إسلام ويب

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين أفضل من أبي بكر) ولذلك فإنه هو الرجل الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى خلافة الأمة بعده؛ فقاد الأمة إلى بر الأمان، وفي هذا الدرس تلخيص ممتع وشيق عن حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

مقدمة عن سيرة أبي بكر الصديق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان هذه المحاضرة: (أبو بكر الصديق في عصر الذرة) وقد سلف الحديث في المحاضرة السابقة عن الفاروق في القرن العشرين، ولكن حول هذا العنوان في الرياض بعنوان الفاروق في القرن الخامس عشر، وقلت هناك: إن طلبة الابتدائية يعرفون متى ولد عمر، ومتى توفي، ولكن كثيراً من أساتذة الجامعات لا يعرفون عدل عمر، ولا صدق عمر، ولا إخلاص عمر، ولا حياة عمر.

وأقول هذه الليلة كما قلت هناك: إن طلبة الابتدائية عندنا يعرفون متى ولد أبو بكر، ومتى توفي، ويعرفون جملاً من حياته؛ لكن الكبار، وكثيراً من أساتذة الجامعات لا يعرفون أسراراً في حياة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

الرجل الأول

الآن نبدأ مع أبي بكر الصديق، مع الرجل الأول في الإسلام، والأول في الذكر بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، والأول في الصدقة، والأول في الجهاد.

ذكره ابن القيم فإذا هو الأول دائماً قال:

من لي بمثل سيرك المدلل>>>>>تمشي رويداً وتجي في الأول

ويوم القيامة يفتح الله أبواب الجنة الثمانية، فيدعى الذاكرون، فإذا الأول أبو بكر، ويدعى المتصدقون، فإذا الأول أبو بكر، ويدعى المجاهدون، فإذا الأول أبو بكر، ويدعى الصائمون، فإذا الأول أبو بكر؛ أي طاقة في هذا الرجل؟!

وسوف تعلمون أن من المفاجآت العجيبة أن هذا الرجل العظيم الذي قاد الأمة في الخلافة، وبويع بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان نحيف الجسم، هزيل البنية، لكن عنده همة تمر مر السحاب، صنع الله الذي أحسن كل شيء.

جوانب الحديث عن شخصية الصديق

وأنا -أيها الأبرار- لا أدخل في تفصيلات حياة أبي بكر، أنا لا أحدثكم هذه الليلة عن أكله وشربه، ولا عن طعامه وشرابه، ولا عن لباسه، ولا عن زوجاته، ولا عن أطفاله؛ فهذا يسمى تاريخ الأموات.

لكني أحدثكم عن صدقه، وورعه، وعدله، وزهده، وخشيته، وصرامته، وشجاعته، وصبره، وكرمه، وحلمه رضي الله عنه وأرضاه.

لماذا كان أبو بكر الصديق في عصر الذرة؟

لأن العالم اليوم وصل إلى الذرة في العلم، لكنه وصل إلى الحضيض في الروح، وقد أكد ذلك علماؤهم؛ مثل: كريس موريسون، صاحب الإنسان لا يقوم وحده ومثل: أليكسيس كارل، وصاحب الإنسان ذلك المجهول، كلهم يؤكدون هذا، فكيف نأتي بـأبي بكر في القرن هذا؟!

كل منكم يجعل من نفسه مثل أبي بكر، وكلٌ منكم يجعل من نفسه تلميذاً لـأبي بكر يوم يسمع أخبار أبي بكر، فنقتدي بأخباره رضي الله عنه وأرضاه.

صفات أبي بكر قبل الإسلام

أولاً: دعونا نعيش مع أبي بكر في الجاهلية قبل الإسلام، أي رجل كان؟

قال السيوطي: كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أعف الناس في الجاهلية.

أخرج ابن عساكر بسند صحيح في تاريخ دمشق عن عائشة رضي الله عنها، قالت: [[والله ما قال أبو بكر شعراً قط في الجاهلية، ولا في الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية]].

بعض الناس كانوا عقلاء في الجاهلية لا يشربون الخمر، منهم: أبو بكر الصديق، وكان حاتم الطائي لا يشرب الخمر أبداً؛ وهذا من كرمهم، وكان عنترة بن شداد لا ينظر إلى النساء الأجنبيات، إذا خرجت جارته من الخيمة غض طرفه، وقال:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي>>>>>حتى يواري جارتي مأواها

وهذا من كرمه.

أبو بكر والشعر

أما قول عائشة: (ما قال شعراً قط) فلعلها ما بلغها أن أبا بكر، قد قال بعض الأشعار، وسوف تمر بنا بعض الأبيات لـأبي بكر وإلا فقد كان أفصح الناس، وكان يتكلم بالخطبة ارتجالاً فيصدع الجلوس والسامعين، وكان نساباً؛ يعرف أنساب العرب، وأسرار العرب، وبيوت العرب.

وأما شرب الخمر فأعاذه الله منها حتى في الجاهلية، وكان يسمى العتيق، كان يعتق الرقاب، وهو الذي أعتق بلال بن رباح، فقال عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]] أي: بلالاً.

ثم قال ابن عساكر: وعن أبي العالية الرياحي: {قيل لـأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل شربت الخمر في الجاهلية؟

فقال: أعوذ بالله. فقيل: ولم؟

قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعاً في عرضه، ومروءته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صدق أبو بكر، صدق أبو بكر مرتين} وهذا مرسل غريب سنداً ومتناً.

أيها الإخوة: كان شرب الخمر في الجاهلية منقصة، إنما يشربها المتهورون، وأما في الإسلام فانتهى الأمر، فأصبح فيها حد.

وفي محاضرة الفاروق في القرن الخامس عشر، ورد أن عمر أرسل أميراً إلى العراق، هذا الأمير من قريش، فأتى في ليلة من الليالي كان ينشد مع بناته في البيت، وقال لهم:

اسقني شربةً ألذ عليها>>>>>واسق بالله مثلها ابن هشام

يقول: أيها الساقي، يا ساقي الخمر، اسقني شربة ألذ عليها، واسق مثلها ابن هشام زميله في العمل، وكان أميراً لـعمر، طار هذا البيت بواسطة المراسلات حتى وصل إلى عمر، فاستدعاه عمر، قال: تعال، ما معنى هذا البيت؟

قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟

قال:

اسقني شربةً ألذ عليها>>>>>واسق بالله مثلها ابن هشام

معناه: اسقني خمراً! قال: يا أمير المؤمنين! أنا قلت بيتين لا بيتاً واحداً -كان ذكياً- قال: والبيت الثاني ما هو؟

قال:

عسلاً بارداً بماء سحابٍ>>>>>إنني لا أحب شرب المدامِ

قال عمر: أما أنت فقد أنقذت نفسك من حد الثمانين، لكن والله لا تلي لي ولاية بعدها، وعزله بمرسوم.

باللعب والانحراف تضيع الأمة، فهو لا يجوز وهو حرام، فعزله وأتى برجلٍ آخر.

صفة أبي بكر الخَلْقية

أما صفة أبي بكر، فاسمعوا لصفة الرجل في الجسم، حتى تتصوروا هذا العالم الكبير الذي زكَّاه الله، وتنورت به منابر المسلمين، وأصبح يذكر في كل صباح ومساء.

أخرج ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لها: صفي لنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقالت: [[رجل أبيض -والإسلام لا يعترف بأبيض ولا أسود ولا أحمر إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]- نحيف]] أي: كان هزيل الجسم، وكبر الجسم وصغره لا يضر ولا يهم، المهم القلب، والله عندما ذكر القلوب، قال: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] وأما الأجسام فإنها قد تكون كبيرة لكنها تكون هزيلة عند الله، أنظر مثلاً إلى جسم عبد الله بن أبي بن سلول، يقولون: كان يكاد أن يصطدم رأسه بسقف البيت، قال الله: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] مع العلم أن ابن مسعود كان نحيفاً كالصقر، حتى يقول عليه الصلاة والسلام: {أتعجبون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد}.

[[خفيف العارضين -وكانت لحيته خفيفة - وقيل: كان منحنياً، وقيل: كان متقدم الجبهة، لا يستمسك إزاره يسترخي على حقويه]] من ضعفه إزاره دائماً يرفعه من هنا ومن هنا، هذا الرجل كان ضعيفاً جداً جداً، حتى يقول: {يا رسول الله! إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فهل أنا ممن يجر إزاره خيلاء؟

قال: لست ممن يفعل ذلك} يعني: أعاذك الله، من أين لك الكبر، وأنت سيد من سادات المؤمنين؟!

[[معروق الوجه -أي: نحيف الوجه- غائر العينين -داخلة في رأسه- ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع]] هذه صفته، أي: ما على ذراعيه من اللحم إلا القليل، [[وكان من أكرم الناس]] صحافه تتابعه في بيوته، والأطفال معه يدخلون والمساكين، وكان كثير المال كما سوف يأتي معنا، لكن لا يمسك من المال شيئاً، وآتاه الله من الرزق حلالاً طيباً، وكان من تجار الصحابة، ومع ذلك أعطى الإسلام دمه، وماله، ودموعه، وكل ما عنده، والذي لا يعطي الإسلام في هذه الحياة فالله ليس في حاجة إليه يوم القيامة، وإذا أصبح في القبر فلن يعطي وسوف يموت بغمه وهمه، وماله وبال عليه، وسوف يموت بحسرته.

يقول زهير:

ومن يك ذا مالٍ فيبخل بماله>>>>>على قومه يستغنَ عنه ويذممِ

هل سمعتم أن أحداً احتاج له الناس فبخل عليهم، فاحتاجوا له مرة ثانية؟ لا، قاطعوه، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6].

إسلام أبي بكر

اسمع إلى إسلام الرجل العظيم رضي الله عنه وأرضاه يقول الشعبي: سألت ابن عباس: أي الناس كان أول إسلاماً؟

قال: أبو بكر الصديق، ألم تسمع قول حسان؛ حسان يقول قصيدة في أبي بكر، والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، يدافع صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر في المنبر؛ لأن أبا بكر سمع فيه مقالة، تعرضوا لعرضه، فقام صلى الله عليه وسلم يدافع عن صاحبه، وكان في الصف الأول أبو بكر، وقال: (ألستم بتاركي لي صاحبي؟ يا حسان أين أنت؟ أما قلت في أبي بكر شيئاً؟) لأن الشعر عند العرب مثل التقويم فهو توثيق، يقول: أسمعني شعراً في أبي بكر، قال حسان، وقام وسط المجلس:

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ>>>>>فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأرفعها>>>>>بعد النبي وأوفاها بما حملا

والتالي الثاني المحمود شيمته>>>>>وأول الناس طراً صدق الرسلا

ثم استمر في القصيدة، يقول الثاني التالي، ما هو الثاني التالي ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] لم يكن في الغار إلا الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولم يكن معه أحد، وأبو بكر من أول أيامه في الإسلام حتى أتى كفار قريش يريدون دخول الغار، فتسلقوا على سطح الغار، وكان أبو بكر خائفاً على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله مطمئناً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيد بالسكينة، وبعض المفسرين يقول: إن السكينة نزلت على أبي بكر، ولم تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه في السكينة لم يزل، كان يتبسم عليه الصلاة والسلام وهو ينظر، يقول أحمد شوقي:

وإذا العناية لاحظتك عيونها>>>>>نم فالحوادث كلهن أمانُ

يقول: إذا لاحظك الله، من عنايته، فنم ولو في أفواه الحيات، ولو على نيوب الأسود، وأما إذا لم تلاحظ عناية الله، فوالله لو كنت في الدور العاشر ومعك سبعون ألفاً من الحرس، فلن تكفيك.

شاو سوسكو؛ مجرم رومانيا كان عنده من الشرطة السرية سبعون ألف مدجج بالسلاح، أخذه الشعب وسحبوه مثل الكلب، وذبحوه على الرصيف، وأين الحراسة؟!

وعمر رضي الله عنه وأرضاه كان ينام تحت الشجرة، ويأتي الهرمزان ويراه نائماً بلا حرس، قال: ما عنده حرس؟! قالوا: ما عنده حرس. قال: حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت.

فيقول أبو بكر: (يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدمه لرآنا. قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!) إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

وهناك قصيدة سوف تسمعونها قريباً اسمها: مع صاحب الغار، وإلا فـالبردوني شاعر اليمن له قصيدة في الغار وهي عجيبة، وهو ما زال حياً لكنه منحرف، وقد أجاد في هذه القصيدة، يقول:

بشرى من الغيب ألقت في فم الغار>>>>>وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار

بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً>>>>>وأعلنت في الدنا ميلاد أنوارِ

وشقت الصمت والأنسام تحملها>>>>>تحت السكينة من دار إلى دارِ

وهي ما يقارب مائة بيت، في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام.

ويقول أحد أهل العلم: سألت ميمون بن مهران، قلت: علي أفضل عندك أم أبو بكر وعمر؟

قال: فارتعد حتى سقطت عصاه من يده.

ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمانٍ يعدل بهما، لله درهما! كانا رأس الإسلام. قلت: فـأبو بكر كان أول إسلاماً من علي؟

قال: والله قد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرا الراهب حين مر به، واختلف فيما بينه وبين خديجة، حتى أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

ويمضي أبو بكر، ويتقدم إلى الإسلام طائعاً، يقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس: (ما كلمت في الإسلام أحداً إلا أبى عليَّ -أي: رفض وتلكأ- وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه).

ثباته في قصة الإسراء والمعراج

حتى لما كلم صلى الله عليه وسلم لما أتى من الإسراء والمعراج، وكلم قريشاً، فاستهزأ به أبو جهل يقول: أين كنت البارحة يا محمد؟

قال: وصلت السماء السابعة، فضحك أبو جهل حتى كاد يسقط، ثم جمع كفار قريش في الحرم، قال: اسمعوا داهية الدواهي، تعالوا فأجلسهم، قالوا: يا محمد! أين كنت البارحة؟

قال: ذهبت إلى بيت المقدس، ثم صعدت إلى السماء السابعة، وكلمت الله. قال الوليد بن المغيرة: فإنا قد علمنا ورأينا وعرفنا بيت المقدس في التجارة، فصفه لنا، فأخذه عليه الصلاة والسلام الكرب حتى عرق جبينه، لأنه مر في طرف ليلة في الظلام، وما رأى بيت المقدس وما رأى مفاتيح الباب، وما رأى مداخل المسجد، فأتى الله فأنقذه، فأتى بصورة بيت المقدس، عرضت عند دار الأرقم بن أبي الأرقم، مكبرة في الحرم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه. قال: بيت المقدس له أبواب كذا وكذا، ومدخله: كذا وكذا، فقال الوليد بن المغيرة: والله ما زدت ولا نقصت على بيت المقدس بهذه. فقال: ما رأيك يا أبا بكر؟

فقال: صدقت. وكلما قال له كلمة قال: صدقت، وكلما قال: وصعدت إلى السماء. قال: صدقت.

قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] من الذي جاء بالصدق؟

محمد صلى الله عليه وسلم. ومن الذي صدق به؟ أبو بكر، فسموه الصديق؛ لأنه صدق الله، فصدقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

وأخرج البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل أنتم تاركوا لي صاحبي، إني قلت: أيها الناس! إني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت}.

مصاحبة أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم

وأما مصاحبته للرسول عليه الصلاة والسلام، فلزمه كما يلزم الظل: لما هاجر عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، كان معه في الطريق، مرة يأتي عن يمينه، ومرة عن يساره، ومرة من أمامه، ومرة من خلفه، فيقول عليه الصلاة والسلام: ما لك يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله أتذكر الطلب -أي: من الكفار أن يطلبوك- فآتي من خلفك، وأتذكر الرصد -أي: الكمين- فأتقدم أمامك، وأتذكر ميمنتك فآتي من الميمنة، وأتذكر مشأمتك فآتي من الشمال، فدعا له بالخير والبركة.

قال العلماء: صحب أبو بكر النبي عليه الصلاة والسلام حين أسلم إلى حين توفي، لم يفارقه سفراً ولا حضراً، وشهد الغزوات مع الرسول عليه الصلاة والسلام والمعارك، وكان رفيقه في الغار، وهو المقصود بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] وجعل للإسلام دمه، وماله، وكل ما يملك، وكان عليه الصلاة والسلام يشيد به، ويسأل عنه إذا غاب، وقال علي في البخاري: {لطالما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر}.

ولما أتى صلى الله عليه وسلم يضع حجر الأساس في مسجده العامر في المدينة، وضع الحجر الأول، فانتظر الناس أبا بكر فأتى بالحجر الثاني ووضعه بجانبه، ثم عمر، فعرفوا أن الخلافة سوف تكون على هذا النسق.

من صفات الصديق

شجاعة أبي بكر وإقدامه

أما شجاعته وإقدامه:

فأخرج البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: [[أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت]] وصدقوا هو من الشجاعة بمكان- تصور علي بن أبي طالب إذا أتى يبارز رجلاً في المعركة، يأخذ درعه فيلقيه في الأرض، الدرع الذي يقيه من السيوف، ومن علامة الشجاعة عند العرب أن تبارز وليس عليك درع، وفي حديث حسن بشواهده: {إن الله يضحك للرجل يلقى العدو حاسراً} الله يضحك للمسلم يلقى الأعداء وليس عليه درع.

فكان علي ينزل الدرع، ويقولون: في معركة صفين لما أقبل الأعداء من خصوم علي من أهل الشام، وتفرق جيشه قال: ما هكذا عودنا الأعداء؟

فسل السيف وخرج في الشمس ما على رأسه شيء، وكان في الستين، أو في الثالثة والستين، شيخ كبير، فأخذ السيف قال: والله إن الناس كانوا يفرون منه كما تفر المعزة من الأسد.

[[فقالوا أنت؟ قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، لكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر الصديق؛ إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما دنا منا أحداً إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس الرسول عليه الصلاة والسلام، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه؛ فهو أشجع الناس]].

وقال علي: [[لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يجبهه، وهذا يتلتله عليه الصلاة والسلام]] كان يطوف بالبيت فأخذه أبو جهل بإزاره، فجبذه، وأخذه أبي بن خلف عليه غضب الله، فتفل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الذي قتله الرسول بيده صلى الله عليه وسلم.

[[وكان هذا يتلتله، وكان أبو بكر يبكي حوله، ويقول: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]]] أي: ما هذا التعامل؟ سبحان الله هل هناك عجز أن ينزل الله عز وجل ألف ملك يحمون الحرم، وينزل صلى الله عليه وسلم في حرس؟

لا والله، لكن ليتربى الدعاة على هذا المنهج والصالحين.

يتلتل، ويطرد من مكة، ويدخل الطائف، ويرمى بالحجارة، ويقتل أصحابه، ويقتل محبوه، وتكسر ثنيته، ويحبس في الشعب ثلاث سنوات، ويدخل الغار ويلحقونه بالسيوف، وينتصر في معركة، ويغلب في معركة، ويفتقر، ويجوع، ويجعل حجرين على بطنه من الجوع، وهو أشرف الخلق، والله عز وجل قادر على أن ينزل ملائكة، ولله سبحانه القدرة على أن ينفي قريش في لحظة واحدة، لكن ليذوق، وليصبر، وليتحمل، وليرفع الله قدره، وليكون معلماً.

قال: [[وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟]] يمسكون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتلتلونه في الحرم، ويقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً! لأن كفار قريش كان للواحد منهم ستة آلهة، وسبعة، وثمانية أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].

قال: [[فوالله ما دنا منا أحد، إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجبه هذا، ويتلتل هذا]].

الناس أصدقاء، فإذا وقعت الأزمات ما صفا إلا القليل؛ أي: الناس وقت المجاملة ووقت السعة كلهم أحباب، ولكن إذا حامت الحوائم، وأتت الدواهي، انهدت الصفوف:

جزى الله الشدائد كل خير>>>>>وإن كانت تجرعني بريقي

جزاها الله مكرمةً فإني>>>>>عرفت بها عدوي من صديقي

فلما أتى فرَّ كثير من الناس، وبقي أبو بكر يقاتل معه في الحرم ضدهم، قال: [[وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ثم رفع علي بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت لحيته]].

علي بن أبي طالب رفع البردة وبكى، مما تذكر من أبي بكر، ثم قال: [[أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم. فقال: ألا تجيبونني؟ فوالله لساعة من أبي بكر، خير من ألف ساعة من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه]] وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر:28] أما أبو بكر فما كتم، قام وسط الناس يعلن الإسلام، ويعلن القوة.

رقة أبي بكر الصديق

وكان أبو بكر رجلاً رقيقاً، لا يملك عيونه ولا دموعه إذا قرأ القرآن، كان يأتي يصلي في بيته في مكة، وكان سيداً مطاعاً، فتجتمع قريش حول البيت، فيرفع صوته فيبكي، فلو خفف صوته فلا يسمع من معه، فقال: نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي أبي بكر: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء:110].

الصديق وإنفاق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم

أبو بكر لما مات، ما ترك إلا بغلة وثوبين، وكان أتجر الناس جميعاً، وسلمها مع عمر مع رسالة حارة لولي العهد، يقول: [[اتق الله يا عمر، لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]] يقول: احذر احذر أن تنسى الله، احذر، وأنا قد سمعت هذه الرسالة من هيئة الإذاعة البريطانية وكانت مبكية، في حدث من الأحداث تتلى هذه، قل: رسالة من خليفة إلى خليفة، هذا عندهم، ولما وصلت إلى عمر بكى حتى جلس، وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك]] يقول: ماذا أفعل؟ أعطاه البغلة والثوبين، حتى أخذ ثوباً جديداً أتت به عائشة تقول لـأبي بكر: [[نعطيك هذا الثوب لتكفن فيه، قال: لا! اغسلوا هذا الثوب الذي علي فإن الحي أولى بالثوب من ميت، فإن نجاني الله فساعة، وإلا فلن تغني عني الثياب، يا عائشة لو رأيتموني بعد ثلاث]]. كان في سكرات الموت، يسبح كثيراً، وقد وضع رأسه على المخدة، وكانت عائشة عند رأسه، وكانت تقول وهي تبكي: [[صدق حاتم - حاتم الطائي في الجاهلية- إذ يقول:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى>>>>>إذا حشرجت يوماً وضاق به الصدرُ

ففز، والتفت برأسه وقال: لا تقولي ذاك يا بنية! ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]]] لا يريد في هذا الموطن ذكر الشعر وعنده القرآن.

ثناء الله ورسوله على أبي بكر

وقال الله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:17-18] إلى آخر السورة، قال ابن الجوزي في زاد المسير: أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر الصديق.

وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر، فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله} يقول: أنا ومالي لك، تصرف ما شئت، وكان صلى الله عليه وسلم يتدين على أموال أبي بكر، ويتصدق على الجيوش من أموال أبي بكر، ويعطي الناس ويضيف من أموال أبي بكر، ولا يستأذنه:

هو البحر من أي النواحي أتيته>>>>>فلجته المعروف والجود ساحلُه

ولو لم يكن في كفه غير روحه>>>>>لجاد بها فليتق الله سائلُه

وكان جزاؤه عند الله وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل:17] هذا إخبار من الله، أن الأتقى أبا بكر لا يمر النار الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:18] أي: يتزود من الطاعة.

مقدار ما أنفق

وأخرج ابن عساكر من طرق عن عائشة رضي الله عنها وعروة بن الزبير [[أن أبا بكر رضي الله عنه أسلم يوم أسلم وله أربعون ألف دينار -وفي لفظ: أربعون ألف درهم- فأنفقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم]] هذه الأموال هي التي بقيت عند الله، لكن أموال الضائعين أين هي الآن؟!

أين المليارات؟!

أين الملايين؟!

شاه إيران، قصص عن حياته، كان كرسي دورة المياه -أكرمكم الله- الذي يجلس عليه من ذهب، سحب كالكلب، وأخرج، ما وجد شيئاً، حتى غرفة النوم ما نقلت معه، ومات بالسرطان طريداً بعيداً، كان الناس في طهران يطلبون الخبز في مظاهرة، فيخرج عليهم طائرة هيلوكبتر يرميهم بالرشاش، فيموتون كما يموت الذباب من المبيدات، قال تعالى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:45-46].

خذ القناعة من دنياك وارض بها>>>>>لو لم يكن لك إلا راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها>>>>>هل راح منها بغير القطن والكفن

وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه إلا أبا بكر} يقول: كل الناس الذين قدموا لنا معروفاً أعطيناهم، إلا أبا بكر فبقيت له أيادي عندنا، وإلا فإن يد الرسول صلى الله عليه وسلم هي أعظم الأيادي، ومنته بعد منة الله أعظم المنن، وله صلى الله عليه وسلم بعد الله الفضل في هداية أولئك.

قال: {فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر}.

وأخرج البزار عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: {جئت بـأبي قحافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والد أبي بكر كان شيخاً كبيراً- فقال: هلاَّ تركت الشيخ حتى آتيه، قال: بل هو أحق أن يأتيك. قال: إنا نحفظه لأيادي ابنه عندنا} يقول صلى الله عليه وسلم: لماذا ما تركت الشيخ والدك في البيت لأزوره أنا. قال: يا رسول الله! هو أحق أن يأتيك، فقال عليه الصلاة والسلام: إنا نحفظه لأيادٍ لابنه عندنا؛ لـأبي بكر.

علم أبي بكر الصديق

قال النووي في تهذيبه: استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله رضي الله عنه في الحديث الصحيح الثابت في الصحيحين: [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يأتونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه]].

واستدل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره في طبقاته على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة، لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو، ثم ظهر لهم بمباحثته لهم أن قوله هو الصواب فرجعوا إليه.

عارضوه في قتال أهل الردة، وأبو بكر يقول: لا بد أن نقاتلهم، وكان رأيه هو الصحيح، وكان هو الفقيه، وكان هو العالم، فانساق له الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم.

وأخرج الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب خطبة على المنبر، فقال: إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين الآخرة، فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر، فقال الصحابة: ما بال هذا الشيخ يبكي؟ -أي: ماذا ظهر لـأبي بكر أن يبكي في المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا أن رجلاً ولم يسم الرجل لنا، ففهم- قال: فكان أبو بكر أعلمنا) لأنه فهم أن العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف فهم، وما فهم الناس، لأنه لزيادة إيمانه، وتنور قلبه فتح الله عليه فتوحاً عظيمة.

علم أبي بكر بالقرآن

وقال ابن كثير: كان الصديق رضي الله عنه أقرأ الصحابة -أي: أعلمهم بالقرآن- وكان صاحب قرآن، كان من عادته إذا أراد أن يخرج إلى السوق فتح صفحات عنده من المصحف في بيته وقرأ كثيراً ثم ينزل إلى السوق، فإذا قضى أغراضه أتى ودخل وفتح المصحف وقرأ، لم يكن عنده إلا المصحف.

وانظر الثقافة الميتة ماذا فعلت بنا، هل قدمنا للدين وللإسلام وللحياة مثل ما قدم أبو بكر؟!

مع العلم أن أصغر طالب علم الآن يمتلك مكتبة، رفوفاً من المجلدات والمجلات والصحف والنشرات والدوريات، لكن يسمى علم الأموات! فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].

يقول ابن كثير: لأنه عليه الصلاة والسلام قدمه إماماً للصلاة في الصحابة رضوان الله عليهم، مع قوله: {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى}.

وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره} إذا اجتمع أبو بكر في الناس فهو المقدم.

تخلف عليه الصلاة والسلام مرة يصلح بين أسرتين من أسر الأنصار، فتأخر عن صلاة الظهر، فأقام بلال الصلاة ولم يأت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال أبو بكر: تقدم يا عمر صل بالناس، قال: لا والذي نفسي بيده لا أصلي بناس وأنت فيهم؛ أي: هل يستطيع عمر أن يتقدم وأبو بكر موجود؟! أو أي أحد من الناس؟! لأنه دائماً أبو بكر هو الأول، فتقدم وصلى بالناس، وكان لا يستطيع أن يسمع الناس من قراءته.

حتى في البخاري: أن عائشة رضي الله عنها لما أصبح صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، قال: {مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: يا رسول الله! إنه رجل أسيف -أي: حزين- لا يستطيع أن يسمع الناس القراءة إذا قام من كثرة البكاء- قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: يا رسول الله! إنه رجل أسيف}.

عائشة تقول: ما أردت إلا لئلا يأتي أبو بكر فيصلي بالناس، فيتشاءم الناس به بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الناس إذا كان فيهم رجل صالح وولي من أولياء الله، وكان عادلاً، ثم أتى رجل من بعده وانحرف عن سيرته تشاءموا به، حتى إذا لم ينزل المطر قالوا: بسبب فلان، قال صلى الله عليه وسلم: {إنكن صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس}.

علم أبي بكر بالسنة

وكان مع ذلك أعلمهم بالسنة، فقد رجع إليه الصحابة في كثير من المواضع، وفاوضوه، وكان رضي الله عنه وأرضاه هو المفتي؛ لأنه أعلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وبأسراره، وأكثر الناس له ملازمة من بينهم.

وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب بحث في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإن وجد قضى به، وإلا جمع الصحابة وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بقضاء؟ وإلا استشار الناس، وكان مسدداً لكثرة تقواه، وصدقه، وإخلاصه.

أبو بكر وعلمه بالأنساب

كان الصديق مع ذلك علامة في النسب؛ من أعلم الناس بأنساب العرب، لا سيما قريش، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لـحسان وحسان من الأنصار من المدينة، كان يسب قريشاً، فيقول صلى الله عليه وسلم: {كيف بك يا حسان والشعر وقريش؟

قال: عندي لسان يا رسول الله! لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه. قال: كيف تسب قريشاً وأنا منهم؟ قال: أسلك كما تسل الشعرة من العجين} قال: أنت الآن تتعرض لقريش تسبهم، لأن منهم أبو سفيان عدونا، فكيف تسب أبا سفيان؟

قال: أسلك منهم كما تُسلَّ الشعرة من العجين، ولذلك يقول:

ألا أبلغ أبا سفيان عني>>>>>مغلغلةً فقد برح الخفاء

بأن جيوشنا تركتك عبداً>>>>>وعبد الدار سادتها الإماء

لو قال: بأن جيوشنا تركتك عبداً وسكت كان فيه احتمال، لكن وعبد الدار؛ رجع إلى أسرته الصغيرة التي تفصله من الرسول صلى الله عليه وسلم. فكان صلى الله عليه وسلم يقول: {اذهب يا حسان إلى أبي بكر يعلمك أنساب قريش} حتى لا يخطئ، ويتكلم في عرض بعض الناس، ويدخل في نسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان يخرج له الأنساب.

فصاحة أبي بكر الصديق

وقال ابن كثير: وكان رضي الله عنه من أفصح الناس وأخطبهم، كان يرتجل الخطبة، ما كان يحضر لها، ليس عنده أوراق، وقلم، ولا مسطرة، كان يأتي يوم الجمعة يغتسل ويطلع على المنبر، فيتكلم مباشرة بكلام فصيح، يبز القائمين، ولا يتكلم بين يديه أحد، وأول يوم بويع بالخلافة، انظروا المفاجأة، أول يوم مات فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، أتى وليس عنده خبر، كان يشتغل في المزرعة، هكذا الإسلام كما يقول أبو الأعلى المودودي: الإسلام الذي يدخل معك المزرعة، والإسلام الذي يدخل معك الدكان، والإسلام الذي يذهب معك في السوق، كان يبيع السمن والعسل، وكان يشتغل بيده بالمسحاة في المزرعة، فكانت مزرعته بـالعوالي على فرسخ، فسمع الخبر، قالوا: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، فركب فرسه وعنده عصاً، وأتى وإذا المدينة تدور من أولها على آخرها:

جاءتك تمشي رافعاً ذراها>>>>>أولها ردت على أخراها

وإذا بكاء الناس، وإذا النساء خرجن في السكك والأطفال، أعظم مصيبة في تاريخ الإنسان، قال: ماذا؟

قالوا: مات الرسول عليه الصلاة والسلام، فاقتحم الصفوف ودخل حتى أتى المسجد فشق الصفوف، وإذا عمر على المنبر سلَّ سيفه، يقول: [[يا أيها الناس: من زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات ضربته بهذا السيف، ما مات الرسول صلى الله عليه وسلم، سوف يصعد أربعين ليلة كما ذهب موسى ويأتي إلينا]] وذلك لأنه خبر مذهل، فأتى أبو بكر بالعصا وفرق الناس، وقال: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس، فقام أبو بكر بجانبه، وقال: [[بسم الله الرحمن الرحيم -فسكت الناس، وسكت عمر يلتفت إلى أبي بكر، ماذا يقول، ما هو الإعلان- قال: أيها الناس-اسمع الكلام أفصح الناس- من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات]] فسقط عمر رضي الله عنه على وجهه من البكاء، وأغمي عليه، ورش بالماء، وذهب أبو بكر قبل أن يدخل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه الغطاء، وقبل وجهه، ودمعه في عينه، وقال: [[بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حياً! وما أطيبك ميتاً! أما الميتة التي كتبت فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً]].

ثم أتى في اليوم الثاني للبيعة الكبرى، فجاء أبو بكر، وإذا هو يبكي على المنبر -الآن بالعكس- أتى يتكلم في الناس فتذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتذكر المنبر فأتى يبكي، فيقول: الحمد لله، قال: فينخلس، قال: فيعتمد على أخشاب المنبر فيبكي فيبكي الناس، فيقول: الحمد لله، فيتنحنح ويبكي، ويحاول، فلما رأى عمر الموقف، قام رضي الله عنه وأرضاه فوقف بجانب أبي بكر، وتكلم فما بكى ذلك اليوم، انتهوا في اليوم الأول، فقال: أيها الناس تقدموا، قال: وكانت يد أبي بكر تنتفض من الخوف، قال: فقدم يده للناس هكذا، فقاموا يبايعونه صفاً صفاً رضي الله عنه وأرضاه، ورفع منازلهم، وجمعنا بهم في دار الكرامة.

هؤلاء تاريخنا، إذا أردنا أن نتشرف بين الأمم نقدم أبا بكر، ونقدم عمر، ونقدم عثمان، ونقدم علياً، إذا أردنا أن نكون سادة للناس، وعندنا تربية، وعندنا طموح، وعندنا إيمان، فإننا نقدمهم، ونعيدهم، ونبدي سيرهم في المدارس، والمحافل، والمساجد، والنوادي.

علم أبي بكر بتعبير الرؤيا

يقول: وكان الصديق مع ذلك عالماً بتأويل بالرؤيا، كان يؤول الرؤيا بأمر الله، وكان يعبر الأحلام زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال محمد بن سيرين -هذا محمد بن سيرين كان عجباً في الأحلام، هو المقدم في هذا العلم بالاتفاق- يقول: كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال عليه الصلاة والسلام: {أمرت أن أؤول الرؤيا، وأن أعلمها أبا بكر} رواه الديلمي في مسند الفردوس وابن عساكر عن سمرة، ولكنه حديث ضعيف.

وكان خطيباً للناس رضي الله عنه وأرضاه في المواسم، ومع ذلك كان من أسد الناس رأياً وأصوبهم، وكانوا يستشيرونه فيأتي رأيه المحقق بإذن الله؛ لكثرة إيمانه ولسداده مع الله.

قال النووي في تهذيبه: الصديق أحد الصحابة الذين حفظوا القرآن كله، وقيل: إنه جمع القرآن أربعة من الأنصار، لكن يقولون: أبو بكر حفظ القرآن كله، وهذه مسألة مختلف فيها، ولكن سواءً حفظ القرآن أم لم يحفظ القرآن فهو قرآن يمشي على الأرض، وسواء كان القرآن في صدره فهو يعبر عن القرآن كل القرآن، وسواء كان في ذهنه حروف القرآن فحدود القرآن قام بها؛ لأنه من الناس من يحفظ القرآن ولكن لا يحكم حرفاً منه!

زعيم من زعماء العالم الإسلامي، يقول: إنه يحفظ القرآن مثل الفاتحة، لكنه لا يحكم من القرآن حرفاً واحداً أبداً! فما فائدة الحفظ؟!

المستشرق جولد زيهر كان يحفظ القرآن كله، وهو عليه عمى ولعنة، ولا فائدة في أن يردد القرآن فقط؛ إنما الفائدة أن يعمل به في الأرض.

فضائل أبي بكر الصديق

أما فضله بين الصحابة، فأجمع أهل السنة أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة ثم باقي أهل بدر ثم باقي أهل أحد ثم باقي أهل بيعة الرضوان ثم باقي الصحابة، هكذا حكى الإجماع عليه أبو منصور البغدادي.

روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما قال: (كنا نخير بين الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان) وزاد الطبراني في الكبير: (فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره علينا) يقرنا عليه.

وعند أحمد والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من حديث أنس: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر) فهو كان رحيماً، رقيق القلب، عطوفاً على الأيتام والمساكين، وسبق معنا أن ابن القيم أشار إلى قصة أن عمر خرج وراء أبي بكر فوجده عند عجوز عمياء حسيرة يصنع لها الطعام.

تصور خليفة يذهب إلى امرأة مسكينة ضعيفة إلى ضواحي المدينة، ويترك أشغاله، ويترك أموره، ويأتي إليها فيكنس البيت، وكان بإمكانه أن يرسل خادماً، أو يستأجر إنساناً، لكن لأنه يعلم أنه سوف يلقى الله يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيكنس البيت، ويصنع الطعام، ويقدم الأكل، فيقول عمر عندما دخل: من هذا الشيخ الذي يأتيك؟

قالت: لا أعرفه، لم يقل أنا أبو بكر الصديق، اذكروني للناس حتى يكون هناك دعاية! قالت: ما عرفته؟

قالت: فجلس عمر يبكي، ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك، يقول: من يستطيع أن يواصل على هذه المسيرة لك؟

ورويت هذه القصة أيضاً لـعمر.

ما نزل فيه من القرآن

وأما ما نزل في مدحه من القرآن، فإنه كثير كثير، واسمع إلى الآيات المباركات.

قال سبحانه: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40] أجمع المسلمون على أن الصاحب المذكور هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40] قال: [[على أبي بكر، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإن السكينة لم تزل عليه]] أي: لم تزل عليه من قبل، لكن أنزلها الله -وهذا رأي ابن عباس - على أبي بكر لأنه خاص.

فرق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، الرسول صلى الله عليه وسلم يتصل بالله صباح مساء، والملائكة تنزل عليه، وأبو بكر ليس هناك وحي ينزل عليه، فأنزل الله السكينة عليه وثبته؛ لأنه موطن يخيف.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواقٍ من فضة، فأعتقه لله، فأنزل الله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1] إلى قوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4] سعي أبي بكر وأمية وأبي، سعي أبي بكر إلى الجنة، وسعي أمية وأبي إلى النار، سعي هذا في رفع لا إله إلا الله، وسعي أولئك في رفع (لا إله والحياة مادة) والضلالة والزندقة والانحراف.

وفيه نزلت: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى [الليل:5] كما ذكر ابن جرير في التفسير؛ نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل:17] ذكر ابن أبي حاتم والطبراني أنها نزلت في أبي بكر.

وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى [الليل:19] نزلت في أبي بكر الذي أنفق أمواله وما كان ينتظر من أحد شكراً ولا ثواباً، كان يعطي أمواله.

وكان أبو بكر كما ذكر عنه، إذا أظلم الليل ونام الناس قام بالطعام فحمله وأعطاه، وكانت تسأله العجوز من أنت؟

فيقول: رجل من المسلمين، ولا يهمه أن تعرفه العجوز فالله يعرفه.

قتل شهداء في قندهار في عهد عمر وقندهار في أفغانستان، قال عمر: من القتلى؟

قالوا: فلان وفلان وفلان، وأناس ما عرفناهم يا أمير المؤمنين، فبكى عمر وقال: ولكن الله يعرفهم.

بـقندهار ومن تكتب منيته>>>>>بـقندهار يرجم دونه الخبر

كان ابن المبارك إذا قاتل في سبيل الله في المعركة غطى وجهه ما تظهر إلا عيناه، فيقال له: مالك؟

قال: ليعرفني الله فقط، الدعايات محبطات، أن تبذل عملاً ثم تدعو الناس وتقول انظروا ماذا فعلت وماذا بذلت، التعداد هذا إحباط المسيرة، ولذلك لا يجعل الله لمن ادعى عملاً، وشهر عمله قبولاً في الأرض.

وأخرج البزار وابن عساكر قال علي: [[والذي جاء بالحق: محمدٌ عليه الصلاة والسلام -كتبها البزار هكذا، ولكن الصحيح: والذي جاء بالصدق وصدق به- وصدق به: أبو بكر الصديق]] قال ابن عساكر: هكذا الرواية بالحق، ولعلها قراءة علي بن أبي طالب أي لعل قراءته أن يقرأ: والذي جاء بالحق وصدق به، والقراءة المشهورة وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33].

وعند الحاكم عن ابن عباس، قال: [[نزل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] في أبي بكر وعمر]] أي شاور أبا بكر وعمر، والصحيح أنها عامة، لكن المهم أنه يدخل دخولاً أولياً أبو بكر وعمر.

وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التحريم:4] المقصود به: أبو بكر وعمر.

وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عند عبد بن حميد عن مجاهد إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56] قال أبو بكر: يا رسول الله! ما أنزل الله عليك خيراً إلا أشركنا فيه. فنزلت هذه الآية هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب:43].

وأخرج ابن عساكر في قوله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] نزلت في أبي بكر وعمر، والصحيح أنها عامة، وأول من يدخل فيها أبو بكر وعمر، إلى آخر ذلك من الأفضال.

من كلمات أبي بكر الدالة على شدة خوفه من ربه عز وجل

وننتقل لنعيش مع أبي بكر في لحظات مؤنسة في حياته، وإلا فحياته كثيرة كثيرة، وطويلة طويلة.

عن معاذ بن جبل عند أحمد والحاكم قال: [[دخل أبو بكر حائطاً وإذا بدبسيٍّ في ظل شجرة -طائر جميل- فتنفس الصعداء، ثم قال: طوبى لك يا طير! تأكل من الشجر وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك]] يقول: ليتني مثلك طائر! هذا أبو بكر، والله على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة، فكيف بنا؟!

وعند ابن عساكر عن الأصمعي قال: كان أبو بكر إذا مدح قال: [[اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون]].

وعن مجاهد قال: [[كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وقال: وحدثت أن أبا بكر كان كذلك، وكان يقرأ سورة يوسف فإذا بلغ قوله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] اندفع في البكاء، حتى لا يسمع لقراءته صوت من كثرة بكائه، وكثرة نشجيه]].

وقال أبو بكر فيما أُخرج عن قتادة يقول: [[وددت أنني خضرة، أو نبتة تأكلني الدواب]].

وكان يجلس كثيراً في حوائط المدينة، ويقول: [[يا ليت أمي لم تلدني]].

وكان كثير الزيارة للمقابر ليجدد عهده بالله عز وجل.

وكان يلبس ما خشن، ويعمل بنفسه رضي الله عنه وأرضاه، وكان مضيافاً للناس؛ يمتلئ بيته كل ليلة من الضيوف، فكان ينفق عليهم ويعطيهم.

يقول: [[حضرت الوفاة ابناً لـأبي بكر الصديق، فجعل الفتى يلحظ إلى وسادة، فلما توفي قالوا لـأبي بكر: لحظنا ابنك يلحظ إلى وسادة، فدفعوه عن الوسادة فوجدوا تحتها خمسة دنانير أو ستة، فضرب أبو بكر بيده على الأخرى يتوجع، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! يا فلان! ما أحسب جلدك يتسع لهذا]] طفل لـأبي بكر مات فكان الطفل ينظر إلى الوسادة، عنده دراهم كان يدسها، فلما مات لحظ أبو بكر، فرفع الوسادة فوجد خمسة دنانير، فيقول: ما أحسب جلدك يتسع لهذا، يقول: أخاف أن تحاسب، من شدة خوف أبي بكر، يقول: من أين أدخلتها؟ لأنه كان رضي الله عنه هو وعمر يحاسبون بيوتهم.

كانت امرأة عمر كما سلف، يأتيها دقيق، كان عمر يوزع الدقيق في كل صباح، لكل بيت وجبة من الدقيق للبيوت، فكانت امرأة عمر تأخذ قليلاً من الدقيق وتحجزه من حصتها، وهي ليست مخطئة وعادلة، فجمعته وجمعته، ولما جمعته أتت بجارية من جواري المدينة، وقالت: اذهبي إلى عمر في بيت المال، ولا تخبريه أن الدقيق من عندي، وقولي له: يعطيك بدل هذا الدقيق حلوى -تريد أن تأكل حلوى هي- فذهبت الجارية بالدقيق في كيس، جمعته من أشهر، فطرقت الباب على أمير المؤمنين وهو جالس، قال: [[من أين هذا؟

قالت: من المدينة. قال: جارية من أنت؟

قالت: من آل فلان. قال: من أرسلك بالدقيق؟

قالت: امرأة. قال: أفي الناس من يخزن دقيقاً، والناس يموتون جوعاً؟

-عام الرمادة- قالت: يا أمير المؤمنين امرأة. قال: من هذه المرأة؟

قالت: اعفني. قال: لا أعفيك. قالت: عاتكة بنت زيد امرأتك فأعاده إلى بيت المال، ونقص من حصتها دائماً بمقدار ما نقصتها]] وحافظ إبراهيم يقول:

لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها>>>>>من أين لي ثمن الحلوى فأشريها

قل للملوك تنحوا عن مناصبكم>>>>>فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

أي: يأخذها في ساعة، ويعطيها في ساعة، هذا هو الذي فتح الدنيا، ومع ذلك هكذا نفقته رضي الله عنه وأرضاه.

وكان أبو بكر يتمثل بهذا البيت ويبكي، يقول:

لا تزال تنعى ميتاً حتى تكونه>>>>>قد يرجو الفتى الرجاء يموت دونه

يقول: أنت كل يوم تبكي على الأموات، لكنك ما تبكي على نفسك.

وكان فصيحاً، ويتمثل بالأشعار كثيراً، لكن هذا البيت يكرره دائماً:

يقول: قد يرجو الفتى آمالاً وطموحات وتسمى المستقبل، لكنه كفنت أكفانه وهو لا يدري، ومع الصباح: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].

وكان رضي الله عنه كثير النوافل، وكان يقوم من الليل فيبكي ويبكي ثم يرتاح قليلاً، ثم يقوم يقرأ ويبكي ويبكي رضي الله عنه وأرضاه.

وذكره أهل العلم منهم ابن سعد، وأطنب في ذكره، ونحتسبه على الله عز وجل في هذه الجلسة أن تكون عبادة لنا بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في ذكر أبي بكر.

وفاة أبي بكر واستخلافه لعمر

هذه داهية الدواهي، آخر يوم في حياته، أخرج سيف والحاكم عن ابن عمر: [[كان سبب موت أبي بكر، وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم]] كمد فما زال جسمه يضوي ويضوي حتى مات -يضوي: أي ينقص- لما مات الرسول عليه الصلاة والسلام أتاه هَمَّ وحزن، فكان يذوب ويذوب كما تذوب الشحمة ثم مات.

وكان سبب موته أنه أتته حمى قبل أن يموت بأيام، فلما أتى يوم الاثنين، قال: [[أي يوم هذا؟

قالوا: يوم الاثنين في الصباح. قال: أرجو الله أن أموت في هذا اليوم، متى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالوا: مات يوم الإثنين. قال: أموت إن شاء الله يوم الإثنين]] فمات في آخر النهار، وهذه حكمة من الله، كان وفاته يوم الإثنين، ولكن ما مات إلا بعد ما أصلح الأمة، وسوف تسمعون أخباره.

وأخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت لـأبي بكر -نوع من الطعام- فقال الحارث لـأبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله، والله إن فيها لسم سنة -أي مسمومة لسم سنة- وأنا وأنت نموت في يوم واحد، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.

ودخلوا على أبي بكر الصديق، كما روى ابن سعد وابن أبي الدنيا، قالوا: يا خليفة رسول الله! ألا ندعو لك طبيباً ينظر إليك؟

قال: قد نظر إليَّ الطبيب. قالوا: ما قال لك؟

قال: إني فَعَّالٌ لِمَا أرِيدُ، أي: وصل الموت، يقول أحد شعراء العرب:

مات المداوي والمداوى والذي>>>>>صنع الدواء وباعه ومن اشترى

وهذا البيت ينسب إلى أبي العتاهية، وقيل لـابن الرومي.

نزل به الموت، يقولون: نحن ندعو لك طبيب، نبحث لك عن طبيب. قال: هيهات! يقول الطبيب: إني فعال لما أريد.

ودخلوا على ابن تيمية، وهو في مرض الموت رضي الله عنه، وكان يتقلب من ألمٍ ألمَّ به، والله يشدد على الصالحين في سكرات الموت حتى يمحص ذنوبهم، واستدل على ذلك بحديث رواه الترمذي: (المؤمن يموت بعرق الجبين).

فقالوا لـابن تيمية: ماذا تشتكي؟ قال:

تموت النفوس بأوصابها>>>>>ولم يدرِ عوادها ما بها

وما أنصفت مهجة تشتكي>>>>>أذاها إلى غير أحبابها

هذه من أجمل ما قيل.

ودخلوا على أحد الصالحين، قالوا: كيف بك؟ أتريد الطبيب؟ قال: تريدون أن تعيدوني إلى الشباب!! وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ [يس:68] ثم قال:

أترجو أن تكون وأنت شيخ>>>>>كما قد كنت في عصر الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب>>>>>بلي كالجديد من الثيابِ

ودخل عليه بعض الصحابة، فقال له قائل: [[ما أنت قائلٌ لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غلظته، وشدته، وحزمه، وقوته، فقال أبو بكر: بالله تخوفني؟

أقول لله عز وجل إذا سألني: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك]] أي: من المسلمين، أخبرهم أني استخلفت عليهم خيرهم.

وكتب له، وكان الكاتب عثمان، وكان أبو بكر يملي على عثمان، وكان أبو بكر على مخدة وكان مريضاً، وعثمان كاتب الوصية، وصية المسلمين، وكان عمر يبكي في بيته، لكن كان عمر يزور أبا بكر كثيراً، وفي الأخير خرج يبكي ذاك اليوم لأنه عرف أن أبا بكر سيموت، فتأخر علَّ الله أن يصرف عنه الخلافة لأحد من الناس؛ لأنها مشكلة، كارثة، كيف يتولى عمر الأمة.

وفي أثنائها قال أبو بكر لـعثمان اكتب:

[[بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها إلى الله، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها -وكان عثمان يكتب الرسالة ودموعه تسقط على القرطاس، هذا عثمان بن عفان الخليفة الثالث- حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً -يقول: والله إني اجتهدت- وإني اجتهدت في هذا فإن عدل في الحكم فذلك ظني به وعلمي فيه -يقول: والله إني أحسنت الظن به، إن عدل بعدي فعسى الله أن يكون، وهذا ظني به- وإن بدل فإن لكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227] -يقول: انتبه يا عمر - والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته]].

ثم أمر بالكتاب فختم، فقام به عثمان، وتباكى الصحابة وعثمان يسلم الخطاب لـعمر، ومعه خطاب آخر يقول: [[يا عمر اتق الله لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]] فوصل الخطاب، ففتحه عمر، وبكى وأبكى من معه من أهل البيت، ثم جلس، فقال: ماذا أفعل؟

قالوا: انظر ماذا فعل أبو بكر، فقدموا له بقية التركة، قال ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود قال: ما قدموا له إلا شيئاً يسيراً فبكى عمر وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] رضي الله عن أبي بكر.

أوليات أبي بكر الصديق

منها: أنه أول من أسلم رضي الله عنه.

وأول من جمع القرآن، وأول من سماه مصحفاً.

وأخرج أحمد عن أبي بكر بن أبي مليكة قال: قيل لـأبي بكر، يا خليفة الله -أول ما نادوه بالخلافة لم يكن معه اسم، ماذا يقولون له؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أسماء لمن بعده؟ قالوا: يا خليفة الله، قال: [[أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا راضٍ بهذا]] أي يقول: سموني خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأول من تسمى بأمير المؤمنين: عمر، إنما أبو بكر كان يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أنه أول من ولي الخلافة وأبوه حي.

وأول خليفة فرض له رعيته العطاء؛ لما أراد العطاء مع المسلمين، وزع العطاء على المسلمين إلا نفسه تركها، فقام وجمعهم، وقال: [[أيها الناس: إني شغلت بالخلافة عن الكسب، وكنت احترف، وكنت أعمل لأهلي، وأكد على أهلي، فافرضوا لي من بيت المال فرضاً؟

قالوا: لك ألفا درهم. فقام أبو عبيدة قال: لا. أبو بكر رجل مضياف أرى أن نفرض له ألفين وخمسمائة درهم في السنة، فرضي بها رضي الله عنه، وقالوا: لك حلتان، حلة في الشتاء وحلة في الصيف، أي: إذا أتى الشتاء كسوناك من بيت المال ثوب صوف، وإذا أتى الصيف كسوناك ثوباً أبيض تتبرد فيه. قال: رضيت بهذا، فرضي بهذا رضي الله عنه، وفرض له هذا]].

قال: لما بويع أبو بكر أصبح وعلى ساعده أبراد ثياب يذهب بها إلى السوق، فلقيه عمر قال: أين تريد؟ قال: السوق، ترتاح أنت وفلان وفلان وتتركون أطفالي جياعاً، يقول: شغلتموني بالخلافة، أكتب، وأجهز الجيوش، وأدير الدولة، وأطفالي يموتون، أول النهار أشتغل في البز أبيع وأشتري في القماش، وفي آخر النهار أصرف أمور الدولة، قال عمر: لا، فجمع الصحابة وقال: نفرغك للخلافة لكن بشرط أن نعطيك راتباً تقنع به، فرضي الله عنه وأرضاه.

وهو أول من جمع القرآن، قال زيد بن ثابت: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة -قتل القراء في اليمامة - وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر في أهل اليمامة، وإني أخشى أن يذهب القراء، ويذهب القرآن معهم، فاجمع القرآن فإنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تجمع القرآن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، قال زيد بن ثابت: [[والله لو كلفوني بنقل جبل من مكانه لكان أسهل عليَّ]] فبدأ يتتبعه ويجمعه، وكان يشرف على هذا المشروع أبو بكر بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.

وكان أبو بكر رضي الله عنه يسأل، ويمر على كثير من بيوت الأنصار، ويسأل عن معاريف الرسول صلى الله عليه وسلم فيصلهم، معاريف الرسول صلى الله عليه وسلم الذين كان رسول الله يحسن إليهم، كان يصلهم بخلافته، وكان إذا قسم شيئاً بدأ بزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فأعطاهن، ثم بدأ بالمسلمين، وكانت تستوقفه العجوز رضي الله عنه وأرضاه، فيقف لها طويلاً يحدثها حتى تنتهي.

بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعده

أما مبايعته فتعرفون أنه لما اختلف الناس بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فضل أبي بكر في سكرات الموت، لما قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) واجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، واختلفوا من يولوا عليهم، أتى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فتكلم عمر بكلام لم يعجب الأنصار، كان عمر رضي الله عنه قوياً، وهذه المجالس التي فيها جدل وفيها محاورة وشورى تحتاج إلى رجل لين فصيح، يحاول أن ينظم الكلام، قال عمر: فزورت كلاماً في صدري، فمنعني أبو بكر أن أتكلم، وأسكتني، فتكلم بكلام فوالله ما ترك في صدري شيئاً إلا أتى بأحسن منه وما تهيأ أبو بكر، وقد كان الأنصار يريدون الخلافة لأنهم في الدار، أو يريدون أن يكون منهم خليفة، وعندهم اقتراحات، يكون الخليفة منهم، والاقتراح الثاني: يكون من المهاجرين خليفة ومن الأنصار خليفة.

قال أبو بكر: أيها الأنصار: واسيتم وكفيتم وأطعمتم وسقيتم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء، والله يا معشر الأنصار ما مثلكم ومثلنا إلا كما قال طفيل الغنوي يمدح بني جعفر:

جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت>>>>>بنا نعلنا في الشارفين فزلتِ

هم خلطونا بالنفوس وألجئوا>>>>>إلى غرفاتٍ أدفأت وأظلتِ

أبوا أن يملونا ولو أن أمنا>>>>>تلاقي الذي يلقون منا لملتِ

فلما سمعوا هذا الكلام العجيب، والسحر الحلال، قاموا فبايعوه فبايعه الناس، ثم عاد إلى المسجد فبايعه الناس البيعة العامة، وتولى أمر الأمة، ومكث سنتين وستة أشهر، وكان في خلالها مريضاً، مجهداً، قليل النوم حتى توفاه الله، جمعنا الله به في دار الكرامة.

وكان رضي الله عنه وأرضاه إذا أراد الخروج إلى الصلاة مرَّ ببيوت جيرانه، وببيوت أبنائه وأخرجهم معه إلى الصلاة.

طرائف من حياة الصديق

ومن الطرائف في حياته: أنه مر بابنه فأخرجه، فتأخر ابنه فعاد إليه يصيح عليه عند الباب، وكان عند أبي بكر حدة، ويقول: أخرته فلانة، يعني: زوجته، يقول: ما خرج معنا يدرك تكبيرة الإحرام أخرته فلانة.

ومن الطرائف في حياته التي رواها البخاري، أن ضيوفاً أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر يتصدى للضيافة في أول الناس هو وسعد بن عبادة، فأكثر ما ينطلق من الضيوف مع أبي بكر وسعد لأنهما أكرم الناس وعندهم تجارة وخير، فكان أبو بكر من المهاجرين، وكان سعد بن عبادة من الأنصار، قال: كان بعض الصحابة يضيف اثنين وثلاثة على حسب ما عنده من الطعام، وكان أبو بكر يأخذ الثمانين وحول ذلك، فانطلق بهم إلى سرحة معه، فقال لـبنت أبي فراص -أي زوجته- اصنعي لهؤلاء طعاماً، وصنعوا طعاماً، وذهب هو وقال للناس أن يتعشوا ويأكلوا، فقدموا الطعام، وذهب هو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده ضيوف، لكن يريد أبو بكر أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، قريباً منه حيث تأتيه وفود العرب يسمع ماذا يقولون؟ وماذا يقال له؟ ولا يرتاح أن يكون في بيته ويفارق الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك ابنه في البيت، ليضيف الناس، فصنعوا الطعام، وأنزلوا الصحاف للناس ليأكلوا، وقال الضيوف من العرب: والله لا نأكل حتى يأتي أبو بكر، فبرد العشاء عليهم، وأتى أبو بكر بعدما نام الناس، قال: أين الضيوف؟ نام بعضهم وبعضهم لم ينم، قال: قدمنا لهم الطعام، ولكن ما أكلوا، واختفى ابنه -وهذا في البخاري - اختفى وراء الستار خوفاً من أبي بكر.

قال: يا غنثر! يقول لابنه، وسبَّ، وجدَّع، لكنه يتأثر، كلوا ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فأنزل الضيوف يأكلون، قالوا: والله ما رفع لقمة إلا أتى بدلها لقمة، قال: فلما أكل هؤلاء الثمانون ما نقص من الصحاف شيء، فوزعها في أهل المدينة.

ونص على ذلك النووي في رياض الصالحين في باب كرامات الأولياء رضي الله عنه وأرضاه.

وكان شديد الحدة، دخل مرعى الصدقة الذي تقسم فيه إبل الصدقة ومعه خطام، قال لـعمر: ادخل معي ولا يدخل أحد. فوقف الناس الأعراب، والمسلمون، والفقراء خارج السور، يريدون أن يأخذوا شيئاً من الإبل، فدخل وقال: للحارس لا يدخل أحد، فدخل أعرابي مع دخول عمر. فنظر إليه أبو بكر، فأخذ الخطام فضرب الأعرابي على رأسه بالخطام، وقال: اخرج. ثم التفت فتأثر، وتذكر لقاء الله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] قال: تعال يا أخا العرب تعال، اقتص مني خذ الخطام، قال عمر: والله لا تكون، قال: ولم؟

قال: كلما أدبنا الرعية ضربونا، أي: تريد تسنها سنة، يعني: كلما أدبت إنساناً مشاغباً قام يضربني، لأنه لو فعلها أبو بكر كان عمر يفعل ذلك. قال: ماذا ترى؟

قال: أعطه جملاً من الجمال. قال: صدقت، فأعطاه جملاً بالخطام، وقال: خذ، والأعرابي يريد الجمل ولو بعشرين ضربة، فأخذها وخرج وقد عفا عن أبي بكر، وقال: غفر الله لك! وهذا الذي يريد رضي الله عنه وأرضاه.

ومن الطرائف في حياته: أنه كتب صكوكاً لأناس يتألفهم على الناس؛ والتألف في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن من الأراضي العامة يتألفهم، فكتب لـعيينة بن حصن أرضاً قريبة من المدينة يتألفه وادٍ فيه ماء، قال: فأتى عيينة بن حصن إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: أنجز لي ما وعدتني من الأرض، فكتب له رسالة وقال: مر بـعمر يرى الرسالة؛ لأنه مستشاره، فمر إلى عمر وهو يطين حائطاً له، فقال: أرني الرسالة؟

فأراه فقطعها، ثم رماها، فقال: كنا نتألف الناس في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ونحن ضعفة، فأما الآن فنحن أقوياء، إما أسلمت وإلا هذا السيف. قال: أنت الخليفة أم أبو بكر؟

قال: أنا هو غير أنه إياي! وهذا من أجمل ما قيل في كلام العرب، يقول: أنت الخليفة لماذا تشق المرسوم، قال: أنا وهو شيء واحد.

فأقره أبو بكر، وتبسم لما سمع خبره، لأنه يفوضه في كثير من الأمور، ومقصود عمر أنه لا تتألف الناس والإسلام قوي كما في عهد الضعف، أما في عهد القوة فمن يدخل فبها ونعمت! ومن يخرج يقتل بالسيف، بعدما وضح الدين، فألغى أبو بكر الإقطاعيات بسبب كلام عمر رضي الله عنه وأرضاه.

وكان أبو بكر إذا تحدث وقف عمر كالحارس على ظهره، أي: كالجندي، يريد أبو بكر أن يتكلم للناس، يقف رضي الله عنه وأرضاه من باب التشريف لـأبي بكر والتقديم له يقف حتى ينتهي من الكلام، ويسل سيفه بين يديه.

وقال الأحنف بن قيس: [[دخلت المدينة فإذا الصحابة مجتمعون، وإذا شيخان أحدهما يقبل رأس الآخر، قلت: من هذان الشيخان؟ قالوا: أبو بكر وعمر]] أي: اختلفوا في مسألة ثم تراضوا، فقام هذا يقبل رأس هذا، وذلك لأن عمر قال لـأبي بكر: لا تقاتل من منع الزكاة ولكن ادعهم، فقام أبو بكر غضباً من كلام عمر، فأخذ بلحية عمر وكانت كثة، وهز رأسه، وقال: جبار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟!

يقول: كنت تخوف الناس في الجاهلية، ولما أتيت في الإسلام أصبحت جباناً، فدعا له بالبركة ثم عفا عنه، ثم قام معه، وكان من أول من قاتل معه في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

انتهت محاضرة "أبو بكر في عصر الذرة" وأسأل الله أن يجمعنا به، وأخباره طويلة، ومن أراد الاستزادة فليراجع كتب التاريخ، وليعش مع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وليتقدم بين يديه، وليسمع أخباره؛ فإنها مضرجة في الصحيح، بل في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند مسلم قال: (من أصبح منك اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من زار مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من شيع جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من تصدق بصدقة اليوم؟ قال أبو بكر: أنا، وسكت الناس، قال: ما اجتمعت هذه الخصال في امرئ في يوم واحد إلا دخل الجنة) وهو من أهل الجنة نشهد الله على ذلك، ونشهد الله على محبته فإنه كان من أكبر الأسباب والمتسببين من الناس في نشر هذا الدين، وفي اجتماعنا في هذا المسجد، وفي نزول هذا الهدى، وفي انتصار هذا الدين، وهذا المنهج الرباني، وفي بقائه في الأرض، هو من أكبر المناصرين، فرضي الله عنه وأرضاه.

الأسئلة

الوصول إلى درجة أبي بكر

السؤال: أريد أن أصل إلى درجة أبي بكر، فماذا أفعل؟

الجواب: لن تصل ولا تتعب نفسك أبداً، يقول الشاعر:

لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم>>>>>ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

ولو اجتمعنا كلنا ما وصلنا إلى جزئية من جزئيات أبي بكر قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60]

عذرت البزل إن هي قارعتني>>>>>فما بالي وبال ابن اللبونِ

وابن البونِ إذا ما لز في قرنٍ>>>>>لم يستطع صولة البزل القناعيسِ

لشتان ما بين اليزيدين في الندى: هذان يزيدان كانا أميرين أحدهما في مصر والآخر في العراق، فأحدهما كان لصاً ومرتشياً يسرق أموال الناس ويبني بها البيوت، ويزيد بن حاتم كان ينفق على الناس وعلى الفقراء ولا يمسك شيئاً، فأتى شاعر عند يزيد القيسي فطلب منه فمنعه، ويقولون: إنه احتال عليه حتى أخذ ما عنده من رحل، بعض الناس إذا أتيت ومعك حذاء جميل أخذها، ومعك سيارة جيدة سلبها، ولكن الآخر أعطاه، فقال في شعره:

لشتان ما بين اليزيدين في الندى>>>>>يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم

فهمُّ الفتى الأزدي إتلاف ماله>>>>>وهمُّ الفتى القيسي جمع الدراهمِ

ولا يحسب التمتام أني هجوته>>>>>ولكنني فضلتُ أهل المكارمِ

والتمتام الذي لا يعرف يتكلم.

فعلى كل حال لا نستطيع أن نصل إلى درجة أبي بكر، لكنك بحبك تحشر معه، وبعملك على قدر مستواك، وبجهدك، لأن أبا بكر وفق لأمور:

منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم معه.

ومنها: أنه عاش في زمن الوحي.

ومنها: أن الله أعطاه الإخلاص والإيمان.

ومنها: أنه بذل وجاهد.

ولكنا نطلب من فضيلتك -أيها السائل- أن تصلي الفجر معنا في الجماعة وكثر الله خيرك، وحفظك، وألا تستمع الغناء، ولا تطيل ثوبك، ولا تحلق لحيتك، ولا تشرب الدخان، وإن شاء الله بإذن الله تنجو يوم القيامة.

أما أبو بكر، فالعالم الإسلامي عدده مليار اليوم، لو جمعت المليار وصغتهم في رجل واحد ما صاروا مثل أبي بكر، ولو كان عندنا أبو بكر هنا كنا انتصرنا على العالم بإذن الله، بفضل الله عز وجل، لكن ليس عندنا أبو بكر.

يقول محمد إقبال: مخ مائتي حمار لا تساوي مخ رجل، وليس أقصد الناس المستمعين فإنهم أبطال وأسود، ولكني أقصد الأوباش المتخلفين لو جمعت مخوخهم وأدمغتهم ما بلغوا مثل دماغ أبي بكر أبداً.

أبو بكر أتى بتربية من الرسول عليه الصلاة والسلام واجتهد.

سيرة أبي بكر الصديق حقائق وليست مبالغات

السؤال: أنا أحب الواقعية ولا أحب المبالغة في الأمور، ولا أتأثر بالشيء الذي أرى فيه غرابة، ولكني رقيق القلب عند الموعظة كثيراً كثيراً، وأحاول قيام الليل، وأوبخ نفسي كثيراً؟

الجواب: أما قولك في المبالغة إن شاء الله فليس هنا مبالغة، بل نحن ما زلنا في أقل الأخبار عن أبي بكر، وكلها ما صح عنه، إن كان تقصد هذا، إن كان تعرف بنا.

فما أتينا إلا بالحق وليست مبالغة أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15] البخاري يروي ومسلم والعالم كلهم وأنتم تقولون مبالغة.

مايكل هارف يثبت سيرة أبي بكر وسيرة عمر وكريسي موريسون وفلان وفلان، والغربيون ألفوا عنه كتباً، وأنتم نقول: إنها مبالغة، ما بالغنا لأننا نعيش في عصر إذا قارنت ما فيه بذاك قلت: مبالغة، وليس فيه من المبالغة شيء.

المفاضلة بين الصحابة في الحب

السؤال: أحب الصحابة كلهم، لكن أحب أبا بكر أكثر؟

الجواب: هذا هو السنة، ألا تساوي بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهكذا دواليك.

معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكن صويحبات يوسف

السؤال: ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنكن صويحبات يوسف

الجواب: أي: أن النساء هن مثل اللواتي اجتمعن في بيت امرأة العزيز، فقطعن أيديهن ليمكرن به وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] فمن باب أن الرسول يسبهن سب تأديب.

قصيدة في أبي بكر الصديق

السؤال: هل تسمعنا أبيات في مدح الصديق رضي الله عنه؟

الجواب: سوف يكون لي في ذلك قصيدة، ولكن الآن قصيدة حسان، وصاحب الغار:

إني سوف أذكره وطلحة بن عبيد الله ذا الجود

يقول حسان:

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة>>>>>فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

التالي الثاني المحمود سيرته>>>>>وأول الناس طراً صدق الرسلا

أحوال الأمة

السؤال: كان الناس يقولون كلمة الحق، وكان العلماء ينصحون، ويوجهون، وكانت الأمة تستمع كلمة الحق، وكان العصاة يتأثرون، فما للأمة أصبحت كما ترى؟

الجواب: يقول الأصمعي: مررت بأعرابي يقول:

يا رب إني جالس كما ترى>>>>>وامرأتي جالسة كما ترى

فما ترى يا ربنا فيما ترى

أي هو فقير فيقول: أنا فقير والمرأة فقيرة، وأنت برأيك؟!

أحد الناس الحمقى ذهب إلى غار حراء، فكان يدعو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان وراءه حجر صغير فسقط، قال: لا تدفعنا يا رسول الله! أتينا نطلب الله!

أيها الإخوة الكرام: إلى لقاءٍ آخر نترككم، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أبو بكر في عصر الذرة للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net