إسلام ويب

لقد أمر الله تعالى عباده بالعدل، ووضع الميزان بين عباده ليعدلوا فيما بينهم، وقد جاءت نصوص كثيرة في ترغيب الولاة في العدل في حكمهم، وتحذيرهم من الظلم والتعسف مع الرعية، فإنهم مسئولون عما استرعاهم الله تعالى أحفظوا أم ضيعوا.

ما جاء في الوالي العادل

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوالي العادل.

قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وقال تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)] متفق عليه.

قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوالي العادل].

الوالي: هو من يتولى أمور الناس سواء كان حاكماً أو أميراً أو قائماً على مجموعة من الناس يتولى أمرهم، فالإنسان الذي يتولى أمر الناس ويعدل فيهم فقد صدق ما أمر الله عز وجل به في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

فأمر الله بالعدل، فكل إنسان يوليه الله عز وجل شيئاً صغر أو كبر فلا بد من العدل في ولايته، وهو يأتي يوم القيامة مغلولاً، فالعدل يفك هذا الإنسان أو يوبقه، سواء كان حاكماً أو قاضياً أو مسئولاً عن أناس، فيلزمه أن يعدل في حكمهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فتتعامل مع الناس بمنطلق العدالة فبدأ بها، أو بالإحسان؛ فلعله يصعب أن يحسن الإنسان مع كل الناس فعلى الأقل اعدل مع الجميع.

فبدأ بما يقدر عليه كل إنسان وهو العدل ثم ثنى بالإحسان وهي الدرجة الأعلى والأعظم، فعليك أن تحسن مع الناس وتكسب أجر الله سبحانه، فبالإحسان إلى الناس تستجلب المحبة بينك وبينهم، ورضا الله سبحانه تبارك وتعالى فوق ذلك.

فأمرك الله بالإحسان، وبدأ بالعدل، فتعدل في أهلك، وتعدل في مالك، وتعدل فيما ولاك الله سبحانه تبارك وتعالى.

وقال: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] (أقسطوا) أي: اعدلوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، المقسط: اسم فاعل من الفعل الرباعي (أقسط)، فإذا حذفت منه همزته عُكس ما فيه من معنى، فقسط بمعنى: جار وظلم، قال الله سبحانه: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14]، أي منهم العادلون الصالحون ومنهم القاسطون، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14-15]، فيكون جزاءهم فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15].

فالله عز وجل أمر بالقسط أي: بالعدل، فيقسط المسلم في حكمه وفي أهله وفيما ولاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا صار مقسطاً كان قريباً من الله سبحانه، وإذا انعكس وصار قاسطاً ظالماً كان بعيداً عن الله يستحق العقوبة يوم القيامة.

شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...)

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، سبعة أصناف من الناس سواء من الرجال أو من النساء، لكن الإمام العادل لا بد أن يكون رجلاًن فشرط في الخليفة أن يكون ذكراً.

قوله: (إمام عادل) هذا منصب الرجال، إمام عادل يحكم الناس بشرع رب العالمين سبحانه، ويقسط في حكمه، فهذا من أوائل من يظلهم الله في ظله.

ويوم القيامة موقف عظيم بين يدي الله سبحانه، قال الله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].

يقوم الناس كلهم بين يدي الله سبحانه، وتدنو الشمس من الرءوس، فإذا بالعرق يسيل من الناس في هذا اليوم الفظيع وينزل في الأرض، فمنهم من يبلغ إلى قدميه ويغطي قدميه، وهو واقف منقوع في عرقه، وإنسان آخر أفظع من ذلك عرقه يبلغ إلى ركبتيه، وإنسان ثالث عرقه يبلغ إلى حقويه، وإنسان رابع يصل إلى منكبيه، وإنسان خامس يغطي عرقه أذنيه، لم يتعب نفسه لله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا، ولم يخدم دين الله سبحانه، كل تعبه كان في الدنيا، يجري ويذهب ويأتي لها، كان يسيل عرقه في أمور اللهو وفي الباطل، ولم يعرق ولم يتعب في الدنيا لله سبحانه، بخلاف المؤمن الذي يفني عمره كله في طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، كان يصلي ويذهب إلى بيت الله سبحانه في الحر أو في البرد، ويفعل الطاعات من أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومن حضور الجنازات وعيادة المرضى، ومعاونة من يحتاجون إلى معاونة وهكذا.

فالمؤمن ذو خلق ونفع لمن حوله، فهو يتعب نفسه ليستريح يوم القيامة، يتعب نفسه ليؤمنه الله يوم القيامة، يعرق في الدنيا حتى لا يعرق يوم القيامة ويغرق في عرقه.

يوم القيامة تدنو الشمس من الرءوس، والشمس الآن على بعد شاسع جداً عن الناس وضوءها يصل بعد ثمان دقائق، ويوم القيامة تكون الشمس قريبة من رءوس الناس على بعد ميل واحد، وهو ميل المسافة أو هو ميل المكحلة الذي يكتحل به، فالشمس تكون فوق رأس الإنسان يوم القيامة، فكم سيسيل من العرق من هذا الإنسان؟! والإنسان يخرج من قبره حافي القدمين لا ثياب عليه في هذا الموقف العظيم بين يدي الله سبحانه.

والمؤمنون ينفعهم إيمانهم وتقواهم لله سبحانه، ينفعهم أنهم بذلوا في الدنيا من العرق والدم والمال، وبذلوا من أوقاتهم لله سبحانه تبارك وتعالى، فيظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، يوم لا ظل إلا ظل الله سبحانه تبارك وتعالى، ظل عرشه، وظل يخلقه الله سبحانه ويجعله للعباد، وظل الله أعلم به، نقول: هذه أرض الله، هذه سماء الله، هذا ظل الله، فهو شيء يختص به الله عز وجل.

قوله: (إمام عادل) بدأ بالإمام العادل لأنه أنفع الناس للناس، فالحاكم المسلم الذي يحكم الناس بشرع الله، الذي ينفع الناس، والذي يعدل بينهم، هذا الإنسان ينتفع به الكثير من الخلق، فاستحق أن يقدم على الجميع يوم القيامة فيبدأ به.

الثاني: (شاب نشأ في عبادة الله)، يفرح المؤمن أن الله عز وجل هداه لدينه فأقبل على طاعة الله وهو شاب صغير، وكم من الشباب يقترفون معاصي الله وقد يتوبون غداً ولكن بعدما يتوب أحدهم وقد جاءه المشيب يندم على ما فرط، وفرق بين من نشأ في العبادة وهو صغير يعبد الله سبحانه ويحفظ كتابه ويتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الآخر، فهو نشأ على دين الله من صغره، فاستحق هذه المكافأة يوم القيامة.

فيجب عليك أن تنشئ ابنك على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى وهو صغير حتى ينفعك يوم القيامة، وأيضاً وأنت شاب تتعلم طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وتجتنب الهوى، وتبتعد عما يبعدك عن ربك سبحانه، وعما يبعدك عن ظل الله يوم القيامة.

وكذلك الفتاة التي نشأت في عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، فلها هذا الظل يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظل الله تعالى.

قال: (ورجل قلبه معلق في المساجد)، إذا خرج منه فقلبه معلق به حتى يرجع إليه، يحب بيت الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه يتقرب إلى الله بالصلاة في بيته وبالاعتكاف في بيته وبذكر الله ودعائه وقراءة القرآن وبحضور مجالس العلم، فقلبه معلق ببيت الله سبحانه تبارك وتعالى، وليس متعلقاً بالمسجد لأنه سيقابل فلاناً وفلاناً، وسيحضر النادي الذي في المسجد، ويتعرف على فلان وعلى فلان؛ بل هو معلق ببيت الله لطاعة الله سبحانه، ويضن بوقته أن يضيعه في غير طاعة ربه سبحانه.

ولذلك فالمعتكف الذي يلزم المسجد داخل تحت هذا الحديث، فهو يحب بيت الله سبحانه تبارك وتعالى، يعتكف ليصلي الصلوات الخمس في بيت الله سبحانه، وليطيع ربه وليقرأ القرآن ويتعلم العلم الشرعي.

قال: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)، وكذلك امرأتان تحابتا في الله اجتمعتا عليه وتفرقتا عليه.

والحب في الله شيء عظيم، يجتمعان على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى ويفترقان على ذكر الله سبحانه، فالمؤمن مع أخيه المؤمن، والمرأة المؤمنة مع أختها المؤمنة يجتمعان فيذكران الله سبحانه تبارك وتعالى، تسلم على أخيك وتقول له: كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، كان بعض الصحابة يسأل أحدهم أخاه فيقول له: كيف أنت؟ فيقول: الحمد لله، قال: لهذا أسألك، أنا أراك بخير، لكن أسألك لكي تقول: الحمد لله، فتذكر الله عز وجل فنؤجر على ذلك.

فالمؤمن يذكر الله سبحانه مستمتعاً بذكر الله، محباً لله سبحانه تبارك وتعالى، يذكر أخاه بالله سبحانه، وأخوه يدعوه للطاعة، ويأمره بالمعروف، وينصحه في الله سبحانه، فهو محب لأخيه لذلك، وفرق بين من يحبه لذلك وبين من يحبه لدنيا، ليذهب معه في حاجة، أو ليتمشى معه، أو ييذهب معه إلى محرم، فهذا يحب لأجل الدنيا، وسرعان ما يفترقان، فالدنيا لا تجمع شمل أحد أبداً.

فلتكن محبتكم على دين الله عز وجل، فاجتمعوا على دين الله وعلى طاعته، وتفرقوا على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى وإذا حدث بينك وبين أخيك شيء فراجع نفسك وليراجع نفسه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تحاب اثنان في الله ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)، اثنان تحابا في الله وفجأة إذا بهما يختصمان! فلا بد أن هذا أذنب ذنباً أو ذاك أذنب ذنباً.

أيضاً: الإنسان يحب إنساناً في الله سبحانه تبارك وتعالى، فأنت تحبه ليس لذاته وإنما في الله سبحانه، تحب الله الحب الأعظم في قلبك، وإذا مات هذا الإنسان فإن الله حي لا يموت سبحانه تبارك وتعالى، فحبه في قلبك لا يفارق قلبك، ولذلك المؤمن يحب ربه ويستغني بربه سبحانه ويستأنس بذكره سبحانه تبارك وتعالى، ويحب أخاه في الله ولله سبحانه تبارك وتعالى.

أيضاً: الحب له غاية وله كيفية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)، فالحب في الله عز وجل له حدود، فيحب أخاه ولا يشغله فيقعد معه يوماً كاملاً لأنه يحبه! لا يعطله عما يحتاج إليه من أمر معاشه وأمر حياته وأمر دينه، ولكن يحبه لأنه يعينه على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا أبغضت إنساناً فلا تبالغ في الكراهية، أبغض عمله الذي هو عليه، فقد يكون سارقاً، وقد يكون زانياً، وقد يكون عاصياً لله سبحانه بأي صورة من صور المعاصي، فتبغض هذا العمل، ولكن لا تجعل البغضاء حاجزاً بينك وبينه فلا تستطيع أن تدعوه إلى الله سبحانه، ولعله يتوب ويبقى في نفسه شيء منك لأجل البغضاء التي كانت بينك وبينه يوماً ما.

فالحديث يقول لك: إذا أحببت فلا تفرط، وإذا أبغضت فلا تفرط.. (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما).

قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، رجل دعته امرأة إلى المعصية، إلى فراشها، إلى الوقوع في الفاحشة؛ فإذا به يخاف الله سبحانه، وأي امرأة هذه المرأة؟ ليست امرأة قبيحة، ولا امرأة عجوزاً شمطاء، بل هي امرأة ذات منصب، فهي تستطيع أن تضره أو تنفعه بحسب ما ينظر الناس، وهي شديدة الجمال، ففي يدها الترغيب والترهيب، التخويف والتحبب إليه، فهذا الإنسان لم يخف منها؛ لأنه يخاف الله سبحانه تبارك وتعالى، ولم يرغب فيها لأن قلبه معلق بما عند الله، فعند الله الحور العين وجنات عدن، فقلبه معلق بالآخرة، وبالخوف من الله، وبالرجاء في الله، (ولذلك قال: إني أخاف الله)، لا أخاف منك، ولا أرجو منك شيئاً، إنما أخاف الله؛ فاستحق أن يكون يوم القيامة ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

(ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، هذا رجل آخر تصدق بصدقة فأخرج المال وانتظر حتى جاء الليل وقل الناس وذهب للفقير فأعطاه، حتى إن الفقير لعله لا يعرف من الذي أعطاه هذه الصدقة فأخفى الصدقة، ومن شدة إخفائه لها يكاد يخفيها عن نفسه، فهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

والمؤمن ينفق ولا يستكثر ما ينفقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أدبه ربه وقال له سبحانه: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] لا تعطي المال مستكثراً هذا المال، فنهاه ربه سبحانه عن استكثار المال، فلا تنظر إلى أنك أعطيت الكثير، حتى وإن أعطيت مالاً كثيراً فالمال مال الله سبحانه، ومهما أعطيت فهو قليل من مال الله سبحانه.

والمعنى الآخر: لا تستكثر من أموال الناس بالعطية، لا تمنح مالاً وتنتظر ثواباً على هذا المال، وتريد أن يعطوك من أموالهم، فأنفق لله سبحانه ولا تنتظر مردوداً من أحد عليك فيما أنفقت.

قال: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ورجل -وكذلك امرأة- كان في مكان وحده لا أحد معه، لعل الإنسان أمام الناس قد يبدو خشوعاً من الله سبحانه ومتأثراً بالموقف الذي هو فيه، وهذا حسن، ولكن الأحسن منه أن يبكي الإنسان فيما بينه وبين الله سبحانه تبارك وتعالى، يقوم الليل فيصلي فإذا به تنهمر عيناه من البكاء من خوف الله سبحانه تبارك وتعالى.

هذا هو الصدق، وهذه هي حقيقة الخوف من الله، فقلبه ممتلئ بالخشية من الله وبالحب لله سبحانه، فقام يصلي ويبكي على ذنوبه، وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يقوم ويقرأ في الصلاة ويسمع له أزيز من صدره كأزيز المرجل، أي: القدر الذي على النار، فمن خوفه من الله يبكي ويكتم بكاءه، فلا يسمع له شهيق وهو يبكي، ولكن أزيز، فقد كتم البكاء فخرج منه كالأزيز من شدة الخوف من الله ومن بكائه صلوات الله وسلامه عليه.

قال يوماً لـعبد الله بن مسعود : (اقرأ علي، فقال عبد الله بن مسعود : أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري،فقرأ عبد الله بن مسعود من سورة النساء حتى بلغ إلى قوله سبحانه: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فقال له: حسبك) أي: كفى، فنظر إليه وقد سالت الدموع على خده صلوات الله وسلامه عليه.

فالذي يذكر الله خالياً فيبكي ويخاف من الله أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

شرح حديث: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور...)

روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) (إن المقسطين) أي: أهل العدالة الذين يعدلون، والمسلم يعدل مع من يحب ومع من يبغض، يعدل مع صديقه، ويعدل مع عدوه، يقول الله سبحانه تبارك وتعالى للمؤمنين: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، أي: لا يدفعنكم بغضكم لهؤلاء الكفار إلى عدم العدل، فاعدل مع كل الناس، كن عدلاً مع أقربائك ومع الغرباء عنك، مع أصدقائك ومع أعدائك، اعدل كما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135] لم يقل: كونوا قائمين، بل قال: (كونوا قوامين) أشد القيام وأعظم القيام أن تقوم في دين الله سبحانه، وتقوم لأمر الله، وتكون قائماً بالقسط تعدل بين الناس، كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ [النساء:135]، إذا طلبت منكم الشهادة فاشهدوا بالحق حتى ولو كانت هذه الشهادة تضركم أنتم، وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ، فتشهد بالعدل ليأخذ كل ذي حق حقه، ولا تقل: لو شهدت بالحق سيضيع هذا المال الذي عند أبي أو عند أمي وهو مال غصب أو مال سرقة، فاشهد بالحق ليرجع المال إلى صاحبه، ويكون لك الأجر عند الله.

ولا تقل: فلان هذا مسكين فقير، لو شهدت عليه فستضرر، الله عز وجل يقول لك: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فالإنسان قد يحجم عن الشهادة ويقول: فلان غني، ويمكن بماله أن يضرني بعد هذا! أو يقول: فلان هذا فقير سيضيع بشهادتي عليه، ويصعب علي أن أشهد عليه، فمن أولى بهذه الرحمة أنت أم الله سبحانه تبارك وتعالى؟ الله يقول: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ، فأنت مأمور بطاعة الله سبحانه، فتشهد بالقسط وبالعدل والله أولى بهؤلاء وسيعاملهم سبحانه بما يريد.

قال تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، فاحذر أن تتبع هواك فتترك العدل، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135]، وَإِنْ تَلْوُوا ، أن يلوي الإنسان جانبه، ويبتعد عن دين الله سبحانه فالله خبير بما تصنع وتفعله، وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ، إن تلووا هذه الشهادة أو تعرضوا عنها فالله أولى بذلك سبحانه وهو خبير ويعلم ذلك سبحانه.

قال عليه الصلاة والسلام: (المقسطون عند الله على منابر) المنابر هي الكراسي العالية، فيجعل الله عز وجل له منبراً يوم القيامة يجلس عليه، وهذا الكرسي من نور، فما صفاتهم؟ قال: (الذين يعدلون في حكمهم)، الولاة والأمراء والحكام الذين يحكمون فيعدلون بين الناس في حكمهم، لكن هل كل الناس حكام؟ لا، ولذلك قال: (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم) رجل يعدل مع أولاده وبناته، فيعطي هذا ويعطي هذا، لا يميز البعض على الآخر، يعدل مع أولاده ومع أهله، يتزوج أكثر من واحدة فيعدل مع هذه وهذه، هذه لها ليلتها، وهذه لها ليلتها، يعدل مع أبيه ومع أمه، فيظهر المحبة لهذا ولهذا، ولا يميز بينهما فيغضبهما فيكون ذلك من العقوق، فهو يعدل مع أهله، ويعدل في حكمه، يعدل في ولايته، وفي كل ما تولى عليه فهو يعدل فيه.

شرح حديث: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم...)

عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنوهم ويلعنوكم) أي: خيار حكامكم، فأفضل الحكام الذين يحبهم الشعب ويدعو لهم، (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم)، فهنا المحبة متبادلة، فهم يحبون الناس، والله عز وجل يجعل الناس يحبونهم، وإذا كانوا يبغضونهم فالله يجعل البغضاء في قلوب الناس فيبغضونهم.

قال: (وتصلون عليهم ويصلون عليكم) أي: تدعون لهم ويدعون لكم، وهذا سواء كان حاكماً كبيراً أو حاكماً صغيراً، الحاكم الذي يحكم الناس فيعدل يحبه الناس، والذي يحكم ولا يعدل يبغضه الناس، فالخيار في الدنيا هم الذين يعدلون فيحبهم الناس ويحبون الناس.

(وتصلون عليهم) أي: تدعون لهم بالرحمة، (ويصلون عليكم أي: يدعون لكم، فهؤلاء خيار أئمتكم).

وشرار الحكام هم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، فالناس يكرهونهم يكرهون الناس (وتلعنونهم ويلعنونكم) أي: تدعون عليهم ويدعون عليكم.

قال: (قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟)، إذا كان الحكام بهذه الصورة يبغضوننا ونبغضهم ويلعنوننا ونلعنهم، فلماذا نتركهم؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: إذا كانوا يقيمون الصلاة فلا تنابذوهم بالسيف، وكأن مصلحة وجودهم فوق المفسدة التي ينبني عليها ظلمهم، فيحصل اختلاف بين المسلمين، وقد يكون المسلمون أقوى وقد يكونون ضعفاء، فعندما يتحاربون معهم يسقط القتلى من المسلمين ويضيق على باقي المسلمين، ولم يكسبوا شيئاً، فإذا صبروا على أمر الله سبحانه كان لهم الأجر من الله، وخمدت الفتنة قال، ولهذا: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وفي حديث آخر قال: (ما صلوا).

شرح حديث: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط...)

عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق)، ليس المعنى أن هؤلاء فقط أهل الجنة، ولكن من أهل الجنة هؤلاء الثلاثة، أو أن هؤلاء من السابقين إلى الجنة الذين يستحقونها (ذو سلطان مقسط موفق) أي: حاكم مقسط يحكم بين الناس بالعدل، وهذا توفيق من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالإنسان لا ينسى فضل الله عز وجل عليه أنه هو الذي يلهمه الصواب ويوفقه للحكم بالعدل بين الناس، قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، قد يكون الإنسان رحيماً ورقيق القلب على أولاده فقط، وعلى بقية الناس يكون قاسي القلب متحجراً، لكن هذا قلبه رحيم بالناس جميعاً إلا أن يكون مع الكفار, فالله عز وجل ذكر من صفات المؤمنين: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، ففيهم الرحمة للمؤمنين، وفيهم القوة على الكافرين، فمن أهل الجنة من فيه رحمة وهو رقيق القلب يعني: قلبه يتأثر بسرعة، يرى إنساناً مسكيناً ضعيفاً محتاجاً فيتأثر سريعاً ويقوم لخدمته أو لإعطائه، فقلبه رقيق عكس صحاب القلب الصلب الجامد.

قال: (لكل ذي قربى ومسلم) فبدأ بالأقربين؛ لأنه يبعد جداً أن تكون رقيق القلب بالأبعدين وأنت قاسي القلب على الأقربين، فلا يوجد إنسان يشتم أباه وأمه ويكون رحيماً رقيقاً مع الجيران ومع الغرباء، هذا بعيد، والمؤمن رقيق ورحيم مع الجميع، فإنه (رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم).

قال: (وعفيف متعفف ذو عيال)، إنسان عفيف لا يأخذ أموال الناس، ولا يمد يده إلى الناس، متعفف، ويستشعر في نفسه الغنى وإن كان فقيراً، وإن كانت حاجته كبيرة ولكن في قلبه الغنى، ربى نفسه على العفة، وعدم التطلع إلى الغير، فهو ليس محتاجاً إلى أحد، فإن الغنى غنى القلب، أغنى الله قلبه فهو متعفف، أي: مظهر لهذا الوصف من نفسه، فهو متعفف لا ينظر إلى مال أحد أبداً، ولا يطلب مال أحد.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رياض الصالحين - الوالي العادل للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net