إسلام ويب

لقد دعا الله عز وجل عباده في أكثر من آية إلى التفكر في مخلوقاته وعجيب صنعه؛ لما لذلك الأمر من إقرار بأحدية الربوبية والتصرف لله وحده، والذي يستلزم لأجله إفراده جل في علاه بالألوهية؛ إذ لا يستحق العبادة إلا من كان خالقاً، رازقاً، معطياً مانعاً، وذلك هو الله وحده سبحانه وتعالى.

مقتضيات ربوبية الله تعالى

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة غافر: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:61-65].

في هذه الآيات العظيمة من هذه السورة يقرر الله عز وجل أمر العقيدة الإسلامية التي هي دين الله عز وجل ودين الرسل جميعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة السلام، فالله عز وجل أرسل الرسل يدعون الخلق إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، فيذكرهم بربوبيته، وأنه الذي يخلق ويرزق، وأنه خالق كل شيء، وأنه الفعال لما يريد، وأن الذي يخلق هو الذي يرزق وهو الذي يحكم بين عباده، وهو الذي يحاكم عباده ويحاسبهم فيدخلهم الجنة أو يدخلهم النار سبحانه وتعالى، فهذا الرب سبحانه هو وحده الذي يفعل ذلك، فإذا أمر وجب على العباد أن يطيعوا أمره سبحانه وتعالى، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].

ومن مقتضيات ربوبيته سبحانه أنه يخلق وحده سبحانه وتعالى، وأنه وحده يحكم بين عباده فيما فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وهو الذي يشرع لعباده سبحانه، فهو الحكم، وهو الحكيم، وهو الحاكم سبحانه وتعالى يحكم بين عباده، وهذا كله من مقتضيات ربوبيته.

وما ذكره الله سبحانه وتعالى في الآية هو من مقتضى ألوهيته سبحانه، بأن ينفذ العباد ما يحكم به الله سبحانه وتعالى، فيعبدونه ويقيمون شرعه سبحانه وتعالى، فهنا بيان أنه الإله الذي يستحق العبادة بأفعال المخلوقين، وبيان أنه رب لأفعال منه سبحانه وتعالى، فهو رب يفعل ما يريد سبحانه، وهو إله يستحق أن يعبده كل الخلق، ومن ألوهيته أن يتوجه إليه بالعبادة سبحانه وتعالى، يقرر الله هذا المعنى العظيم بما يذكره سبحانه وتعالى من آياته ونعمه وفضله على عباده سبحانه وتعالى، ذلكم الله ربكم سبحانه وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه، فإذا خلق وجب على العباد أن يعبدوه وأن يشكروه، وإذا رزق وجب على العباد أن يحمدوه وأن يشكروه سبحانه وأن يذكروه، فأفعاله منه سبحانه تستوجب على العباد أفعالاً يفعلونها ليوحدوا ربهم سبحانه وحده لا شريك له.

توحيد الألوهية أساس دعوة الرسل

لقد كان أهل الجاهلية يقرون بالربوبية، ولذلك لما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام لم يدعهم لأن يقولوا: لا رب إلا الله؛ لأنهم يعرفون ذلك، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، فهم ليسوا بحاجة لأن يقولوا: لا رب إلا الله، وإنما أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ليدعو خلق الله إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، إقراراً على النفس بأني لا أتوجه إلى سواه بالعبادة، فلا أعبد إلا هذا الإله الواحد سبحانه وتعالى، وأن أعتقد أنه لا يوجد في الكون إله حق إلا هو سبحانه، فهذا هو معنى شهادة التوحيد: لا إله إلا الله، إذ معناها: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فهناك معبودات أخرى غيره كثيرة، منها ما في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، وقوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم:81].

لكنها كلها باطلة، فكلمة التوحيد (لا إله)، فيها حرف (لا) وهي نافية للجنس، و(إله) اسمها، والأصل في هذه النافية للجنس أن يقدر الخبر كلمة: (حق)، ومن ذهب إلى أن التقدير كلمة (موجود) كقولهم: لا مصلي في المسجد، أي: لا مصلي موجود في المسجد، فهو خطأ؛ لأن كلمة التوحيد لا يقال فيها: لا إله موجود إلا الله؛ لوجود آلهة أخرى كثيرة تعبد، لكنها باطلة، فالتقدير الصحيح أن يقال: لا إله حق إلا الله، فالله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وما سواه من أوثان وأصنام ومعبودات اتخذت من دون الله كلها آلهة باطلة عبدت من دون الله بغير حق، ولذلك نقول: أرسل الله الرسول عليه الصلاة السلام ومن قبله الرسل ليعبدوه وحده لا شريك له، وليوحدوه، وليقولوا للخلق: قولوا لا إله إلا الله، قال تعالى في شأن نوح: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].

فيبين ربنا هنا أنه أرسل نوحاً إلى قومه ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وقال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]، وقال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73].

فقوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73] إثبات ونفي، وهي مثل كملة التوحيد: نفي وإثبات، فقولنا: (لا إله) نفي لصفة الألوهية الحقة عن إي مخلوق، وقولنا: (إلا الله) إثبات لصفة الألوهية الحقة له وحده سبحانه وتعالى، فمعنى (لا إله إلا الله) هو نفسه الذي أرسل به الله سبحانه الرسل أن يقولوا: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73].

وهذه الكلمة -أي: كلمة التوحيد- يدخل العباد في دين الإسلام ويعبدون الله سبحانه عن طريق اتباع أمر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ لابد من كلمة التوحيد الثانية وهي: محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فهو رسول من عند الله يبين لنا كيف نعبد الله سبحانه وتعالى.

توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية

هذه الآيات تقرر لنا معنى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه [غافر:61]، ولاحظ أنه قبل ذلك أمر العباد أن يدعوا ربهم سبحانه وتعالى فقال: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ [غافر:60]، أي: ربكم الذي هو الله سبحانه : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيه وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [غافر:61].

فذكر آية من آياته سبحانه وتعالى الكل يحتاج إليها وهي الليل والنهار، وقال: الذي خلق لكم ذلك هو الله سبحانه، والذي صير لكم النهار مبصراً وجعل الليل مظلماً هو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ [غافر:61] أي: خلق لكم الليل من أجل أن تسكنوا فيه، وجعل لكم النهار مبصراً، أي: تبصرون فيه، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ [غافر:61-62].

أي: الخالق العظيم هو الله وهو الرب وحده سبحانه، وهو الإله الذي تعبدونه وحده دون سواه، قال جل في علاه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر:62].

فقوله تعالى: (كُلِّ شَيْءٍ) أي: كل ما يطلق عليه أنه شيء فالله عز وجل خالقه سبحانه، وقوله: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا إله إلا الله، وهي كلمة عظيمة تعني: إفراد العبادة لله وحده سبحانه؛ ولذلك فإن هذه الكلمة تمد عند علماء التجويد والقراء حتى عند من يقصر منهم المد المنفصل، ويقول: هذا من باب مد التعظيم، أي: التعظيم للخالق سبحانه وتعالى، فكلمة (لا إله إلا الله) لا بد أن تملأ قلبك وصدرك وفمك بأن تقر أنه الإله وحده لا شريك له، والذي لا يعبد سواه، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.

قال تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، فقوله: (فأنى تؤفكون) أي: إلى أين تذهبون؟ وكيف ترون هذه الآيات العظيمة وهذا الإعجاز الذي ترونه من ربكم سبحانه ثم تنصرفون عن الاعتبار بالآيات وعن توحيده سبحانه؟! قال تعالى: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، أي: كل من عرف الحق فأنكر بعد المعرفة استحق أن يطبع الله على قلبه، وأن يؤفك أي: أن يصرف عن الحق إلى الباطل، فقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ) أي: يصرف عن توحيد الله بالختم على قلبه، والطبع لكل من يجحد بآيات الله سبحانه، ولذلك فالإنسان الذي يعلم ثم يجحد بعد علمه، أو يتكلم بالباطل بعد أن عرف الحق يستحق أن يطبع الله على قلبه فيكون من الغافلين.

تسخير الأرض للإنسان وبسطها لهم آية على توحيد الإلوهية

قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [غافر:64].

هنا يذكر الله بألوهيته سبحانه وتعالى وأنه المستحق للعبادة؛ لأنه هو الذي يخلق وهو الذي يجعل لكم ذلك قال تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) أي: وطأ لكم الأرض فجعلها لكم موطأة تستقرون عليها، وقال تعالى عن إنعامه بالأرض للعباد في سورة المرسلات: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26].

أي: جعل الأرض تقبل العباد، فهم يعيشون فوقها، فإذا ماتوا دفنوا بداخلها فتقبلهم الأرض، ولو شاء الله عز وجل ما جعلها تقبلهم، ولقد أرانا الله آياته في ذلك، وذلك لما قتل رجال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من المؤمنين ثم دفنوه فإذا بالأرض تلفظه، فقالوا: لعل أحداً من أعدائنا أخرجه، فبعثوا غلمانهم يحرسونه، فإذا بهم يدفنونه بالنهار، وإذا بالأرض تلفظه بالليل، فقالوا: لعل غلماننا قصروا، أو هم الذين عملوا هذا، فحرسوه بأنفسهم، فوجدوا الأرض تلفظه ثلاث مرات، يدفنونه في قبر ويعمقون له الأرض فيصبحون وهو على ظهر الأرض لم تقبله، فلما تعجب الصحابة من ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأرض لا تقبل شبراً منه)، ومع أن الكفار كلهم يدفنون في الأرض فتأخذهم وتقبلهم، إلا أن الله أراد أن يجعل تلك القصة عظة وعبرة للناس؛ لئلا يقتل بعضهم بعضاً.

فهذه الأرض نعمة من الله، تجمعكم فوقها وتستقرون عليها، ومن ذهب إلى القمر فإنه يرى نفسه تطير فوق سطح القمر؛ فلا توجد أرضية هناك، فالإنسان هناك يظل طائراً ولا يستطيع المشي، إلا إن ثقل بشيء يعينه على النزول على سطح القمر، أما الأرض فالإنسان ليس محتاجاً لهذا الشيء؛ إذ قوة الجاذبية تجذبه ليبقى على الأرض، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى لا يفكر الإنسان فيها، ولهذا يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا) أي: تستقرون عليها، فالأرض تدور، وهذا الدوران يجعل اليوم أربعاً وعشرين ساعة ومنه يأتي الليل والنهار، ولو شاء الله لثبتها، ولو شاء لشعرتم بدوران هذه الأرض، وانظر عندما يركب إنسان أرجوحة تلف به فإنه يشعر بدوران في رأسه، والأرض تدور بك أسرع من ذلك بكثير، ومع ذلك فأنت لا تشعر بذلك، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، وأيضاً لو أن إنساناً أتى بحجر ولفه على خرقة، ثم صار يلوح بها في الهواء، لطار الحجر مسافة بعيدة، وهنا الأرض تدور دوراناً شديداً ثم لا نرى أحداً يطير من مكانه، وكل هذا بفضل الله وكرمه؛ ولذلك يقول الله تعالى مذكراً بنعمته هذه: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا).

أي: جعلكم تستقرون على هذه الأرض وهي تدور بكم فلا تطيرون فوقها.

وقوله تعالى: (والسماء بناء)، أي: جعل السماء بناءً عظيماً محكماً، وهي سبع سماوات بعضها فوق بعض، ومع ذلك لم نر من تلك السبع إلا السماء الدنيا التي زينها ربنا بمصابيح، ونرى ما تحتها من كواكب وشموس وأقمار، ونسمع عن المجرات الكثيرة التي تتجاوز مائتي مليار مجرة موجودة، وكل مجرة فيها مليارات المليارات من الكواكب، وكل هذا فقط تحت السماء الدنيا، فكيف بالسماء الثانية والثالثة والرابعة؟! وما بين السماء والسماء؟! فالله جعل السماء بناء محكماً، وإذا تدبرنا في السماء الدنيا وأن الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها، وأن الشمس تجري في هذا الكون، بل المجموعة الشمسية كلها تدور حول الشمس في مسير جعله الله عز وجل لها لا تتخلف عنه، فلا يوجد كوكب يقرب عن مكانه أو يبعد عنه، بل كل شيء ثابت في المسار الذي جعله الله عز وجل له، وهذا هو إحكام الله سبحانه وتعالى، ولقد قال جل في علاه: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47]، أي: بناها بقوته سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)، أي: أن الله يوسع هذا الكون، وهذا هو الذي اكتشفه الخبراء حديثاً، ومع ذلك فكل شيء في مداره، وتتحرك النجوم من مكان إلى مكان بنظام دقيق، وهذا كله يدبره الخالق سبحانه وتعالى، والذي بناها فأحكم بناءها وجعل فيها طرقاً ومسارات هو الله الخالق العظيم سبحانه وتعالى، ولذلك يحث الله عباده أن يتفكروا فيقول: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].

إتقان خلق الإنسان وصورته دليل على ربوبية الله وألوهيته

يقول الله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64] أي: أعطاكم صوركم، وأعطاكم الهيئة والمنظر الذي تتميزون به عن غيركم، وكل هذا بأحسن منظر، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:7].

أي: هو الذي خلقك ودبرك سبحانه، فخلق فسوى، وقدر فهدى سبحانه وتعالى، جعلك مستوياً، تقوم بقامتك فلا تمشي على يديك ورجليك، أو تمشي على بطنك، أو تزحف على استك، ولكن جعلك بشراً سوياً فعدلك سبحانه وتعالى، وجعل لك يداً عن يمين وشمال، ورجلاً عن يمين وشمال، وعيناً يمنى ويسرى، فجعلك جميلاً وصورك فأحسن صورتك سبحانه وتعالى.

قال تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [غافر:64] أعطاكم من فضله تأكلون وتشربون وتقتاتون وتتفكهون، وكل هذه النعم بمن الله وكرمه.

قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غافر:64] سبحانه وتعالى، فالذي فعل ذلك هو الله المستحق للعبادة، وهو ربكم الذي يفعل ذلك ولا أحد سواه يقدر على شيء من ذلك، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ [غافر:64]، أي: تعالى وتمجد وكثرت بركته وخيره سبحانه وتعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [غافر:64]، وفي هذا توكيد على الألوهية والربوبية، والمعنى: تبارك الله وتمجد الذي يستحق العبادة وحده، والذي هو رب العالمين، و(العالمين) يشمل كل عالم: عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وعالم الأرض، وعالم السماء، كل هذه العوالم العلوية والسفلية الله ربها ورب العالمين رب كل شيء سبحانه وتعالى، فتبارك وتعالى وتمجد الله رب العالمين.

دعاء الحي الذي لا يموت أولى من دعاء غيره

قال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65] هذه صفة من صفاته سبحانه وتعالى وحده، فهو الحي الحياة الأزلية الأبدية، أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية، ظاهر فليس فوقه شيء، وباطن فليس دونه شيء، سبحانه وتعالى، قال تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].

فقوله: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا إله إلا هو، هو الحي وما سواه ميت، كما قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

قال تعالى: ( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فإذا كان هو الحي وحده لا شريك له، الباقي وغيره فان، فادعوه وحده، واطلبوا منه سبحانه وتعالى بإخلاص، وأخلصوا له العبادة، ولا تشركوا به شيئاً، فلا تعبدوه وتعبدوا غيره معه، وإنما اعبدوه وحده لا شريك له، ووجهوا العبادة إليه مخلصين له الدين، فمن معاني الدين: العبادة، ومن معانيه: الجزاء، والمقصود هنا: أخلصوا له دينكم أي: عبادتكم، قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فكأنه يقول: وحدوه واحمدوه، فإن لم تحمدوه فقد حمد نفسه سبحانه فقال في كتابه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

وقد كرر ذلك في مواضع من كتابه؛ ولذلك استحب العلماء أن يختم ذكر الله بالحمد لله، وأن يختم الدعاء بالحمد لله، كما قال هنا: ادعوه ثم قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

فالحمد لله أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً، ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة غافر [61 - 65] للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net