اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج [73-78] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ [الحج:73] أي: لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73] أي: أنصتوا وتفهموا، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73] أي: لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك.
كما قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة) وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة) ].
هذا حديث قدسي من كلام الله تعالى لفظاً ومعنى، يقول الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة)، وفيه تحريم التصوير، وأنه لا يجوز للإنسان أن يصور ذوات الأرواح، وأن المصور ظالم؛ لأن الله وصفه بالظلم وأنه من أشد الناس ظلماً: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، فتصوير ذوات الأرواح حرام؛ لما فيه من مضاهاة خلق الله.
وفي حديث عائشة : (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله)، والحديث الآخر: (لعن الله المصور)، وفي اللفظ الآخر: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)، وهذه الأحاديث كلها ثابتة، وهي تدل على تحريم تصوير ذوات الأرواح، وأن المصور ظالم، وفي الحديث الآخر: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)، فهو يعذب يوم القيامة حيث يكلف بنفخ الروح تعذيباً له على تصويره، نسأل الله العافية.
وفيه أنه متوعد بالنار، فدل على أنه -أي: التصوير- من كبائر الذنوب، وأنه وسيلة من وسائل الشرك؛ لأن فيه المضاهاة لخلق الله، فلا يجوز أن يصور للذكرى.
والواجب طمس الصور كما في حديث أبي الهياج أن علياً قال له: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)، فيجب طمس الصور وإزالتها ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً، ولا يبق إلا ما تدعو الضرورة إليه، وهي الصورة التي لا بد منها في بطاقة الأحوال، أو رخصة القيادة، أو الأوراق النقدية، فهذه ضرورة، قال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، لكن الناس الآن تساهلوا بالصور، فتجد بعض الناس يصور أولاده للذكرى، ثم يجعل صورهم في برواز ويجعله أمام الناس، وهذا محرم لا يجوز، فلا يجوز التصوير للذكرى، ولا اقتناء الصور.
وقوم نوح سبب عبادتهم للأصنام أنهم صوروا للذكرى من أجل أن يتذكروا عبادة الصالحين لما ماتوا، فوقع أحفادهم في الشرك.
فإن قيل: فالبسط والفرش التي فيها صور أنتركها ولا نشتريها، وإذا كانت معنا فهل نتلفها؟
فأقول: الصور لا تجوز لأي غرض، وأما الصورة إذا كانت ممتهنة كأن تكون على بساط أو من هذا القبيل فهذه لا تمنع دخول الملائكة، لكن التصوير من حيث هو لا يجوز لأي غرض إلا للضرورة، حتى بالفيديو أو يصور ليجعلها في مكان عام فلا، لكن إذا وجدت الصورة الممتهنة فلا تمنع دخول الملائكة.
فإن قال قائل: إذا كانت الصورة مخفية في كتاب أو غيره هل أطمسها أم لا؟
فأقول: إذا كانت مخفية فأمرها أسهل مما لو كانت مكشوفة، لكن إذا أمكن طمسها فهو أولى.
فإن قيل: هل يقال للذي يصور بالفيديو أنه مصور يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار)؟
أقول: هو مصور، وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار)، فهو يسمى مصوراً.
فإن قيل: هناك فرق بين من يصور باليد وبين من يصور بالكاميرا؟
أقول: هذا ليس بظاهر. بل إنه يصدق اسم المصور على المصور باليد وعلى الذي يصور بالكاميرا.
فإن قيل: هو لم يصورها وإنما صورتها الكاميرا؟
فنقول: ما وجدت الصورة إلا بعمله بيده، ولو أنه ما صور ما خرجت الصورة.
فإن قيل: إذا كانت الصورة في السطح أو في حوش المنزل فهل تمنع من دخول الملائكة إلى المنزل؟
قلنا: نعم، فكل ما كان داخل سور البيت فإنه يتبع البيت، سواء كان في السطح أو في الحوش، ثم إنه ينبغي طمسها مطلقاً وفي أي مكان إلا للضرورة، كصور المجرمين من أجل التحذير منهم وما أشبه ذلك، فالشيء الذي تدعو الضرورة إليه هو المستثنى فقط.
فإن قال قائل: أنا عملي ودخلي من التصوير.
قلنا: لا بأس أن تصور الكتب وغيرها مما ليس له روح، وأما ذوات الأرواح فلا تصورها، وإذا أردت أن تصور ذوات الأرواح فينبغي إزالة الرأس.
فإن قيل: أنا أصور من أجل أن أعلم الطلاب؟
قلنا: لا يجوز تصوير ذوات الأرواح، أرشدهم وعلمهم بدون تصوير، فما زال الناس من عهد النبوة إلى الآن يدرسون ويعلمون وتخرج العلماء من دون تصوير، وإذا احتجت إلى صورة فلا تصور الرأس والوجه حتى يزول المحذور، وكذلك إذا وجدت صورة في ورق فاطمس الرأس، ولا يكتفي بجعل خط على الحلق فإن هذا لا يكفي، بل لا بد من طمس الرأس والوجه أو قطعه إذا كان مجسماً، فإنه إذا قطع الرأس أو طمسه زال المحذور.
فإن قال قائل: وهل أطمس الصور حتى من الكتب المدرسية وإن غضب علي المعلم؟
قلنا: كتب المدرسة من باب أولى، فكلها يجب طمسها، ويجب على المعلمين أن يكونوا قدوة للمتعلمين في طمس الصور.
فإن قيل: والصور التي على سور البيت هل تمنع من دخول الملائكة البيت؟
قلنا: نعم، فكله في داخل البيت: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة)، والبيت شامل لما كان داخل سور البيت.
قال المؤلف رحمه الله: [ ثم قال تعالى أيضاً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [الحج:73] أي: هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب ].
يعني: إذا أخذ الذباب شيئاً لا تستطيع هذه الأصنام أن تأخذ هذا الشيء الذي يعلق به فكيف يعبدونها!! فهم عاجزون عن خلق الذباب، بل عاجزون عن أشد من هذا عاجزون عن استنقاذ ما علق بالذباب وعن أخذه منه والانتصار عليه، بل ينتصر عليهم ويغلبهم وهو من أحقر المخلوقات، فكيف يعبدون غير الله وهم عاجزون عن أن يخلقوا ذبابة، بل عاجزون عن استنقاذ ما أخذه الذباب!!
قال المؤلف رحمه الله: [ لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك هذا، والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها، ولهذا قال: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الطالب الصنم والمطلوب الذباب، واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق، وقال السدي وغيره: الطالب العابد والمطلوب الصنم ].
قال المؤلف رحمه الله: [ ثم قال: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:74] أي: ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] أي: هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج:12-13]، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58].
وقوله : عَزِيزٌ [الحج:40] أي: قد عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه، وهو الواحد القهار.
قال المؤلف رحمه الله: [ يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالاته إِنَّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75] أي: سميع لأقوال عباده، بصير بهم عليم بمن يستحق ذلك منهم، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [الحج:76] أي: يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به، فلا يخفى عليه من أمورهم شيء، كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]، إلى قوله: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:28].
فهو سبحانه رقيب عليهم، شهيد على ما يقال لهم، حافظ لهم، ناصر لجنابهم يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
الراجح أنها سجدة ثابتة، والسجود ليس بواجب بل هو مستحب، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه خطب الناس وقرأ آية فيها سجدة في خطبة الجمعة، فنزل وسجد وسجد الناس، ثم قرأ في الخطبة الثانية في الجمعة الثانية آية فيها سجدة فتهيأ الناس للسجود فلم يسجد، فقال عمر رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. فهو مستحب وليس بواجب.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78]، أي: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، وقوله: هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78].
وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنبه .. إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، ولهذا قال عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال لـمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما حين بعثهما أميرين إلى اليمن: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا)، والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] يعني: من ضيق ].
وأخذ العلماء من هذه الآية قاعدة: وهي نفي الحرج، وكذلك قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، فقد أخذ العلماء من هذه الآيات نفي الحرج، ونفي الضيق، وأنه لا واجب مع عجز، ولا محرم مع ضرورة، فكل هذه القواعد أخذت من هذه النصوص، وهذه الآيات: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
إذاً: فمن التخفيف أن الصلاة الرباعية تقصر إلى ركعتين في السفر وفي الخوف إلى ركعة، ويصليها للقبلة وإلى غير القبلة، وصلاة النافلة يصليها إلى غير القبلة في السفر، ويصلي المريض قائماً، فإن عجز صلى قاعداً، فإن عجز فعلى جنب، وفي حديث عمران : (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فكل هذا من رفع الحرج. فالحمد لله على هذه الشريعة السمحة.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، قال ابن جرير : نصب على تقدير وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] أي: من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم، قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير: الزموا ملة أبيكم إبراهيم ].
وسعه عليكم كملة إبراهيم. فكملة: أتت هنا مجرورة لكنها منصوبة على تقدير: على نزع الخافض؛ لأنه التقدير (كملة).
قال المؤلف رحمه الله: [ قلت: وهذا المعنى في هذه الآية كقوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [الأنعام:161].
وقوله: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]، وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] قال: الله عز وجل، وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] يعني: إبراهيم، وذلك قوله: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكْ [البقرة:128]، قال ابن جرير : وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78]، قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر، وَفِي هَذَا [الحج:78] يعني: القرآن.
وكذا قال غيره، قلت: وهذا هو الصواب؛ لأنه تعالى قال: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] ].
فيكون الضمير في قوله: (هو) يعود إلى الله سبحانه وتعالى، أو يعود إلى إبراهيم، والصواب أنه يعود إلى الله، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] أي: في الكتب السابقة وفي الذكر وفي اللوح المحفوظ وفي القرآن، فالله تعالى هو سماهم المسلمين.
والقول الثاني: أن الضمير في قوله: (هو سماكم) يعود إلى إبراهيم، والقول الأول: أنه يعود إلى الله هو الصواب؛ بدليل قوله بعد ذلك: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فكل هذه الضمائر تعود إلى الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله: [ ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة ].
يعني: بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبأنها ملة أبيهم إبراهيم.
قال المؤلف رحمه الله: [ ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها، والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] أي: من قبل هذا القرآن، وَفِي هَذَا [الحج:78].
وروى النسائي عند تفسير هذه الآية: أنبأنا هشام بن عمار قال: حدثنا محمد بن شعيب قال: أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم، قال رجل: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله).
وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] من سورة البقرة، ولهذا قال: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78] أي: إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولاً خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة: شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78]، لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته ].
أي: أن نوح يوم القيامة يسأله الله: هل بلغت؟ فيسأل أمته فتنكر، فتشهد هذه الأمة عليهم، فيقولون: كيف تشهدون علينا وأنتم ما حضرتم؟ فقالوا: بعث الله لنا نبياً، وأنزل عليه القرآن، وأخبرنا أن نوحاً بلغكم، فنحن نشهد، فتشهد هذه الأمة على الأمم، ثم يشهد عليها الرسول، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
والحديث الأول: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم) فيه وعيد شديد، وأن هذا من الكبائر، فمن دعا بدعوة جاهلية فقد ارتكب كبيرة من الكبائر؛ لهذا الوعيد الشديد.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقوله: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [الحج:78] أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة.
وقوله: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ [الحج:78] أي: اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به، هُوَ مَوْلاكُمْ [الحج:78] أي: حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم.
فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78] يعني: نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء، قال وهيب بن الورد : يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي؛ فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك رواه ابن أبي حاتم والله تعالى أعلم. وله الحمد والمنة والثناء الحسن والنعمة، وأسأله التوفيق والعصمة في سائر الأفعال والأقوال، هذا آخر تفسير سورة الحج.
وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ].
قول وهيب بن الورد من الآثار الإسرائيلية؛ لأن وهيب بن الورد لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسافة، فيستأنس به ولا يعول عليه.
الجواب: هذا محرم، وإن كان يعتقد أنه يذبح للجن وأنهم يمنعونه إذا لم يذبح فهذا شرك والعياذ بالله، وإذا كان يذبح للجن من أجل أن يحفظوه فإنه مشرك مرتد نعوذ بالله من ذلك، وعليه التوبة وتجديد إسلامه من جديد.
وأما إذا كان لا يعتقد هذا ولطخه من باب التبرك وهو يذبح لله ولا يعتقد أنه يذبح للجن، ولكن في الغالب أن الذي يفعل مثل هذا إنما يفعله للجن والعياذ بالله، فهذا ينبغي أن ينكر عليه ويبين له أن هذا شرك، وينبغي إن كان قد نبه وهو غير جاهل أن يرفع به إلى المحكمة ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل نعوذ بالله؛ لأن هذا شرك، نسأل الله السلامة والعافية، كما جاء في الحديث: (من ذبح لغير الله فقد أشرك)، وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] أي: وذبحي، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163]. وقال سبحانه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].
الجواب: في الغالب أنه ما يكون إلا ذبح للجن، فما أدري كيف يكون التبرك بالدم، فهو عنده عقيدة الخوف من الجن، فهو يذبح للجن؛ حتى يحفظوه ويمنعوه، نعوذ بالله.
لكن ينبغي للإخوان بكل حال أن ينبهوه، وينصحوا له، ويأمروه بالتوبة إذا كان لا يعرف أن ذلك شرك.
الجواب: هي حرام عليك وكذلك بناتها.
الجواب: الإمامة منصب ديني لا يؤخذ بمقابله المال، فلا يجوز له هذا، بل ينبغي للإنسان أن يقصد وجه الله والدار الآخرة، والوظائف الدينية لا يؤخذ عليها شيء من المال كالإمامة والأذان والحج والعبادات.. وغيرها من الوظائف الدينية، ومن أخذ على العبادة مال كإنسان يعطى مالاً حتى يؤذن، أو يصلي، أو يصوم، فهذا حرام، قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].
فمن حج للمال أو صلى لأجل المال فهو على خطر عظيم، لكن إذا أعطي من بيت المال مرتب أو أعطاه أحد معونة من دون أجرة لتفرغه فلا بأس، أما هذا الشخص يعطى من أجل أن يكون إماماً للناس مقصده الدنيا لا يجوز هذا، إذا كان له رغبة يبقى في المسجد وإلا يقدم تنازله ويأتي من هو أهل لذلك، وهذا المال مال سحت إذا أخذه من غير مقابل.
الجواب: رؤية الله في المنام ليس فيها إشكال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: جميع الطوائف أثبتوا هذا ولا ينكره إلا الجهمية، فمن شدة إنكارهم لرؤية الله أنهم أنكروا حتى الرؤية في المنام، وأما غيرهم من جميع الطوائف فأثبتوها، فلا يوجد إشكال، والحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد، بم يختصم الملأ الأعلى، فقلت: لا أدري -لا أعلم- فوضع كفه بين كتفيه حتى وجدت برد أنامله، فعلمت).
والحديث معروف بحديث اختصام الملأ الأعلى، وقد شرحه الحافظ ابن رجب رحمه الله في رسالة مستقلة اسمها: شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، وأوله: (رأيت ربي في أحسن صورة).
وكذلك أيضاً الرؤية في المنام لا إشكال فيها وهي ثابتة، ولا يلزم من ذلك التشبيه، وإنما يرى ربه على حسب اعتقاده، فإن كان اعتقاده سليماً رأى ربه في صورة حسنة، وإن كان اعتقاده غير سليم رأى ربه في مثل صورة اعتقاده، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أصح الناس اعتقاداً قال: (رأيت ربي في أحسن صورة)، فرؤية المنام غير الرؤية في اليقظة، فالله تعالى لا يراه أحد في الدنيا، ولا يرى إلا يوم القيامة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر)، ولما سأل موسى ربه الرؤية في الدنيا قال الله: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم الصواب أنه ما رآه ليلة المعراج بعين رأسه وإنما رآه بعين قلبه، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي لفظ: (رأيت نوراً)، في حديث أبي موسى في صحيح مسلم : (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
وأول الحديث: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، وأما الرؤية في المنام فهي غير الرؤية في اليقظة.
الجواب: لا، معنى لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ : أي: لا يستطيعون أن يأخذوه منه، ولكن أيضاً ثبت في الحديث الصحيح: أن الذباب إذا وقع على شيء رفع جناحاً وألقى جناحاً، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وأنه يضع الجناح الذي فيه الداء، ويرفع الجناح الذي فيه الشفاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)، والحديث ثابت، فهو مأمور بغمسه حتى ينغمس الجناح الذي فيه الشفاء فيزيل الداء.
الجواب: قد يكون له شبهة، والأحاديث في عذاب القبر قريبة من التواتر، والآيات واردة في ذلك، فلا بد أن يبين له قبل ذلك النصوص، وهذا يخشى عليه.
وبعض أهل البدع كالمعتزلة قالوا: إن العذاب للروح دون الجسد، والصواب أنه للجسد وللروح، لكن الأحكام على الروح أغلب.
الجواب: الأولى عدم استعمال عرائس الأطفال في زماننا، وعرائس الأطفال تختلف عن الصور، فقد جاء في حديث عائشة : أنها كان لها ألعاب تلعبها ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ العلماء من هذا أنه لا بأس باللعب للأطفال خاصة، لكن لعب الأطفال في زمن عائشة لم تكن مثل هذه اللعب، فقد كانت عبارة عن عظم وتضع البنات الصغار عليه شيئاً من الخرق، ويسمين هذا رجلاً، ويصنعن عظماً آخر ويجعلن عليه ثياباً ملونة ويسمينه امرأة، حتى يعود الأطفال، لكن الموجودة الآن تختلف، فهي تضحك وتبكي وتسير، فينبغي عدم التمادي فيها، وتختلف عن الصورة.
وأما لو كانت مثل هذه التي توضع باليد كالخرق والعظام فهذه أمرها سهل، لكن هذه اللعب الآن لها عين، وبعضها فتنة، وبعضها تبكي، وبعضها تضحك، وبعضها تصوت وكأنها آدمي إذا رأيته، فلا ينبغي التمادي فيها.
الجواب: هذا حرام ولا يجوز، فالنبي قال: (لا تسموا الدواب في وجوهها، لعن الله من وسم الدابة في وجهها)؛ وذلك لأن الوجه رقيق، وهو مجمع المحاسن، فلا ينبغي الوسم في الوجه، وحتى الضرب لا تضرب البهيمة في وجهها، ولا الآدمي في وجهه، وكذلك الرأس، لكن يكون الوسم في الأذن أو في الظهر أو في اليد، ويحرم الوجه، وهو من كبائر الذنوب، وعلى هؤلاء أن يتوبوا إلى الله عز وجل وألا يسموا الدواب في وجوهها، وإنما يسموها في ظهرها أو في يدها أو في أذنها.. وما أشبه ذلك.
الجواب: الظاهر أنه في الجهاد، وسياق الآية يدل على الجهاد، وأما أعمال الخير فلها وجه، لكن هذا في الجهاد، فالنفقة في الجهاد تضاعف إلى سبعمائة ضعف، كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261]، وأما غير الجهاد فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها، أي: على حسب الأعمال، لكن الآية سياقها في الجهاد، وكذلك والآية التي بعدها: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:262].
الجواب: نعم، قال تعالى: هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78]، فهو المولى سبحانه، وهو نعم النصير.
الجواب: الصواب أن ترك الصلاة ناقض من نواقض الإسلام وهو كفر وردة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم سب الله وسب الرسول بطلت الشهادة، وكذلك إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ثم استهزأ بالله وبرسوله بطلت، وإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ثم أنكر وجوب الصلاة بطلت، كذلك إذا ترك الصلاة فتركها ناقض من نواقض الإسلام، وهذا هو الصواب؛ لأن النصوص دلت على أن الصلاة شرط في صحة الإيمان، وشرط في صحة الشهادة، فالذي يفعل ناقضاً لا تنفعه الشهادة، نسأل الله السلامة والعافية، هذا هو الصواب.
وقال بعض العلماء: إذا لم ينكر وجوبها يكون كفره كفراً أصغر، ويكون إيمانه ضعيفاً، فلا تلزمه الشهادة، والصواب الذي دلت عليه النصوص، والذي أجمع عليه الصحابة ونقل الإجماع عبد الله بن شقيق العقيلي ، وإسحاق بن راهويه ، وابن حزم أن ترك الصلاة كفر وردة ولو لم ينكر وجوبها، وعلى هذا فيكون ترك الصلاة ناقضاً تنتقض به الشهادة، نسأل الله السلامة والعافية. وفق الله الجميع، ورزق الله الجميع.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج [73-78] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
https://audio.islamweb.net