إسلام ويب

لقد من الله على عباده بأن جعل أصول دينهم واضحة الدلالة، منصوصاً عليها في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فبين الحلال والحرام، وجعل فيما دون ذلك أموراً مشتبهات، اختباراً لعباده وامتحاناً لهم، ولقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الورع واجتناب المشتبهات، خوفاً من الوقوع في الحرام، ومراقبة لربهم العلام، وهكذا فلنكن.

التحذير من الوقوع في المشتبهات

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الإمام المنذري رحمه الله: [ الترغيب في الورع وترك الشبهات وما يحوك في الصدر.

روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس).

وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال وابصة : فدنوت حتى مست ركبتي ركبته فقال لي: يا وابصة أخبرك ما جئت تسأل عنه؟ فقلت: يا رسول الله! أخبرني، قال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت: نعم. فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدره ويقول: يا وابصة ! استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) ].

هذه أحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في الترغيب في الورع وترك الشبهات، إذ أن الدين يحثنا على الورع، والورع: هو أن يجتنب الإنسان الحرام وأن ويجتنب أن يقع في المكروه، ويتورع عن الشيء الذي يشكل عليه أن يقع فيه خشية أن يكون حراماً، فجاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات).

أي: الحلال معروف في كتاب الله سبحانه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث نص على أن هذا حلال أو هذا حرام، فالحلال بين والحرام بين، وبين الاثنين -أي: بين الحلال والحرام- أشياء تشتبه على الإنسان فلا يعرف هي من الحلال أم من الحرام، فالورع يكون في مثل هذه الحالة أن يجتنبها، وأن يسأل أهل العلم، فإذا بين له أهل العلم أنها حرام اجتنب ذلك، وإذا قالوا له: إنها حلال أتاها، وإذا صار الأمر مشكلاً عليه فلا يعرف هو حلال أو حرام حيث أن فيها شبهة من هذا ومن هذا فليجتنبها وليبتعد عنها حتى لا يقع في الحرام.

الوقوع في المشتبهات سبب للوقوع في الحرام

ديننا يعلم الإنسان أن يأخذ حذره؛ إذ لعله يأخذ من هذا الشيء المشتبه شيئاً وراء شيء إلى أن يصير الأمر سهلاً عليه، فلا يتحرى الحلال من الحرام، ويقع آخر أمره في الحرام.

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المثل فقال صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).

والحمى: هو حريم يجعله السلطان مكاناً محرماً وممنوعاً على الناس، كأن يقول: هذه الخيل للمسلمين، وهذه الإبل للمسلمين، وهذه للسلطان، فلو أن راعياً معه إبل أو غنم وجاء بالقرب من هذا المكان يرتع فيه، ويقول: المكان هذا مكان خصب، ولن أدخل مكان السلطان، بل أنا من حوله فهو لا يملك أن تدخل واحدة من الأغنام حمى السلطان، فلو أن هذا الراعي بجهله ذهب بغنمه حول مكان السلطان ورأى غنمه تدخل حمى السلطان، فعاقبة السلطان وأخذ منه الغنم، فرجع ولا غنم ولا مال لعاتبه الناس وسخروا من جهله، فكذلك هذا الإنسان الذي يرتع حول الشبهات ويأتي إلى الشيء المشتبه فيأخذ منه شيئاً فشيئاً إلى أن تحدثه نفسه بأكل الحرام فيقع فيه بعد ذلك وهو يعلمه، فلذلك على المؤمن أن يتحرى ويسأل، قال الله سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

وليحذر الإنسان من أن يحوم حول المعاصي ومقدماتها التي توقعه فيها، فإن من حام حول هذه المقدمات أوشك أن يقع في المعاصي بعد ذلك.

فعلى المؤمن أن يجتنب الحرام وما أشكل عليه، وأن يسأل أهل العلم في ذلك كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فإذا سأل فليتجرد في سؤاله، بحيث لا يسأل بطريقة يأخذ بها الجواب الذي يريده، وكم من سائل يفعل مثل ذلك، فتجده يريد جواباً بعينه، فيسأل المسألة معمياً فيها على المفتي حتى يفتيه بالشيء الذي يوافق رغبته.

بيان بعض وسائل معرفة الحرام

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فكل ما داريته في نفسك وأردت أن لا تظهره فهو إثم وإن كنت تزعم أنه من المتشابهات.

في حديث وابصة بن معبد أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يسأله عن البر والإثم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أخبرك بما جئت تسأل)، وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل ما قال شيئاً بل أتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فقبل أن يسأل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرك؟ فقال: نعم. يا رسول الله! فقال: جئت تسألني عن الإثم قال: قلت: نعم. يا رسول الله! فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها -أي: يدق بها على صدر وابصة - ويقول: يا وابصة ! استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك).

إذاً من الممكن أن يسأل الإنسان المفتي عن شيء أهو حلال أو حرام؟ وعلى حسب سؤال المستفتي يكون جواب المفتي بأنه حلال أو حرام، فالإنسان يمكن أن يعمي على من يجيب عنه بحيث يأخذ منه ما يريد، وهو في نفسه يعرف أن هذا حرام أو حلال، لكن كثيراً من الناس تجد أحدهم يريد أن يأخذ فتوى تبرر موقفه، ولسان حاله يقول: يتحمل عبء هذه الفتوى العالم وليس أنا، فنقول لمثل هذا: العالم لن يتحمل إلا ما أفتى به وبما استبان له، فهو إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، لكن أنت الذي عميت عليه، وأنت الذي خدعته في السؤال، فعليك الوزر في كل أحوالك.

نماذج من ورع أبي بكر الصديق وتركه للشبهات

من الأحاديث التي جاءت عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في تركه الشبه والحرام قول عائشة رضي الله عنها: كان لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء الغلام يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ -يريد بذلك أن يظهر مهارته- فقال أبو بكر : وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، وفي بعض الروايات أنها كانت امرأة وأخبرها بأنها ستلد ولداً، وقال لها: إذا أتيت بولد فأعطيني مقابل ذلك، وفعلاً ولدت المرأة ولداً فأعطوه مقابل ما قاله مالاً.

فإذا به يخبر أبا بكر بهذا الأمر، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه؛ لأنه أكل لقمة أخذت من حرام، فهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم حلوان الكاهن، وهو ما يأخذه الإنسان على تكهنه، بأن يخبر أحداً بأمر سيحصل للمستمع في المستقبل ويطلب لهذا الأمر مقابلاً يسلم إليه عند حصول هذا الأمر.

فغلام أبي بكر كان قد فعل هذا، وأخذ المقابل واشترى به طعاماً ثم قدمه لسيده، فأكل منه أبو بكر رضي الله عنه لقمة وأراد أن يتقيأها فما استطاع، فظل يضع إصبعه في حلقه حتى كادت نفسه أن تزهق بسبب ذلك، فأشاروا عليه أنه يشرب ماء يسيراً ثم يرجع حتى تخرج، فقال: لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها؛ وذلك لأنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نبت من حرام فالنار أولى به).

بيان أعبد الناس عند الله وصفته

روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن ورعاً تكن أعبد الناس)، فهذا الحديث يخبر بأن من أراد أن يكون أعبد الناس فما عليه إلا أن يكون على ورع، فيجتنب الحرام والمتشابه، ولا يأكل إلا طيباً، ويكون بذلك مستجاب الدعوة أيضاً، فكأن المدخل إلى طاعة الله عز وجل هو الورع.

بيان صفة أشكر الناس

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكن قنعاً تكن أشكر الناس)، أي: كن راضياً باليسير، فإذا رضيت باليسير شكرت الله سبحانه، ومن يشكر الله على اليسير يشكره على الكثير، وتكون بذلك أشكر الناس.

حب الخير للناس من علامات الإيمان

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً)، أي: أن هذا من علامة الإيمان، فالمؤمن مع إخوانه وجيرانه، بل مع المؤمنين جمعياً يحب لهم ما يحبه لنفسه من محافظة على الصلوات، وصيام وقيام، وعبادة لله وغيرها، فإذا كان الإنسان يحب للناس ما يحب لنفسه فهذا من علامات الإيمان.

فمن يحب للناس الخير يعطيه الله الخير، ومن في قلبه الضغائن والحسد للناس، فيتمنى زوال النعمة منهم وحصوله عليها، فهذا يشعر في نفسه أنه مظلوم؛ ولذلك قالوا: ما رأينا ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد. فالإنسان الحسود يحس أنه المظلوم الوحيد في هذه الدنيا، وأن كل الناس ظلمة؛ لأن لديهم نعماً من ربهم وليست لديه.

وحقيقة شعوره أنه يشعر بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ظلمه، إذ أعطى الناس وما أعطاه، وأنعم عليهم ولم ينعم عليه، فيحرق قلبه بحسده، فيعاقبه من جنس عمله فيحرقه يوم القيامة بالنار بسبب الحسد.

فعلى الإنسان المؤمن أن يحب الناس، ويحب الخير لهم، ويحب أن ينفعهم. فهذه هي علامة الإنسان المؤمن كما ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه.

صور من علامات الإسلام الحق

قال صلى الله عليه وسلم: (وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً)، أي: أن علامة الإسلام الصحيح أن يكون الإنسان خيراً مع جيرانه، فلا يؤذي أحداً منهم، بل يحب الخير لهم، ويتفقد أحوالهم: هل عندهم طعام؟ وهل لهم حاجة يحتاجون إليها؟ فتراه يحب جيرانه، ويمنع أذاه عنهم، وإذا علم أن جاره يضايقه شيء لم يفعل هذا الشيء الذي يضايق جاره، فهذه هي علامة الإسلام الصحيح.

مضار كثرة الضحك

النصيحة الأخيرة في هذا الحديث العظيم هي قوله صلى الله عليه وسلم: (وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)، وهذه النصيحة نقولها لمن يحب أن يضحك كثيراً فيصير مهذاراً كثير الضحك. ونقول له: أنت لم تخلق للضحك، ولا يعني ذلك أن يمتنع الإنسان من الضحك مطلقاً، بل ساعة وساعة، أما أن تصبح طبيعة الشخص كثرة الضحك فهذا هو الممنوع؛ لأن الإنسان إذا تعود على الضحك والإضحاك فإنه إما أن يضحك على شيء حقيقي يستحق أن يضحك عليه، وإما أنه يخترع ويكذب على الناس من أجل أن يضحكوا على الكذب، وإن الكلمة يتفوه بها الإنسان من غضب الله تهوي به في النار سبعين خريفاً، أي: سبعين سنة، ومن يعتاد على إضحاك الناس يموت قلبه، ومن يركن إلى مثل ذلك يكون مثله.

وكما قلنا: لا يعني هذا الأمر أن يمتنع الشخص من الضحك، ولكن بمقادير وحدود، بحيث لاتكون حياته كلها ضحك وسخرية واستهزاء بالغير، فيضحك الناس حتى يقال عنه أنه صاحب فكاهة، وإلا وقع في غضب الله.

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الورع وترك الشبهات وما يحوك في الصدر للشيخ : أحمد حطيبة

https://audio.islamweb.net