكون الماء كثيراً، والسدر قليلاً، وعند ذلك يكون عندنا احتمال آخر، وهو: أن السدر لم يغير الماء، فالماء لا تسلب طهوريته إلا إذا تغير، فهو غير متغير، وهذا الاحتمال قائم، والدليل إذا تتطرق إليه الاحتمال كساه الإجمال وسقط الاستدلال به.

وأما الأثر الثاني الذي استدلوا به: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من قصعة فيها أثر عجين). فـابن قدامة يقول: وأما الإجابة عن هذا الأثر، بأن الماء الذي توضأ منه صلى الله عليه وسلم كان فيه أثر العجين فلم يؤثر في الماء بالتغيير؛ فالعجين كان قليلاً فبقي الماء على أصل خلقته، لم تسلب طهوريته؛ فيصح الوضوء والتطهر به.

والإجابة الثانية: أن نقول: كانت صلبة، يعني: لم تذب جزئياتها في الماء، ولو أننا سلَّمنا جدلاً: بأن الماء قد تأثر بهذا العجين وتغيَّر فإن هذا التغيير يكون بالمجاورة وليس بالمخالطة، وعندنا التغيير بالمجاورة يصح التطهر به؛ لأنه لا يسلب الطهورية؛ لأننا نتفق جميعاً على أنه إذا وقع ورق الشجر على الماء فغيَّره، فيجوز لنا التطهر به؛ لأن التغيير لم يكن بالمخالطة، فمازالت جزئيات الماء كما هي لم تتحد مع جزئيات أخرى.

الخلاصة: أن المسألة تبقى على الأثر النبوي واللفظ النبوي دون تغيير، قال صلى الله عليه وسلم: (الطهور ماؤه)، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، إذاً طهورٌ وليس بطاهر، حتى نقف عند الآثار النبوية، والألفاظ النبوية التي جاءت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، وبهذا تسلم الأدلة لنا، فنقول: بأن الماء طهور وطاهر ونجس.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح متن أبي شجاع - أنواع المياه - الماء الطهور والطاهر للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

https://audio.islamweb.net