اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [1] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [1] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
أما بعد:
فيقول العبد الفقير إلى الله تعالى أبو عبد الرحمن شرف الحق الشهير بـمحمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر الصديقي العظيم آبادي غفر الله لهم وستر عيوبهم:
[ إن هذه الفوائد المتفرقة والحواشي النافعة على أحاديث سنن الإمام الهمام المجتهد المطلق أبي داود سليمان بن أشعث السجستاني رضي الله تعالى عنه جمعتها من كتب أئمة هذا الشأن رحمهم الله تعالى، مقتصراً على حمل بعض المطالب العالية، وكشف بعض اللغات المغلقة، وتراكيب بعض العبارات، مجتنباً عن الإطالة والتطويل، إلا ما شاء الله تعالى، وسميتها بـ(عون المعبود على سنن أبي داود ) تقبل الله مني].
قوله: (عون المعبود على سنن أبي داود ) المعبود: هو الله سبحانه وتعالى، وهذا شرح من أمثل الشروح الموجودة المطبوعة الآن، وإن كان فيه بعض النقص؛ لكن مع ضمه إلى تهذيب السنن لـابن القيم ومع مراجعة كتب الرجال تحصل الفائدة إن شاء الله.
قال رحمه الله: [ والمقصود من هذه الحاشية المباركة الوقوف على معنى أحاديث الكتاب فقط من غير بحث؛ لترجيح الأحاديث بعضها على بعض، إلا على سبيل الإيجاز والاختصار، ومن غير ذكر أدلة المذاهب المتبوعة على وجه الاستيعاب، إلا في المواضع التي دعت إليها الحاجة.
أعان الله تعالى وتبارك على إتمام هذه الحواشي، ونفع بها إخواننا أهل العلم وإياي خاصة.
وأما الجامع لهذه المهمات المذكورة من الترجيح والتحقيق، وبيان أدلة المذاهب والتحقيقات الشريفة وغير ذلك من الفوائد الحديثية في المتون والأسانيد وعللها الشرح الكبير لأخينا العلامة الأعظم الأكرم أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي المسمى بـ(غاية المقصود في حل سنن أبي داود )، وفقه الله تعالى لإتمامه كما وفقه لابتدائه، وهو شرح كبير جليل عظيم الشأن، وشارحه العلامة صرف همته إلى إتمامه، والمشغول فيه بحسب الإمكان، جزاه الله تبارك وتعالى وتقبل منه وجعله خير العقبى.
وإني استفدت كثيراً من هذا الشرح المبارك، وقد أعانني شارحه في هذه الحاشية في جل من المواضع، وأمدني بكثير من المواقع، فكيف يكفر شكره؟!
والباعث على تأييد هذه الحاشية المباركة أن أخانا الأعظم الأمجد أبا الطيب شارح السنن ذكر غير مرة في مجلس العلم والذكر أن شرحي: (غاية المقصود) يطول شرحه إلى غير النهاية، لا أدري كم تطول المدة في إتمامه، والله يعينني.
والآن لا نرضى بالاختصار؛ لكن الحبيب المكرم الشفيق المعظم جامع الفضائل والكمالات خادم سنن سيد الكونين الحاج تطلف حسين العظيم آبادي (ت 133هـ) مصر على تأليف الشرح الصغير سوى غاية المقصود، فكيف أرد كلامه؟!
فأمرني أخونا العلامة الأعظم الأكرم أبو الطيب أدام الله مجده لإبرام هذا المرام فاعتذرت كثيراً، لكن ما قبل عذري، وقال: لا بد عليك هذا الأمر، وإني أعينك بقدر الإمكان والاستطاعة، فشرعت متوكلاً على الله في إتمام هذه الحاشية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، استغفر الله ربي من كل ذنب وأتوب إليه ].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
هذا فيه بيان أنه ليس هناك طريق يوصل إلى الله عز وجل إلا من طريق الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تعبد الله بغير الشريعة التي جاء بها الرسول عليه الصلاة والسلام فعبادته باطلة، فقد سدت الطرق التي توصل إلى الله إلا من طريق الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام هو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الرسالة، ولكن ليس هناك واسطة بين الله وبين خلقه في دعائه وعبادته والتضرع إليه؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الكتاب والرسالة.
قال ابن القيم رحمه الله: [ وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، هدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً وآذانا صماً وقلوباً غلفاً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، لا يرده عنه راد، ولا يصده عنه صاد؛ حتى سارت دعوته مسير الشمس في الأقطار، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار؛ فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين صلاة دائمة على تعاقب الأوقات والسنين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أولى ما صرفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية، وتنافس المتنافسون فيه، وشمر إليه العاملون: العلم الموروث عن خاتم المرسلين ورسول رب العالمين، الذي لا نجاة لأحد إلا به، ولا فلاح له في داره إلا بالتعلق بسببه، الذي من ظفر به فقد فاز وغنم، ومن صرف عنه فقد خسر وحرم؛ لأنه قطب السعادة الذي مدارها عليه، وآخية الإيمان الذي مرجعه إليه، فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غيره هو عين الضلال، وكيف يوصل إلى الله من غير الطريق التي جعلها هو سبحانه موصلة إليه، ودالة لمن سلك فيها عليه، بعث رسوله بها منادياً، وأقامه على أعلامها داعياً وإليها هادياً، فالباب عن السالك في غيرها مسدود، وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحاً واجتهاداً ازداد من الله طرداً وإبعاداً؛ ذلك بأنه صد عن الصراط المستقيم، وأعرض عن المنهج القويم، ووقف مع آراء الرجال، ورضي لنفسه بكثرة القيل والقال، وأخلد إلى أرض التقليد، وقنع أن يكون عيالاً على أمثاله من العبيد، لم يسلك من سبل العلم منهاجها، ولم يرتق في درجاته معارجها، ولا تألقت في خلده أنوار بوارقه، ولا بات قلبه يتقلب بين رياضه وحدائقه، لكنه ارتضع من ثدي من لم تطهر بالعصمة لبانه، وورد مشرباً آجناً طالما كدره قلب الوارد ولسانه ].
الماء الآجن هو: الماء المتغير.
قال رحمه الله: [ تضج منه الفروج والدماء والأموال إلى من حل الحلال وحرم الحرام، وتعج منه الحقوق إلى منزل الشرائع والأحكام ].
يتكلم الشيخ رحمه الله عن هؤلاء المنحرفين الذين أحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله.
قال رحمه الله: [ فحق على من كان في سعادة نفسه ساعياً، وكان قلبه حياً واعياً، أن يرغب بنفسه عن أن يجعل كده وسعيه في نصرة من لا يملك له ضراً ولا نفعاً، وألا ينزلها في منازل الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ فإن لله يوماً يخسر فيه المبطلون، ويربح فيه المحقون: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27].. يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [الإسراء:71]، فما ظن من اتخذ غير الرسول إماماً، ونبذ سنته وراء ظهره، وجعل خواطر الرجال وآراءها بين عينيه وأمامه، فسيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع، وعند الوزن ماذا أحضر من الجواهر أو خرثي المتاع ].
يعني: هل أحضر شيئاً نفيساً، أو شيئاً سافلاً تافهاً ؟!
قال رحمه الله: [ فصل: ولما كان كتاب السنن لـأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله، من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به؛ بحيث صار حكماً بين أهل الإسلام، وفصلاً في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام مع انتقائها أحسن انتقاء واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء.
وكان الإمام العلامة الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري رحمه الله تعالى قد أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزو أحاديثه وإيضاح علله وتقريبه، فأحسن حتى لم يكد يدع للإحسان موضعاً، وسبق حتى جاء من خلفه له تبعاً، جعلت كتابه من أفضل الزاد، واتخذته ذخيرة ليوم المعاد، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها أو لم يكملها، والتعرض إلى تصحيح أحاديث لم يصححها، والكلام على متون مشكلة لم يفتح مقفلها، وزيادة أحاديث صالحة في الباب لم يشر إليها، وبسطت الكلام على مواضع جليلة؛ لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه، فهي جديرة بأن تثنى عليها الخناصر، ويعض عليها بالنواجذ، وإلى الله الرغبة أن يجعله خالصاً لوجهه، موجباً لمغفرته، وأن ينفع به من كتبه أو قرأه أو نظر فيه أو استفاد منه، فأنا أبرأ إلى الله من التعصب والحمية، وجعل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعة لآراء الرجال، منزلة عليها مسوقة إليها، كما أبرأ إليه من الخطأ والزور والسهو، والله سبحانه عند لسان كل قائم وقلبه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ].
باب التخلي عند قضاء الحاجة.
حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي قال: حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد - عن محمد -يعني: ابن عمرو - عن أبي سلمة عن المغيرة بن شعبة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد) ].
وهذا فيه بيان استحباب البعد عند قضاء الحاجة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب لقضاء الحاجة أبعد؛ حتى لا تراه العيون ولا يسمع له صوت، ولهذا لما كان يوم تبوك تأخر النبي صلى الله عليه وسلم وذهب معه المغيرة وقضى حاجته، ثم جعل المغيرة يصب عليه الماء، وتأخر عن الصحابة في صلاة الفجر، فقدموا عبد الرحمن بن عوف وصلى بهم ركعة ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة .
وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام أبعد المذهب، فالسنة أن الإنسان أذا أراد قضاء حاجته في البرية أو الصحراء أنه يبعد ويتوارى عن الناس؛ حتى لا ترى له عورة ولا يسمع له صوت.
والحديث لا بأس بسنده، وهو في الصحيح.
فإن قال قائل: هل هناك فرق بين البول والغائط، فيبعد في الغائط ولا يبعد في البول؟
أقول: لا شك أن الغائط أولى بالاستتار من غيره، والمهم أن يكون الإنسان عنده شيء يتقي به ويستتر به.
البراز بالفتح المراد به: الخلاء، يعني: قضاء الحاجة، وأصله اسم للصحراء البارزة، ثم أطلق على قضاء الحاجة، وأما البراز بالكسر: فهو من المبارزة.
قال الخطابي : البراز مفتوحة الباء: اسم للفضاء الواسع من الأرض، كنوا به عن حاجة الإنسان كما كنوا بالخلاء عنه، يقال: تبرز الرجل إذا تغوط، وهو أن يخرج إلى البراز، كما قيل: تخلى إذا سار إلى الخلاء، وأكثر الرواة يقولون: البراز بكسر الباء وهو غلط، إنما البراز مصدر: بارزت الرجل في الحرب مبارزة وبرازاً.
والحديث فيه عنعنة أبي الزبير وهو مدلس، لكن الحديث له شواهد.
يعني: يختار لبوله مكاناً رخواً كما سيأتي، فلا يبول في أي مكان؛ لأنه إذا بال في أرض صلبة يرتد عليه البول أو شيء من رشاش البول، فلا بد أن يتبوأ ويرتاد لبوله مكاناً رخواً؛ حتى لا يرتد إليه البول أو يصيبه شيء من رشاش البول.
هذا الحديث ضعيف فيه مبهم، وهو الشيخ الذي يروي عن ابن عباس ، لكن معناه صحيح.
والإنسان يرتاد لبوله مكاناً دمثاً، يعني: لا يبول على شيء صلب؛ لأنه إذا بال على شيء صلب جاءه شيء من رشاش البول، وكذلك أيضاً إذا بال في مكان مرتفع ارتد إليه البول، وإنما يرتاد مكاناً منخفضاً أو أرضاً مستوية ليست صلبة، والحديث رجاله كلهم ثقات ما عدا الشيخ المبهم، فـموسى بن إسماعيل ثقة، وحماد : هو ابن سلمة ، وأبو التياح : روى له البخاري .
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا حماد بن زيد وعبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال -عن حماد- قال: اللهم إني أعوذ بك -وقال عن عبد الوارث- قال أعوذ بالله من الخبث والخبائث).
قال أبو داود : رواه شعبة عن عبد العزيز : (اللهم إني أعوذ بك)، وقال مرة: (أعوذ بالله)، وقال وهيب : (فليتعوذ بالله) ].
هذا الحديث فيه استحباب قول هذا الذكر عند دخول الخلاء، وهو قول: (اللهم أني أعوذ بك من الخبث والخبائث) وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما، ويقال خُبُث وخُبْث بضم الباء وبإسكانها والخُبْثُ والخبائث: ذكران الشياطين وإناثهم، وهذا الذكر فيه تعوذ من ذكران الجن والشياطين وإناثهم، قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) .
قوله: (إذا دخل الخلاء) يعني: إذا أراد دخول الخلاء كما في قوله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، يعني: إذا أردت قراءة القرآن، وهنا إذا دخل الخلاء، يعني: إذا أراد دخول الخلاء قال هذا الدعاء؛ لأنه حال قضاء الحاجة لا يذكر الله، وأما قول: باسم الله فهذه جاءت في حديث ضعيف، ولكن أخذاً بالأدلة العامة فلا بأس، فالمرء يقول: باسم الله عند دخول البيت، وعند الخروج منه، وعند دخول المسجد، وقولك عند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) استعاذة بالله، أعوذ يعني: ألوذ وألتجئ وأعتصم بك يا ألله من الخبث -ذكران الشياطين- والخبائث -إناثهم-.
وقال الحافظ : وقد روى العمري من طريق عبد العزيز بن مختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: (إذا دخلتم الخلاء فقولوا: باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث) إسناده على شرط مسلم .
إذاً: قول باسم الله عند دخول الخلاء مشروعة.
قال: [ حدثنا الحسن بن عمرو -يعني: السدوسي - قال: حدثنا وكيع عن شعبة عن عبد العزيز -هو ابن صهيب - عن أنس بهذا الحديث قال: (اللهم إني أعوذ بك) وقال شعبة وقال مرة: (أعوذ بالله).
وهذا فيه بيان الحكمة من شرعية هذا الدعاء: أن هذه الحشوش محتضرة، والحشوش: جمع حش، وهو مكان قضاء الحاجة، (محتضرة) يعني: تحضرها الشياطين: (فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله الخبث والخبائث) يعني: أعوذ وألوذ وألتجئ وأعتصم بك يا ألله من الخبث والخبائث، من ذكران الشياطين وإناثهم.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان قال: قيل له: (لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل، لقد نهانا صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وألا نستنجي باليمين، وألا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم) ].
وهذه الترجمة فيها كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، والمراد بالكراهية: التحريم؛ لأنه يحرم استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وهذا في غير البنيان، وأما في البنيان فإنه جائز في أصح أقوال أهل العلم جمعاً بين النصوص، وذهب بعض العلماء إلى المنع حتى في البنيان، والمسألة فيها خلاف لأهل العلم: منهم من أجاز الاستقبال بإطلاق، ومنهم منعها بإطلاق، ومنهم من فصل، ومنهم من أجاز الاستدبار دون الاستقبال، والصواب: المنع في الصحراء والفضاء، والجواز في البنيان جمعاً بين النصوص؛ لأنه ثبت في حديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة.
وفي هذا الحديث حديث سلمان أنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) النهي يفيد التحريم، فدل على تحريم استقبال القبلة بغائط أو بول في الصحاري والفضاء، وقوله: (وألا نستنجي باليمين) يفيد تحريم الاستنجاء باليمين، وقوله: (وألا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار) يعني: إذا أراد أن يكتفي بالأحجار دون الماء فلا بد أن تكون ثلاثة أحجار، فلا يكفي حجر ولا حجران، ولا بد أن تكون منقية، أي: لا يبقى إلا أثر يسير لا يزيله إلا الماء فيعفى عنه، ولكن إذا لم ينق بالثلاث فيزيد رابعة، وإذا أنقى بالرابعة فالأفضل أن يزيد الخامسة حتى ينقي على وتر، فإذا لم ينق بالخامسة زاد السادسة فإن أنقى بالسادسة فالأفضل أن يزيد السابعة حتى ينقي على وتر، فالتنقية على وتر مستحبة، وكذلك يشترط ألا يتجاوز الخارج موضع العادة، فإن تجاوز الخارج موضع العادة فلا ينقي إلا الماء، وقوله: (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) فهذه أمور في هذا الحديث نهى عنها النبي: استقبال القبلة بغائط أو بول، وهو حرام إلا في البنيان، الثاني: الاستنجاء باليمين؛ لأن اليمين للتكريم، وإنما يكون الاستنجاء باليسار، والثالث: (ألا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار) إذا أراد أن يكتفي بها عن الماء.
الرابع: (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) والرجيع: هو رجيع الدابة، ورجيع الدابة لا يستنجى به، وكذلك العظم؛ لأن العظم زاد إخواننا من الجن، والرجيع والبعرة علف لدوابهم، لأنه ثبت أن وفداً من الجن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه الزاد فقال: (لكم كل عظم يذكر اسم الله عليه، يعود أوفر ما كان عليه لحمه، وكل بعرة علف لدوابكم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا تستنجوا بالعظام ولا بالروث فإنها زاد إخوانكم من الجن).
وهذا الحديث فيه دليل على تحريم استقبال القبلة بغائط أو بول، قال النبي: (إنما أن لكم بمنزلة الوالد) فلا شك أنه عليه الصلاة والسلام بمنزلة الوالد بل إن حقه أعظم من حق الوالد عليه الصلاة والسلام، ومحبته ينبغي أن تكون أعظم من محبة الوالدين والنفس عليه الصلاة والسلام؛ لأن محبة النبي تابعة لمحبة الله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو السبب في إنقاذ الأمة من الهلاك، والسبب في النجاة وهو الواسطة بين الله وبين عباده في تبليغ الشرع والدين، وكل خير نالته الأمة بسببه وكل شر دفعه يكون بسببه عليه الصلاة والسلام، قال: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها - يعني: في الصحراء- ولا يستطب بيمينه) يعني: لا يستنج، يسمى الاستنجاء استطابة لما فيه من دلك النجاسة وتطهير موضعها، (وكان يأمر بثلاثة أحجار)، يعني: في الاستجمار، هذا إذا أراد أن يكتفي به عن الماء.
قوله: (وينهى عن الروث والرمة) ينهى عن الروث يعني: الاستنجاء بالروث، والرمة: العظام البالية، يعني: لا يستنجى بالروث ولا بالعظام؛ لأنها زاد إخواننا من الجن كما سبق.
وهذا الحديث -وهو حديث أبي أيوب رواه الشيخان وغيرهما- فيه النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، يعني: في الصحراء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن شرقوا أو غربوا) هذا خطاب لأهل المدينة؛ لأن قبلة أهل المدينة جنوب، والشمال دبر القبلة، فيشرقون أو يغربون، أما غيرهم فيختلف، فصاحب نجد مثلاً يقال له: يشمل أو يجنب؛ لأن قبلته غرب، وهذا خطاب لأهل المدينة.
وفيه دليل على جواز استقبال النيرين وهما الشمس والقمر، وأنه لا كراهة في استقبالهما، وهو خلاف قول بعض الفقهاء من الحنابلة وغيرهم أنه يكره استقبال النيرين.
قال أبو أيوب رضي الله عنه: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله.
هذا يدل على أن أبا أيوب رضي الله عنه يرى المنع من استقبال القبلة حتى في البنيان، ولهذا قال: فكنا ننحرف عنها -يعني: في البنيان- ونستغفر الله عز وجل.
وهذ الحديث ضعيف، أراد بالقبلتين الكعبة وبيت المقدس، وأبو زيد هذا هو الوليد مولى بني ثعلبة ، قال ابن حجر رحمه الله في التهذيب: قيل: اسمه الوليد روى عن معقل بن أبي معقل الأسدي في النهي عن استقبال القبلتين، وعنه عمرو بن يحيى بن عمارة ، قال ابن المديني : ليس بمعروف.
وعلى هذا فيكون الحديث ضعيفاً، فلا حجة فيما دل عليه من النهي عن استقبال القبلتين، والقبلة المنسوخة -أي: بيت المقدس- لا حرج في استقبالها، وإنما نهي عن استقبال الكعبة.
رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا ؟ قال: بلى، إنما نهي عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس ].
وهذا الحديث فيه أن ابن عمر رضي الله عنهما يرى أنه لا بأس باستقبال القبلة إذا كان بينه وبينها حائل، جمعاً بين النصوص؛ لأنه روى أنه لما صعد سطح بيت له رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته على لبنتين مستقبل الشام مستدبر الكعبة، فلهذا كان يفتي بهذا ويرى أنه لا بأس في أن يستقبل القبلة عند قضاء الحاجة إذا كان بينه وبينها حائل؛ فلهذا أناخ راحلته وجعلها بينه وبين القبلة، ثم جلس يقضي حاجته رضي الله عنه، وهذا هو الصواب، واختاره البخاري رحمه الله وجماعة، ولهذا بوب البخاري باب استقبال القبلة في البنيان أو قريباً من هذا، فدل على أنه في البنيان يجوز، وفي الفضاء لا يجوز جمعاً بين النصوص.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر قال: (لقد ارتقيت على ظهر البيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته) ].
وهذا الحديث أخرجه البخاري في الوضوء: باب من تبرز على لبنتين، ومسلم أيضاً في الطهارة، وابن ماجة والنسائي. وفيه الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة واستدبارها؛ ولهذا بوب أبو داود رحمه الله، قال: باب الرخصة في ذلك. يعني: في الاستقبال والاستدبار عند قضاء الحاجة، أخذاً بهذا الحديث، حديث ابن عمر فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول) خصصه حديث ابن عمر وأنه لا بأس بالاستقبال في البنيان.
هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.
وقد أخذ به بعض العلماء وقالوا: إنه لا بأس بالاستقبال.
قال الشيخ شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى بعد قول الحافظ زكي الدين : وقال الترمذي : حديث غريب، وقال الترمذي : سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: حديث صحيح، وقد أعل ابن حزم حديث جابر بأنه عن أبان بن صالح وهو مجهول ولا يحتج برواية مجهول، قال ابن المفوز : أبان بن صالح مشهور ثقة صاحب حديث وهو أبان بن صالح بن عمير أبو محمد القرشي مولى لهم المكي، روى عنه ابن جريج وابن عجلان وابن إسحاق وعبيد الله بن أبي جعفر ، واستشهد بروايته البخاري في صحيحه عن مجاهد والحكم بن مسلم وعطاء ، وثقه يحيى بن معين ، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان والنسائي وهو والد محمد بن أبان بن صالح بن عمير الكوفي الذي روى عنه أبو الوليد وأبو داود الطيالسي وحسين الجعفي وغيرهم، وجد أبي عبد الرحمن مشكدانة شيخ مسلم وكان حافظاً، وأما الحديث فإنه انفرد به محمد بن إسحاق وليس هو ممن يحتج به في الأحكام، فكيف نعارض بحديثه الأحاديث الصحاح، أو ينسخ به السنن الثابتة مع أن التأويل في حديثه ممكن، والمخرج منه معرض. تم كلامه.
وهو لو صح حكاية فعل لا عموم لها ولا يعلم هل كان في فضاء أو بنيان؟ وهل كان لعذر من ضيق مكان ونحوه أو اختياراً؟ فكيف يقدم على النصوص الصحيحة الصريحة بالمنع، فإن قيل: فهب أن هذا الحديث معلول فما يقولون في حديث عراك عن عائشة : (ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوقد فعلوها؟ استقبلوا بمقاعدكم القبلة)؟
فالجواب: أن هذا الحديث لا يصح وإنما هو موقوف على عائشة حكاه الترمذي في كتاب العلل عن البخاري .
وقال بعض الحفاظ: هذا حديث لا يصح وله علة لا يدركها إلا المعتنون بالصناعة، وذلك أن خالد بن أبي الصلت لم يحفظ متنه ولا أقام إسناده، خالفه فيه الثقة الثبت صاحب عراك بن مالك المختص به، الضابط لحديثه: جعفر بن ربيعة الفقيه ، فرواه عن عراك عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تنكر ذلك، فبين أن الحديث لـعراك عن عروة ولم يرفعه ولا يجاوز به عائشة ، وجعفر بن ربيعة هو الحجة في عراك بن مالك مع صحة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وشهرتها بخلاف ذلك، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب المراسيل عن الأثرم : سمعت أبا عبد الله وذكر حديث خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فقال: مرسل، فقلت له: عراك بن مالك قال: سمعت عائشة فأنكره، وقال عراك بن مالك : من أين سمع عائشة؟ ما له ولـعائشة ؟ إنما يروونه عن عروة هذا خطأ، قال لي: من روى هذا؟ قلت: محمد بن سلمة عن خالد الحذاء قال: رواه غير واحد عن خالد الحذاء ، وليس فيه سمعت، وقال غير واحد أيضاً عن حماد بن سلمة : ليس فيه سمعت.
وهذا الحديث تفرد به محمد بن إسحاق ، فيكون شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة والشاذ ضعيف، ولو صح قد يكون محتملاً ونقول: قوله: (رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) محتمل أن يكون يستقبلها في البنيان، ثم أيضاً هو حكاية فعل فلا يعارض به الأقوال الصريحة، وعلى كل حال هذا محتمل مجمل مشتبه، والقاعدة عند أهل العلم: أن المجمل لا يعارض به المحكم الواضح، وإنما يرد إلى المحكم ويفسر به، ولا يتعلق بالمشتبه والمجمل إلا الضعفاء من أهل البصيرة، والمقصود أن العمدة على الأحاديث الصحيحة: النهي عن استقبال القبلة، أما هذا فقد تفرد به محمد بن إسحاق ، ولو صح فهو محتمل أن يكون في البنيان أو في الصحراء، ثم أيضاً هو حكاية فعل.
حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع عن الأعمش عن رجل عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض).
قال أبو داود : رواه عبد السلام بن حرب عن الأعمش عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو ضعيف ].
هذه الترجمة أوردها المؤلف رحمه الله في بيان كيفية التكشف عند قضاء الحاجة، يعني: متى يرفع ثوبه؟! ثم ذكر هذا الحديث، وهو ضعيف فيه هذا الرجل المبهم، والثاني كذلك قال: رواه عبد السلام عن أنس .
ولكن من المعلوم أن من الأدلة العامة أنه لا يجوز كشف العورة إلا عند الحاجة، والحاجة إلى ذلك تكون في موضعين: إذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته، وإذا أراد أن يغتسل وليس عنده أحد فإنه يخلع ثوبه، وهنا عند قضاء الحاجة إذا قرب من الأرض ودنا منها، ويكشف قدر الحاجة، أما هذا الحديث ففيه ضعف.
قال السيوطي رحمه الله تعالى: ليس المراد هو تضعيف عبد السلام ؛ لأنه ثقة حافظ من رجال الصحيحين، بل تضعيف من قال: عن أنس ؛ لأن الأعمش لم يسمع من أنس .
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [1] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
https://audio.islamweb.net