إسلام ويب

أي عمل لابد بعده من جائزة، ولكل مجتهد نصيب، فالذي يجتهد في أمور الدنيا ينال، والذي يجتهد في أمور الآخرة ينال، والنبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائز العظام التي لا توزن بما في هذه المعمورة، فمن أجل أن تعرف هذه الجوائز والأعمال التي تنال بها هذه الجوائز؛ تصفح هذه المادة وستعرف الكثير؛ وستعرف بالإضافة إلى ما سبق لطائف من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حياة أبي بكر وعمر، وابن المبارك.

النبي صلى الله عليه وسلم يعرض الجوائز

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا الدرس: "الجوائز السخية".

يقول عليه الصلاة والسلام: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم وغيره.

هذه هي الجوائز السخية التي يعلنها عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، إذا جعل الناس جوائز من الذهب والفضة، ومن السيارات والقصور، ومن الدور والبساتين، جعل عليه الصلاة والسلام جوائزه أغلى وأعلى وأجلَّ، أتى الناس إليه عليه الصلاة والسلام يريدون الدنيا وحطامها فأعطاهم الدنيا والآخرة، أتى الناس يطلبون بيوتاً ومزارع فأعطاهم جنة عرضها السموات والأرض.

وقف خطيباً في الناس، يقول: (أيها الناس! إني أعطي بعضكم لما جعل الله في قلوبهم من الهلع، وإني لأدع قوماً لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان منهم عمرو بن تغلب: قال عمرو بن تغلب كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها) وهذا منطق المؤمن أن يقف أمام مغريات الدنيا، ويعلم أنه مهما جمع، ومهما حصل فيها فهو قليل في جانب ما عند الله مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] يقول الزبيري:

خذوا كل دنياكم واتركوا>>>>>فؤادي حراً طليقاً غريبا

فإني أعظمكم ثروة >>>>>وإن خلتموني وحيداً سليبا

وقد شاهد الإنسان وهو يقرأ التاريخ؛ السلاطين، والأغنياء، والأثرياء، وأرباب الدنيا، وهم يمرون كمر السحاب صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] جمعوا وذهبوا.

في رحلة ابن بطوطة قال: " وصلت مكاناً وراء نهر سيحون وجيحون فوقفت في تربة هناك، فقال لي أحد الناس: في هذه التربة رأس ألف ملك " في هذه التربة مدفون ألف ملك من ملوك الدنيا انظر إليهم، فيقول الشاعر لما وقف على التربة:

وسلاطينهم سل الطين عنهم>>>>>والرءوس العظام صارت عظاما

وكان علي بن أبي طالب في الكوفة، فدعا بإناء يشرب فيه من ماء، فأتي له بإناء من خزف من طين فخار الذي خلق منه الإنسان، فأتي بالإناء فبكى علي، قالوا: مالك؟ قال: [[الله يا طين، كم فيك من خدٍ أسيل، ومن طرف كحيل]] المعنى: كم وضع فيك من الأشلاء، وربما مزجت أنت والطين الذي معك من المقبرة، وكان فيه بقية أموات، يعبر عن ذلك أبو العلاء المعري بقصيدته الرائعة، السائرة، وهو يقول:

غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي>>>>>نوح باكٍ ولا ترنم شادي

وسواءٌ صوت الشجي إذا قيس>>>>>بصوت النعي في كل نادي

خفف الوطء ما أظن أديم >>>>>الأرض إلا من هذه الأجساد

صاح هذه قبورنا تملأ الرحب >>>>>فأين القبور من عهد عاد

وهذا منطق سديد، ولو أن صاحب هذه الأبيات ليس برشيد، لكن قد يقول الشيطان كلمة يصدق فيها أحياناً.

أما حبيبنا عليه الصلاة والسلام فإنه يتكلم لنا بأبلغ ما يتكلم به الإنسان للناس، ويحيي من هذه الكلمات أمة ما كان لها أن تعيش إلا بهذه الكلمات: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] والأمم لكل أمة مثلٌ أعلى، ولكل أمة وشدان وجدان؛ يعني: يشدها فمثلاً: الغربيون تشدهم الموسيقى، فالموسيقى معهم حتى في صفوف القتال، فمثلاً.. الصينيون يفخرون بالرقص، الشرقيون يحبون الترانيم، فهم دائماً إذا اجتمعوا ترنموا في مجالسهم، وأهل إفريقيا يحبون الألوان الباهتة والمزركشة، أما هذه الأمة فأحياها عليه الصلاة والسلام بالقرآن، حركها فتحركت وقامت مهللة مكبرة، ومع القرآن كلامه عليه الصلاة والسلام، فإن كلامه يؤثر ويصل إلى القلوب وينفع الله به.

سبب قوله: (كرب الآخرة) وعدم قوله: (كرب الدنيا والآخرة)

يقول عليه الصلاة والسلام في هذه الجمل التي جعلتها بعنوان الجوائز السخية: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) هنا سؤال، لماذا لم يقل عليه الصلاة والسلام: نفس الله عنه كربة من كرب الدنيا والآخرة، مع العلم أنه قال بعدها: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة).

كرب الدنيا لا يقارن بكرب الآخرة

أجاب أهل العلم بجوابين:

الجواب الأول: أن كرب الدنيا إذا قيست بكرب الآخرة، فإنها تكون سهلة، وليس فيها مضرة أبداً، ولا ألم إذا قيست بألم الآخرة، ففي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيغمس في النار غمسة واحدة ثم ينزع، فيقول الله له: هل رأيت نعيماً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب. ويؤتى بأبئس أهل الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقول الله له: هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا يا رب}.

إذاً فألم الدنيا بالنسبة لألم الآخرة كلا شيء، ولا يعتبر شيئاً، ولا يقاس معه أي مقياس، لا حبس الدنيا، وجلدها وضربها، ولا جوعها وظمأها ومشقتها، لهذا لم يسمها عليه الصلاة والسلام كربة.

كان عامر بن عبد الله بن الزبير يزن نفسه، وكان يخرج ديته، وأعتق نفسه أربع مرات، فقد اشترى نفسه من الله أربع مرات، يحسب ديته فيتصدقها في الأيتام والفقراء والمساكين، قالوا: لماذا تفعل هذا؟ قال: [[لكربات يوم العرض الأكبر]].

غالب الناس لا تصيبهم كرب في الدنيا

الثاني: قال أهل العلم: إنما قال عليه الصلاة والسلام: كربة من كرب يوم القيامة ولم يقل: كربة من كرب الدنيا: لأن بعض الناس يعيش في الدنيا ولا تمر به كربة، وهذا مشاهد من أحوال العالم، فإنك تجد بعض الناس سليماً معافى لا يصيبه شيء.

يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري في كتاب المرضى: {المؤمن كالخامة من الزرع تفيئها الريح يمنة ويسرة، والمنافق كالأرزة لا تزال قائمة منتصبة حتى يكون انجعافها مرة واحدة}.

فدائماً المؤمن مصاب، ودائماً في أسى ولوعة، والفاجر تجده متماسكاً، لكن خزيه يوم العرض الأكبر.

والإنسان يتساءل: سبحان الله! كيف أن فجرة التاريخ، ومردة العالم لا يأتيهم قاصم يقصمهم! فيجيبك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42] الله يعلم وليس بغافل، ولكنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يصبر ولا أصبر ولا أحلم منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ [إبراهيم:42-43] فمثلاً انظر إلى التاريخ: جنكيز خان وهولاكو ونصير الدين الطوسي وأبو مسلم الخراساني والحجاج وغيرهم من المجرمين، والمردة، والظلمة، تجد الواحد منهم يعتو ويعتو، والإنسان منا في نفسه يقول: سبحان الله! لماذا لم يهلكهم الله؟! بلغ السيل الزبا، فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42] هذا الجواب.

كرب الدنيا وكرب الآخرة

ما هي كرب الدنيا، وما هي كرب الآخرة؟

كرب الدنيا

أما كرب الدنيا فلا تسمى كرباً في الجملة، ولو سميت بذلك فذلك بنسبة الدنيا، كالدين، والحبس والمصائب والكوارث والحوادث، ولكنها عند المؤمن أسهل ما يكون، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.

وقوله عليه الصلاة والسلام: {من نفَّس عن مؤمن كربة} معنى نفَّس: أزال، وأزاح كربة مثل كربة الدَّين والجوع والمرض، وذلك يكون بقضاء الحوائج، والوقوف معه، والشفاعة، ورفع الظلم عنه، ونصرته، والذب عن عرضه، والمحاماة عنه؛ لأن {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} ومن خذل مؤمناً في مجلسٍ كان يجب عليه أن ينصره فيه خذله الله عز وجل، ولا يجد له ناصراً.

وهذا أمر معلوم، لا يقل الإنسان: نفسي نفسي في المناصرة، بل لا بد للمسلم أن ينصر أخاه المسلم وذلك حق واجب عليه.

وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يقول الله عز وجل يوم القيامة -يوم يحاسب العبد-: يا بن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟! فيقول الله: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا بن آدم! مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: مرض عبدي فلان، فلم تعده أما إنك لو عدته لوجدت ذلك عندي، يا بن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان ظمئ فما أسقيته، أما إنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي}.

وعند الترمذي قال عليه الصلاة والسلام: {أيما مؤمنٍ أطعم مؤمناً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مؤمنٍ سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم -انظر إلى العبارات الهائلة وانظر إلى البلاغة في أرقى صورها- وأيما مؤمنٍ كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة} لماذا قال: من خضر الجنة؟ لأن ثياب أهل الجنة تأتي من ورق الجنة، تخرج هناك أوراق في الجنة فتفصل للعبد المؤمن ثياباً جاهزة كل يوم، هذه خضر الجنة.

كرب يوم القيامة

الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم للأمة أمة التكافل، فيقول هنا: {نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة} والقيامة فيها كرب، ومن أعظم الكرب يوم القيامة ما يقع عند تطاير الصحف -نسأل الله لنا ولكم السلامة- فإنه يعطى فريقٌ باليمين وفريقٌ بالشمال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الحاقة:19-22] ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:25-28].

ثم من الكرب عند الميزان؛ فإن هناك ميزاناً دقيقاً، من الذي يحكم على الميزان؟! ومن الذي يقف عليه؟! هل تقف عليه الملائكة، أم الرسل، أم ملوك الدنيا، أم قضاة العالم؟!

إنه الله رب العالمين: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] لا ظلم، ولا هضم لحق أحد، فيقف الإنسان مبهوتاً أمام الميزان وهو خائف وجل أن ترجح السيئات بالحسنات، والله المستعان، ومن كرم الله عزوجل أنه إذا تساوت كفتا الحسنات والسيئات أدخل الله العبد الجنة.

ومن كرمه أيضاً أن يأتي بحسنات ما تصورها الإنسان، فيضعها الله في ميزان حسناته فيدخل الجنة.

ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة} انظر ما أحسن كلمة "يسر!" والله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ميسراً قال: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] وقال: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:1-3] وقال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ووصف رسوله بأنه مسهل فقال: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]؛ أغلال اليهودية، وأغلال النصرانية، والأحكام الجائرة، والتكاليف، والشدائد في العبادات، ولو وضعت علينا ما استطعنا، كان الرجل من بني إسرائيل إذا مس البول شيئاً من ملابسه قطع الذي مسه البول، فلما أتى عليه الصلاة والسلام قال: {بعثت بالحنيفية السمحة} وكان يقول: {إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه} فهو سهلٌ في لباسه، يلبس مرة الجميل البديع، ويقول: {إن الله جميل يحب الجمال} ومرة يلبس المتواضع الذي يجده، حتى يلبس أحياناً صوفاً من شعر:

البس لكل حالة لبوسها>>>>>إما نعيمها وإما بؤسها

ويأكل أحياناً ما لذ وطاب من الطعام، كالعسل واللحم، وأحياناً لا يجد كسرة الشعير.

وينام أحياناً عليه الصلاة والسلام هادئاً في مكانٍ مريح، وأحياناً ينام على التراب، ليكون قدوة لطبقات الناس جميعاً؛ لأنه مربي، فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا إلى المترفين الذين جعلوا حياتهم -فقط- أكلاً، وشرباً، ومناماً، ولا إلى الذين أزروا بأنفسهم وكانوا كالرهبان، وكعباد النصارى، لا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143].

ارحم الناس يرحمك الله

وقال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر) المعسر: تطلق على من أعسر في الدين، فتيسر عليه بأن ترجئه، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] أي: تنظره إلى أن ييسر الله عليه، ولا تلح عليه وأنت في سعة، ولا تذهب به إلى القاضي، ولا ترفع أمره، ولا تفضح ستره، بل ترجئه من دينه حتى يفرج الله دينه، فإنك إن فعلت ذلك تجاوز الله عنك يوم القيامة، وهذا أمر معلوم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من سره أن ينجيه الله عز وجل من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه) وممن يتجاوز الله عنهم يوم القيامة كما في الصحيحين: (رجلٌ كان يداين الناس في الدنيا، فيقول لكتابه: تجاوزوا عن فلان علَّ الله أن يتجاوز عنا، ففي يوم القيامة يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: تجاوزوا عنه -وفي لفظ- أنا أولى بالكرم منك تجاوزوا عنه) أي: لست أكرم مني، ما دمت تجاوزت أنت عن عبادي؛ فأنا أتجاوز عنك، فيتجاوز سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنه ويدخله الجنة.

فقوله صلى الله عليه وسلم: ( من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وبعض أهل العلم يقول: إن من وجد معسراً فأسلفه وأقرضه مالاً وأعطاه يدخل في هذا، بل يدخل في هذا دخولاً أولياً.

وهذا من التراحم، والجزاء من جنس العمل، ومن رحم الأمة رحمه الله، وفي صحيح مسلم تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) فالجزاء من جنس العمل.

الترهيب من كشف ستر الله على العباد

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فإننا نعلم من قوله صلى الله عليه وسلم: (الله ستيرٌ يحب الستر) المروي في الترمذي، أي أنه: ستير سُبحَانَهُ وَتَعَالى يحب الستر، ويحب أن يستر على العباد وألا تكشف أمورهم ولا يفضح ما أسروه؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يحب أن يضع كنفه وستره على العباد.

وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يا من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله ولو في عقر داره) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وفي بعض الألفاظ: (تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره).

قال ابن رجب: يقول أحد العلماء: " وجدت أناساً لم تكن لهم ذنوب ولا عيوب، فبحثوا عن عيوب الناس فأبدى الله عيوبهم للناس، وكان هناك أناس لهم عيوب وذنوب ستروا الناس فستر الله عيوبهم وذنوبهم ":

لا تضع من مكان قدر عظيم>>>>>بالتجري على العظيم الكريم

فالعظيم العظيم يصغر قدراً>>>>>بالتجري على العظيم العظيم

ويقول الشافعي:

إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى>>>>>ودينك محفوظٌ وعرضك صيِّنُ

لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ >>>>>فكلك عورات وللناس ألسنُ

وعينك إن أبدت إليك معايباً>>>>>لقوم فقل يا عين للناس أعينُ

يقول كعب بن زهير:

ومن دعا الناس إلى ذمه>>>>>ذموه بالحق وبالباطل

وهذا هو الذي يتكلم عن عيوب الناس وعن ذنوبهم، ويفضح تاريخهم، ويحب أن يشهر بهم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19] قالوا: عذابهم في الدنيا: أن يشيع الله عنهم كل خبث، وعذابهم في الآخرة أن ينكل الله بهم جزاءً وفاقاً.

وعن ابن عمر عند الحاكم، وفي الموطأ مرسلاً قوله صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد -وفي لفظ: نقم عليه كتاب الله).

قال أهل العلم: يجب على المسلم إذا ابتلي بشيء من الذنوب ولو من الكبائر أن يستتر بستر الله، ولا يذهب فيشهر بنفسه، بل يتوب ويقلع عن الذنب.

وقال الإمام مالك: " أرى ألا يرفع إلى السلطان ".

وقال أحمد: لا يرفع إلى السلطان؛ لأن السلاطين كثيراً منهم من يقيمون الحدود على الضعيف ويتركون الشريف.

فيرى الإمام أحمد ألا يرفع إليهم.

وعند أبي داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان قوله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) قال ابن القيم أي: في الحقوق وليس في الحدود، وهو الذي لا يعرف منه زلة، والمقصود هنا قوله عليه الصلاة والسلام: ( ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).

إن على المسلم أن يستر المسلم، فلا يتتبع عورته، ومن ضمن ذلك: لا يجوز للمسلم أن يتسلق حائطاً ليرى أحداً إذا سمع عنه أنه يشرب الخمر، هل يشرب الخمر في عقر داره، ولا يصح له أن يتجسس عليه في بيته هل يستمع إلى الغناء أم لا حتى يرفع فيه، وليس له أن يدخل منزله ليرى هل فيه فواحش أو منكرات، وليس له إذا سمع أنه فَعل فِعلةً أن يرفعها إلى السلطان إلا من اشتهر بالفجور فأصبح فاجراً من الدرجة الأولى، فهذا يرفع، هذا هو الصحيح عند أهل العلم.

وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة: أن يبيت الرجل يستره ربه على ذنب، فيصبح يقول: يا فلان! فعلت كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا، فأصبح يكشف ستر الله عليه، وقد بات ربه يستره) ولذلك بعضهم يتمدح، إذا فعل أفاعيل سرد تاريخه على الناس، حتى بعضهم إذا سافر مثلاً إلى أوروبا أو إلى بعض المدن المتهتكة، فأتى يذكر ويقول: كنا نفعل كذا، وكنا نفعل كذا، وهذا من المجاهرة.

وبعضهم يقول ذلك بحسن نية بعد أن يتوب، وهذا خطأ، حتى إن بعضاً ممن يعظ الناس ويرشدهم يقول: أنا -وهو أنا- كنت أفعل وأفعل، وكأنه من الخلفاء الراشدين: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور:21].

وهناك طرفة ما أدري هل وقعت أم لا؛ يقولون: أحد الناس قام في مسجد، وقال: يا أيها الناس! كلنا على خطأ، أنا -وهو أنا- والله ما أضمن لنفسي دخول الجنة! ومن أنت؟! من أهل بدر الذي اطلع الله عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم..؟!

قضية سرد القصص والحوادث التي مرت بالإنسان هي على خلاف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم الصحابة، ويكفي أن الإنسان يتوب ويقلع، أما أن يكون كلما وقف في موقف قال: كنت أسرق وأشرب الخمر وأفعل وأفعل، هذا خطأ، بل يتوب إلى الله عز وجل ويقلع، ولا يذكر لنا هذا فلسنا بحاجة إليه، وبعض الوعاظ يقول: إنها أمور تربوية، من أين تربوية؟! ولم يفعلها السلف الصالح، لا الصحابة ولا التابعون.

وورد في حديث ابن عمر الصحيح: (إن الله عز وجل يحاسب العبد يوم القيامة، فلما يقرره بذنوبه، يقول: أنا سترتها لك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).

ومن ستر المسلم: ألا تتحدث عما ستر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من الذنوب والخطايا، فإن الجزاء من جنس العمل، وكذلك من الستر ألا تذكر الفواحش التي تقع كالمتلذذ بها؛ لأن بعض الناس يذكر ذلك تلذذاً، فيذكر فواحش المجتمع، ويذكر ما حدث من المواقف، ويذكر ما رأى وشاهد من أفلامٍ خليعة، ومن أشرطة جنس، ومن أماكنٍ اطلع عليها مثلاً، ويبدي صوراً خليعة، ويشيعها في المجالس بتشاؤم عجيب، وبروح متفطرة، وبنظرة سوداوية إلى هذا المجتمع وهذه الخليقة، وهذا خلاف نهج الرسول عليه الصلاة والسلام.

يقول في صحيح مسلم: (من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم) وضبطت أهْلَكَهُم، وقيل: أهلكُهم، ومعنى: (أهلكُهم) أشدهم هلاكاً؛ لأنه أعجب بنفسه، وإن كان أهلكَهم بصيغة الفعل الماضي فمعناه: هو الذي أهلكهم بهذا الكلام؛ لأن الناس إذا كثر فيهم إشاعة الفاحشة تساهلوا بالمعاصي.

الشاب إذا سمع أن عشرين قصة عن الزنا قد وقعت، هان الزنا عنده؛ ولذلك يجب على الإنسان ألا يشيع الفاحشة في الذين آمنوا.

الترغيب في إعانة العباد

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) العبد: عبد الله، و(الناس عيال لله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) وكلما أردت أن تتقرب إلى الله فحاول أن تتحبب إلى خلقه بإسداء المعروف إلى عباده سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

يقولون: أرسل الحسن البصري رحمه الله رجلاً إلى ثابت البناني؛ ليذهب مع هذا الرجل ويشفع له عند السلطان، فأتى إلى ثابت البناني وهو معتكف في المسجد، فقال الرجل: أرسلني إليك الحسن لتذهب معي إلى السلطان لتشفع لي، قال: أنا معتكف، فرجع إلى الحسن وقال: ثابت يبلغك السلام، ويقول: هو معتكف! فيقول الحسن: اذهب وقل له: يا أعيمش -وأعيمش تصغير أعمش وهو الذي في عيونه صغر أو قلة بصر- يا أعيمش! ذهابك في حاجة أخيك المسلم أفضل من حجة بعد حجة. فذهب إليه، فقطع اعتكافه وذهب معه إلى السلطان.

ويقول الحسن البصري: [[يقول: أحدكم: أحج أحج أعتمر أعتمر نفس عن مكروب، صل رحماً، اعط فقيراً]] أو كما قال.

مواقف من إعانة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

{ الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه}

وذكر الإمام أحمد في المسند أن خباب بن الأرت، لما ذهب يجاهد في سبيل الله كان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى أهل خباب بن الأرت فيحلب لهم غنمهم، الله أكبر! الله أكبر! هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بالعظمة والكبرياء، لا تصلح وجوههم أحذية للرسول صلى الله عليه وسلم، جلد جباههم لا تصلح أحذية له، يحلب شياه أسرة خباب بن الأرت.

معلم البشرية، أصفى جوهر خلقه الله من الخليقة، شفيع الناس، وأبرهم وأكرمهم، المنقذ بإذن الله، الذي هدى الأمة إلى صراط الله المستقيم، الذي يتنزل عليه جبريل صباح مساء بالوحي، يذهب إلى أحد الموالي من أمته، فيحلب لأهله الشياه في الأواني، ويدفع لهم اللبن، كما روى الإمام أحمد في المسند.

ولعلك تتأمل هذه القصة، لتعيش عظمة الإنسان الذي عرف طريقه، وعرف كيف ينقذ هذه الأمة، ثم تقارن بينه وبين أناس لا يسلمون على الناس، البشر ليسوا عندهم بشر إنما هم عنده كالحيوانات الأليفة، لا يسلم، ولا ينظر، ولا يتبسم، ولا يمد يده؛ وكأنه من جنس آخر، ودمه دم آخر، ففرق بين أن يأتي الإنسان يحمل هذا الدين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فيأتي إلى إخوانه المؤمنين، فيرى أنه يوم يكون ذليلاً لهم قريباً منهم يكون قريباً من الله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

أسد عليَّ وفي الحروب نعامة>>>>>فتخاء تنفر من صفير الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى>>>>>إذ كان قلبك في جناحي طائر

هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يحلب شياه خباب بن الأرت لبناته وأطفاله، هو الرجل الذي في حنين يصدم كتيبة قوامها ألف مقاتل من المقاتلين المدججين بالسلاح، يصدمها وحده، ويقول:

أنا النبي لا كذب>>>>>أنا ابن عبد المطلب

كان الجيش الذي أمامه عشرة آلاف، وفر الصحابة جميعاً.

يذكرون ويقولون: عمر على شجاعته فر؛ لأنه رأى شيئاً لا يطاق، أصبحت السماء تلتهب بالنبل، ويقولون: أصبحت كالغمام حجبت شعاع الشمس، وفر الناس جميعاً، ووقف عليه الصلاة والسلام في موقف ضنكِ، ونزل عليه جبريل بقول الله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84] معنى الكلام: لا تفر، احذر أن تتأخر خطوة، معناه: إذا تأخرت سوف ينكسر الدين، وتسحق إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

شاعرهم دريد بن الصمة يمدح هذا الجيش البالغ تعداده عشرة آلاف، ويمدح الكتيبة التي تسمى كتيبة القلب وكان فيها مالك بن عوف النصري، فيقول:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدججٍ>>>>>سراتهم في الفارسي المسرد

يقول: هؤلاء الألف كلهم كالفارس المسرد؛ يعني: في الحلق الحديد، الدرع من أذنه إلى كعبه، لا يمكن أن يخترقه شيء، ووقف صلى الله عليه وسلم أمام الكتيبة فأخذ حفنة من التراب، ورماها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، ثم أخذ السيف وسله، فدمغ الكتيبة.

هذا هو الذي يحلب الشياه عليه الصلاة والسلام.

مواقف من إعانة أبي بكر لرعيته

وكان أبو بكر الصديق له جيران، ذكر ذلك ابن رجب في جامع العلوم والحكم، كان له جيران قبل أن يلي الخلافة، كان يذهب إليهم بعد أن يحلب ناقته، فيذهب إليهم ويحلب شياههم، فلما تولى الخلافة قالت إحدى البنات: أبو بكر تولى الخلافة سوف يتركنا، قال: لا والله. لا أغير عادتي قبل الخلافة. فكان إذا انتهى من أمور الخلافة ذهب وحلب لهم الشياة، أبو بكر الصديق الذي يدعى يوم القيامة من ثمانية أبواب، من باب الصدقة، وباب الجهاد، وباب الريان، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن العلم، يدعى يوم القيامة من كل باب؛ لأنه برز في كل ناحية، هذا يحلب الشياه.

مواقف من إعانة عمر لرعيته

وعند أبي نعيم في الحلية، وكنت أنسبها أنا قبل لـأبي بكر كما ذكر ابن القيم وأظنه قد وهم، فصاحب الحلية يقول: هي لـعمر: - يقول: " كان عمر يخرج إلى جيران في طرف المدينة في خيمة فيحلب لهم شياههم، وكان معهم عجوز عمياء، لا عندها والي إلا الله، وهو خليفة، فلما خرج من الخيمة لحق طلحة وراءه، فقال للعجوز: من هذا؟ قالت: لا أعرفه. قال: ماذا يفعل؟ قالت: يصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويحلب شياهنا، فجلس طلحة يبكي ويقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا عمر.

من يستطع أن يفعل مثلك؟! إنسان معه هموم الدنيا، يقاتل الفرس والروم، ويفتح سيحون وجيحون، وقادته تنتشر في كل مكان، ويدير الدولة الإسلامية في ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من المدينة ومع ذلك يحلب الشياه لبعض رعاياه.

الصحابة والتابعون من أنفع الناس للناس

قوله عليه الصلاة والسلام: { والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه} يقولون: سيد الناس خادمهم، وهذا مثل صحيح.

وكان ابن المبارك إذا رافق الناس وصحبهم في السفر، يشترط عليهم شرطاً وهو: أن يخدمهم في السفر، وهو أمير المؤمنين في الحديث؛ صاحب:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

وقال مجاهد: [[صحبت ابن عمر لأخدمه فكان يخدمني وكان يركبني على الفرس، ويسوي عليَّ ثيابي]] وابن عمر صحابي ومجاهد تابعي.

ونزل الناس في عهده عليه الصلاة والسلام منزلاً، فقام أحدهم وقال: أنا أذبح الشاة، وقال الثاني: أنا أسلخها، وقال الثالث: وأنا أطبخها، وقال صلى الله عليه وسلم: {وأنا أجمع الحطب} عليه الصلاة والسلام، فقام صلى الله عليه وسلم يجمع الحطب، وهذا يشتغل في شغله، وقرب إليهم عليه الصلاة والسلام مؤنتهم.

وفي الصحيحين: {أن الصحابة سافروا، فصام بعضهم، وبعضهم لم يصم، فأما الصوام فوقعوا في الأرض من الجوع والتعب، وأما المفطرون فقاموا وشدوا الخيام وملئوا البرك بالماء وطبخوا، فقال صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر} لماذا؟ لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

الإسلام لا يعرف البطالة

كان هناك رجل عابد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {من ينفق عليه؟ قالوا: أخوه، قال: أخوه خير منه}.

وورد في بعض الآثار أن الرسول صلى الله عليه وسلم صافح رجلاً فوجد يده خشنة من العمل، قال: {إن هذه يد يحبها الله} هذه اليد الخشنة التي تأخذ وتزاول وتفعل يحبها الله، ومن المصائب أن الأمة الآن تعيش في بطالة، وكثير من الناس حتى الشباب الآن تجده ملتزماً مستقيماً لكن فيه بطالة، ويأتيه الشيطان ويترك الدراسة، والوظيفة، والعمل، وإذا قيل له: أتشتغل في البنشر؟ قال: هذا عيب في سوبر ماركت؟ قال: عيب أنا فلان أتنازل إلى هذا!! إذاً في مزرعة، قال: عيب، إذاً في مكتبة؟ قال: عيب، إذاً في التسجيلات؟ قال: عيب، وهكذا تأتيه الأنفة حتى يكون بلا عمل، وليس كل ذلك بعيب إنما العيب في البطالة، والعيب أن يجلس الإنسان عاطلاً وكلاً على أبيه مثل: الحجر الأدرن، لا تبني به ولا يتدحرج.

ولذلك تجد بعضهم عندهم تصوف هندوكي، وتخيلات في الحياة، يجلس في البيت حتى تأتيه الوسوسة. لماذا لا تدرس؟ قال: الدراسة في الكليات ليس فيها بركة، ولماذا لا تعمل؟ قال: ما وجدت عملاً يناسبني، قال: ماذا تريد؟ قال: إن شاء الله أتزوج فيما بعد وأبحث عن عمل مناسب، ودائماً يتدين من الناس، ولو أدركه عمر بن الخطاب لمرغه في التراب.

كان في عهد عمر شباب دخلوا المسجد يعبدون الله عز وجل، وظنوا أنها سوف تنطلي هذه البطالة على عمر؛ لأن عمر يقوم على الدولة الإسلامية، التي أقيمت على إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وكان يلاحظ كل ما يجري، ويلاحظ كل منحى، ويسأل عن الداخل والخارج، وعن أمور الشباب والعلم، والقصاصين، والوعاظ، وعن كل دقيقة وجليلة يحاسب الناس، دخل المسجد وإذا مجموعة في الضحى، والناس في المزارع يشتغلون، والأنصار العباد الذين قدموا أنفسهم في بدر وحنين يسقون النخل، وهذا يجر الدلو من البئر ويصب، وهذا نجار، وهذا خشاب، وهذا يبيع السمن، وهذا يبيع العسل، وهذا يبيع الغنم، وعمر بنفسه يبيع ويشتري في السوق، إلا هذه المجموعة في المسجد!! قال عمر: [[من أنتم؟ قالوا: عبَّاد. قال: سبحان الله! -كأن: عمر ليس بعابد؛ لأنه جاء من خارج المسجد!- قال: فمن يأتي لكم بطعامكم؟ قالوا: جيرانٌ لنا -أي أنهم يبقون في المسجد وقت الغداء، فإذا حانت الساعة الثانية أتى الأكل- انظروا العبادة كيف تكون!! قال عمر: انتظروا قليلاً -ظنوا أنه على العادة أنه سيأتي بأكل فذهب فأتى بالدرة- وتعرفون ما الدرة؟ وهذه درة عند عمر تخرج الشياطين من الرءوس، وهذه الدرة ما ضُرب بها إنسان إلا خرج سليماً بإذن الله، وزاد عقله ورشده، وأصبح يعرف طريقه! فأخذ الدرة، وأغلق أبواب المسجد وأتى يضربهم ضرباً حتى يبطحهم فلما أدماهم، قال: اخرجوا إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، فأخرجهم من المسجد، وأغلق أبواب المسجد]] أي أن الإسلام لا يقر الإنسان أن يبقى عالة وأيضاً متى كانت هذه الأعمال عيباً، متى كانت النجارة والخشابة، والبنشر عيباً؟! العيب: هو ترك هذه الأمور، أما هذا فهو شرف في الحياة، فقد عمل عليه الصلاة والسلام، وعمل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وقال صلى الله عليه وسلم: {لأن يأخذ أحدكم أحبلة فيذهب إلى جبل من الجبال، فيحتطب على ظهره فيبيع ويشتري خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه}.

الجوائز التي ينالها طلاب العلم الشرعي

سهولة الطريق إلى الجنة لطلاب العلم

ثم قال عليه الصلاة والسلام: {ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة} أقرب الطرق إلى الله طريق العلم الشرعي، علم قال الله وقال رسوله، فلا يدل على الله إلا العلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] كلما زاد علم الإنسان بالحقائق، وبالكون، وبأسرار هذه الخليقة، زاد قربه من الله.

الآن تجد المخترعين والمكتشفين أقرب الناس إلى الإسلام، وفي فترة من الفترات أسلم أذكى أذكيائهم.

سخروف هذا الذي مات قبل ستة أشهر، الذي أثبت ذبذبات النبات اقترب كلامه من الإسلام، لكنه ما اهتدى، لأنه ما وجد داعية يوجهه، فإن أساطينهم، وأذكياءهم أكثر من يدخل الدين.

وتجد رعاة البقر عندهم أبعد شيء عن الدين؛ لأن هؤلاء بلغوا من العلم حداً عجيباً، فدلهم العلم على الله، والله يقول: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] العلم هنا: هو العلم الشرعي، قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قربك من الله كعلم التفكر في الكون، والمخترعات، وأسرار الكون وما وراء الكون كله يدلك على الله بشرط أن يكون عندك وثيقة لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد قرباً من الله.

قال صلى الله عليه وسلم: { ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً} قال أهل العلم فيه: من أتى درساً، أو إلى عالمٍ، أو إلى طالب علم سهل الله طريقاً إلى الجنة، والآن ذهابك من بيتك إلى المسجد فإن الله يسهل لك به طريقاً إلى الجنة؛ لأنك تركت أشغالك وأعمالك وقصدت المسجد لا تريد شيئاً من الدنيا ولا تهرب من شيء فما أرغمك أحد أن تأتي هنا، وليس عندنا تحضير الأسماء والغياب، وليس عندنا أعمال سنة، ولا درجات، إنما الدرجات عند الواحد الأحد مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] أتيت حباً وخرجت حباً.

غفران الذنوب لطلاب العلم

وأيضاً من الجوائز غفران الذنوب، {انصرفوا مغفوراً لكم قد رضيت عنكم وأرضيتموني} ولا يرضى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كرضاه عن مجالس الذكر، لأنها تظهر عظمة الإسلام؛ فمن صور عظمة الإسلام أن يجلس طالب صغير من طلاب العلم، فيجتمع جمع هائل بما فيهم العلماء والدعاة والصالحون والبررة والأخيار، فيستمعون إليه وهو يقول: يقول الله ويقول رسوله عليه الصلاة والسلام كذا وكذا، فالله سبحانه يرضى عنه.

وتجدون الآن في آخر الحديث ما هي الجوائز التي يحصل عليها الجلاس، وأنا أقول لكم بصراحة: إنه بالإمكان أن يأتي أضعاف مضاعفة على هذا العدد، ووقت المغرب إلى العشاء وقت مستهلك، إما أن تجلس في البيت فترد على الهاتف إلى صلاة العشاء كلامٌ أشبه شيء بالهذيان، وإما أن تجلس تشرب الشاي أو القهوة، وإما أن تتحدث كلاماً مع أطفالك وأنت معهم أربعاً وعشرين ساعة، وغيرها مما فيه مضيعة للأوقات وفي المقابل أنت تستطيع في الوقت الذي بين المغرب والعشاء أن تحصل على الأجور ما لا يحصل عليها كثير من العباد الذين صاموا وقاموا إذا قصدت بمجلسك وجه الله.

قال عطاء بن أبي رباح: " مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللغو".

وكن كالعلماء الربانيين، والعلماء الربانيون هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، وقال: هم الذين اتصلت نسبتهم بالله، وهم الذين دلوا الخليقة على الله عز وجل، والطرق المحذروة، وطرق الشيطان، وعرفوهم طريق الرحمن هؤلاء هم الربانيون، والله عزوجل تكفل أن ييسر كتابه لمن أراد أن يقرأه لقصد الهداية، فقال سبحانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].

قال مجاهد: " أخذ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على نفسه أن ييسر كتابه لمن أراد " أما من لم يرد أن يهتدي فقد قال الله عنهم: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً [فصلت:44]؛ يعني: القرآن، قالوا: لا يقوم قارئ من القرآن إلا بزيادة أو نقص والله المستعان.

سهولة اجتياز الصراط يوم القيامة لطلاب العلم

وقال ابن رجب: وفيه أن الطريق الحسي يسهل يوم القيامة لمن طلب العلم الشرعي.

والطريق الحسي هو الصراط المستقيم، فأسعد الناس بالصراط المستقيم من طلبوا العلم الموروث عن محمد عليه الصلاة والسلام، فمن تَعَلَّمَ آية أو حديثاً أو جلس في موعظة أو محاضرة، فإنه يسهل عليه المرور على الصراط يوم القيامة.

وقال أهل العلم: الناس بخير ما دام عندهم علماء.

وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العلماء، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا} وإذا مات طلبة العلم والعلماء ولم يكن لهم أثر، ولم يكن لهم تواجد، فاعلم أن هذا هو أول دمار الأمة.

وإذا قلَّت الدروس عند الأمة، والمواعظ، والحلقات، والمحاضرات وحجمت فهي خطوات دمار الأمة، وإذا رأيت الدروس منتشرة، والمحاضرات، والدعاة، والكلام في العلم الشرعي، والمسائل، والمفتين، وقال الله وقال رسوله، والحديث فيما يقرب من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فبشر الأمة بخير عميم.

حديث آخر يبين فضائل طلب العلم

قال عليه الصلاة والسلام: ( وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده).

خيركم من تعلم القرآن وعلمه

أولاً: في مسألة: تدارس كتاب الله عزوجل، وأنه من أشرف الأمور، وفي صحيح البخاري: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.

وكان الصحابة يجتمعون عند عمر أحياناً، فيقول عمر لـأبا موسى: [[ذكرنا ربنا يا أبا موسى]] فيندفع أبا موسى يقرأ والصحابة عنده، ويبكي عمر والصحابة، وكان صوت أبي موسى جميلاً، يقول له صلى الله عليه وسلم: {لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود} لكن مجالس الذكر الآن واجتماع الناس على القرآن قلت كثيراً؛ بسبب المغريات العصرية، والفتن التي تشهدها الأمة والمسلسلات والأغنيات والتمثيليات والنزوات والشهوات حتى تجد الإنسان إذا سمع القرآن لا يخشع أبداً ولا يتأثر؛ بسبب ما رأى، إنسان يرى عشرين مسلسلاً أو ثلاثين مسلسلاً ثم يأتي يوم الجمعة يسمع سورة تقرأ عليه، أين تقع هذه السورة من العشرين مسلسلاً، ومن المائة أغنية، ومن عشرين مجلة خليعة، والمائة فيلم، وشريط جنس، أين تقع؟!

أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ >>>>>فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ

فإذا أتت الأمة، وأتت قلوبها، وصودمت بهذه المفاجئات؛ أصبح الذكر ميتاً أو ضعيفاً أو مريضاً فلا يكون له أثر.

وهنا ألفت عنياتكم إلى أن الأوزاعي ومالكاً ذهبا إلى بدعية أن يجلس الناس جميعاً بعد صلاة الفجر في المسجد فيتحلقون ويقرءون القرآن.

وهذا رأيهما، وقد نقل عنهما، وإنما أقول ذلك لطلبة العلم للفائدة.

وسئل الأوزاعي عن ذلك فذكر أن حسان بن عطية يقول: " أول من أحدثه هشام بن إسماعيل المخزومي في عهد عبد الملك بن مروان ولم يكن معروفاً عند السلف.

لكن الجمهور من العلماء ذهبوا إلى أن هذا مما يقرب من الله عزوجل، وأن هذا عمل صالح، وليس ببدعة؛ واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين عن أبي هريرة: {إن لله ملائكة يطوفون يلتمسون حلق الذكر، فإذا وجدوا حلقةً من حلق الذكر، جلسوا فيها إلى أن يصعدوا إلى الله ويسألهم...} الحديث طويل، وهو في الصحيحين.

فهناك ملائكة يسيحون في الأرض يلتمسون حلق الذكر، فإذا وجدوا حلقة يذكر فيها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أو رسوله أو دينه جلسوا وحفوهم، فنسأل الله أن يجعلهم جلساءنا هذه الليلة.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: { هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وابن حبان، وفي صحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: { خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن كنت مع نفر من الصحابة ونحن نذكر الله في المسجد فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن علينا بك، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك؟ قال: والذي نفسي بيده، لقد نزل عليَّ جبريل الآن فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم ملائكته}.

ومعنى يباهي: يفاخر، أي يقول: يا ملائكتي! انظروا إلى هؤلاء جلسوا في مسجد كذا وكذا يذكرونني، ومجالس الذكر أرضى ما يرضي الله عز وجل؛ وهي التي يفر منها الشيطان، ويتعمق فيها الإيمان، ويتقوى بها هذا الدين، وهي من أعظم الأمور.

من الفضائل: نزول السكينة

وقال عليه الصلاة والسلام: {يتلون كتاب الله إلا نزلت عليهم السكينة} والسكينة من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد نزلها على رسوله عليه الصلاة والسلام في الغار، ويوم حنين، وفي مواطن كثيرة، وهي اطمئنان وبرد وسلام، وراحة، وسعادة ينزلها الله على القلوب، فتسعد سعادة ما بعدها سعادة، وتفرح وتتمايل أشجارها، وتسيل أنهارها، ويسيل القلب في طرب شرعي لا يعلمه إلا الله.

فإذا نزعت السكينة من هذا القلب، أصبح خائفاً، ومضطرباً، وقلقاً، وفزعاً، لا يستقر على شيء أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

وهذه السكينة تحصل بالإيمان، وتحصل بمجالس الذكر التي يذكر فيها الرحمن.

في الصحيح أن أسيد بن الحضير رضي الله عنه وأرضاه؛ وهو أحد الأبطال الكبار، قيل: إنه قتل في معركة اليمامة رضي الله عنه وأرضاه وهو من الأنصار، وكان مقداماً، وقتل عديداً من الكفار، وهو من سادات بني عبد الأشهل { قام يصلي بالليل ويقرأ سورة الكهف بصوت شجي، فكانت فرسه تدور في مكان البيت، وتكاد أن ترفس، أو أن تطأ ابنه وهو نائم، فلما كادت أن تقطع حبلها، أنهى صلاته وسلم ثم أخذ الفرس ونظر إلى السماء، فإذا ظلة كالمصابيح فوق البيت، فوقف مدهوشاً مذهولاً، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: أرأيتها؟ قال: نعم. قال: والذي نفسي بيده إنها الملائكة تنزلت لسماع قراءتك. قال: ولو بقيت تقرأ حتى الصباح لرآها الناس لا تتوارى عنهم} إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78] قال مجاهد: تشهده الملائكة، وما أحسن العبارة! ما أحسن التفسير! قال: "تشهده الملائكة" وقال غيره: تشهده ملائكة السماء.

والمقصود هنا بالقرآن قيل: هو قرآن الفجر الذي يتلوه الإمام في صلاة الفجر وقال غيرهم: القرآن بعد الفجر، والقرآن قبل الفجر، والصحيح كلها، فإذا بدأ الإمام يقرأ في صلاة الفجر نزلت الملائكة تشهد وتسمع القرآن الذي هو كلام الله عزوجل، وهذه من السكينة.

من الفضائل: غشيان الرحمة

وأما غشيان الرحمة فإن رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى واسعة وهي خاصة وعامة؛ خاصة للمؤمنين وهي معنى الرحيم وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:43] والرحمن عامة للمؤمن والكافر وفي الدنيا والآخرة، يقول سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] وفي الحديث الصحيح: {إن رحمتي سبقت غضبي} فنسأل الله أن يرحمنا وإياكم رحمة عامة وخاصة.

في مجالس الذكر تغشى الرحمة الجالسين كلهم، فيدخل فيهم حتى من قصر في العمل؛ لأن المؤمنين يقولون: وهب المسيئين منا للمحسنين، والمعنى: من جلس منا محسناً فأدخل المسيء منا معه، ولذلك يقول أحدهم: يا أيها المقصر! اهجم هجمة الكذابين على باب الباذلين كأنك طفيلي، وقف بيدك على الباب وقل: تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين، علَّ الله أن يفتح لك الباب.

فأنت إذا جلست مع الأخيار لحقت بهم.

يقول ابن كثير في تفسيره: "الكلب لما رافق الأخيار في القرآن، ذكره الله في القرآن: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] ".

ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان أن الخليع الشاعر كان رافضياً، يحب الرافضة، فلما أتته سكرات الموت أمر أن يدفن في النجف، وأمر أن يكتب على قبره وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] يستحق، قالوا: فلما مات، حملوه، وحفروا له قبر في النجف، وكتبوا: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18].

يقول ابن كثير: فانظر كيف شرفه الله، لما رافق الصالحين فبقي الكلب يصاحبهم في القصة من أولها إلى آخرها. هكذا تكون رفقة الصالحين:

أحب الصالحين ولست منهم>>>>>لعلي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من تجارته المعاصي>>>>>ولو كنا سواءً في البضاعة

وقال غيره:

عن المرء لا تسألْ وسل عن قرينه>>>>>فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي

ولذلك تجد الخيّر إذا رافق الأشرار أصابه الشر والذلة والحسرة حتى يلحق بهم، ولو كان بريئاً، فيقولون: فلان يرافق فلاناً السيء انتبهوا له، فتصبح عليه وسام عار، ووصمة عيب.

من الفضائل: أنهم تحفهم الملائكة

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: { وحفتهم الملائكة}؛ فإن لله ملائكة، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن لله ملائكة، نؤمن بهم على الجملة والتفصيل، وأن الله جعل لهم تخصصات: منهم ملائكة القطر، وأخرى لتنزل الذكر كجبريل الذي نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام، وملك الجبل هذا مهمته فقط الجبال، وملك للريح، وملك آخر لقبض الأرواح وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60] وملك للصحف، وحفظة يحفظونه من أمر الله أي: بأمر الله، وملائكة فضلاً، يقول في الحديث عند مسلم فضلاً: أي زائداً على عدد الملائكة وليس لهم عمل خاص محدد غير البحث عن حِلَق الذكر يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موطن أربع أصابع إلا فيه ملك ساجد أو راكع أو قائم} وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] لما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30]؛ يعني: على النار تسعة عشر، فضحك أبو جهل، ووضع رداءه على وجهه يضحك، المجرم؛ الخبيث؛ ويغمز لأصحابه المجرمين، ويقول: تسعة عشر، أنا أكفيكم يا قريش بعشرة واكفوني بتسعة؛ انظر بطولة الفجور والخيانة!! فأنزل الله بعدها: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] هذا للتسعة عشر منهم، الواحد له من الأجنحة ما يسد الجناح الواحد ما بين المشرق والمغرب، فهذا جبريل عليه السلام بجناح واحد أخذ قرى قوم لوط ستمائة ألف، ورفعها حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ثم قلبها وألحقهم بالحجارة، هذا ملك من الملائكة، فكيف بالآخرين الذين في السماء الرصد الهائل والجيوش؟ الله عزوجل لما اتصل به رسوله في بدر، يقول: إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض، فنزل جبريل يقود معه ألف من الملائكة، فيقول حسان؛ ويحق لـحسان أن تندفع قريحته الشاعرية الهائلة، يتفجر بأشرف بيت قالته العرب يقول:

وبيوم بدر إذ يصد وجوههم>>>>>جبريل تحت لوائنا ومحمدُ

يقول: يا مجرم.. يا أبا جهل! من عندك تحت اللواء؟ من هي قيادتك؟ من الذي يصدر لك الأوامر؟ الشيطان!! وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48].

وأقصد من كلامي هذا أن أقول: إن هناك ملائكة فضلاً؛ -أي زيادة- يدورون على حلق الذكر وهم الذين يحفونها؛ لأنه ليس عندهم عمل إلا هذا، ولله المثل الأعلى.

يقول: عملهم أنهم يخبرون، ويرفعون الأذكار، كما في صحيح مسلم، قال: {هل رأوني؟ -وربهم أعلم بهم- قالوا: ما رأوك. قال: كيف لو رأوني؟! قالوا: كانوا أكثر تسبيحاً لك، قالوا: ويستعيذونك. قال: مم يستعيذونني؟ -وهو بهم أعلم- قالوا: من النار. قال: هل رأوها؟! قالوا: ما رأوها. قال: كيف لو رأوها؟! قالوا: كانوا أشد استعاذة. قالوا: ويسألونك، قال: ماذا يسألونني؟ قالوا: الجنة، قال: هل رأوها؟! قالوا: ما رأوها قال: كيف لو رأوها؟! قالوا: كانوا أكثر مسألة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! معهم فلان إنما جلس معهم هكذا} ما جلس للدرس أو للمحاضرة إنما صلى المغرب ثم اضطر للجلوس لحاجة {قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} قال أهل العلم: هكذا أي: ما قصد المجلس ولا قصد الذكر وما قصد أن يستفيد، فغفر الله له بسببهم.

من الفضائل: أن الله يذكرهم

ويذكرهم سبحانه عنده، وفي الصحيحين: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم}

اذكرونا مثل ذكرانا لكم>>>>>رُبَّ ذكرى قربت من نزحا

واذكروا صباً إذا شاد بكم>>>>>شرب الدمع وعاف القدحا

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] وهذا جزاء الذاكرين الله، خاصة في ملأ؛ لأنك الآن ذكرك مع مجموعة أفضل من ذكرك وحدك، فمع المجموعة تعلن قوة الإسلام فإننا لماذا نصلي الجمعة سواء؟ ولماذا نحج سواء؟ ولماذا نصلي العيد سواء؟ كل ذلك لنظهر تضامن المسلمين، وعظمة الدين، وأن هذه الكثرة الكاثرة تعلن أنها تحت عبودية إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

تقوى الله هي ميزان التفاضل بين الناس

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) المعنى: إن من اعتمد على نسبه، ولم يعتن بعمله فإنه لا ينفعه ذلك عند الله شيئاً، وأن صاحب النسب العظيم والعمل الحقير لا ينتفع بنسبه، ولا ينفعه عند الله إنما ينفعه العمل.

وكان عليه الصلاة والسلام يقول في الصحيح: (يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم) لأن بعض الناس الآن يعتمد على نسبه، ودائماً في كل مجلس يذكر سلالته، وأنه ابن فلان، وأن أباه فعل وصنع، وجده كذلك، وهذا كما في الأدب المفرد للبخاري بسند حسن: (من افتخر بتسعة آباء في الجاهلية فهو عاشرهم في النار) فبعض الناس دائماً يفتخر على حساب الآخرين بسلالته وبنسبه وبأصالته وبإقليمه وبمنطقته وببلده، وهذا التمييز العنصري الذي قسم العالم الإسلامي وجزأه ما أنزل الله به من سلطان.

أنزل الله عزوجل نسباً عظيماً للأمة وهو: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] رفع بلالاً وجعله أكرم من أبي جهل المخزومي، ومن الوليد بن المغيرة، ومن أمية بن خلف.

وجعل سلمان الفارسي من أهل البيت، ورفع صهيباً وخباباً وابن مسعود، لكن بعض الناس لعدم تصوره لهذا الدين، ولعدم انشراح صدره لهذه الرسالة؛ لا يزال يحمل في رأسه التمييز العنصري على الأجناس والأشخاص، والدول، والأقاليم -أقصد المسلمين- العالم الإسلامي، فتجده يتميز وينحاز، ويظهر التفاخر على الناس؛ لأنه من إقليم كذا، أو من أسرة كذا، أو من قبيلة كذا، وهذا خطأ ومخالف للكتاب والسنة.

لهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) فالنسب الطيب مع الإيمان، خير على خير، أما أن يكون النسب مصدر إزعاج للآخرين وتعالي وتكبر وتفاخر فهذا هو الويل والدمار:

إذا فخرت بآباء لهم شرفٌ>>>>>نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا

إن الفتى من يقول: هأنذا>>>>>ليس الفتى من يقول: كان أبي

وقال الآخر:

خذ بحد السيف واترك نصله>>>>>واعتبر حسن الفتى دون الحلل

إلى آخر ما قال.

وأما مجتمع المسلمين الآن فهم بعيدون عن: ( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) فإن بين الناس أموراً تعارض السنة من ضمنها -وهذه لم يستطع لها أعلم العلماء وأعظم الدعاة حلاً- وهي مسألة النسب، وهذا قبيلي وهذا غير قبيلي، وعدم التزاوج من الصنفين، وهذا الأمر يخالف الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم.

فبعض الأسر جعلت تتناءى أن تتزوج من أسرٍ أخرى أقل نسباً منها، ولو عدنا إلى أصل السند ورأس الشجرة وصلنا كلنا إلى آدم وحواء، فكل هذا العالم -الأحمر والأسود والأشقر- يرجع إلى آدم وحواء (كلكم من آدم وآدم من تراب).

فهذا الذي يفتخر على الناس يرجع إلى التراب، وما على الإنسان إلا أن يعرف أن الفضل في الإسلام إنما هو بتقوى الله، وليس بغير، وأن من قدم أموراً أخرى كالنسب والمال والجاه والمنصب، إنما هو من قلة فقهه في دين الله عزوجل، ولعدم معرفته بشرعه تبارك وتعالى.

هذا ما لزم في هذا الدرس، وقد انتهى، وبقي بعض الأسئلة، ونسأل الله أن يتولانا وإياكم بعين رعايته، وأن يهدينا وإياكم سبل السلام.

الأسئلة

راجيف غاندي

السؤال: ما رأيك في راجيف غاندي؟

الجواب: لقد ذهب الحمار بأم عمرو>>>>> فلا رجعت ولا رجع الحمار

هذا يفرح بموته.

طفح السرور عليَّ حتى إنني >>>>>من عظم ما قد سرني أبكاني

من بشرنا بقتل مثله فله حمل بعير وأنا بذلك زعيم على الدعاة.

النوم على الفرشة ليس من التصوف

السؤال: إذا كنت لا أرغب إلا في النوم على الفرشة دون فراش، وقد يكون ذلك أنفع لصحتي فهل هذا تصوف؟

الجواب: لا. بارك الله لك في فرشتك، ولو نمت على الرصيف ما عليك، ما دام أنفع لصحتك فافعل ما بدا لك.

لكن لا يكون هذا تحريماً لما أحل الله، أو تقشفاً قد يضر بالصحة؛ لأن بعض الناس بلغ به التقشف مبلغاً عظيماً، ومن يقرأ في سير بعض الناس يجد عجباً عجيباً.

يقول الذهبي في سيرة أحدهم: "ترك الطعام والشراب ثلاثة أيام يعبد الله في غرفة" يسبح ويستغفر وترك الغداء والعشاء ثلاثة أيام، فظهرت له أشباح دخان، فأخذ يقول: الملائكة تنزلت عليَّ.

فقال الذهبي: "لا والله ما تنزلت عليك الملائكة، ولكن عقلك طاش وفاش وخاش".

وذكر الخطابي عن رجلٍ أنه جعل على عينه اليسرى لاصقاً، وقال: من الإسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين!! هذا هو المذموم.

الوساطة قسمين: حسنة وسيئة

السؤال: هل تعتبر الواسطة من باب العون للمسلم، ويؤجر عليها؟

الجواب: الواسطة على قسمين:

واسطة محرمة، وواسطة مأجور صاحبها، وهذه تسمى شفاعة، ولكن الواسطة اسم حادث.

فأما من شفع، أو من توسط في إزاحة حق عن مسلم أو توسط في باطل، أو دون حد من الحدود؛ فهذا مأزور غير مأجور، وهذا من دعاة أبواب جهنم -والعياذ بالله- ممن يصرفون الحق عن مستحقيه، كبعض الناس ما همه إلا أن يصرف الحقوق عن أهلها، أو يتعدى على أموال الناس، أو يعطل أرزاقهم، الناس يصبحون كل صباح يقولون: نسأل الله من فضله، وهو دائماً في باب الفضل، ودائماً في باب أرزاقهم، فبعض الناس مهمته هكذا كلما أتى خير دفعه، وكلما أتى شر أكده، وكلما أتى شيء عفو منعه.

حتى يذكر شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم عن نصير الدين الطوسي الرافضي الذي كان مستشاراً لـهولاكو أن هولاكو أتى إلى بغداد وأراد أن يعفو عن المسلمين لما رأى الأيتام والمساكين والأرامل، لكن هذا المجرم نصير الدين الطوسي قال: لا تعف عنهم هم فعلوا وفعلوا وأرى أن تقتلهم بالسيف، فقتل في ساعة واحدة سبعة وثلاثين ألفاً، فهذا ومن كان على شاكلته دائماً يوحي بالشر ويقف في وجه الخير ويوقد نار الفتنة، وإذا قال الناس كلمات الخير نطق بكلمة الشر فلا يحب العفو ولا التسامح، ولا أن يستمر الخير.

وأما شفيع الخير؛ فهو الذي جعل الله له جاهاً طيباً، وهو الذي له الثناء الحسن، كما حكى الله عن إبراهيم إذ يقول: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] وهو الثناء الحسن، وهو الذي يتحمل حمالات الناس، ويقف بحوائجهم عند أبواب السلاطين، ويرفع شكاياتهم، ويرفع الضيم عنهم، ويأخذ أمورهم ومعاملاتهم ويقدمها، ويقف معهم كأنه يقف مع أموره الخاصة، فهذا جزاؤه عند الله، أن يكون الله في عونه، وأن ينفس عنه كرب الآخرة، وأن يتولاه في من تولى، وهذا صنفه كثير في العالم الإسلامي، كـرجاء بن حيوة رحمه الله ورضي الله عنه؛ فهو الذي كان سبباً في تولية عمر بن عبد العزيز، انظر هذا المستشار العظيم الصالح العالم،! كان رجاء بن حيوة؛ مجتهداً مطلقاً، وكان مستشاراً لـسليمان بن عبد الملك وسليمان أراد أن يولي ابنه أيوب الخلافة، فكتب مرسوماً أني إذا مت تولى بعدي ابني أيوب، فمات أيوب قبل أن يموت الخليفة، فلما حضرت سكرات الموت سليمان بن عبد الملك تلعثم ماذا يقول، إخوانه الأشقاء يريدون الخلافة وهم ظلمة، ورجاء بن حيوة يريد أن يعطيها الولي الصالح المجتهد المطلق عمر بن عبد العزيز ابن عمهم، فوقف فكان سليمان يبكي على فراش الموت ويقول وهو في سكرات الموت:

إن بني فتية صغار>>>>>أفلح من كان له كبار

قال عمر بن عبد العزيز: لا والله لكن قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15].

فقال لـرجاء بن حيوة: من أولي؟ قال: إن أردت أن تلقى الله وأنت من السعداء، فول عمر بن عبد العزيز. فقال اكتب: فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وليت عمر بن عبد العزيز ثم مات، فلفَّ رجاء الورقة وجعلها في جيبه وقدم على المنبر وصعد، وقال: يا أيها الناس! تبايعون لمن في الصحيفة؟ قالوا: نبايع. فقام يزيد وهشام إخوان سليمان بالسيوف، قالوا: اقرأ الصحيفة، قال: لا أقرؤها حتى يبايع الناس؟ قالوا: إما بايعتم وإلا قتلناكم. قالوا: نبايع. فأخرج الصحيفة فإذا هو عمر بن عبد العزيز.

فهذا شفيع عند الله يقول: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85].

والناس كثير منهم لا يستطيع أن يرفع حاجته، ولا أن يرفع ضيمه، ولا أن يقدم لنفسه نفعاً، على سبيل المثال: بعضهم تجده سنوات تمر به لا يستطيع أن يدخل لبيته مثلاً خدمة الماء أو الكهرباء أو الهاتف، بينما بعض الناس في لحظة يتصل بالهاتف: بسم الله أنا أبو فلان لا يأتي صلاة الظهر إلا والهاتف موجود، فهذا يستخدم ثقله في نفع الناس، ونفع المصابين، والأرامل، وهو المأجور عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو صاحب قدم الصدق.

هذا تقسيم الوساطات منه الحسن ومنه السيء، والله المستعان.

ثلاث نصائح للداعية المسلم

السؤال: حصلت على بطاقة داعية وأريد التوجيه لي والإرشاد؟

الجواب:

أولاً: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير! وهذه البطاقة سوف تكون لك شهادة عند الله عزوجل إذا صدقت وأحسنت استخدامها فيما ينفع، وأنا أوصيك بثلاث مسائل:

الأولى: أن تخلص العمل لوجه الله، فتكون دعوتك ليكون الدين كله لله؛ لأنه لا يصلح أن يكون قصد الداعية إلا أن يكون الدين كله لله، وترتفع (لا إله إلا الله) أرفع من كل شيء في الأرض، تكون لا إله إلا الله دائماً رفيعة، وتبقى كلمة الله هي العليا.

الثاني: أرى أن تطلب العلم دائماً؛ فإن الداعية لا بد له أن يتعلم، ولابد أن يتزود من الفقه في الدين حتى يكون على بصيرة.

الثالث: أرى أن تلين للناس، ولا تكن فظاً، ولا تتخذ قصص بعض الناس ممن مروا في التاريخ يقولون: كان هذا يكسر، وكان هذا يضرب، وكان هذا يلطم؛ هذه لا تصلح وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] {وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه} فالله الله في الرفق، وفي الهدوء، وفي مخاطبة الناس باللين حتى تكسبهم.

بقي بعض المسائل أشير إليها وهي:

حاول أن تتكلم للناس في كبار المسائل قبل صغارها؛ فإن الاشتغال مثلاً بصغار المسائل ليس من الحكمة.

الآن تجد من الناس من جعل قضية تقصير الثياب قضية كبرى، فلا يتحدث في المحاضرات إلا عنها، وهي لابد منها، لكن لابد أن تأخذ حجمها، لا أن تترك العقيدة وأمور الإسلام والأركان والكبائر، وتأتي إلى هذه الجزئية تستهلك بها وقتك، ليس من الحكمة.

ثم أرى كذلك أنك لا تظهر عيوب الناس عندهم؛ وأنكم تفعلون كذا، وتفعلون كذا، وسمعت عنكم كذا، بل اذكر ما فيهم من مناقب، ونبه على المثالب بشيء من الأدب والاحتياط حتى يقبلوك؛ لأن الناس لا يرضون بأن يقف إنسان فيهم يجرحهم، ويجرح مشاعرهم، يعني: أحياناً بعض الناس يذهب إلى قرية، أو قبيلة من القبائل فيجتمعون ويقوم واعظاً فيهم، ويقول: سمعت عنكم أنتم يا أهل هذه القبيلة، أنكم من أغلى الناس في المهور، وأن بينكم الحسد والبغضاء، وأنكم متناحرون، هؤلاء تنغلق أفهامهم، وأسماعهم وأبصارهم تماماً، كيف تجرح الناس وتريد أن يسمعوا منك؟!

كان عليه الصلاة والسلام إذا تحدث يقول في سوق عكاظ لبني عبد الله؛ وهي قبيلة من قبائل العرب، قال: {يا بني عبد الله! إن الله أحسن اسم أبيكم فأحسنوا استجابتكم لله} ما أحسن المقدمة! وكان يتودد إلى الناس ويحبب بنفسه حتى كسبهم، حتى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].

وهذه هي الأعجوبة أن يصيد قلوب قبائل العرب، وأن يوجههم معه عليه الصلاة والسلام.

ونسأل الله لنا ولكم الهداية، والتوفيق والسداد، والعون والرشاد.

ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ألا يصرفنا من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الجوائز السخية للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net