اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج [5-7] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد ].
أي: أن هذه هي المناسبة بين ربط الآية بما قبلها، فإنه تعالى لما ذكر حال المنكر للبعث ذكر بعدها الدليل على إثبات البعث فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج:5]، فاستدل على البعث بالبدء، يعني: أن الذي خلقكم من تراب ثم من علقة قادر على أن يعيدكم ويبعثكم مرة أخرى، كما قال سبحانه وتعالى في آية الروم: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، يعني: وهو هين عليه.
وكذلك أيضاً إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على البعث، فاستدل على البعث بدليلين:
الدليل الأول: بدء خلق الإنسان؛ فإنه خلق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة.
والدليل الثاني: إحياء الله الأرض بعد موتها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي: في شك مِنَ الْبَعْثِ وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة ].
يعني: بعث الأجساد وإعادة الأرواح إليها.
وهذا أصل من أصول الإيمان وركن من أركان الإيمان، ولا يتم الإيمان إلا به، فمن لم يؤمن بالبعث فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من قال: إن البعث إنما هو للأرواح، كالفلاسفة؛ فإن الفلاسفة يقولون: البعث للأرواح، وأما الأجساد فلا تبعث، وهذا كفر بإجماع المسلمين، بل نفس الأجساد تعاد، فإن الذرات التي استحالت تراباً يعيدها الله؛ فهو عالم بالذرات التي استحالت، وهو قادر على ذلك، كما قال سبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:78-80].
فالذرات التي استحالت يعيدها الله خلقاً جديداً، والإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو العصعص آخر فقرة في العمود الفقري، منه خلق ابن آدم ومنه ركب، كما في الحديث: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه ركب)، فيعيد الله الذرات التي استحالت، ثم ينشئه الله خلقاً جديداً، فتبدل الصفات، وأما الذوات فهي هي، لكن الصفات تكون صفات أقوى من الصفات التي كانت عليها في دار الدنيا، فتتحمل مواقف وأهوال القيامة، ولهذا يعظم خلق الكافر في النار حتى يكون ضرسه مثل جبل أحد كما جاء في الحديث الصحيح، نسأل الله السلامة.
والجلود تبدل كما قال عز وجل: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [النساء:56]، فالتبديل يكون للصفات، والمراد بالتبديل التجديد، كما جاء ذلك عن الإمام أحمد رحمه الله حين رد على الزنادقة حينما شبهوا وشكوا في المتشابه من القرآن ونسبوا الله إلى الظلم وقالوا: إن الله ظالم -نعوذ بالله- إذ كيف يعذب جلوداً لم تذنب؟! فبين لهم رحمه الله أن هذا من جهلهم وضلالهم وكفرهم، وأن المراد: تجديد، وليس المراد تبديل ذوات.
فالإنسان يعاد بذاته وبجسده، ونفسه هي هي، ولما قال الجهم بن صفوان : إنه يعاد شيئاً آخر، كفره العلماء، وفتح بذلك باباً للفلاسفة فأنكروا البعث. نسأل الله السلامة.
وكذلك الأرض عندما تبدل يكون تبديلها تبديل صفات، والذات هي هي. فقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ [إبراهيم:48]، أي: تبديل صفات لا تبديل ذات، فالناس يبعثون بذواتهم التي كانوا عليها وتبقى كما كانت لا تبدل، أما الأعمار فإنهم في الجنة يكونون كلهم شباباً، أبناء ثلاث وثلاثين، حتى الأطفال الذين ماتوا يكونون شباباً، وأما الصفات التي كانت عليها الذوات فإنها تبدل، ولهذا لا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا، وأما في يوم القيامة فينشئ الله الخلق تنشأة قوية فيثبتون فيها لرؤية الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ أي: أصل برئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ].
يعني: أن آدم خلق من تراب، وذريته كل واحد خلق من نطفة من ماء مهين، فالإنسان يخلق من ماء الرجل وماء المرأة جميعاً، إلا عيسى عليه السلام فإنه خلق من أم بلا أب، خلق بالنفخة التي نفخها جبريل في جيب درعها فولدت عيسى عليه السلام، وهكذا حواء خلقت من آدم، وأما سائر الناس فخلقوا من ذكر وأنثى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة -قطعة من لحم- لا شكل فيها ولا تخطيط ].
ذكر في هذا تطور خلق الإنسان، وأنه يخلق من مني الرجل وماء المرأة، فيكون كذلك أربعين يوماً، ثم تتطور هذه النطفة فتتحول إلى قطعة دم -علقة- ثم بعد أربعين يوماً تتحول إلى قطعة لحم -مضغة- بقدر ما يمضغ في الفم، ثم يخلق الله العظام، ثم بعد مضي أربعة أشهر يأتيه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، وجاء في بعض الأحاديث أن الملك يدخل بعد اثنين وثمانين يوماً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم يشرع في التشكيل والتخطيط؛ فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء ].
يعني: أن هذه المضغة من اللحم يصور الله منها يدين ورجلين ورأساً وهكذا، ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح بإذن الله، ويؤمر بكتب أربع كلمات، فيقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ ما الشقاوة والسعادة؟ فيكتب هذا وهو في بطن أمه. وله سبحانه وتعالى الحكمة في ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى: ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ].
فإذا أسقطت المرأة مضغة -قطعة لحم غير مخلقة- فليس لها حكم النفاس، وإنما يكون ما يخرج منها دم فساد، فتصوم وتصلي، أما إذا أسقطت قطعة لحم فيها تشكيل وتصوير؛ وفيها يد أو أصبع أو رجل أو رأس فهذا إنسان، فيكون حكمها حكم النفاس، والدم الخارج منها دم نفاس، ويكون هذا آدمي يغسل ويصلى عليه ويدفن ويعق عنه ويسمى. ولو كان ميتاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال تعالى: ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي: كما تشاهدونها، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها وشقي أو سعيد.
كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح).
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: يا رب! مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة، لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً، وإن قيل: مخلقة قال: أي رب! ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فيقال له: اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة، قال: فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان ثم تلا عامر الشعبي : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج:5]، فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، وإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دماً، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين يوماً أو خمس وأربعين فيقول: أي رب! أشقي أم سيعد؟ فيقول الله ويكتبان، فيقول: أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله، ثم تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص)، ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ، ومن طريق آخر عن أبي الطفيل بنحو معناه ].
وهذا التقدير العمري من أنواع التقادير، فالتقدير العام هو كتابة الله الأجل في اللوح المحفوظ، ثم هنا ذكر التقدير العمري وهو ما يقدر على الإنسان وهو في بطن أمه، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وهناك تقدير أيضاً سنوي، وهو ما يكون في ليلة القدر، حيث يقدر فيها ما يكون في السماء من موت وحياة وشقاء وسعادة وفقر وغنى وإذلال وإعزاز، وهناك تقدير يومي، وهو المذكور في قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].
فالله عز وجل يعز ويذل ويرفع ويخفض ويفقر ويغني، والتقدير العمري يوافق ما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي: ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله، ثم يعطيه الله القوة شيئاً فشيئاً، ويلطف به، ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار، ولهذا قال: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ].
وهذا من رحمة الله تعالى لابن آدم حينما يكون طفلاً، وفي الحديث: (لله أرحم بعبده من الوالدة بولدها)، فهو سبحانه وتعالى خلق الإنسان طفلاً ضعيفاً، لكن الله تعالى يحنن عليه والديه ويجعلهما يعطفان عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا قال: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي: تتكامل القوي ويتزايد ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المظهر، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى أي: في حال شبابه وقواه، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر، ولهذا قال: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].
وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا خالد الزيات حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه رفع الحديث قال: (المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته، وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث فأجرى الله عليه القلم وأمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفف الله حسابه، فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء) ].
قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ (.. فإذا بلغ الخمسين خفف الله عنه حسابه، فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفعه في أهل بيته، وكتب أمين الله وكان أسير الله في أرضه فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، كتب الله مثل ما كان يعمل في صحته من الخير، فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه) ].
ومعلوم أن هذا الحديث فيه نكارة من وجوه، منها قوله: أنه إذا عمل الطفل حسنة كتبت لوالده أو لوالديه، وهذا يخالف الأحاديث الصحيحة، ففي صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) فجعل الحج له، ولها أجر الإعانة، فعمل الخير يكون له، ولا يكون لوالده ولا لوالديه، فهذا الحديث منكر، وبعض العامة يقولون: إن الطفل إذا عمل حسنة تكتب لوالديه، وهذا خطأ بل تكتب له، فإذا حج الطفل كتب له أجر الحج، لكن والده أو وليه له أجر المعونة والسبب.
فهذا الحديث فيه نكارة، فالرسول عليه الصلاة والسلام، هو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما الإنسان فتكتب له الحسنات، وتكتب عليه السيئات قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18]، فهذا الحديث فيه نكارة من هذه الوجوه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذا حديث غريب جداً وفيه نكارة شديدة، ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده موقوفاً ومرفوعاً فقال: حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العامري عن عمرو بن حعفر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة أمنه الله من أنواع البلايا، من الجنون والبرص والجذام، فإذا بلغ الخمسين لين الله حسابه، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه الله عليها، وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في أرضه، وشفع في أهله ].
وهذا فيه الفرج بن فضالة وهو ضعيف، ولكن ليس فيه أن الطفل يكتب عمله لوالديه، كما في الحديث الأول،
فهذا ضعيف من الموضوعات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم قال: حدثنا هاشم ، حدثنا الفرج ، حدثني محمد بن عبد الله العامري عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ورواه الإمام أحمد أيضاً، حدثنا أنس بن عياض ، حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء، الجنون والجذام والبرص) وذكر تمام الحديث كما تقدم سواء.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب عن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العذري عن ابن أخ الزهري عن عمه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء، الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ سبعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله، وأحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهل بيته) ].
هذا الحديث روي بأسانيد متعددة، وهذا يدل على أن له أصلاً، لكن لو صح يكون معناه: إذا بلغ ستين غفر الله له، ويكون محمولاً على من كان تائباً مستقيماً منيباً ملتزماً لطاعة الله، فإنه يحمل على هذا لو صح؛ لأن بعض الشيوخ يبلغ الخمسين والستين والسبعين، وإن كان مسلماً، إلا أنه يستبيح المعاصي والكبائر، ويتساهل في الواجبات.
فلو صح هذا الحديث فهو محمول على من كان مستقيماً تائباً، محافظاً على الطاعات، منتهياً عن المحرمات.
اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور؟ فقالت جماعة من أهل العلم: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر هذه الدنيا، وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول، علقمة والشعبي وإبراهيم وعبيد بن عبيد ، وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، لكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل؛ بل الثابت من النقل يؤيد خلافه وهو القول الآخر.
وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع جاء بذلك إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره مبيناً دليل من قال: إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع المدني عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى السماء ينتظر متى يؤمر، قال أبو هريرة : يا رسول الله! وما الصور؟ قال: قرن، قال: وكيف هو؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين. يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع! فتفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيمدها ويطولها فلا يفتر، وهي التي يقول الله: وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [ص:15] فيسير الله الجبال فتكون تراباً، وترج الأرض بأهلها رجاً، وهي التي يقول الله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [النازعات:6-8] فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح، فيمتد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو التي يقول الله: يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:32-33]. فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسفت شمسها، وخسف قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك، فقال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87]؟ قال: أولئك الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]إلى قوله: وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]
ومن رواة هذا الحديث: إسماعيل بن رافع وهو ضعيف ومعروف أنه راوي حديث الصور، فقد جمعه ولفقه من عدة أحاديث، وفيه أنه ذكر ثلاث نفخات، والمعروف في النصوص، في القرآن وفي الصحيح أنها نفختان، قيل: أولها فزع وآخرها صعق ثم نفخة البعث.
وأما في الحديث السابق فذكر ثلاث نفخات، نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة البعث.
قال صاحب أضواء البيان: (وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:
وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور، من رواية إسماعيل بن رافع عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله وسلم، ثم ساق الحديث نحو ذكرناه بطوله ]
وفي هذا الحديث ذكر رجلاً قبل أبي هريرة فهو مبهم.
قال: (ثم قال: هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً، والغرض منه: أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة؛ لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة ونحو ذلك والله أعلم. انتهى منه.
وقد علمت ضعف الإسناد المذكور، وأما حجة أهل القول الآخر القائلين بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك، وبذلك تعلم أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير باب قوله: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى [الحج:2] حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! فيقول لبيك ربنا وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يارب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف -أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] فشق ذلك على الناس؛ حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبرنا).
وقال أبو أسامة عن الأعمش وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، وقال جرير وعيسى بن يونس وأبو معاوية : سكرى وما هم بسكرى).
فقد تبين أن فيها قولان لأهل العلم، القول الأول: أن هذا في آخر الدنيا، ودليله حديث إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، والثاني: أن هذا بعد البعث، ودليله حديث البخاري وهو حديث صحيح، والقول الثاني هو المعتبر، والمعتمد وهو أن هذا يكون بعد البعث.
الوجه الثاني: أن ذلك كناية عن شدة الهول لقوله تعالى: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17] ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة.
تنبيه: اعلم أن هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضها يرد عليه سؤال، وهو أن يقال: إذا كانت الزلزلة المذكورة بعد القيام من القبور فما معناها؟ والجواب أن معناها: شدة الخوف والهول والفزع؛ لأن ذلك يسمى زلزالاً؛ بدليل قوله تعالى فيما وقع بالمسلمين يوم الأحزاب من الخوف، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11] أي: وهو زلزال فزع وخوف، لا زلزال حركة الأرض.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1] يدل على أن عظم الهول يوم القيامة موجب واضح للاستعداد لذلك الهول بالعمل الصالح، في دار الدنيا قبل تعذر الإمكان لما قدمنا مراراً من أن المشددة المكسورة تدل على التعليل، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، ومسلك النص الظاهر، أي: اتقوا الله؛ لأن أمامكم أهوالاً عظيمة لا نجاة منها إلا بتقواه جل وعلا).
وبهذا يتضح أن المسألة فيها قولان: القول الأول: أن الزلزلة في آخر الدنيا، ودليله حديث إسماعيل بن رافع لكنه ضعيف، والقول الثاني: أن الزلزلة بعد البعث، ودليله حديث البخاري .
والجواب عن الإشكال كيف تضع الحامل والمرضع؟ من وجهين: الوجه الأول: أن الحامل تبعث حاملاً، والمرضع تبعث مرضعاً، والقول الثاني: أن المراد بالزلزلة: شدة الهول، وهذا أسلوب عربي معروف، والمراد بالزلزلة: زلزلة الخوف، لا زلزلة الأرض والحركة؛ لأن الله تعالى سمى ما حصل للمؤمنين في يوم الأحزاب زلزلة، قال: وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:11] فالزلزلة تطلق على شدة الخوف، وتطلق على الحركة.
وقول الجمهور فيه نظر، ولكن المعول عليه الدليل، وهو حديث إسماعيل بن رافع وهو ضعيف.
[ وقوله: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً [الحج:5]، هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة، وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء ].
الدليل الأول في الاستدلال بالبدء على الإعادة: قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الحج:5] هذا هو الدليل الأول الذي استدل به ربنا سبحانه وتعالى على البعث، حيث استدل بخلق الإنسان الأول، وليس البعث بأشد من الإعادة أو أشد من البدء، بل كله هين على الله، كما قال سبحانه في آية أخرى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] يعني: كله هين عليه، أهون بمعنى: هين، فالدليل الأول استدل الله على البعث يخلق الإنسان الأول، فقد خلقه الله من تراب ثم من نطفة، ولم يك شيئاً، فالذي خلق الإنسان من تراب، وخلق آدم من تراب، ثم خلق بنيه من نطفة، قادر على أن يبعثهم ويعيدهم.
الدليل الثاني: إحياء الأرض بعد موتها، فالأرض ميتة هامدة، فإذا أنزل الله عليها الماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فالذي أحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يحيي الميت بعد موته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال قتادة : غبراء متهشمة، وقال السدي : ميتة، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] أي: فإذا أنزل الله عليها المطر اهتزت أي: تحركت وحييت بعد موتها، وربت أي: ارتفعت لما سكن فيها الثرى ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النباتات، في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها؛ ولهذا قال تعالى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] أي: حسن المنظر طيب الريح.
وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الحج:6] أي: الخالق المدبر الفعال لما يشاء، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى [الحج:6] أي: كما أحيا الأرض الميتة، وأنبت منها هذه الأنواع، إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا [الحج:7] أي: كائنة لا شك فيها ولا مرية، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7] أي: يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً، ويوجدهم بعد العدم كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:78-80]، والآيات في هذا كثيرة ].
فتعلم العلم وطلبه أفضل من نوافل العبادة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس ].
و وكيع بن عدس يقال له: عدس ، ويقال له: حدس بالحاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه: لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله! أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ قلنا: بلى، قال: فالله أعظم، قال: قلت يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بواد أهلك محلاً؟) ]
والمراد بقوله: (محلاً) يعني: جدبا ليس فيه نبات من قلة المطر، ومنه قول العامة: سنة محل، والسنة الجدباء يسمونها مممحلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (قال: أما مررت بواد أهلك محلاً؟ قال: بلى، قال: ثم مررت به يهتز خضراً؟ قال: بلى، قال: فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه) ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث حماد بن سلمة به ].
أبو رزين هذا وافد بني المنتفق، وهو حديث طويل جداً قد ساقه العلامة ابن القيم في زاد المعاد في ذكره للوفود، وفيه ذكر البعث هو الشاهد من الحديث، وأن النبي ضرب له مثلاً فقال: (أما مررت بأرض جدباء ممحلة؟ ثم مررت عليها بعد ذلك، وقد نزل عليها المطر فاهتزت خضراً، قال: فكذلك يحيي الله الأرض بعد موتها).
وسأله عن رؤية الله يوم القيامة، فقال: (ذلك القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به)، فكل واحد يرى القمر مثل الكعب، يرفع رأسه ويراه، (فكذلك الناس يوم القيامة يرون الله فوقهم، لا يضامون في رؤيته).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم رواه الإمام أحمد أيضاً: حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا ابن المبارك أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة، ثم مررت بها مخصبة؟ قال: نعم، قال: كذلك النشور) والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبيس بن مرحوم حدثنا بكير بن أبي السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: من علم أن الله هو الحق المبين، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة ]. والله أعلم.
إن الإيمان الصادق يبعث على العمل، والإيمان الضعيف تحصل معه المعصية، فإذا علم الإنسان أن الله هو الحق المبين، وعلم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يحيي من في القبور، فإن علمه وتصديقه الجازم يحمله على العمل، ويدخله الجنة.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج [5-7] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
https://audio.islamweb.net