إسلام ويب

أخذ الله سبحانه وتعالى العهد من المؤمنين الصادقين أن يجاهدوا من أجل هذا الدين وأن يموتوا شهداء في سبيله، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فما بدلوا وما غيروا، بل وفوا بعهودهم مع الله، فاستحقوا من الله الجنة على صدقهم ووفائهم بما عاهدوا الله عليه.

تفسير قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ... إن الله كان غفوراً رحيماً)

بيان عظم الوفاء بالعهد مع الله سبحانه

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:23-25].

يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن المؤمنين منهم رجال عاهدوا الله سبحانه وتعالى فوفوا بهذا العهد وعاهدوه أن يجاهدوا في سبيل الله، وألا يبدلوا وألا يغيروا، وأن يثبتوا في قتالهم حتى يتوفاهم الله سبحانه أو يفتح الله سبحانه وتعالى لهم، فمنهم من وفى بهذا العهد مع الله سبحانه، ومنهم من لم يزل على الحياة ينتظر الفرصة للوفاء بهذا العهد مع الله سبحانه وتعالى، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23] أي: لم يبدلوا ولم يغيروا ما عاهدوا الله سبحانه وتعالى عليه.

والإنسان الذي يعاهد ربه على الشيء يلزمه الوفاء بما عاهد عليه في طاعته لله سبحانه، وله أجر عظيم، وإن عاهد الله ووفى بعهد فالله يمدحه، فإذا نذر نذراً ووفى بنذره فهذا إنسان وفي، وله أجره عند الله سبحانه، ولكن الذي يغير ويبدل وينسى عهده مع الله سبحانه، أو يتغافل عن ذلك، ففي هذه الآية إشارة إلى ذم مثل هذا الذي يبدل ويغير، وينقلب على عقبيه، فالمؤمنون صادقون مع الله سبحانه وتعالى، عكسهم المنافقون الذين يكذبون، يتكلمون بما لا يفعلونه، يقولون أشياء هم في غاية البعد عن هذا الشيء الذي يقولونه.

الابتلاء يميز الله به المؤمن من الكافر

والإنسان المؤمن ينتظر فضل الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن الله يمحصه ويبتليه حتى يثبت على هذا الإيمان وحتى يرى الله سبحانه وتعالى منه ما عاهد الله عز وجل عليه.

وقد ابتلى الله عز وجل المؤمن بالكافر، فليصبر المؤمن إذا رأى الكافر أمامه أقوى منه، وأكثر عدداً منه، فقد ثبت المؤمنون في مثل هذه المواقف، وعرفوا أن النصر من عند الله سبحانه وتعالى، فتوكلوا على الله فكانوا مؤمنين، فمدحهم الله سبحانه، والمنافقون مذبذبون بين هؤلاء وبين هؤلاء، لا هم أظهروا إيماناً وكان في قلوبهم هذا الإيمان، ولا هم أظهروا كفراً وعلم من حالهم أنهم كفار، فهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلذلك كان مصيرهم من الله أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة، فقد فضحهم في الدنيا وسوف يعذبهم ويجعلهم في أسفل سافلين يوم القيامة، فالمؤمنون الذين مدحهم الله سبحانه وتعالى قال فيهم: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:24]، وهذا وعد من الله مؤكد ويقين.

فقوله تعالى: لِيَجْزِيَ [الأحزاب:24] أي: لتكون العاقبة للمؤمنين أن يجزيهم الله جزاءاً بصدقهم؛ لأنهم صدقوا الله سبحانه وتعالى فصدقهم الله، وعاهدوا الله فوفوا فاستحقوا من الله سبحانه الجزاء الأوفى، فقوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:24]، أي: بسبب صدقهم، يجزيهم ويعطيهم الثمن على ذلك الجنة بسبب صدقهم.

معنى قوله: (ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم)

قوله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24]، فالله غفور رحيم، لما ذكر المؤمنين جزم وقطع بالثواب، ولما ذكر المنافقين علقه بمشيئته سبحانه وتعالى؛ لأنه قد يتوب على المنافق الذي هو شر من الكافر، فالله غفور رحيم، ومن تاب تاب الله عز وجل عليه.

هذا أبو سفيان بن حرب الذي جاء زعيماً وقائداً لجيش من جيوش المشركين، وهو الذي فر في النهاية وقال: النجاة النجاة، وهرب من غزوة الأحزاب مع من معه، وشاء الله عز وجل أن يتوب هذا الرجل فيؤمن والنبي صلى الله عليه وسلم ذاهب ليفتح مكة، يعني: بعد يوم الأحزاب بثلاث سنوات، وكانت غزوة الأحزاب في شوال من سنة خمس للهجرة، وفتح مكة كان في رمضان من سنة ثماني للهجرة.

والإنسان قد يكون في قلبه دخن، وقد يكون في قلبه نفاق، ثم فجأة يأتي الفضل من الله سبحانه، ويتوب إلى الله فيتوب الله عز وجل عليه، ولذلك الإنسان المؤمن لا ييأس أبداً من روح الله ومن رحمته سبحانه، فهو القائل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

فالله ودود، يتحبب إلى عباده بمغفرته وبحلمه عليهم وبكرمه سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أذى المنافقين وكثرة مؤامراتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومع ذلك فإن الله سبحانه يعذب المنافقين إن شاء، فأدخلهم تحت خطر المشيئة، إن شاء تاب عليهم فألهمهم التوبة، وإن شاء ظلوا على ما هم فيه من كفر ونفاق، حتى يأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.

قال سبحانه: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ [الأحزاب:24]، فكانوا تحت خطر المشيئة، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24]، أي: إذا تابوا تاب الله عز وجل عليهم، مهما وقع الإنسان في أعمال الكفر والشرك، وأعمال النفاق والمعاصي، فإذا تاب إلى الله وصدق في توبته فالله يتوب عليه، حتى ولو كان قبل هذه التوبة يستحق الدرك الأسفل من النار.

ويزيد ذلك وضوحاً سورة النساء في قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142].

صلاتهم رياء وليست حباً في الله عز وجل، ولا تقرباً إليه، ولكن ليروا الناس أنهم يصلون، قال الله سبحانه وتعالى في مثل هؤلاء: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:143].

ثم يذكر بعد ذلك سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، فالجنة درجات عالية، بعضها فوق بعض والنار دركات بعضها أسفل من بعض، فهم في أسفل نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].

ومع ذلك يدرك الله برحمته من يشاء فيقول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146].

والمؤمنون لهم الأجر العظيم، ومن صار إليهم ورجع معهم فهذا من المؤمنين، وله أيضاً الأجر العظيم، وإن عمل المنافقون ما عملوا، فإنهم إن تابوا صاروا مع المؤمنين؛ لأنهم أصلحوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ [النساء:146]، أي: رجعوا للتوحيد، وأخلصوا الدين لله سبحانه، فالله يتجاوز عنهم، ويجعلهم مع المؤمنين، ومن المؤمنين، ويؤتيهم الأجر العظيم.

معنى قوله تعالى (إن الله كان غفوراً رحيماً)

ويبين الله سبحانه سبب هذا التجاوز وهذا الكرم، فيقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24]، من صفات الله سبحانه، ومن أسمائه الحسنى: أنه الغفور وأنه الرحيم، فهو يتوب على خلقه؛ لأن التوبة بيده سبحانه، ويرزق من يشاء توبة نصوحاً ثم يتوب عليه، ولا يسأل عما يفعل سبحانه، فهو يتوب على من يشاء بفضله ورحمته، فنحن نفرح بكرمه، ونفرح بتوبته على عباده سبحانه وتعالى، وانظروا كيف أنه يدخل الله عز وجل الجنة رجلين أحدهما قاتل لصاحبه، ولا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى.

فهذا مؤمن يخرج للجهاد في سبيل الله عز وجل فيقتله الكافر، ثم أدركت الكافر رحمة رب العالمين سبحانه، فأسلم ومات على الإسلام فدخل الاثنان -القاتل والمقتول- الجنة برحمة منه سبحانه، يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وقوله تعالى: كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24] هذا التعبير الوحيد الذي يفيد أن الغفران والرحمة صفتان من صفاته سبحانه كانت وما زالت دائمة، سأل رجل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24]، يعني: كان وانتهى على ذلك في الماضي؟

فتعجب ابن عباس من غلط هذا الإنسان ومن جهله باللغة العربية، فأخبره أن معنى: كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24]: أنه كان ولا يزال على ذلك أبداً سبحانه وتعالى، ولا ينتهي منه ذلك، فهو في الماضي غفور رحيم، والآن غفور رحيم، ويوم الدين غفور رحيم، فهي صفة دائمة أبدية له سبحانه وتعالى، يعبر عنها بهذا التعبير الذي يفيد جميع الأزمان: الماضي والحاضر والمستقبل.

وقوله: إِنَّ اللَّهَ [الأحزاب:24]، (إن)، للتحقيق ولتأكيد ذلك، وقوله: غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:24] صفة ثابتة لازمة له سبحانه وتعالى، وكذلك جميع صفاته سبحانه لازمة له عز وجل لا تزول منه أبداً.

والغفر: المحو والستر، فالله يغفر، أي: يمحو الذنب ويستره، رحيم: يرحم العباد سبحانه وتعالى في الدنيا وفي الآخرة، وصفة الرحيم لله عز وجل تختص بالمؤمنين، قال تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43] يرحم المؤمنين، هو الرحيم وهو الرحمن، والرحمن صفة عظيمة لجميع خلقه سبحانه، وهي رحمة دائمة، والرحيم: رحمة تختص بالمؤمنين فيرحمهم يوم القيامة سبحانه وتعالى، ولا يغفر لمن مات على الكفر والشرك بالله عز وجل.

أنس بن النضر وطلحة بن عبيد الله ممن قضى نحبه

وقال الله سبحانه في هؤلاء المؤمنين: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [الأحزاب:23]، أي: منهم من وفى بعهده لله سبحانه وتعالى، ومن هؤلاء الذين وفوا بعهودهم أنس بن النضر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد قاتل يوم أحد ببسالة، فكان شهيداً عظيماً رضي الله تبارك وتعالى عنه.

ومن هؤلاء أيضاً طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم جميعاً، بشرهم الله عز وجل بالجنة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

هذا طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم أحد حتى أصيب، وكان ذلك في سنة ثلاث من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً شديداً، وذلك لما حوصر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعة من الأنصار، من هؤلاء السبعة: طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من للقوم؟ من للقوم؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فقام الأنصاري وقاتل قتالاً شديداً حتى قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من للقوم؟ فقال آخر: أنا، حتى قتل هؤلاء الأنصار جميعاً، ولم يبق إلا طلحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من للقوم؟ فقام طلحة يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً شديداً فقاتل كقتال هؤلاء السبعة رضي الله تبارك وتعالى عنه حتى ضرب ضربة على يده قطعت له عرقاً رضي الله عنه، فشلت يده التي وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المقصود بالضرب: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقاه طلحة بيده فشلت رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن طلحة : (أوجب طلحة)، أي: وجبت لـطلحة الجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه.

وجاء في سنن الترمذي عن طلحة بن عبيد الله أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي: سله عمن قضى نحبه؛ لأن الصحابة كانوا يخافون أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نهاهم عز وجل عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم.

والنحب معناه: النذر أو الحاجة أو العهد أو الموت، فكل المعاني صحيحة، فسأل الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ولم يرد عليه صلى الله عليه وسلم، ثم سأله مرة ثانية، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم سأله مرة ثالثة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، يقول طلحة بن عبيد الله : فدخلت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من السائل عمن قضى نحبه؟) فقال الأعرابي: أنا، قال: (هذا ممن قضى نحبه!) فذكر طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه.

فعلمنا من الحديث أن من قضى نحبه ليس معناه: الموت؛ لأن طلحة حي وليس ميتاً، فمن فعل ذلك يكون المعنى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ [الأحزاب:23]، أي: وفى بنذره، ووفى بعهده مع الله عز وجل، وقد يكون منهم من مات، فالآية ليست متعلقة بمن مات فقط، بل هي متعلقة بمن وفى بنذره سواء مات أو كان باقياً على قيد الحياة.

مصعب بن عمير ممن قضى نحبه

جاء أيضاً في حديث رواه البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر مصعب بن عمير وكان قد مر عليه صلى الله عليه وسلم في أحد وهو مقتول رضي الله تبارك وتعالى عنه فذكر هذه الآية.

وكان مصعب أول داعية إلى الإسلام في المدينة، حيث سبق النبي صلى الله عليه وسلم في المجيء إلى المدينة، وظل يدعو الناس في المدينة، فما ترك من بيت إلا ودخل فيه الإسلام بفضل الله ثم بسبب مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان جهاده وبلاؤه حسناً.

وكان مصعب في مكة شاباً فتياً غنياً عزيزاً في قومه، وكانت أمه غنية جداً، وكانت تنفق عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وتعطيه مالاً كثيراً، ومع ذلك فضل أن يدخل في دين الله عز وجل، وأن يترك المال الذي كان فيه، فترك الغنى وترك الترف، ودخل في دين الله عز وجل ليبتلى ويقتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم أحد، فقيراً ليس معه شيء إلا بردة، إذا كفنوه فيها فغطوا رأسه بدت قدماه، فإذا غطوا قدميه بدا رأسه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذكره وقرأ هذه الآية: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23])، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم).

فأمرهم بأن يزوروا شهداء أحد، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شهداء عند الله عز وجل.

فالمعنى هنا: أن هؤلاء قضوا ما أمر عز وجل به، ووفوا لله سبحانه بعهدهم، فكان لهم الأجر العظيم عند الله، ولهم الجزاء على صدقهم، قال تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:24]، ليس من جنس طلحة فقط، بل منهم سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنس بن النضر ، وصحابة كثيرون، كلهم قضوا ما أمر الله عز وجل به، عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وعاهدوه على الجهاد في سبيل الله، وبايعه بعضهم على الموت في سبيل الله شهداء، فكان أن وفوا لله عهدهم فأعطاهم الله الأجر العظيم.

نسأل الله عز وجل أن يحشرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هؤلاء الصحابة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأحزاب [23 - 24] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net