إسلام ويب

إن فضل قيام الليل وصلاة التراويح عظيم، وأجرها عند الله جسيم، فذلك دأب الصالحين من قبلنا، وهي كفارة لذنوبنا، ومطهرة لقلوبنا، ومنهاة لنا عن الوقوع في معصية ربنا، وهي شرف المؤمن وعزته في الدنيا والآخرة، فهنيئاً لمن قام الليل وصلى التراويح وحافظ على ذلك، فإنه سر السعادة، ومفتاح النصر والريادة.

فضل قيام الليل

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

إن من أعمال رمضان العظيمة التي يحرص عليها المؤمن أن يقوم من الليل، وقيام الليل جاءت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، ومن أعظمها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم).

وقد كان صلى الله عليه وسلم يحثهم عليه، وكان الصحابة يحرصون على ذلك فيصلون في بيوتهم، وإذا كان رمضان صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد صلاة الفريضة، وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى في بيته ما شاء من النافلة، وهم يقومون بعضهم يقوم فيصلي وحده، وبعضهم يقوم ويصلي جماعة، فلم يكونوا يتركون قيام الليل.

ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على ذلك قوله لـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل ثم ترك).

وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله، ويصوم النهار، فالنبي صلى الله عليه وسلم رده إلى ما لا يشق عليه، وهو أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن يقوم جزءاً من الليل، فيقسم القرآن على سبعة أيام، ووصل في النهاية إلى ثلاثة أيام، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (لا تكن مثل فلان)، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فلاناً باسمه فلم يذكره رواة الحديث ستراً عليه، فيكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً لفلان هذا ألا يترك قيام الليل، أو أنه ذكره على الإبهام، فقال: لا تكن مثل فلان، فمن الخطأ أن يعتاد المؤمن على قيام الليل ثم بعد ذلك يتركه.

إن الذي ينبغي على المؤمن كلما تقدم به العمر أن يزداد عبادة وطاعة لله سبحانه، وكلما ذاق طعم المناجاة في الليل ازداد حباً لها، وأما أنه يصلي من الليل ويقوم ويتهجد ثم بعد ذلك يتركه فهذا ليس بصواب، وإن كان قيام الليل ليس واجباً وإنما هو سنة، لكن الإنسان المؤمن كلما ازداد تقرباً ازداد استعذاباً لطعم العبادة، وازداد محاولة أن يكثر منها لا أن يتركها، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكن مثل فلان) سينتشر بين الصحابة وسيصل إلى فلان هذا فيرجع ويصلي من الليل، وقال ذلك لـعبد الله بن عمرو وكأنه يريد: لا تشدد على نفسك ثم لا تستطيع عليه فتترك.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لكل عابد شرة، وإن لكل شرة فترة) فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فأحياناً تأخذ الإنسان الشدة أن يعمل كل شيء، فيريد أن يقوم من الليل، ولعله يقوم الليل كله، يوماً واثنين وثلاثة، ثم يدب إليه التعب والملل فيترك، فلا هو واظب على ما كان يفعله ولا هو فعل المشروع المسنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا بأن نأخذ من الأعمال ما نستطيع عليه، وما نواظب عليه، والله لا يمل حتى تملوا.

وأيضاً من الأحاديث ما رواه مسلم عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل)، والليل يبتدئ من المغرب ويستمر إلى أن يطلع الفجر، وقد كان الصحابة يقومون ما بين المغرب والعشاء، وليس هذا هو المقصود بصلاة التراويح ولا بصلاة التهجد ولا بقيام الليل الذي في رمضان، والذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وإن كان ما بين المغرب والعشاء يكتب من قيام الليل، فقد كانوا يقومونه وأنزل الله يمدحهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] ، فكانوا يقومون هذا في غير رمضان، ولعله في رمضان أيضاً، ولكن الصلاة التي نتكلم عنها الآن هي صلاة التراويح والقيام التي تكون بعد صلاة العشاء، فيتهجدون لله عز وجل بعد ذلك في آخر الليل أو في أول الليل، وأفضله أن يكون في آخر الليل.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي هريرة : (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد)، فانظروا إذا ذهب الإنسان لينام فالشيطان يذهب وراءه، فلا يريده أن يقوم، ولا يريده أن يتعبد لله سبحانه، فيقف له على طريق العبادة؛ ليصده وليمنعه، فإذا نام جاء الشيطان إلى قفا الإنسان فيربط ثلاث عقد، وهذا كفعل السحرة، وقد تعلم السحرة ذلك من الشيطان، وكل عقدة يربطها يقول له فيها: عليك نوم طويل، أي: نم ولا تقم.

قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة) فالسنة أول ما تقوم من النوم أن تذكر الله سبحانه بأي نوع من الذكر، مثل: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في بدني وأذن لي بذكره، فتقول ما تحفظ من أذكار حين تقوم من الليل، وتعود نفسك على ذلك.

وبعد ذلك إذا قمت فتوضأت قال صلى الله عليه وسلم: (فإن توضأ انحلت عقدة -وهذه العقدة الثانية- فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس)، فإذا توضأت وصليت من الليل فلا يلزمك أول ما تبدأ بقيام الليل أن تصلي صلاة طويلة، ولكن صل ولو ركعتين خفيفتين كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فتحل عقدة الشيطان الثالثة، وبعد هذا تجد استعذاباً لقيام الليل، وحلاوة للمناجاة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فأصبح نشيطاً طيب النفس)، إذاً: فقيام الليل يجعلك نشيطاً، وهذا عكس ما يفهمه البعض حيث يقولون: إذا نام الإنسان الليل يكون نشيطاً في الصبح!!

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: إذا صليت أصبحت طيب النفس، تتقبل الأعمال، وتجيد أداء أعمالك، ولم يقل: صل الليل كله، ولكن قم من الليل ولو أن تصلي ركعتين من آخره، فتصبح طيب النفس.

وإن لم يكن ذلك قال: (وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، وإذا لم يصل الليل فلعله أيضاً يضيع عليه الفجر، فيصبح في الصبح وهو مكتئب متضايق مهموم.

ولو أنك صليت من الليل لزالت عنك هذه الهموم، وكان الله عز وجل معك، وكانت ملائكة الله معك، وابتعد عنك الشيطان فأصبحت طيب النفس .

وهناك حديث آخر يرويه أبو داود -وهو حديث صحيح- عن أبي سعيد أو أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أيقض الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات) ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، وهذه أعلى مرتبة يصل إليها الإنسان، حيث يقول الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، فأعلى مرتبة يصل إليها الإنسان هي أن يكون من الذاكرين أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].

ولا يتخيل أبداً أن الذي يكثر ذكر الله لا يصلي، ومستحيل أن يكون ذلك، فكأنه وصل إلى هذه المرتبة بأدائه لأركان الإسلام، وبأدائه للفرائض التي عليه، وبأدائه للنوافل، فصار يستعذب ويستحلي ذكر الله سبحانه على لسانه، فوصل إلى هذه الدرجة: وهي درجة الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

فإذا أردت أن تكون من هؤلاء فعليك بقيام الليل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحث الرجل أن يوقظ امرأته وتوقظ المرأة زوجها، فيصليا جميعاً، أو يصلي كل واحد منهما ركعتين في جوف الليل، فبالمواظبة على ذلك يكتبا عند الله من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

قيام الليل يمنع العبد من الفحشاء والمنكر

وأيضاً من فضل قيام الليل: أن هذه الصلاة تمنع العبد من الفحشاء والمنكر إذا أجادها، فخير ما يستعين به العبد على ترك المعاصي: قيام الليل، فقم الليل فإنك بعد حين تجد نفسك تتدرج في ترك المعاصي، ولذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سارقاً، وكان الناس يعرفونه، لكن لم يشهد عليه أحد عند النبي صلى الله عليه وسلم كي تقطع يده، فهذا الرجل قام من الليل، فرآه بعض الناس يقوم الليل فتعجب كيف يسرق في النهار ويقوم في الليل! فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فلان يقوم الليل ويسرق في النهار، قال: (سينهاه ما يقول) يعني: هذه الصلاة التي يصليها، وفعلاً انتهى الرجل عن السرقة بعد ذلك.

فقد يكون في الإنسان أحياناً بعض الخصال السيئة التي يغضب بها ربه، ويحاول أن يبتعد عنها وأن يمتنع منها، كأن يكون فيه شيء من مد اليد إلى مال الغير، أو أنه يقع في بعض الكبائر، فلو أنه عمل صالحاً كقيام الليل، وواظب على الفرائض، فإن صلاته تنهاه عن هذا الذي هو فيه لو أنه كان مخلصاً لله سبحانه، تائباً إليه، راجياً من الله أن يغفر له، وأن يعينه على ترك هذا الذي هو فيه.

صلاة التراويح تسميتها ووقتها وفضلها

إن صلاة التراويح صلاة مخصوصة في رمضان، وسميت بصلاة التراويح من الاستراحة يعني: جاءت من الراحة، فقد كانوا يصلون أربع ركعات ثم يستريحون، ثم يصلون أربع ركعات ثم يستريحون، فسميت تراويح؛ لأنها صلاة فيها استراحة بين كل أربع ركعات.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، هذا في سنن أبي داود ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

فقوله: (قام رمضان) أي: كل رمضان، وفضل الله سبحانه عظيم، فمن فاته شيء فليستدرك الباقي، لكن من قام رمضان فإنه يغفر له، ومن قام رمضان فإنه سيوفق إلى ليلة القدر، ولا يمكن أبداً أن يقوم الإنسان كل ليلة لله عز وجل وتأتي ليلة القدر فيضرب الله عليه بالنوم فيها، فالله أعظم وأكرم من ذلك سبحانه، لذلك من قام رمضان وواظب على ذلك وفق لليلة القدر، فقام فيها فغفر الله له ما تقدم من ذنبه.

ولعل الإنسان ينشغل أحياناً عن شيء من قيام رمضان فإذا قام ليلة القدر ووفق لها، فالله عز وجل يغفر له أيضاً ما تقدم من ذنبه، ولكن لا يستوي من قام رمضان كله بمن قام ليلة واحدة، فمن أتعب نفسه كان له كل يوم مغفرة من الله، وكان له كل يوم فضيلة، ويعتق من النار، ويرفع درجات بهذه الصلاة العظيمة، ويستجاب له في دعواته.

إن قيام الليل عظيم جداً، فعلى المؤمن أن يحرص عليه، وأن يحرص على حضور التراويح مع الإمام في جماعة.

جاء عن أبي ذر قال: (صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله! لو نفلْتنا قيام هذه الليلة).

هذا الحديث رواه الإمام أبو داود في سننه وهو حديث صحيح، وفيه أنهم صاموا مع النبي صلوات الله وسلامه ولم يقم بهم إلى أن بقي سبع، يعني: مرت ثلاثة وعشرون يوماً ولم يقم بهم، وفي ليلة ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين قام بهم.

فلما كانت السادسة لم يقم بهم، فلما كانت الخامسة -كأن هذه الليلة هي ليلة خمس وعشرين أو ليلة ست وعشرين- قام بهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب شطر الليل.

(فقلنا: يا رسول الله! لو نفلتنا قيام هذه الليلة) يعني: لو كنت أكملت بنا إلى فجر هذه الليلة، فقد استعذبوا الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبوا أن يقوم بهم إلى آخر الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا هو موضع الشاهد-: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليل)، فانظر إلى فضل الله العظيم ، فإذا صليت مع الإمام إلى أن انتهى من الصلاة سواء كان انتهى من ربع الليل أو من سدس الليل أو من نصف الليل، فإنه يكتب لك قيام الليلة.

ثم إذا انصرف الإمام جاز للمسلم أن يصلي ما شاء.

قال: (فلما كانت الرابعة -يعني: من آخر الشهر، فإذا كان ثلاثين فستكون ليلة سبع وعشرين- لم يقم بنا -وإذا كان الشهر تسعاً وعشرين فستكون ليلة ست وعشرين- فلما كانت الثالثة -إما ليلة ثمان وعشرين، وإما ليلة سبع وعشرين- جمع أهله ونسائه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) إذاً فهذه ليلة سبع وعشرين قامها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن خشي الصحابة أن يفوتهم السحور، وسماه الفلاح.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قام بهم ثلاث ليالٍ، ولم يقم بهم غيرها؛ لأنه خشي أن تفرض عليهم صلاة التراويح، فهو صلى الله عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فهو عليه الصلاة والسلام يخاف عليكم ألا تطيقوا هذه العبادة، مع أن الصحابة كانوا يريدون أن يقوم بهم، ووصل بهم الأمر إلى أنهم جاءوا يرمون على باب النبي صلى الله عليه وسلم بالحصى، حتى ينبهوه إلى أن يصلي بهم، فلم يخرج ولم يصل بهم، فلما قرب الفجر خرج وقال لهم: (إنه ما خفي علي مكانكم بالأمس، ولكن خشيت أن تفرض عليكم).

فانظروا فهم ينادونه ويريدون منه أن يصلي بهم قيام الليل صلى الله عليه وسلم، وهو يخاف أن تفرض عليهم هذه الصلاة، فلم يخرج ولم يصل بهم صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك جاء في حديث أبي هريرة : (كان صلى الله عليه وسلم يرغِّب في قيام الليل من غير أن يأمرهم بعزيمة) يعني: من غير أن يأمرهم أمراً واجباً، وإنما يرغبهم فقط صلى الله عليه وسلم على وجه الاستحباب.

مراعاة آداب المسجد عند صلاة الجماعة فيه

إذا كان الإنسان يصلي الليل مع الجماعة فإنه يراعي آداب المسجد، فلا يؤذي أحداً من المسلمين، ولا يرفع صوته في القراءة إذا كان يقرأ، ولكن ليستمع للإمام، فإذا ترك له الإمام فرصة للقراءة فليقرأ في سره بفاتحة الكتاب.

فإذا كان يصلي وحده: فإما أن يصلي وحده في المسجد، وإما أن يصلي وحده في البيت، فإذا كان يصلي وحده في المسجد ولا أحد في المسجد جاز له أن يرفع صوته، فإذا كان هناك أناس في المسجد فلا يزعج أحداً، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشوش بعض المصلين على البعض الآخر، وأن يؤذي بعضهم بعضاً في المسجد.

وإذا كان وحده في البيت فله أن يرفع من صوته او يخفضه.

وجاء في سنن أبي داود عن أبي قتادة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فإذا هو بـأبي بكر رضي الله عنه يصلي ويخفض صوته، ومر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بـعمر يصلي ويرفع صوته، ومر بالثالث وهو بلال رضي الله عنه، فقد كان يقرأ ويرفع صوته فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة من هنا وسورة من هنا وسورة من هنا، أو آيات من هذه السورة وآيات من هذه السورة بحسب ما يقرأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني قال لـأبي بكر: مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد أسمعتُ من ناجيتُ).

فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مظلماً بالليل، فإذا كان فيه إضاءة خافته فلن يرى بعضهم بعضاً فيها إلا الشيء اليسير، فإذا أبو بكر في مكان مظلم في المسجد ويصلي ويخفض من صوته، فكأنما خشي النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن ينام وهو يصلي بهذه الصورة، فلذلك قال له: (ارفع من صوتك شيئاً)، فإذا كان الأمر كذلك وأنت على هذه الهيئة فارفع صوتك شيئاً.

وعمر بن الخطاب كان يرفع صوته، لكن كأنه رفعه زيادة على الحد المطلوب، فلو كان أحد بجواره فلعله يزعجه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (لماذا يرفع صوته؟ فكان جواب عمر رضي الله عنه: أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان) أي: أرفع صوتي من أجل أن أقيم النائم كي يصلي، وأطرد الشيطان، فقال له: (اخفض من صوتك شيئاً)، أي: ليس مطلوباً منك أن توقظ النائمين، ولكن من أراد أن يقوم للصلاة فليقم، ومن لا يريد أن يقوم فلا توقظه، لكن ارفع صوتك شيئاً من غير أن تزعج أحداً من الناس.

وقال لـبلال : (رأيتك وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السور -يعني لم تقرأ سورة بأكملها، وإنما قرأت آية من سورة، ثم قرأت آية من سورة أخرى- فقال بلال رضي الله عنه: كلام طيب يجمع الله تعالى بعضه إلى بعض)، يعني: أنا انتقى منه، فالأشياء التي أعرف أقرأها أستحلي قراءتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم قد أصاب) يعني: فيما صنعتم، ولكن افعلوا هذا الذي دللتكم عليه.

مشروعية حضور النساء لصلاة التراويح

وصلاة التراويح يشرع أن تحضرها النساء، وإن كانت الصلوات العادية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في مسجدها، وصلاتها في قعر بيتها خير من صلاتها في مسجدها).

إذاً: فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها مسجدها، لكن صلاة التراويح لعلها لا تصليها في بيتها كما لو صلتها في المسجد، فإذا كانت وحدها قد تنشغل بأمور البيت فلا تصليها، فيشرع للنساء أن يحضرن إلى المسجد فيصلين مع الجماعة، ولذلك جاء في حديث أبي ذر : (فلما كانت السادسة -ليلة سبع وعشرين أو ثمان وعشرين- قال: جمع أهله ونساءه والناس)، فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم بما فيهم نساءه؛ حتى يصلوا معه صلى الله عليه وسلم، قال: (فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح).

وكان عمر رضي الله عنه يجعل للناس، إمامين: إماماً يصلي بالرجال، وإماماً آخر يصلي بالنساء، ونلاحظ أنه لم يجعل إماماً للنساء من النساء مع وجود نساء يحفظن القرآن، بل بعث لهن إماماً يصلي بهن، قال: وجعل عمر بن الخطاب للناس قارئين في رمضان، فكان أبي يصلي بالناس، وابن أبي حتم يصلي بالنساء.

وكان علي بن أبي طالب أيضاً يأمر الناس بقيام رمضان، وكان يجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً، قال: فأمرني علي فقمت إمام النساء.

فيجوز للمسلم -طالما قلنا إن صلاة التراويح سنة وليست فريضة- يجوز أن يصليها في جماعة، ويجوز أن يصليها وحده إن كان في البيت أو في مكان آخر، ولكن الأفضل أن يصليها في جماعة.

وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه جمع الناس على إمام، يقول عبد الرحمن بن عبد القاري : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون: يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل.

وجمعهم على سيد القراء أبي بن كعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، الذي قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقرأ القرآن بأمر جبريل، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر : نعمة البدعة هذه.

وهذه ليست البدعة المذمومة، فنحن نقول: البدعة هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، قصد بالسلوك عليها المبالغة في العبادة، وأما هذه فشرعية؛ فقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فـعمر لا يقصد بالبدعة هنا البدعة الشرعية، وإنما يقصد المعنى اللغوي في ذلك، أي: نعم الأمر البديع هذا، فهذا أمر جميل أننا أرجعناهم إلى ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاث الليالي التي صلاها بهم.

قال عمر : والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، وهذا عائد إلى الصلاة يعني: أن الصلاة التي يناموا عنها أفضل من التي يقومون، ولكن لا يستطيع عمر أن يجمعهم في آخر الليل؛ ففي أول الليل الكل موجود وذلك في صلاة العشاء، بخلاف آخر الليل.

فيكون مراده: لو كانت هذه الصلاة على هذا الوضع في آخر الليل لكانت أفضل من هذه؛ لأنهم إذا صلوا في أول الليل فإنهم سينامون في آخر الليل، فإذا صلى الإنسان مع الإمام كتب له قيام الليل كله، فإذا رجع إلى بيته فيستحب أن يقوم من آخر الليل قبل الفجر ما يقدر عليه، فيصلي ركعتين أو ما قدر الله عز وجل له.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت)، فأفضل ما يكون من صلاة الليل والنهار ركعتان ركعتان، وإن جازت هيئات أخرى غير ذلك، فيجوز للمرء أن يصلي أربع ركعات متصلات في سنن النهار كصلاة الضحى، فيصلي أربع ركعات متصلات، لكن الأفضل أن يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين .

وكذلك في السنة القبلية والسنة البعدية للظهر، والسنة القبلية للعصر، فيجوز أن يصلي أربع ركعات متصلات، ولكن الأفضل هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليه فقال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، فصلاة الليل ركعتين ركعتين وتوتر بركعة واحدة، وإن كان هناك أحاديث جاءت في غير ذلك نذكرها فيما يأتي إن شاء الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح كتاب الجامع لأحكام الصيام وأعمال رمضان - فضل قيام الليل وصلاة التراويح للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net