اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج الآية [25] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى منكراً على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه، وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنفال:34]، وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية، كما قال في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:217]، وقال هاهنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الحج:25] أي: ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي: ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] أي: ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله].
المراد بالتركيب الأسلوب، أو الترتيب، والأقرب أنه الأسلوب.
المقيم الساكن فيه، والباد النائي أو الطارق الذي يأتي من بعيد، والحكم فيهما واحد، وشرع الله هو أن يتعبد فيه المقيم والطارق الذي يأتي من بعيد.. جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، والعاكف: هو المقيم في مكة في المسجد الحرام، والبادي: الغريب الذي جاء من بعيد، كلهم شرع الله لهم الطواف بالبيت، والصلاة في المسجد الحرام، وهؤلاء يصدون عن سبيل الله، ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعله الله شرعاً عاماً للمقيم والقادر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ].
يعني: في دورها، فكما أنهم يستون في المسجد الحرام يستون كذلك في السكنى، بدون أجرة، فمن جاء نزل، كما كانت تسمى رباع مكة السوائب، فمن احتاج نزل ومن لم يحتج فلا، وهذا قول لبعض أهل العلم: أنها لا تؤجر بيوت مكة؛ لأنها وقف، وذهب الشافعي إلى أن مكة فتحت صلحاً، وعلى ذلك تباع رباع مكة ودورها، ومن العلماء من قال: تؤجر ولا تباع، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فبعض العلماء قال: دور مكة لا تباع ولا تؤجر، وكانت تدعى السوائب، من شاء سكن ومن احتاج ارتفع عنها، فهي سوائب للناس، كما أن المسجد الحرام عام للناس فكذلك البيوت، وذهب الشافعي رحمه الله وجماعة إلى أنها تباع وتؤجر؛ لأن مكة فتحت صلحاً، وعلى القول الأول بأنها فتحت عنوة بالقوة فقد صارت وقفاً للمسلمين، وقيل: إنها فتحت صلحاً، ومن العلماء من فرق بين الإيجار وغيره، ورباع مكة، يعني: بيوتها ودورها وأراضيها، والعمل الآن على أنها تباع وتؤجر.
أي: اختلفوا: هل تؤجر وتباع دور مكة أو لا؟
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضاً، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ].
لأنه يرى أنها فتحت صلحاً، فتباع وتؤجر وتملك، لكن الصواب أنها فتحت عنوة، فمكة لم تفتح صلحاً بل فتحت بقوة، ودخل النبي بالقوة، لكن قال بعضهم: إنه ملكها أهلها بعد ذلك، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) يعني: من دور، وعقيل هو عقيل بن أبي طالب .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال: قلت: (يا رسول الله! أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ثم قال: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ].
احتج الشافعي بقول أسامة للنبي: (أتنـزل غداً في دارك بمكة؟) قوله: في دارك، أضاف الدار إليه، فدل هذا على أنها تملك، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: ليس لنا دار، أو قال: لا تملك الدور، لكن قال: إنه ورث عقيل عن أبيه أبو طالب فقد مات على الكفر، وعقيل كذلك مات على دين أبيه فورث أباه، والمسلم لا يرث الكافر، إنما الكافر يرث الكافر، والمسلم يرث المسلم، فهو ورث أباه؛ لأنه على دينه، فيقول النبي: (وهل ترك لنا عقيل من رباع)؛ لأنه ورث أباه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وبما ثبت: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً بمكة، فجعلها سجناً بأربعة آلاف درهم، وبه قال طاوس وعمرو بن دينار ، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر، وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حيوة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة ].
في نسخة: ابن جبير وفي نسخة أخرى حيوة .
الأقرب أنها لا تورث ولا تؤجر؛ لأنها وقف، ومن احتاج سكن بدون أجرة، ومن لا يحتاج ارتفع عنها، مثل المسجد الحرام سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] .
قال: [ عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعي رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن ].
والسوائب هي الشيء المسيب المتروك، فهي متروكة من احتاج إليها سكن ومن لم يحتج أسكن غيره، تسمى السوائب يعني: المتروكة للغاديين والرائحين فمن جاء سكن؛ لأنها وقف.
وهذا الحديث كما في الزوائد إسناده صحيح على شرط مسلم ، وليس لـعلقمة بن نضلة عند ابن ماجة سوى هذا الحديث، لكن الحديث مرسل عن ابن نضلة ، وإذا وجد مرسل آخر يعضده صار حجة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها ].
كراؤها يعني تأجيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أيضاً: عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى أن تبوب دور مكة ].
يعني: لا يجعل لها أبواب؛ لأنها وقف؛ لأنه لو جعل لها أبواب لن يأتي أحد ويسكن فيها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى أن تبوب دور مكة؛ لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين! إني كنت امرأ تاجراً، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، قال: فذلك إذاً.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أهل مكة! لا تتخذوا لدوركم أبواباً؛ لينزل البادي حيث يشاء ].
البادي: يعني القادم إلى مكة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول في قوله: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] قال: ينزلون حيث شاءوا. وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفاً: (من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً) ].
وهذا منقطع، ففيه رجل مبهم، وهو موقوف على عبد الله بن عمرو .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وتوسط الإمام أحمد فيما نقله صالح ابنه فقال: تملك وتورث ولا تؤجر جمعاً بين الأدلة، والله أعلم ].
بهذا تكون الأقوال ثلاثة: القول الأول: الشافعي يرى أنها تملك وتورث وتباع وتؤجر.
والقول الثاني: إسحاق بن راهويه وجماعة: لا تملك ولا تباع ولا تؤجر ولا تورث ولا تبوب، متروكة للناس.
القول الثالث: الإمام أحمد التوسط: وهو أنها تملك وتورث وتباع، ولا تؤجر.
فالإمام أحمد جمع بين الأدلة، فالأدلة التي فيها المنع حملها على التأجير، والأدلة التي فيها الجواز حملها على البيع والإرث.
ولا شك أن المسألة فيها إشكال وتحتاج إلى جمع النصوص وكلام أهل العلم فيها.
وليس معنى زائدة: أنه ليس لها معنى، بل مؤكدة، فالقرآن ليس فيه شيء زائد، بل معناه أنها تفيد التأكيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [الحج:25] تقديره إلحاداً، وكما قال الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنابين المراجل والصريح الأجرد ].
يعني: اللبن الذي لا رغبة له.
والشاهد (برزق)، الباء زائدة، يعني: ضمنت رزق عيالنا، وهذا كقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [الحج:25].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الآخر:
بواد يمان ينبت الشث صدرهوأسفله بالمرخ والشبهان ].
الشاهد: وأسفله بالمرخ، والمرخ شجر معروف تشتعل النار منه.
فهي من ناحية الإعراب فقط للتأكيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى يهم؛ ولهذا عداه بالباء فقال: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25] أي: يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار ].
يقول: الأولى ألا يقال: الباء زائدة، بل الأولى أن يقال: ضمن الفعل (يريد) بمعنى: يهم، وعلى هذا لا تكون زائدة.
فذكر قولين: القول الأول: أن الباء زائدة مؤكدة، والقول الثاني: أنها ليست زائدة، ولكن الفعل (يريد) ضمن معنى يهم، فمعنى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25] ومن يهم فيه بإلحاد، فإذا ضمن الفعل معنى يهم تعدى بالباء.
والإشكال في القول الأول، وهو أن يريد لا يتعدى بالباء، فالباء زائدة ومؤكدة.
والقول الثاني هو الأولى والأحسن، وهو أن يقال: إن الفعل (يريد) ضمن معنى يهم، والمعنى: (ومن يهم فيه بإلحاد) فمجرد أن يهم الإنسان بالسوء يذقه الله من عذاب أليم. وهذا من خواص الحرم بخلاف غيره؛ فإنما يعاقب إذا فعل السيئة، لكن الحرم إذا هم فيه بالإلحاد أذاقه الله العذاب الأليم.
وهل هناك فرق بين الهم والعزم في قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ [يوسف:24]، وقوله: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)؟
ذكر هذا الباقلاني ، وكلامه يحتاج إلى تأمل، ولكن المقصود أن الأصل أن الهم أقل من العزم والتصميم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: بظلم أي: عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول، كما قال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنه: هو التعمد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بظلم) بشرك، وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله تعالى، وكذا قال قتادة وغير واحد، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بظلم) هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك؛ فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم ].
في نسخة: وأن تستحل من الحرام، يعني: تستحل الحرام الذي حرمه الله، أو تستحل من الحرم يعني تستحله في الحرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال مجاهد : بظلم يعمل فيه عملاً سيئاً، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة عن السدي : أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله -يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه في قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25] قال: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم ].
يعني: ولو كان بعيداً، ولو كان بعدن أبين، والمعروف أنه مكان بعيد عن الحرم، لكن إذا هم وهو في مكان بعيد أذاقه الله العذاب الأليم.
والمراد بعدن أبين التي في اليمن، فهناك فرق بينها وبين عدن أخرى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال شعبة : هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم، قال يزيد : هو قد رفعه، ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به. قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً، والله أعلم.
وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلاً بعدن أبين هم أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم، وكذا قال الضحاك بن مزاحم ، وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد : إلحاد فيه لا والله وبلى والله. وروي عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو مثله. وقال سعيد بن جبير : شتم الخادم ظلم فما فوقه.
وقال سفيان الثوري : عن عبد الله بن عطاء عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25] قال: تجارة الأمير فيه، وعن ابن عمر : بيع الطعام بمكة إلحاد.
وقال حبيب بن أبي ثابت : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ قال: المحتكر بمكة، وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى عن عمه عمارة بن ثوبان حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احتكار الطعام بمكة إلحاد).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا ابن لهيعة حدثنا عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ قال: نزلت في عبد الله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين: أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إلى مكة، فنزلت فيه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني: بميل عن الإسلام. وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكن هو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ].
فـأبرهة صاحب الحبشة الذي أتى بالفيل أذاقه الله من العذاب الأليم، وكذلك القرامطة الذين قتلوا الحجاج في القرن الثالث أذاقهم الله عذاباً أليماً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:4-5]، أي: دمرهم وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم) الحديث ].
في الدنيا قبل الآخرة مع ما أعد الله الله لهم في الآخرة.
والحاصل: أن الإلحاد فسر بالشرك، وفسر بالعدوان على الناس في الدماء والأموال والأعراض، وفسر أيضاً بظلم الناس بالمعاصي.
والعُصاة الذي هم بمكة وانتهكوا حرمة الحرم تقام عليهم الحدود بخلاف من لجأ إلى مكة وجاء من بعيد؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى يخرج من مكة؛ لأن من ارتكب حداً خارج مكة، ثم دخل مكة لاجئاً معظم للحرم، فلا يقام عليه الحد في مكة حتى يخرج خارج الحرم، أما من سرق في مكة فتقطع يده في مكة، ومن زنا يجلد أو يرجم في مكة؛ لأنه هو الذي انتهك حرمة الحرم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كناسة حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: أتى عبد الله بن عمرو عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير ! إياك والإلحاد في حرم الله؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيلحد فيه رجل من قريش، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت)، فانظر لا تكن هو ].
وهذا السند لا بأس به، ولعله عبد الله بن عمرو بن العاص كما سيأتي.
وعبد الله بن عمرو بن العاص معروف أنه كان شاباً يتعبد ويصوم الليل ويقوم النهار، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف على نفسه، واتفق مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فلما كبرت سنه قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أيضاً في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: حدثنا هاشم حدثنا إسحاق بن سعيد حدثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وهو جالس في الحجر فقال: يا ابن الزبير ! إياك والإلحاد في الحرم؛ فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحلها ويحل به رجل من قريش، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها) قال: فانظر لا تكن هو، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين ].
وهذا من كلام عبد الله بن عمرو .
وفي المسند قال: فانظر ألا تكون هو يا ابن عمرو ، فإنك قد قرأت الكتب.
وهذا فيه اختلاف، فقوله: فانظر لا تكن هو كأنه من كلام عبد الله بن عمرو ، وهنا كأنه من كلام عبد الله بن الزبير ، فـابن الزبير: فانظر ألا تكن هو يا ابن عمرو ؛ فإنك قد قرأت الكتب؛ لأن عبد الله بن عمرو أخذ زمالتين يوم اليرموك من كتب بني إسرائيل فكان يحدث بها.
أي: هذه الكتب التي أخذتها من أهل الكتاب قد يكون هذا من الإلحاد فلا تكن هو.
و ابن الزبير صحابي جليل لم يلحد في الحرم، والحجاج ومن معه كلهم مشتركون في هذه الفتنة، ولا شك أنه يحتمل أن يكون هو، ويحتمل أن يكون الجيش الذي يخسف به إذا كان ببيداء من الأرض وقد جاء ليغزو الكعبة، والله أعلم.
كذلك عمرو بن سعيد كان يبعث البعوث إلى مكة، وأمير المدينة من قبل، يزيد كان يبعث البعوث والجيوش إلى مكة وعبد الملك بواسطة الحجاج كان يرسل الجيوش إلى مكة.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج الآية [25] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
https://audio.islamweb.net