إسلام ويب

ذكر الله تعالى في هذه الآيات حال المنافقين في غزوة الأحزاب من أنهم يشكون في وعد الله تعالى ووعد رسوله، وأنهم يفرون من أرض المعركة بمبررات واهية، وأنهم أخلفوا وعد الله ووعد رسوله.

تفسير قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض... ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:13-17].

لما ذكر الله عز وجل ما كان في يوم الأحزاب من نصر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، بعدما زلزلوا زلزالاً شديداً وفتنوا فتنة عظيمة، ذكر لنا ما صنع المنافقون في هذا الوقت، ليفضح المنافقين ويحذر المؤمنين أن يطيعوا مثل هؤلاء أو أن يقتدوا بهم.

فالمنافق يظهر أنه إنسان حكيم، وأنه يريد الحق والصواب، ويتشدق بالكلام على الجهاد، فإذا جاء موطن الخوف ووقت الجهاد كان أول من يفر، ويتأول لنفسه ويعتذر بأعذار يرى أنه محق في هذا الذي يصنعه، ويكذبهم الله عز وجل بما يقولون، فهنا فضحهم الله عز وجل في سورة الأحزاب، وفضحهم أكثر من ذلك في سورة براءة.

فذكر هنا سبحانه: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12].

والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، والذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، وفي قلوبهم شك ونفاق، وكل إنسان بحسبه، فمنهم من زاد النفاق في قلبه وزاد الشك والمرض حتى خرج عن الإسلام.

ومنهم من بلغ به نفاقه إلى أن يعصي الله ورسوله، وأن يترك المؤمنين ويخذلهم، فحكم هؤلاء المنافقين بحسب قدر هذا النفاق، إما أن يخرجهم من الدين بالكلية، مثل عبد الله بن أبي بن سلول ، أو أنه يدفعهم بأن يعصوا رسول الله، أو أن يفروا من النبي صلوات الله وسلامه عليه.

فالذين قالوا ما وعدنا الله ورسوله إلا غررواً لا شك أنهم كافرون، لأنهم قالوا: إن وعد الله ليس بحق، والله عز وجل يقول: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [يونس:55].

فمن قال إن وعد الله باطل، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل فهو كافر.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم ... إن يريدون إلا فراراً)

قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ [الأحزاب:13] المنافقون مجموعات فطائفة منهم يقولون: يا أهل يثرب، أي: يا أهل المدينة لا مُقَامَ لَكُمْ [الأحزاب:13]، وهذه قراءة حفص عن عاصم .

وقراءة الجمهور: لا مَقَامَ لَكُمْ [الأحزاب:13]، أي: لا موضع إقامة لكم. فهو مصدر أي: لا إقامة لكم في هذا المكان، ولا عيش لكم في هذا المكان، فإنكم ستضيعون وستهلكون، ففروا منه واتركوا النبي صلى الله عليه وسلم عند جبل سلع خارج المدينة وارجعوا أنتم إلى المدينة.

وقوله تعالى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13].

هنا التظاهر بالحكمة، فهم يظهرون الشيء ويبطنون خلافه، فيقولون: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13] فنحن نريد أن نرجع من أجل أن ندافع عن المدينة وندافع عن أهلنا، وبيوتنا أسوارها قصيرة، ويسهل دخولها من الكفار وفيها النساء.

وقوله تعالى: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13] بيوتنا تقرأ بضم الباء، وتقرأ بالكسر، فهما قراءتان سبعيتان أو مشهورتان.

وقراءة الضم قرأها ورش عن نافع وقرأها أبو عمرو وحفص عن عاصم ، وقرأها أبو جعفر ، ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها: إِنَّ بِيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13]، بكسر الباء.

قال الله عز وجل مكذباً لهم: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ [الأحزاب:13] أي: أنهم كذابون فيما يقولون.

وقوله تعالى: إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13] أي: حقيقة الأمر أنهم يريدون الفرار من مواجهة الكفار.

تفسير قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها... )

قال تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا [الأحزاب:14] أي: لو دخلت البيوت أو دخلت المدينة عليهم من أقطارها، أي: من أنحائها، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ [الأحزاب:14] أي: ثم طلب منهم أن يكفروا بالله عز وجل، وأن يعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لَآتَوْهَا [الأحزاب:14] أي: لأعطوا بأيديهم هذه الفتنة.

وقوله تعالى: لَآتَوْهَا [الأحزاب:14] هذه قراءة نافع وأبي جعفر وحفص عن عاصم.

وقراءة ابن كثير ، وقراءة ابن ذكوان : لَأتَوْهَا [الأحزاب:14].

ومعنى: (لأتوها) أي: لجاءوا إلى الفتنة، و(لآتوها): لأعطوا هذه الفتنة، فهم يقدمون ويعطون، وهم يذهبون بأنفسهم إلى مواطن الفتن.

وقوله تعالى: وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14]، أي: وما صبروا على الدين في الظاهر إلا شيئاً يسيراً، ثم بعد ذلك ينقادون إلى الفتنة.

وأيضاً: وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14] أي: ما تلبثوا بالحياة والاستمتاع بما صنعوا إلا يسيراً، ثم قبضهم الله سبحانه وتعالى إليه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ... )

قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15].

فقوله تعالى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ [الأحزاب:15] أي: أنهم عاهدوا الله قبل ذلك كما في غزوة أحد أو في غزوة بدر، كأنهم لم يشهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الغزوتين؛ فلذلك قالوا: لو شهدنا الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم سترون الذي نصنعه.

والفرق بين المؤمنين والمنافقين، أن المنافقين يتكلمون كثيراً، ويعدون كثيراً، ولا ينفذون ما يقولونه.

أما المؤمنون فإنهم يخافون الله، يروى أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، فقال: لو أشهدني الله تبارك وتعالى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أفعل. وخاف أنه يقول: سأفعل كذا ولكن قال: ربنا ينظر الذي سأفعله.

فلما حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد قاتل قتالاً شديداً حتى قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه.

فكان الذي قاله: ليرين الله ما أصنع فقط، ولم يزد على ذلك.

أما المنافقون فيتكلمون كثيراً فيقولون: لئن شهدنا سنفعل وسنفعل، وسترون منا الشجاعة والإقدام والتثبيت، وعهدٌ علينا إذا حضرنا القتال سنعمل أشياء.

ومعنى قوله تعالى: لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ [الأحزاب:15] أي: نحن ما نفر أبداً وعهد علينا ذلك.

ومعنى قوله تعالى: وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15] أي: الأمر ليس لعبة أنك تقول: يا رب عهد عليَّ أن أفعل كذا، أو تقول: لله عليَّ نذر أن أفعل كذا وكذا، وبعد ذلك تظن أنه كلام قد انتهى، فأنت تخاطب الله سبحانه تبارك وتعالى، فإنه سيسألك عن هذا العهد: لم قلته؟ وهل نفذته أم لا؟ وإذا نفذته هل أخلصت أم لا؟ وأسئلة كثيرة في هذا الشيء الذي يفعله الإنسان ويقوله.

وكثير من الناس يقولون: يا رب عهد عليَّ ألا أعمل هذه المعصية، أو أن أفعل كذا، فيسأل العبد يوم القيامة: لم عاهدت؟ وهل فعلاً فعلت هذا الذي قلت أو لم تفعل؟ وإذا فعلت فهل نفذت أم لا؟ وإذا فعلت أو نفذت فهل كنت مخلصاً لله سبحانه، أم كنت تفعل رياءً أمام الناس؟

أسئلة كثيرة عند الله عز وجل يوم القيامة، قال تعالى: وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15] أي: يسأل الله سبحانه تبارك وتعالى صاحب العهد عن عهده.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ [الأحزاب:15] أي: لا يهربون مولين الناس دبرهم، أو معطين ظهورهم لأعدائهم فيهربون من أمامهم.

تفسير قوله تعالى: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت ... )

قال تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الأحزاب:16].

فكر أيها الإنسان أنك إذا فررت من القتال وقد حذرك الله عز وجل من ذلك أن ذلك من الكبائر، قال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].

والفرار من القتال من الكبائر، فلا تفر إذا قاتلت، ولكن واجه ودافع عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، واطلب إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة.

ومن الثلاثة الذين يحبهم الله سبحانه تبارك وتعالى ويضحك إليهم سبحانه تبارك وتعالى ويثيبهم الثواب العظيم: رجل قابل الكفار فلم يفر، أي: توجه إلى الكفار وقاتلهم حتى نصره الله أو حتى قتل شهيداً، هذا أحد الثلاثة الذين يحبهم الله سبحانه تبارك وتعالى.

فيقول الله تعالى لهؤلاء الفرار: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:16] أي: ستفر من أين؟ فكر في هذا الموت الذي تفر منه، فالموت آت ومقدور ومعلوم، فأن تموت شهيداً أفضل لك من أن تموت وأنت على معصية الله سبحانه تبارك وتعالى.

فلو تفكر الإنسان أنه إذا قتل شهيداً، فإنه لا يستشعر بألم القتل أو ألم الذبح أو ألم الإصابة، والصحابة كانوا يقاتلون في سبيل الله ويقول أحدهم: والله ما شعرنا بألم القتال، أي: ألم الجروح وغيرها من ضرب بالسيف وغير ذلك، والواحد منهم كانت تقطع يده في القتال، وتكون متعلقة في كتفه، فيضع يده تحت رجله على الأرض ويتمطى عليها، ثم ينزعها من كتفه من أجل أن يكمل القتال ولا يستشعر بشيء، فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الذين يحسون ويشعرون بألم الدواء، فإن ذلك كان بعد انتهاء القتال تماماً، فعندما يضعون الدواء أو العلاج فإنهم يحسون بألم الدواء، لكن في القتال لا يحسون بشيء، فإنهم قاتلوا في سبيل الله سبحانه، وأخلصوا لله عز وجل، فأعانهم الله وثبتهم، فما كان أحدهم يشعر بشيء.

والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا في الشهيد أنه لا يشعر إلا بمثل القرصة، والله عز وجل يطمئنه فيغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى منزله من الجنة، ويرى الحور العين، ويزوج باثنتين وسبعين منهن، ويتوج بتاج الكرامة، ويلبس حلة الكرامة، وعندما تخرج روحه فإنه ينظر الكرامة التي أمامه، ويقيه الله من عذاب القبر وفتنته.

فالذي يمزق بدنه في سبيل الله أو يقتل شهيداً، لا يحس بشيء، وعكسه الذي يموت على فراشه، أو كان قد أكل وشرب واستراح ثم بعد ذلك قبضت روحه، فألم الموت أشد من ألم السيوف، حتى المؤمن فإنه يموت بعرق الجبين، فيشتد على المؤمن التقي في خروج روحه، ويشعر بألم شديد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاني كرباً عظيماً في حال وفاته، ولذلك فإن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ما غبطت أحداً مات بغير ذلك. يعني بعدما رأت من النبي صلى الله عليه وسلم.

فالذي يموت على فراشه فإن الله سبحانه تبارك وتعالى يشدد عليه ليرفع درجته، والشهيد قد ارتفعت درجته فلا يحتاج لهذا الشيء، فلا يشدد عليه، وإنما يرى المنزلة من الجنة ويرى الحور العين، ويعطى من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى ومن رحمته.

فلو تفكر الإنسان لتمنى أن يكون شهيداً، وأجر الشهادة يعطى لمن تمناها وسألها من الله سبحانه تبارك وتعالى بإخلاص.

قال تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الأحزاب:16] فإذا فر الإنسان من الموت، أو من القتل، فإنه سيأتي عليه الموت، أو مكتوب عليه أنه سيقتل.

فلو أنه كان مكتوباً عليه أنه سيقتل في سبيل الله سبحانه، وهو مقدم مقبل على الأعداء، سيضربه العدو ويقتله.

فلو أنه فر سيأتيه سهم من غرب، أي: من ورائه فيقتله، فأيهما أفضل أن يأتيه السهم من أمامه وهو مكر على الأعداء أو وهو فار من الأعداء؟ فيقول الله عز وجل لعبده: إذا كان مكتوباً عليك أن تموت في هذا الحين فلن ينفع الفرار.

وبفرض أنكم ما استطعتم أن تفروا، وهذا فرض جدلي وليس حقيقياً، قال سبحانه: وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:16] أي: حتى لو فررتم من هذا الشيء، وتمتعتم بهذه الحياة الدنيا، فإنها متعة قليلة ثم بعدها الموت.

تفسير قوله تعالى: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله... )

قال الله تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب:17].

أي: تفكر أيها الإنسان من يعصمك ويمنعك ويقيك من الله تبارك وتعالى؟ ومن يدفع عنك شيئاً أراده الله سبحانه؟

فالأمر أعظم بكثير من أن يوجد من يقدر أنه يفعل شيئاً، مثلما تقول لإنسان: من ذا الذي قدر علي؟ من ذا الذي يفعل فيَّ كذا؟ فالله تبارك وتعالى يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ [الأحزاب:17] فأي مخلوق هذا الذي يقدر أن يقف أمام قضاء الله وقدره فيمنع ذلك.

قال الله تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا [الأحزاب:17] أي: إن أراد أن يسيئكم، أو يمسكم السوء والكرب.

وقوله تعالى: أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب:17]، قال تعالى في سورة أخرى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2] فلا يقدر الإنسان أن يمنع ذلك.

قال الله تعالى: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [الأحزاب:17] ذكرنا قبل ذلك أن الولي بمعنى القريب، وأصله من الولي وهو القرب، فالولي هو ابن العم والعم وغيرهما من القرابات، فالأولياء كأنهم قريبون منك في نسبك، فلا ينفعك من دون الله قريب ولا نسيب ولا غريب ولا بعيد، ولا أحد ينصرك ويدافع عنك، أو يمنعك من الله.

تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم... )

يقول سبحانه وتعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] وقد هنا للتحقيق والتأكيد وليست للشك، كما في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] ومعنى: قد يعلم الله المعوقين أي: قد علم الله يقيناً ما يقول هؤلاء المعوقون.

وكلمة المعوق مأخوذة من التعويق، وعوق بمعنى: صد عن الشيء، أي: منعه.

فهؤلاء المعوقون المانعون للمؤمنين من القتال، الصادون لهم عن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، الذين يتعللون بالأعذار فيقولون للمؤمنين: لا تقاتلوا فإنكم متعبون أو مرضى، أو إن أبناءكم ونساءكم يحتاجون إليكم فلو رجعتم إليهم كان أحسن لكم، فيعوقون المؤمنين ويخوفونهم، وهذا فعل الشيطان.

فالشيطان يقف للإنسان في مواطن، فيأتي المؤمن عند دخوله في دين الله سبحانه فيقول له: أتدع دينك ودين آبائك وتدخل في هذا؟ فلأجل أن يصده يذكره بآبائه، فإذا عصى المؤمن الشيطان ودخل في دين الله سبحانه، فإنه يأتيه عن طريق الهجرة فيقول له: أتهاجر وتترك أرضك وديارك وتكون في أرض الغربة والفتنة؟ والمؤمن يعصي الشيطان ويهاجر إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فيأتيه عند الجهاد فيقول: أتجاهد فتقتل ويضيع أولادك ومالك وتترك كذا وكذا؟ فيعصيه المؤمن ويطيع الله سبحانه تبارك وتعالى.

والمنافق مثل الشيطان فهو أسوته وقدوته، فهو يفعل كفعل الشيطان، فيعوق المؤمن عن الخير، يقول تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب:18] أي: المعترضين لكم ليصدوكم عن سبيل الله سبحانه.

وقوله تعالى: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] أي: إلينا، وتعالوا أو عودوا معنا أين ستذهبون؟

قال سبحانه: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18] فهؤلاء من المنافقين.

والمنافقون المعوقون لهم صور كثيرة، فالواحد منهم يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فيدعو من معه ويقول لهم: تعالوا للقتال، ثم يذهب ويتولى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في يوم أحد، وخذل النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ ثلث الجيش وهرب ورجع بهم إلى المدينة.

كذلك في يوم الخندق، فإن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى منزله بعذر من الأعذار ليفعل شيئاً، فترك السيوف والرماح ورجع ليأخذ حاجة من المدينة ثم بعد ذلك يرجع للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجد واحداً من هؤلاء المنافقين جالساً يأكل ويشرب ويلهو، وقال له: هلم إلي، أي: تعال كل معنا واترك القتال وابعد عن هؤلاء.

قال ابن زيد : هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ، أي: يأكل لحماً ورغيفاً ويشرب خمراً، فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إليَّ، فقد تبع لك ولأصحابك، والذي يحلف به لا يستقل بها محمد أبداً.

ومعنى فقد تبع أي: فقد أحيط، يعني: أنهم سيهلكون وسيضيعون فإن الكفار قد أحاطوا بهم، فلا يفعلون شيئاً في القتال.

فقال له المؤمن التقي: كذبت، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فقبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية تفضح هذا وأمثاله، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18] أي: أقبلوا إلينا.

وقوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ [الأحزاب:18] أي: لا يأتون القتال إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18] القليل هم الذي يأتون القتال، من الخوف والرعب، ولأجل السمعة والرياء، وهؤلاء المنافقون إذا حضروا القتال لم يقاتلوا إلا قليلاً.

إذا فروا إلى المدينة يقومون يذكرون للصحابة نحن فعلنا وفعلنا، ولو لم نكن في المدينة لضاعت بيوتكم، وهم يكذبون في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (أشحة عليكم... وكان ذلك على الله يسيراً)

قال الله سبحانه: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [الأحزاب:19] أي: أبخل الناس عليكم.

والشحيح هو الإنسان الذي يضن بما في يده، بل وبما في يد غيره أيضاً، فهم يمتنعون عن إعطائكم أي خير، ولا يوجد في هؤلاء خير، فلا يواسونكم بألسنتهم، ولا يعطونكم من أموالهم، بل هم في غاية الشح.

وقال تعالى: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19] فصورتهم في وقت الخوف في غاية من الرعب، والإنسان الجبان غير مستقر في مكانه من شدة رعبه، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي: تتحرك في كل مكان يريدون أن يهربوا إلى مكان آمن.

قال تعالى: كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19] كأن الموت آتيه لا محالة.

قال تعالى: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19] أي: أنهم في وقت الخوف مرعوبون خائفون، يبحثون عن حماية، فإذا ذهب الخوف تشجعوا وظهروا.

وقوله تعالى: سَلَقُوكُمْ [الأحزاب:19] السلق بمعنى رفع الصوت وإكثار الكلام، ومنه السالقة والصالقة بالسين وبالصاد بمعنى: الرافعة صوتها، فذم النبي صلى الله عليه وسلم عن الصالقة والحالقة والشاقة ودعا عليهن.

والمرأة الصالقة: هي التي تصوت، والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تمزق ثيابها عندما يموت لها قريب، فالتي تصنع ذلك معلونة، فالصلق والسلق بمعنى رفع الصوت.

والمعنى: أظهروا الجراءة والبجاحة والكلام بالصوت العالي، والشتم والنبذ في المسلمين.

وقوله تعالى: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19] أي: ألسنتهم حادة مثل الحديد الشديد، ففي وقت عدم الخوف فإنهم يتكلمون على المؤمنين، فيقولون مثلاً: لا يعرف كذا، أو هؤلاء المجاهدون الذين أنفقوا فإنهم يراءون الناس في الإنفاق، فمن أنفق منهم شيئاً قليلاً، قالوا فيه: ربنا غني عن هذا الشيء، فلا يعجبهم من أنفق كثيراً أو قليلاً.

فالمجاهدون من المؤمنين لم يعملوا أي شيء، فلو كنا نحن كنا عملنا. وهم لا يفعلون لا قليلاً ولا كثيراً، قال سبحانه: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب:19] أي: ما عندهم خير لا في كلامهم ولا في فعالهم ولا في إنفاقهم.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19] أي: أن الدافع لهم إلى ذلك هو عدم الإيمان في القلوب، فأحبط الله أعمالهم، أي: أبطل ما أظهروه من أعمال ظاهرها الخير وحقيقتها الرياء، فلا ثواب لهم.

وقوله تعالى: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب:19] أي: إحباط أعمالهم على الله يسير، هذا المعنى الأول.

والمعنى الآخر: كان نفاقهم عند الله لا قيمة له؛ لأن هؤلاء لا ينصرون دين الله، إنما ينصر دين الله من آمن بالله سبحانه، والله غني عن عباده.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الناصرين دينه، المدافعين عنه، المخلصين له.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأحزاب [12 - 19] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net