اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأنبياء [16-33] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي: بالعدل والقسط لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً، كما قال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27].
وقوله تعالى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:17]، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء:17] يعني: من عندنا، يقول: وما خلقنا جنة ولا ناراً، ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا [الأنبياء:17]: اللهو المرأة بلسان أهل اليمن، وقال إبراهيم النخعي : لاتَّخَذْنَاهُ [الأنبياء:17] من الحور العين.
وقال عكرمة والسدي : والمراد باللهو هاهنا: الولد. وهذا والذي قبله متلازمان، وهو كقوله تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر:4]، فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولاسيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى، أو العزير، أو الملائكة، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ].
هذا شرط تقديري لا يكون؛ لأن (أو) امتناع لامتناع، فقال تعالى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:17]، ولو حرف امتناع لامتناع، وكما في الآية الأخرى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الزمر:4]، لكنه لا يكون؛ لأن هذا مستحيل، فهذا شرط تقديري يبين به مقادير الأشياء مثل قوله تعالى لنبيه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وهو معصوم من الشرك عليه الصلاة والسلام، لكن هذا لبيان قدر الأعمال، وأن الشرك أمره عظيم يحبط الأعمال مهما كان.
وقوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ [الأنبياء:18] أي: نبين الحق فيدحض الباطل؛ ولهذا قال: فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18] أي: ذاهب مضمحل، وَلَكُمُ الْوَيْلُ [الأنبياء:18] أيها القائلون لله ولد مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18] أي: تقولون وتفترون.
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً، فقال: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19]، يعني: الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأنبياء:19] أي: لا يستنكفون عنها، كما قال تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172].
وقوله: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء:19] أي: لا يتعبون ولا يملون يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً، مطيعون قصداً وعملاً، قادرون عليه كما قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ].
وهذه الآية من أدلة صفة العلو لله عز وجل، قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء:19]، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر أن له من في السموات ومن في الأرض كلها، ثم خص الملائكة فقال: وَمَنْ عِنْدَهُ .
فدل على ثبوت العلو، ولو كانت الملائكة وغيرها سواء لصارت الملائكة وغيرها كلها في العلية سواء، فلما أخبر أنه له من في السموات والأرض وخص الملائكة بالعندية دل على أنهم عند الله في العلو، قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء:19]، وهم الملائكة.
وفي اللفظ الآخر: (أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك راكع، أو ساجد، أو قائم).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم رواه ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلاً.
وقال أبو إسحاق عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20] أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: من بني عبد المطلب قال: فقبل رأسي، ثم قال لي: يا بني! إنه جعل لهم التسبيح، كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس، وتمشي وأنت تتنفس؟ ].
وجاء في أهل الجنة أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس. والسائل: من الغلام؟ هو كعب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ [الأنبياء:21] أي: أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض؟ أي: لا يقدرون على شيء من ذلك فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض فقال: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ [الأنبياء:22] أي: في السماء والأرض لَفَسَدَتَا .
كقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]، وقال هاهنا: فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22] أي: عما يقولون إن له ولداً أو شريكاً سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علواً كبيراً.
وقوله: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد؛ لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه، وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] أي: وهو سائل خلقه عما يعملون، كقوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93]، وهذا كقوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ يا محمد! هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ أي: دليلكم على ما تقولون هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يعني: القرآن، وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يعني: الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون وتزعمون، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق، فأنتم معرضون عنه، ولهذا قال : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ].
قراءة حفص عن عاصم : (نوحي)، وهناك قراءة سبعية وهي: (وما أسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه).
وهذه الآيات فيها تقرير توحيد الله عز وجل، وأن الله تعالى هو المستحق للعبادة دونما سواه، وأنه لا صلاح ولا قيام للسموات والأرض إلا بأن يكون الإله واحداً، وأن يكون هذا الإله هو الله عز وجل، وأن فساد السموات والأرض لازم بوجود آلهة غير الله، قال: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22].
فلو: حرف امتناع لامتناع، وهذا شرط تقديري لا يمكن وقوعه، فلا يمكن أن يكون فيهما إله غير الله، ولكن هذا شرط تقديري لبيان مقادير الأشياء، كقوله تعالى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:17]، وقوله: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الزمر:4].
وقوله لنبيه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك، لكن الآية لبيان مقدار الشرك وأن أمره عظيم، وأنه يحبط الأعمال.
قال الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22] أي: لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته؛ لأنه يضع الأشياء مواضعها، لا كما يقوله الجبرية: أنه لا يسأل عما يفعل لكونه يفعل بالقدرة والمشيئة، ولا حكمة له تعالى الله عن ذلك، بل هو حكيم لقوله سبحانه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23] فلكونه حكيماً يضع الأشياء مواضعها، ولكمال حكمته لا يسأل عما يفعل.
ومشاهد القيامة متعددة، فقد جاء في الآيات أنهم في موقف لا يسألون، وفي موقف ينطقون ويكذبون، ويقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، فمشاهد القيامة متعددة.
قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91]، فهذا يسمونه دليل التمانع، وقد قال به بعض المتكلمين، وقالوا في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] قالوا: إن القرآن فيه دليل التمانع، يقولون: فلو كان للعالم ربان فعند اختلافهما: كأن يريد أحدهما إماتة شيء، والآخر يريد إحياءه، أو يريد أحدهما تحريك شيء، والآخر يريد تسكينه، فإما أن يحصل مرادهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فأما كونه يحصل مرادهما جميعاً فهذا مستحيل؛ لأنه يلزم منه اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء المتحرك ساكناً، والحي ميتاً، وهذا لا يمكن، وكونه لا يحصل مراد واحد منهما أيضاً هذا باطل؛ لأنه يلزم عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، فبقي الأمر الثاني وهو: أن الذي يحصل مراده هو الإله، والذي لا يحصل مراده هو العاجز المغلوب والمقهور.
فيقولون: إن هذا دليل التمانع وأن الآية هذه فيها دليل التمانع، وهي قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91]، فالقرآن أتى بأحسن من أدلتهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، كما قال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فكل نبي بعثه الله يدعوه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضاً، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى رداً على من زعم أن له -تعالى وتقدس- ولداً من الملائكة، كمن قال ذلك من العرب: إن الملائكة بنات الله، فقال: سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26] أي: الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية، ومقامات سامية، وهم له في غاية الطاعة قولاً وفعلاً لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27] أي: لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمر به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى علمه محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [الأنبياء:28].
وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقوله: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23]، في آيات كثيرة في معنى ذلك، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ [الأنبياء:28] أي: من خوفه ورهبته مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء:28-29] أي: من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي: مع الله فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29] أي: كل من قال ذلك، وهذا شرط والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]، وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] ].
وهذا فيه بيان عظمة الله عز وجل وكماله وكمال كبريائه، وأنه سبحانه وتعالى من عظمته لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، بخلاف المخلوقين فإنه يشفع عندهم الشفيع من دون إذنهم، فيأتي الشافع للسلطان أو للأمير أو للغني ويشفع من دون أن يأذن له، وأما الله عز وجل فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ لكمال عظمته، ونبينا صلى الله عليه وسلم الذي هو أوجه الناس عند الله لا يبدأ بالشفاعة أولاً بل يأتي ويسجد تحت العرش، فيحمد الله بمحامد تفتح عليه في ذلك الموقف، ثم يأتيه الإذن من الرب، فيقول الله تعالى له: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع)، فيأتي الإذن، وكذلك إذا شفع للعصاة الموحدين يحد الله لهم حداً، فالشفاعة لا بد لها من شرطين:
أولهما: إذن الله للشافع أن يشفع، والثاني: رضاه عن المشفوع له، وبين سبحانه وتعالى ورد على الكفار الذين قالوا: إن لله ولداً فقال: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116] أي: تنزه، بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26] أي: الملائكة عباد لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، فمع كونهم عباد مكرمون يشفعون إلا بإذنه وبرضاه عن المشفوع له وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29] أي: من ادعى أنه يستحق شيئاً من العبودية، أو دعا إلى عبادة نفسه، أو رضي بأن يعبد من دون الله، فهذا كافر جزاؤه جهنم أياً كان، ومثل هذا لا يقوله الملائكة ولا غيرهم، وإنما هو كفر مقدم وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ [الأنبياء:29]، وهذا حكم مقدر لا يشترط وقوعه وإنما هو لبيان عظم هذا الأمر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى منبها على قدرته التامة، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء، وقهره لجميع المخلوقات، فقال: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:30] أي: الجاحدون لإلهيته، العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً، أي: كان الجميع متصلاً بعضه ببعض، متلاصقاً متراكماً بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه فجعل السموات سبعاً والأرض سبعاً، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، ولهذا قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30] أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء.
ففي كل شيء له أية تدل على أنه واحد
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني بما قال لك، قال: فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس : كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر : الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علماً، صدق هكذا كانت.
قال ابن عمر : قد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن فالآن علمت أنه قد أوتى في القرآن علماً.
وقال عطية العوفي : كانت هذه رتقاً لا تمطر فأمطرت، وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت.
وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنفي عن قوله: أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، قال: كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سماوات، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين وهكذا قال مجاهد ، وزاد: ولم تكن السماء والأرض متماستين.
وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه.
وقال الحسن وقتادة : كانتا جميعاً، ففصل بينهما بهذا الهواء ].
وبهذا يتبين أن معنى هذه الآية: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30] أنهما كانتا ملتصقتين، ثم فتق هذه من هذه، والقول الثاني لـابن عباس : في فتقهما بعد أن كانتا رتقاً: كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، وبهذا يتبين بطلان ما يدعي بعض علماء الهيئة الذين يفسرون هذه الآية ويقولون في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]: أن الأرض كانت جزءاً من الشمس، وأنها كانت من فصيلة الشمس، ثم حصل شيء فانفصلت الأرض، ثم بردت فصارت أرضاً، فقالوا هذا معنى قوله: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30].
وعموا عن الآية التي فيها: (أن السموات والأرض) وليس فيها أن الشمس والأرض كانتا رتقاً، ومع ذلك فهم في علومهم وفي النشرات يقولون: إن معنى الآية: أن الأرض جزء من الشمس ثم انفصلت وبردت، فصارت هذه أرض، وهذه شمس، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الآية صريحة في أن السموات والأرض وما فيها كانتا رتقاً، فيستدلون بهذه الآية ويفسرونها بأن الأرض كانت جزءاًً من الشمس فانفصلت، وقالوا هذا معنى قوله: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، وهذا موجود الآن في المؤلفات، وفي العلوم، وفي النشرات، ويقرره بعض علماء العلوم وغيرهم.
إذاً فهم يقولون: إنها جزء من الشمس، لكن هذا يحتاج إلى الدليل، والآية لا تدل على قولهم بأن الأرض جزء من الشمس، ثم انفصلت وبردت، وصارت أرضاً، ويقولون: إن هذا هو معنى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:30] والله تعالى يقول: أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنبياء:30]، وما قال: الشمس والأرض.
قال ابن جرير : ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق، وكيف كان الرتق؟ وبأي معنى فتق؟ فقال بعضهم: عنى بذلك أن السموات كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ففتقها فجعلها سبع أرضين.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن السموات كانت رتقاً لا تمطر، والأرض كذلك رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض والنبات.
وقال آخرون إنما قيل: فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، لأن الليل كان قبل النهار، ففتق النهار.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا [الأنبياء:30] من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30] على ذلك، وأنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه.
وقوله تعالى: كَانَتَا رَتْقًا [الأنبياء:30] فيه أقوال: قيل: كانت الأرض ملتصقة بالسماء ففتق هذه من هذه، وقيل: كَانَتَا رَتْقًا أي: كانت السماء والأرض وحدها ففتق السموات سبع سماوات، والأرض فتقها سبع أرضين، وقيل: كَانَتَا رَتْقًا : كانتا ظلمة ثم فتق النهار من الليل، وقيل: كَانَتَا رَتْقًا كانت السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات.
فهذه أربعة أقوال، واختار القول الأخير لقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، وليس صحيحاً ما يقوله بعض علماء الهيئة من أن الأرض قطعة من الشمس، وأنها فتقت وبرزت فصارت أرضاً.
وهذه كلها أقوال للسلف، وكلها تحتمل في الآية، وظاهر النص يقوي القول بأنهما كانتا ملتصقين ثم فتق هذه من هذه، وهو قول قوي، وكذلك قوله فتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات تحتمله الآية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أن معنى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا [الأنبياء:30] من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ورجح هذا ابن جرير بقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، قال: هذا دليل على أن المراد ففتقنا هذه بالمطر وهذه بالنبات، أي: كانتا ملتصقتين، ثم فتقهما الله وفصل هذه من هذه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه قال: (يا نبي الله! إذا رأيتك قرت عيني، وطابت نفسي، فأخبرني عن كل شيء قال: كل شيء خلق من ماء) ].
هذا الحديث أخرجه الحاكم وصححه، وفي سنده سعيد بن بشير وهو ضعيف، وأبو الجماهر : قد يكون بضم الجيم أو بفتحها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال: قلت: (يا رسول الله! إني إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من ماء، قلت: أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة، قال: أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأحارم، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام) ].
تفرد به أحمد، والحديث له أصل، وإسناده على شرط الصحيحين.
والشاهد فيه تفسيره للآية: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، وهو قوله: (كل شيء خلق من ماء).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ورواه أيضاً عن عبد الصمد وعفان وبهز عن همام، تفرد به أحمد ، وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم، والترمذي يصحح له، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً، والله أعلم ].
أبو ميمونة، تابعي وهو رجال السنن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ [الأنبياء:31] أي: جبالاً أرسى الأرض بها وقررها وثقلها؛ لئلا تميد بالناس، أي: تضطرب وتتحرك، فلا يحصل لهم عليها قرار؛ لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع فإنه باد للهواء والشمس؛ ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات، والحكم والدلالات ].
ما بدا من الأرض إلا الربع والباقي ماء البحار، أي: ثلاثة أرباع الأرض بحار، والآن في التقريرات الأخيرة يقولون: إنها أقل من الربع، أي: أن اليابس أقل من الربع.
والنار لا شك أنها في الأرض السابعة، وستبرز يوم القيامة وتسجر البحار وتكون جزءاً منها نعوذ بالله، ولا شك أن هذا ليس فيه إشكال، قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:36].
هذا قد يستدل به لمن قال: إن الأرض ثابتة، وأنها قارة وليست متحركة، كما قال تعالى: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل:15]، وقد نقل القرطبي إجماع العلماء على أن الأرض قارة ثابتة، وكذلك نقله ابن القيم ، وفيه رد على أهل الهيئة الذين يقولون: إن الأرض متحركة، وأنها تدور، ويقولون: إنها متحركة، وإن كانت متحركة حركة لا تؤثر، لكن هذا خلاف الظاهر، وظاهر النصوص تدل على أن الأرض ثابتة قارة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا [الأنبياء:31] أي: ثغراً في الجبال يسلكون فيها طرقاً من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض، يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد، وهذه البلاد فيجعل الله فيه فجوة لغيره، ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا، ولهذا قال: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:31].
وقوله: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا [الأنبياء:32] أي: على الأرض، وهي كالقبة عليها، كما قال: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47]، وقال: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، والبناء هو: نصب القبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) أي: خمس دعائم، وهذا لا يكون إلا في الخيام على ما تعهده العرب مَحْفُوظًا [الأنبياء:32] أي: عالياً محروساً أن ينال، وقال مجاهد : مرفوعاً.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: (يا رسول الله! ما هذه السماء؟ قال: هذا موج مكفوف عنكم)، إسناده غريب.
وقوله: وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [الأنبياء:32] كقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105] أي: لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم، والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها، وفي النهار من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار: أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، فلم ير ذلك الرجل شيئاً مما كان يُرى لغيره ].
أي: ما حصل له شيء مما يحصل لغيره، وكان الواحد منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، وهذا تعبد ثلاثين سنة ولم تظله غمامة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فشكا ذلك إلى أمه، فقالت له: يا بني! فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه؟ فقال: لا والله ما أعلم، قالت: فلعلك هممت؟ قال: لا والله ولا هممت، قالت: فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر؟ فقال: نعم، كثيراً، قالت: فمن هاهنا أتيت.
ثم قال منبهاً على بعض آياته: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [الأنبياء:33] أي: هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى، وعكسه الآخر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الأنعام:96]، هذه لها نور يخصها وفلك بذاته، وزمان على حدة، وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخر، وفلك آخر، وسير آخر وتقدير آخر وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]].
كل واحد منهما له سير، وكل واحد منهما له فلك، كما قال تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33]، والشمس دورتها في اليوم، والقمر دورته شهرية، فكل شهر يدور يخرج من المغرب ثم ينتهي إلى المشرق.
وإذا كانت الدورة الكاملة يبدأ من المغرب هلالاً فيتنقل، ولا يزال يكبر حتى يكون في منتصف الشهر، فيكون تمامه، ثم لا يزال ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضعف، وهذا في نوره، وفي الدورة الشهرية، ونوره في السموات، كما أن نوره في الأرض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، وكذا قال مجاهد : فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:96] ].
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأنبياء [16-33] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
https://audio.islamweb.net