إسلام ويب

للدعوة إلى الله آداب لا بد أن يلتزم بها الداعية؛ ولأن الداعية المسلم يمثل في شخصيته أمام الناس دين الله.

فلا بد أن يتقن فن التعامل مع المدعوين، فيجتنب ما ينبغي اجتنابه، ويأتي ما ينبغي الإتيان به.

وفي هذا الدرس عرضٌ لهذه الآداب والأخلاق.

الإخلاص في الدعوة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

إخوة الإيمان! إخوة الإسلام! إخوة العقيدة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشكركم شكراً جزيلاً على حضوركم، وأعلن أمامكم أني أحبكم في الله، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بهذه المحبة، فإن الله يقول في محكم التنزيل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] اللهم إنا نسألك صدق النية، وصلاح الذرية، والعيشة الرضية، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وحب أوليائك وكره أعدائك، اللهم أصلح منا القلوب، واستر منا العيوب، واغفر لنا الذنوب.

وفي الحقيقة أنني مدين بالشكر لكم، إذ إن هذا الدرس وهو بعنوان (فن الدعوة) هو نتاج أفكاركم، ومن الفتوحات التي فتحها الله عليكم في اقتراحاتكم ورسائلكم، ومشاركاتكم، ومثلي ومثلكم هذه الليلة كما قال الشاعر:

كالبحر يمطره السحاب وما له>>>>>فضلٌ عليه لأنه من مائه

الدعوة -يا معاشر أهل الإيمان، ويا حملة لا إله إلا الله- فنٌ يجيده الدعاة الصادقون، كفن البناء للبناة المهرة، وفن الصناعة للصناع الحذاق، وكان لزاماً على الدعاة أن يحملوا هموم الدعوة، ويجيدوا إيصالها للناس؛ لأنهم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولابد على الدعاة أن يدرسوا الدعوة، ولوازمها ونتائجها، وأساليبها، وما يجدُّ في الدعوة، وكان لزاماً عليهم أن يتقوا الله في الميثاق الذي حملوه من معلم الخير عليه الصلاة والسلام، فإنهم ورثة الأنبياء والرسل، وهم أهل الأمانة الملقاة على عواتقهم، إذا علم ذلك فإن أي خطأ يرتكبه داعية؛ يؤثر في الأمة، ويكون الدعاة هم المسئولون بالدرجة الأولى عما يرتكب من خطأ، أو ما يحدث من فشل؛ بسبب أنهم هم رواد السفينة التي إذا قادوها إلى بر الأمان نجت بإذن الله.

واعلموا -حفظكم الله- أنه ينبغي على الدعاة ويجب عليهم آداب لابد أن يتحلوا بها حتى يكونوا رسل هداية ومشاعل حقٍ وخيرٍ يؤدون الرسالة كما أرادها الله.

وإن مما ينبغي على الدعاة -أيها الكرام- أولاً: الإخلاص في دعوتهم، وأن يقصدوا ربهم في عملهم، وألا يتطلعوا إلى مكاسب دنيوية زائلة، وإلى حطامٍ فانٍ، ولسان الواحد منهم يقول: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:127] قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] فلا يطلب الداعية منصباً، ولا مكانةً ولا منزلةً، ولا شهرةً، بل يريد بعمله وجه الواحد الأحد إنك تعلم ما نريد.

خذوا كل دنياكم واتركوا>>>>>فؤادي حراً طليقاً غريباً

فإني أعظمكم ثروة>>>>>وإن خلتموني وحيداً سليبا

وكذلك يكون مقصود الداعية: إقامة الدين وهيمنة الصلاح، وتقليص الفساد في العالم إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] والداعية -أيها الإخوة- كالمجاهد في سبيل الله، فكما أن ذاك على ثغرٍ من الثغور، فهذا أيضاً على ثغرٍ من الثغور، وكما أن المجاهد يقاتل أعداء الله، فهذا يقاتل أعداء الله من الذين يريدون تسيير الشبهات والشهوات، وإغواء الجيل، وانحطاط الأمة، وإيقاعها في حمأة الرذيلة

وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] فوجب على الداعية أن يتحلى بما يتحلى به المجاهد، وأن يصابر الأعداء فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4].

طلب العلم النافع

ويلزم الداعية أن يطلب العلم النافع الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم؛ ليدعو على بصيرة، لأن الله قال في محكم التنزيل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] قال مجاهد: البصيرة: العلم، وقال غيره: البصيرة: الحكمة، وقال آخر: البصيرة: التوحيد، والحقيقة أن المعاني الثلاثة متداخلة، ولابد للداعية أن يكون موحداً للواحد الأحد، لا يخاف إلا من الله، ولا يرجو ولا يرهب إلا الله، ولا يكون أشد حباً إلا لله عز وجل، ولابد له أن يكون ذا علم نافع، وهو علم (قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم) ليدعو إلى الله على بصيرة، فيحفظ ما تيسر من كتاب الله، ويعنى بالأحاديث عناية فائقة، فيخرجها، ويصحح الصحيح منها، ويضعف الضعيف حتى يثق الناس بعلمه، ويعلم الناس أنه يحترم أفكارهم، وأنه يحترم تواجدهم، فإنني أعتبر مثل هذا الجمع أولاً: أنه حبٌ لله عز وجل، الثاني: أنه احترام لي، فلولا الحب بيني وبينكم ما حضرتم، فلم تجمعكم رغبة ولا رهبة، فكان لزاماً عليّ وأمثالي من المقصرين من طلبة العلم أن نحترم الجمهور في أن نقدم علماً نافعاً جديداً بناءً، مرسوماً على منهج أهل السنة والجماعة.

كذلك ينبغي على الداعية أن يكون حريصاً على أوقاته في حله وترحاله، في إقامته وفي سفره، وفي مجالسه، فيناقش المسائل، ويبحث مع طلبة العلم، ويحترم الكبير، ويستفيد من ذي العلم والتجربة والعقل، وإذا فعل ذلك سدد الله سهامه ونفع بكلامه، وأقام حجته ورفع برهانه.

البعد عن المثاليات

ومما ينبغي على الداعية: ألا يعيش المثاليات، وليعلم أن الناس مقصرون وأنه مقصر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21] فهو الكامل وحده، والنقص لنا.

ذهب الله بالكمال وأبقى>>>>>كل نقصٍ لذلك الإنسان

فما دام أن الإنسان خلق من نقص؛ فعلى الداعية أن يتعامل مع المجتمع، ومع الشبيبة، ومع النساء، ومع العامة على أنهم من مصدر نقص، قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [النجم:32] فما دام نشأتم من الطين والتراب، فأنتم ناقصون لا محالة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الناس على أنهم ناقصون ومقصرون، يرى المقصر منهم فيعينه ويساعده ويشجعه، ويأخذ به إلى الطريق، والداعية الذي يعيش المثاليات لا يصلح للناس، فإنه يتصور في الخيال أن الناس ملائكة إلا أنهم يأكلون ويشربون، والخلاف بينهم وبين الملائكة الأكل والشرب، وهذا خطأ، خاصةً في مثل القرن الخامس عشر -الهجري- الذي لا يوجد بيننا فيه محمد عليه الصلاة والسلام، ولا الصحابة الأخيار وقلّ أهل العلم، وكثرت الشبهات، وانحدرت علينا البدع من كل مكان، وأغرقنا بالشهوات، وحاربتنا وسائل مدروسة درست في مجالس عالمية، وراءها الصهيونية العالمية وأذنابها، فحق على العالم والداعية أن يتعامل مع هذا الجيل وهو يتصور أنه سوف يخطئ، وأن الإنسان سوف يحيد عن الطريق، فلا يعيش المثاليات، ولا يغضب إذا سمع شاباً طرح عليه مشكلة، أو أنه وقع في معصية.

فقد (أُتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم برجلٍ شرب الخمر -وهو من الصحابة- أكثر من مرة، فلما أتي به أقيم عليه الحد، قال بعض الصحابة: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به في الخمر، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال للرجل: لا تقل ذلك، لا تعين الشيطان عليه، والذي نفسي بيده، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) فلا إله إلا الله ما أحسن الحكمة! ولا إله إلا الله ما أعظم التوجيه! خمسون مرة وهو يشرب الخمر وبعدها يحب الله ورسوله.

ولذلك ينبغي ألا نيأس من الناس، مهما بدرت منهم المعاصي والمخالفات والأخطاء، بل لا بد أن نعتبر أنهم رصيد محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم أمل هذه الأمة، وأنهم في يومٍ من الأيام سوف تفتح لهم أبواب التوبة، وسوف تراهم صادقين، مخلصين، تائبين، متوضئين.

عدم اليأس والقنوط من إعراض الناس

ينبغي على الداعية ألا ييأس من الناس، بل عليه أن يصبر ويصابر ويسأل لهم في السجود، وفإنه سوف يفرح بهم غداً، ولا يستعجل عليهم، فإن رسولنا عليه الصلاة والسلام مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى لا إله إلا الله، فلم ييأس على كثرة الإيذاء والسب والشتم، وعلى كثرة ما تعرض له من الصعوبات، التي -والله العظيم- لو جمعت المصائب التي يتعرض لها الدعاة والعلماء، فإنها لا تعادل ذرة أمام المصاعب التي تعرَّض لها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك صبر وحاسب نفسه، وحبس أعصابه -عليه الصلاة والسلام- ولم يغضب حتى يأتيه ملك الجبال، فيقول: أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا، إني أسأل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً، فأخرج الله من أصلاب الكفرة القادة: خالد بن الوليد من صلب الوليد بن المغيرة، ومن صلب أبي جهل عكرمة بن أبي جهل.

فما أحسن الطريقة! وما أحسن ألاَّ ييأس الداعية! وأن يعلم أن العاصي قد يتحول بعد المعاصي إلى إمام مسجد أو خطيبٍ أو عالمٍ.

من ذا الذي ما ساء قط>>>>>ومن له الحسنى فقط

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها >>>>>كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

تريد مهذباً لا عيب فيه>>>>>وهل عود يفوح بلا دخان

هذا لا يصلح على منهج الكتاب ولا على منهج السنة.

ومما ينبغي على الداعية ألا يقنط الناس من رحمة الله تعالى، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو الرحمن الرحيم، الذي يقول في الحديث القدسي الذي رواه أحمد والترمذي بسندٍ صحيح: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) فلا تقنط شارب الخمر من توبته إلى الله، ولا تقنط الزاني ولا القاتل ولا السارق، بل حببهم إلى الهداية، وقل: هناك ربٌ رحيم، يقول في محكم التنزيل: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[الحكيم من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يورطهم في معصية الله]].

الداعية.. ومشكلة تهوين المعاصي على الناس

ومن آداب الداعية ألا يهون على الناس المعاصي، بل يخوفهم من الواحد الأحد، فيكون وسطاً بين الخوف والرجاء، فإن بعض الناس قد يتساهل مع الناس في المعاصي، فكلما فعل عاصٍ معصية قال: ما عليك، وكلما ارتكب كبيرة، قال: سهلة، وكلما أتى بأخطاء، قال: أمرها سهل بسيط يسير، لا. بل علِّمه أن هناك رباً يغضب إذا انتهكت حدوده، وأن هناك سلطاناً عظيماً على العرش استوى، لا يرضى أن تنتهك محارمه، وقد صح في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تعجبون من غيرة سعد، فوالذي نفسي بيده، إني أغير من سعد وإن الله أغير مني) وقد ورد من صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، كما في الصحيح من حديث ابن مسعود:(أن الله غيور، ومن غيرته سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنه يغار على عبده المؤمن أن يزني، وعلى أمته المؤمنة أن تزني).

الداعية.. ومهاجمة أشخاص معينين

ومن صفات الداعية ألا يهاجم أشخاصاً بأسمائهم، فلا يلمزهم على المنابر بأسمائهم أمام الناس، بل يفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، فيعرف صاحب الخطأ خطأه، ولكن لا نشهر به، وأحب أن أفسر لكم مسألة قد تخفى أو لا تظهر وهي مثلاً: رجلٌ جاهر الله عز وجل بكتاباته، أو بانحرافاته أو بأدبه أو ببدعته أو بدعوته إلى المجون، فهذا لا بأس أن يشهر به عند أهل العلم حتى يبين خطره، فقد شهَّر أهل العلم بـالجهم بن صفوان، وقال ابن المبارك في الجهم هذا المجرم الذي قاد الأمة إلى الهاوية، وابتدع بدعة في الدين، قال:

عجبت لدجالٍ دعا الناس جهرة>>>>>إلى النار واشتق اسمه من جهنم

فشهروا به وشهروا بـالجعد بن درهم وكتبوا أسماءهم في كتب الحديث، وحذروا الناس في المجالس العامة والخاصة منهم، فمثل هؤلاء يشهر بهم، لكن الذين يتكتم على أسمائهم أناسٌ أرادوا الخير فأخطئوا، وأناسٌ زلت بهم أقدامهم، وأناس أساءوا في مرحلة من المراحل، فهؤلاء لا تحاول أن تظهر أسماءهم في القائمة السوداء، فإن ذلك قد يغريهم على أن تأخذهم العزة بالإثم.

الداعية.. وتزكية النفس

وعلى الداعية أن لا يزكي نفسه عند الناس، بل يعرف أنه مقصر مهما فعل، ويحمد ربه سبحانه أن جعله متحدثاً إلى الناس، ومبلغاً عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيشكر الله على هذه النعمة، فإن الله قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور:21] وقال له في آخر المطاف وهو يؤدي الرسالة كاملة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3].

قال أهل العلم: أمره أن يستغفر، والمعنى قد تكون مقصراً فيما فعلت فاستغفر ربك، وما تدري فإن المنة لله الواحد الأحد، وهو المعطي سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

فلا يأتي الداعية فيزكي نفسه ويقول: أنا آمركم دائماً وتعصونني، وأنهاكم ولا تمتثلون نهيي، وأنا دائماً ألاحظ عليكم، وأنا دائماً أرى، وأنا دائماً أقول في نفسي، وأنا دائماً أحدث نفسي إلى متى تعصي هذه الأمة ربها، فيخرج نفسه من اللوم والعتاب وكأنه بريء، وهذا خطأ، بل يجعل الذنب واحداً، والتقصير واحداً، ويقول لهم: وقعنا كلنا في هذه المسألة، وأخطأنا كلنا، والواجب علينا.. حتى لا يخرج نفسه من اللوم والعتاب، فما نحن إلا أسرة واحدة، وربما يكون -بل هذا حاصل- في المجموع الجالس من هو أزكى عند الله من الداعية، ومن هو أحق وأقرب إليه، وعلم الله عز وجل أنني لا ألتمس بعد التوحيد الذي أدين الله عز وجل به، مثل حب الصالحين ودعائهم فإنه من أعظم ما يقربنا إلى الله.

خطر الإصابة بالإحباط عند الداعية

ومنها: أن يعلم الداعية أن الانحراف في الناس أكثر، وأن المفسدين في الناس كثير، فلا تصاب نفسه بإحباط، ولا يصاب بخيبة أمل، ولا يرى الألوف المؤلفة تتجه إلى اللهو واللغو والقليلة تتجه إلى الدروس والمحاضرات، ويقول: ما هذا؟! أقول: سنة وقضاء، سنة الله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الفتح:23]؛ لأن الله سبحانه ذكر في محكم التنزيل أن أهل المعصية والضلال أكثر، وأن المفسدين أكثر، وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] لست عليهم بوكيل إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48] فنحن لا نملك سوطاً، ولا عصى، ولا عذاباً، ولا حبساً، إنما نملك حباً ودعوةً وبسمة، نقود الناس بها إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، فإن استجابوا حمدنا الله، وإن لم يستجيبوا ورفضوا أوكلنا أمرهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الذي يحاسبهم.

قال بعض العلماء: الكفار في الأرض أكثر من المسلمين، وأهل البدعة أكثر من أهل السنة، والمخلصون من أهل السنة أقل من غير المخلصين.

ضرورة فقه الواقع للداعية

ومن مواصفات الداعية أن يعيش واقع الناس، ويقرأ حياتهم، ويتعرف على أخبارهم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] ومن حكمة الله تعالى إحياء رسوله أربعين سنة في مكة، فعاش في شعاب مكة، وفي أودية مكة، عرف مساربها ومداخلها، عرف الأطروحات التي وقعت في مكة، وعرف بيوت أهل مكة، واعترض الكفار وقالوا: لولا نزل عليه ملك، وقالوا: لو كان هو ملك، والله عز وجل ذكر أنه لابد أن يكون بشراً يعيش آمال الناس وهمومهم ومشكلاتهم، واحتياجاتهم، فحقٌ على الداعية أن يقرأ واقعه، وأن يستفيد من مجتمعه، وأن يعرف ماذا يدور في البلد وماذا يقال؟ وما هي مصادر المعلومات، ومن أين تأتي؟ وما هي القضايا المطروحة؟ ويتعرف حتى على الباعة، وعلى أصناف التجار، وعلى الفلاحين، وعلى طبقات الناس، وعلى أن يلوح في طرحه على مجامع الناس، وفي الأسواق والمحلات، وفي الجامعات والأندية، حتى يكون صاحب خلفية قوية يتكلم من واقع يعرفه.

وجعل أهل العلم من لوازم الداعية إذا أتى إلى بلد أن يقرأ هذا البلد، وقد كان بعض العلماء إذا سافر إلى الخارج يأخذ مذكرات عن البلد، عن تاريخه، وجغرافيته، ودراسة علم النفس فيه، وأمزجة أهل البلد، وتربية البلد، حتى يتكلم على بصيرة.

أهمية تقديم الصورة الصحيحة للقضية وعدم تهويلها

ومنها: ألا يهول عليهم الوعظ، وألا يبالغ في النقل، ولا يجازف في العبارات، بل يأتي بكتاب الله عز وجل، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يزيد على ذلك، فإن بعض الوعاظ يحملهم الإشفاق والغيرة على أن يزيدوا على الكتاب، فتجده إذا تكلم على معصية جعل عقابها أكثر مما جعله الله عز وجل، حتى إن من يريد أن ينهى عن الدخان وشربه، يقول مثلاً: يا عباد الله! إن من شرب الدخان حرم الله عليه الجنة، وكان جزاؤه جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، وهذا خطأ؛ لأن هناك موازين في الشريعة، هناك شركٌ يخرج من الملة، وهناك كبائر وصغائر، وهناك مباحات قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3].

فوضع الندى في موضع السيف بالعلى>>>>>مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

فعلى الداعية: أن لا يهول على الناس، كذلك لا يهول جانب الحسنات كالحديث -وهو ضعيف- الذي يقول: (صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاةٍ بلا سواك) وحديث آخر باطل: (من قال: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، بنى الله له سبعين قصراً في الجنة في كل قصر سبعون حورية على كل حورية سبعون وصيفة) ويبقى في سبعين من صلاة العصر إلى صلاة المغرب، مع العلم أن الأجر الذي عليه محدد من الشارع الحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتهويل ليس بصحيح، بل يكون الإنسان متزناً في عباراته، يعرف أنه يوقع عن رب العالمين، وينقل عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم.

حكم الاستدلال بالحديث الموضوع

ومما ينبغي على الداعية ألا يستدل بحديثٍ موضوع، إلا على سبيل البيان، فإنه يعلم أن السنة -والحمد لله- ممحصة ومنقاة، وأنها معروضة، وأن أهل العلم نقوها، ولذلك لما أُتي بالمصلوب الذي وضع أربعة آلاف حديث على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً أُتي به إلى هارون الرشيد ليقتله، فسل هارون الرشيد السيف، قال: اقتلني أو لا تقتلني فوالله، لقد وضعت على أمة محمد أربعة آلاف حديث، قال هارون الرشيد: ما عليك يا عدو الله ينبري لها الجهابذة يزيفونها ويخرجونها كـابن المبارك وأبي إسحاق المروزي، فما مر ثلاثة أيام إلا وقد نقاها عبد الله بن المبارك وأخرجها وبين أنها موضوعة، فلله الحمد على منته.

فالأحاديث الموضوعة مبينة، وأنا أحذر إخواني الدعاة ألا يذكروا الناس بحديثٍ موضوع، ولو قال: إن فيه مصلحة ردهم إلى الله، فالمصلحة كل المصلحة فيما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الموضوعة كأحاديث علقمة وما واجه مع أمه، وكأحاديث ثعلبة والزكاة، وكأحاديث أخر بواطل، لا يصح الاستشهاد بها؛ لأن ضررها على الأمة عظيم، وأثرها على الأمة سقيم، لكن يجوز للداعية أن يبين للناس في مثل محاضرة أو درس أو خطبة الأحاديث الموضوعة وينبه الناس عليها.

كذلك الأحاديث الضعيفة لها شروطٌ في الاستدلال، فيستدل بالحديث الضعيف عند بعض أهل العلم بثلاثة شروط:

أولاً: ألا يكون شديد الضعف.

ثانيا: أن تكون القواعد الكلية في الشريعة تسانده وتؤيده.

ثالثاً: ألا يكون في الأحكام، بل يكون في فضائل الأعمال.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله وأسقاه من سلسبيل الجنة- عن الإمام أحمد في المجلد الثامن عشر من الفتاوى أنه قال: إذا أتى الحلال والحرام شددنا، وإذا أتت الفضائل تساهلنا. وهذا كلامٌ جيد، ولو أنه غير مجمع عليه.

عدم القدح في الهيئات والمؤسسات مع تبيين الحق والباطل

ومما ينبغي على الداعية ألا يقدح في الهيئات ولا في المؤسسات بذكر أسمائها، ولا الجمعيات، ولا الجماعات، لكن يبين منهج الحق، ويبين الباطل، فيعرف صاحب الحق أنه محق، ويعرف صاحب الباطل أنه مبطل؛ لأنه إذا تعرض للشعوب جملة، أو للقبائل بأسمائها، أو للجمعيات، أو للمؤسسات، أو للشركات أتى الآلاف من هؤلاء فنفروا منه، ولم يستجيبوا له، وتركوا دعوته، وهذا خطأ.

وفي الأدب المفرد مما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من أفرى الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها) وهذا خطأ، فإن من يقول: قبيلة كذا كلهم فسدة وفسقة، مخطئ لأنه لم يصدق في ذلك، والتعميم عرضة للخطأ، فالوصية أن يكون الداعية لبقاً في اختيار العبارة حتى يدخل للقلوب، ولا يثير عليه الشغب؛ لأن الناس يغضبون لقبائلهم ولشعوبهم ولشركاتهم، ويغضبون لمؤسساتهم ولجمعياتهم، فليتنبه لهذا.

عدم التكبر على الناس

ومنها: ألا يظهر الداعية بهالة المستعلي على جمهوره وأحبابه وإخوانه، وعلى المدعوين كأن يقول مثلاً: قلت وفعلت، وكتبت، وراسلت، وألفتُ، فإن (أنا) من الكلمات التي استخدمها إبليس، قال ابن القيم في كلامٍ ما معناه: اجتنب ثلاث كلمات (أنا) و(لي) و(عندي) فإن إبليس قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] وقال فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف:51] وقال قارون: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] فاجتنب (أنا) واجتنب (لي) واجتنب (عندي) ولكن قد تستخدم (أنا) في مثل: أنا مقصر، كما قال شيخ الإسلام -سقاه الله من سلسبيل الجنة-:

أنا الفقير إلى رب البريات>>>>>أنا المسيكين في مجموع حالاتي

أحد الناس مدح الداعية الكبير ابن تيمية الجهبذ، فغضب ابن تيمية وقال:

أنا المكدي وابن المكدي>>>>>وهكذا كان أبي وجدي

يقول: أنا مذنب وأبي مذنب، وجدي مذنب إلى آدم عليه السلام.

هذا واجب الداعية أن يظهر دائماً بالتواضع وأن يلتمس العذر من إخوانه، وأن يبادلهم الشعور، وأن يطلب منهم المشورة والاقتراح، وأن يعلم أن فيهم من هو أعلم منه وأفصح وأصلح، لكن الله رشحه وكلفه، وكان أكثرهم حملاً، قال بعض السلف: الساكت ينتظر الأجر من الله، والمتكلم ينتظر المقت، فإن المتكلم خطير، فنسأل الله أن يسلمنا وإياكم.

الداعية لا يعطي المسألة أكبر من حجمها

ومنها ألا يعطي المسألة أكبر من حجمها، فالدين مؤسس، ومفروغٌ منه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فلا يعطي المسائل أكبر من حجمها، ولا يصغر المسائل الكبرى أو يهونها عند الناس. ومن الأمثلة على ذلك أن بعض الدعاة يعطي مسألة تربية اللحية أكبر من حجمها، حتى كأنها التوحيد الذي يدخل به الناس الجنة، ويخلد الناس بتركه في النار، مع العلم أنها من السنن الواجبات، وأن من حلقها فقد ارتكب محرماًً، لكن لا تأخذ حجماً أكبر من حجمها، وكذلك إسبال الثياب، وكذلك الأكل باليد اليسرى، وغيرها من المسائل، لا يتركها الداعية أو يقول: إنها قشور فيخطئ، ولكن لا يعطيها أكبر من حجمها، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3] فعليه أن يفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام، تكلم عن التوحيد في جل أحاديثه ومجالسه، وأعطى المسائل حجمها حتى لا يصاب الناس بإحباط، فإن التربية المعوجة أن تصف له المسألة السهلة فتكبرها عنده، وتصغر المسألة الكبرى.

فأحياناً: بعض الناس يصغر من مسألة السحر واستخدام السحر ويقول: إنه ذنب، مع العلم أنه عند كثير من أهل العلم مخرجٌ من الملة، وحد الساحر ضربةٌ بالسيف، ومع ذلك تجد بعض الدعاة يصغر من شأن السحر.

وأحياناً: بعض الدعاة أيضاً يصغر من شأن الحداثة أو الهجوم على الإسلام في بعض المقالات والصحف والمجلات والجرائد، ويقول: هذا أمرٌ محتمل، والمسألة سهلة ويسيرة.

عدم الاشتغال بمسائل لا فائدة منها

أيضاً على الداعية ألا يشغل الأمة في مسائل مفتعلة، لا يحسون بها ولا يعيشونها، فإن بعض الدعاة يختلق مسائل ولم يأتِ وقتها، أو الأمة مشغولة بمسائل أعظم منها، مثل: مسألة المهدي المنتظر، فيؤلف فيها كتاباً، ويرد عليه الآخر، مع العلم أن المهدي ما ظهر، وسوف يظهر في آخر الزمان، وعندنا من المشاكل ومن الدواهي، والمصائب ما يشغلنا عن ذلك.

أيضاً مثل مسألة: أين أدنى الأرض في قول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم:1-3] قال بعضهم: بحيرة طبرية، وقال بعضهم: غور الأردن، وقال بعضهم: أقرب الأرض من جزيرة العرب، وألف في هذه رسالة، ورد عليه ذاك برسالة! وهذا إشغال للأمة، بمثل هذه المسائل التي مر عليها أهل السنة والجماعة، وقالوا: نمرها كما جاءت من دون تعطيل!

لين الداعية في خطابه مع الناس

ومنها أيضاً اللين في الخطاب، والشفقة في النصح، كما كان عليه الصلاة والسلام، كلامه ليِّن ووجهه بشوش، وتواضع عليه الصلاة والسلام للكبير والصغير، فتراه يقف مع العجوز ويقضي غرضها، ويأخذ الطفل ويحمله عليه الصلاة والسلام، ويذهب إلى المريض ويزوره، ويقف مع الفقير، ويتحمل جفاء الأعرابي، ويرحب بالضيف، ويوافق الإنسان، وكان إذا صافح شخصاً لا يخلع يده من يده حتى يكون ذلك هو المنتهي، وكان إذا وقف مع شخص لا يعطيه ظهره حتى ينتهي ذاك، وكان دائم البسمة في وجوه أصحابه -صلى الله عليه وسلم- لا يقابل أحداً بسوء.

فإذا فعل الإنسان ذلك كان أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويرسل الله موسى وهارون عليهما السلام، إلى أطغى طاغية فيقول لهما وهما في الطريق: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] فالقول اللين سحرٌ حلال، قيل لأحد أهل العلم: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال، وقال أحدهم يصف الدعاة الأخيار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم:

هينون لينون أيسار بني يسرٍ>>>>>صيدٌ بهاليل حفاظون للجار

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم>>>>>مثل النجوم التي يسري بها الساري

فأدعو إخواني إلى لين الخطاب، وألا يظهروا للناس التزمت، ولا الغضب، ولا الفضاضة في الأقوال والأفعال، ولا يأخذوا الناس أخذ الجبابرة فإنهم حكماء معلمون، أتوا رحمةً للناس، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فالرسول صلى الله عليه وسلم رحمة، وأتباعه رحمه، وتلاميذه رحمة، والدعاة إلى منهج الله رحمة.

مشاورة الآخرين وعدم الاستبداد بالرأي

ومنها: أن يقبل على أهل الخير، قبل ذلك يشاور إخوانه، فلا يستبد برأيه والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] فيشاور طلابه في الفصل، ويشاور إخوانه، ويشاور أهل الدين وأهل الخير ممن هم أكبر سناً، ولا بأس أن يعرض عليهم حتى المسائل الخاصة التي تخصه هو حتى يثقون به، ويبدون له النصح، ويكونون على قربٍ منه، ويشاور أهل الحي والحارة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جلب الناس بسبب المشاورة، وكان يشاورهم حتى في المسائل العظيمة التي تلم بالأمة، كنزوله في يوم بدر، ومشاورته لأصحابه في الأسرى والغنائم ونحو ذلك وأمثالها من القضايا الكبرى.

فأنا أطلب من الداعية أن يشاور المجتمع، ولا بأس أن يكتب لهم بطاقات، وأن يطلب آراءهم، وإذا وجد مجموعة منهم يقول: ما رأيكم يا إخوتي في كذا وكذا؟ فإن رأي الإثنين أحسن من رأي الواحد، ورأي الثلاثة أحسن من رأي الإثنين.

الثناء على أهل الخير

ومنها: أن يثني على أهل الخير، ويشكر من قدم صالحاً، فإن المسلم والداعية إذا أثنى على أهل الخير، عرفوا أنه يعرف قدرهم، وأنه لا يترك الجميل بلا جميل وبلا شكر، ولا يترك المخطئ بلا إدانة وبلا تنبيه، فكأنك لم تفعل شيئاً، بل لابد أن تقول للمحسن: أحسنت وللمسيء أسأت، فكبار السن يحبون منك أن تحتفل بهم، وأن تعرف أن لهم حق سن الشيخوخة وأنهم سبقوك في الطاعة، وأنهم أسلموا قبلك، وأنهم دخلوا في الدين قبلك بسنوات، فتعرف لهم قدرهم، وكذلك العلماء والقضاة، وأعيان الناس وشيوخ القبائل، ونحو ذلك من أهل الفضل، وأهل المواهب، كالشعراء والكتبة الإسلاميين، ومن له بلاءٌ حسن، والتجار الذين ينفقون في سبيل الله عليك أن تظهر لهم المنزلة وتشكرهم على ما قدموا، حتى تحيي في قلوبهم هذا الفعل الخير.

وكان عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر: (غفر الله لـعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) وكان يقول: (ألستم تاركو لي صاحبي) -يعني أبا بكر الصديق - وكان يشكر عمر ويخبر ما رأى عن عمر، وكان يقول: (سمعت دف نعليك يا بلال البارحة في الجنة) ويقول: (دخلت الجنة البارحة فرأيت الرميصاء) ويثني على هذا ويمدح هذا، ويشكر هذا، فإن هذه من أساليب التربية، وليست من التملق في شيء.

الإسرار والجهر بالدعوة

ومنها: أن يعلن الدعوة للمصلحة ويسر بها للمصلحة، فمرةً يعلن بها، حيث يكون الإعلان مناسباً كالمحاضرة العامة، والموعظة العامة في قرية أو في بلدة، أو في مدينة، ولكن إذا أتى ينصح شخصاً بعينه فليأخذه على حدة، بينه وبينه، ويتلطف له بالعبارة، وينصح له بينه وبينه، قال الشافعي:

تعمدني بنصحك في انفراد>>>>>وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نوعٌ>>>>>من التوبيخ لا أرضى استماعه

فإن خالفتني وعصيت قولي>>>>>فلا تجزع إذا لم تعط طاعة

يقول: إذا خالفتني، ونصحت الإنسان أمام الناس، فلا تجزع فسوف يجابهك هذا وينتقم لنفسه، وقد تأخذه العزة بالإثم، وكم شكا لي بعض الشباب -حفظهم الله- أن بعض الناس جابههم في مجمع من الناس، وانتقدهم، فأصابهم من ذلك تذمر وانقباض واشمئزاز، وهذا ليس من المصلحة في شيء.

الاهتمام بالقضايا العصرية

ومنها أيضاً: أن يطلع على الأطروحات المعاصرة والقضايا الحالية، ويتعرف -كما قلت- على الأفكار الواردة، فيقرأ الكتابات الواردة، ويقرأ للمؤلفين، وليس بصحيحٍ ما قاله بعض الناس حتى من الفضلاء: لا تقرءوا الثقافة الواردة، ولا تقرءوا هذه الكتب البيضاء العصرية التي وردت من وراء البحر، فإن هذا ليس بصحيح، ولو لم نقرأ هذه لما عرفنا أين نعيش وكيف نعيش؟ وكيف نتعامل مع هؤلاء؟ بل أرى أن على الدعاة أن يقرءوا الصحف والمجلات، لكن بحيطة وحذر، حتى لا تصل بعض الثقافة إلى بعض المجلات الخليعة، فتفسد عليهم قلوبهم، فإني أحذر من هذا، لكن إذا أراد أن يطلع هو فليطلع على انفراد، وليطلع بالتأمل وبحذر، ليعرف الداء في الأمة ويداويه ويعالجه.

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه

وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[تنقض عرى الإسلام عروة عروة من أناس وُلدوا في الإسلام ما عرفوا الجاهلية]] فالذي لا يعرف الجاهلية، لا يعرف الإسلام، ولا يتصور دين الله عز وجل، فحقٌ على الدعاة التنبه لهذا الأمر الخطير.

وأنا أطالب الإخوة الفضلاء، من وجد منهم كلاماً، أو وجد مقالاً فيه شبهة، أو فيه نظر أن يعرضه عليَّ أو على إخوانه من الدعاة، أو غيرنا ممن هو أعلم منا حتى نكون على بصيرة، ونخرج بحلٍ إما بتنبيهٍ أو بنصيحة عامة.

مخاطبة الناس على قدر عقولهم

ومنها: أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، فإن على الداعية أن يكون حاذقاً، يخاطب الناس على قدر عقولهم، فإذا أتى إلى المجتمع القروي تحدث بما يهم أهل القرية من مسائلهم التي يعيشونها، وإذا أتى إلى طلبة العلم في الجامعة حدثهم على قدر عقولهم من الثقافة والوعي، وإذا أتى إلى أهل الابتدائية حدثهم في مسائلهم مع التبسيط، وإذا أتى إلى أهل البادية نازلهم في مسائلهم التي يعيشونها، فإن لكلٍ مسائل، فمسائل البادية مثلاً: الشرك، والسحر، الكهانة، أو الإخلال بالصلاة، أو السفور أو نحو ذلك، ومسائل أهل الجامعة مثلاً: الأفكار الواردة من علمنة وإلحاد وحداثة وشبهات وشهوات، ومن مسائل أهل الابتدائية مثلاً الجليس، بر الوالدين، حقوق الجار، حفظ الوقت، قراءة القرآن، حفظ المتون، ونحو ذلك من المسائل حتى يكون ذلك على بصيرة، فلابد من مخاطبة الناس على قدر عقولهم ومواهبهم، واستعداداتهم، وانظر إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يخاطب معاذ بن جبل بخطاب لا يخاطب به أحداً غيره من الأعراب مثلاً، فيخاطبه عن العلم وعن أثر العلم، وعن حفظ الله، وعن حدود الله، ويخاطب الأعراب بالتوحيد، ويقودهم إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض ونحو ذلك.

الحذر من رفع النفس بانتقاد الآخرين

ومما ينبغي على الداعية أن لا ينتقد الآخرين ليرفع نفسه، وهو ما يسمى في التربية أسلوب الإسقاط، أن تسقط غيرك لتظهر أنت، ويفعله بعض الناس من أهل حب الظهور والشهرة -والعياذ بالله من ذلك- وأهل الرياء والسمعة، فإنه إذا ذكر له عالم قال فيه كيت وكيت، وإذا ذكر له داعية قال: لا أرضى مسيرة في الدعوة، وإذا ذكر له كاتب انتقده كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -سقاه الله من سلسبيل الجنة-: بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح. الذباب يترك البقعة البيضاء في جسمك، فإذا كنت تلبس ثوباً أبيض فإنه لا يقع عليك، لكن إذا رأى جرحاً في إصبعك، وقع عليه، فهذا خطير وتجد أسلوب الإسقاط عند بعض الناس، يقول: شكر الله للداعية الفلاني، لكن فيه كذا وكذا، فلا يترك لكن ولا يترك الانتقاد، ولا يترك الاستثناء، ولا يترك الاستطراد حتى يظهر هو كأنه هو الذي لا عيب فيه قط، وتجد من الأساليب المدبلجة التي دبلجها الشيطان على بعض الدعاة أنه يأتي مثلاً ويدعو في قالب النصح للداعية، وهو يريد أن ينتقصه، فإذا ذكر له داعية قال: هداه الله، أسأل الله أن يهديه، فتقول له لماذا؟ قال: أسأل الله أن يهديه فقط، فتعرف أن وراء هذا الداعية شيء، وأنه يريد بها شيئاً، وهذا دعاءٌ لا يؤجر عليه، قال ابن المبارك: رب مستغفر أذنب في استغفاره، قالوا: كيف؟ قال: يذكر له بعض الصالحين فيقول: أستغفر الله، ومعناها أنه ينتقد عليهم فلا يكتب له أجر هذا الاستغفار، بل قد يسجل عليه خطيئة.

الداعية قدوة للآخرين

ومنها: أن يتمثل القدوة في نفسه، وأن يسدد ويقارب ويعلم أن أخطاءه تضخم، وأن الخطأ منه كبير، وأن الناس ينظرون له.

قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له>>>>>فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

وأنه أصبح أمامهم كالمرآة، كلما وقع فيها نقطة صغيرة كبرت وضخمت، فليتق الله في هذه الأمة، ولا يكون سبباً لهلاك كثير من الناس، فإنا رأينا كثيراً من العامة وقعوا في كثير من الخطايا بسبب فتاوى، أو بسبب تصرفات اجتهادية من بعض الفضلاء، ربما أجروا عليها، وأخطئوا خطأً واحداً، ولكن وقع بسببه عالَم، قال بعض الفضلاء: زلت العالِم زلت العالَم، فعليه أن يدرس القرار، أو التصرف أو الفعل أو الخطوة التي يريد أن يخطوها، قبل أن يقدم عليها حتى لا يكون عرضة لتوريط كثير من الناس، وكم جوبه الإنسان بفتاوى من عامة الناس، يستدلون بفعل الفضلاء والأخيار، وهذا خطأٌ عظيم.

الداعية يتألف الناس

أيضاً مما ينبغي على الداعية أن يتألف الناس بالنفع، فيقدم لهم نفعاً، فليس مهمة الداعية فقط أن يلقي عليهم الخطب والتنبيهات والمواعظ، لكن يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يتألفهم مرة بالهدية، ومرةً بالزيارة، ولا بأس بالدعوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس وتألفهم وأعطاهم وأهدى لهم، بل كان يعطي الواحد مائة ناقة، وكان يأخذ الثياب الجديدة ويسلمها للناس، ويأخذ الإنسان ويعانقه ويجلسه مكانه، فكان يقدم الخير للناس، فهذا من التألف وهو من المحمدة، حتى إني أرشح أن من عنده رأس مال أن يتألف به الناس، وأن يدعو إلى سبيل الله عز وجل، ويا ليت أن هناك صندوقاً لتأليف كثير من الناس وردهم إلى الله عز وجل، مثل تأليف كثير من الشباب العصاة، فإذا رأيت الشاب عاصياً، وعلمت أنه لا يستطيع الزواج، ودفعت له المهر، أو شيئاً من المهر وقلت له: بشرط أن تصلي صلاة الجماعة، وأن تعود إلى الله وتتوب، فكم تساوي هذه؟ أو أن تتألف إنساناً تراه مثلاً: مدمناً على المخدرات، بشيءٍ من المال بشرط أن يتركها وأن يجتنبها، أو أن تتألف إنساناً لا يصلي في المسجد، بتقديم شيءٍ من النفع له، وبإهدائه شيئاً من المال، ولو سيارة، فإنا رأينا أن بعض الناس ممن أجادوا بعض الفنون الدنيوية أو بعض الأمور التي هي لهو ولعب، سلمت لهم بعض السيارات والشيكات والهدايا، مع العلم أنها زيادة في الضياع واللهو واللغو، فأين هذه المشاريع لا تطرح للدعاة ولطلبة العلم؟!

ومنها: ألا ييأس من المدعوين بسبب بعض معاصيهم، فتعايش الشاب وتعايش العاصي، أو تعايش المنحرف وتعلم أنه في يومٍ من الأيام إن شاء الله سوف يكون في رصيد الدعوة، وسوف يكون من أولياء الله، ولا تيأس، وعليك أن تتدرج معه، وأن تأخذه رويداً، وألا تجابهه وألا تقاطعه، بل تحلم عليه.

الداعية يشارك الناس أحزانهم وأفراحهم

كذلك على الداعية: أن يشارك الناس أحزانهم ويحل مشكلاتهم ويزور مرضاهم، فإن الانقطاع عن الناس ليس بصحيح، فإن الناس إذا شعروا أنك معهم، تعيش سرورهم، وأعراسهم، وتعيش أحزانهم، ومشاكلهم أحبوك، ولذلك أقترح على الدعاة أن يحضروا الأعراس، وقد يعتذر الداعية أحياناً، من عدم حضور الزواج لما عنده من الإرهاق، أو الالتزام ولا يعني ذلك أنه لا يحب المشاركة، لكن إذا كان يحضر الزواج فيبارك للعريس، ويبارك لأهل البيت، ويفرح معهم ويقدم الخدمات، ويرونه متكلماً في صدر المجلس، ويرحب بضيوفهم معهم، فإنهم يحبونه كثيراً، وأنا أقترح أن يقدم الدعاة أطروحات لمن أراد أن يتزوج ويقول: عندنا الشباب ونريد أن نساعدك وأن نعينك، فماذا ترى وماذا تقترح علينا لنقدم لك ما يساعدك على ذلك،؟ وكذلك إذا سمع بموت ميت، فعليه أن يذهب إلى أهله وأن يواسيهم ويسليهم، ويلقى عليهم موعظة، إذ كيف يراك الناس تدعوهم يوم الجمعة ثم لا يرونك في أفراحهم ولا في أحزانهم.

وكذلك تشارك في حل مشاكلهم، فالداعية مصلح، يذهب في شفاعة حسنة، وما أحسن الداعية مثلاً أن يذهب مصلحاً! وأن يذهب مستشاراً! وأن يذهب حالاً للمشاكل! حينها يكسب ود الناس كما فعل عليه الصلاة والسلام، فإنه قد تأخر كما في صحيح البخاري عن صلاة الظهر مرة؛ لأنه ذهب إلى بني عمرو بن عوف يحل مشاكلهم ويصلح بينهم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن مريض -حتى من الأعراب البدو في أطراف المدينة- ذهب بأصحابه يزوره، وهذه من أعظم ما يمكن أن تحبب الداعية إلى نفوس الناس.

التدرج في الدعوة وتجديد أساليبها

كذلك ينبغي على الداعية أن يتدرج في دعوته، فيبدأ بكبار المسائل قبل صغارها، فلا يقحم المسائل إقحاماً، فإنني أعلم أن بعض الناس من المقصرين من أمثالي، يذهبون إلى نواحٍ في البادية في بعض القرى أو في تهامة، فيريد أن يصب لهم الإسلام في خطبة جمعة واحدة، وما هكذا تعرض المسائل! عليك أن تأخذ مسألة واحدة تعرضها لهم، وتدرسها معهم، كمسألة التوحيد، أو مسألة المحافظة على الصلوات، أو مسألة الحجاب، أما أن تذكر لهم في خطبة أو درسٍ أو موعظة، التوحيد والشرك والسحر، والحجاب والمحافظة على الصلوات وحق الجار، فإنهم لا يمكن أن يحفظوا شيئاً:

أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل>>>>>ما هكذا تورد يا سعد الإبل

إنما تورد ناقةً ناقة، وهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل معاذاً إلى اليمن فيقول: (ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) هكذا يعرض الداعية كبار المسائل قبل صغارها، فلا تأتي إلى أناس قد لا يصلون وتطالبهم بتربية اللحى، وماذا ينفعنا في الإسلام أن يربي الناس لحاهم وهم لا يصلون في بيوت الله؟ وماذا ينفعنا أن يربوا لحاهم والواحد منهم لا يسجد لله سجدة؟ فلا تطالبهم بصغار المسائل حتى تخرج أنت وإياهم على مسائل كبرى وتتفقون على قدر مشترك؛ لتعلم هل هم معك أو لا؟

ومنها: أن يجدد الأساليب على الناس، مرةً بالموعظة ومرةً بالخطبة، ومرةً بالرسالة، ومرةً بالندوة ومرةً بالأمسية، حتى يسلك كافة السبل، فإن بعض الناس يتأثر من خطبة الجمعة ما لا يتأثر بالدرس، وبعضهم على العكس من ذلك، فتفنن في أساليب دعوتك للمدعو ونوع فيها فأحياناً يكتب له رسالة، وأحياناً يتصل به بالهاتف، وأحياناً يرسل له بعض الدعاة، فأرى أن تجديد الأسلوب مطلوب وفي عصرٍ جُددت فيه أساليب الباطل، في عصرٍ أخذ الباطل كل الإمكانيات، فالأقمار الصناعية في يد الباطل، والوسائل الهائلة في يد المبطلين، ومعظم الإمكانيات الضخمة، مع العلم أن الدعاة لا يملكون شيئاً من هذه الوسائل، يملكون المنبر، ويملكون الدرس، ويملكون الكتيب، لكن أسأل الواحد الأحد الذي بيده كل شيء أن يتمم الأمور، وأن ينفع بالأسباب، والله يقول عن أهل الباطل ويخبر أنهم أكثر مالاً، وأكثر إنفاقاً، وأكثر وسائل قال: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36] وعليه فلا ييأس الداعية من قلة وسائله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ثقافات العالم حوله في جزيرة العرب هائلة، إمبراطورية كسرى، وإمبراطورية قيصر، تملك الميزانيات الضخمة، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم في بيت طين، ولكن بوسائله مع الإخلاص والصدق، بلغه الله ما تمنى، وبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها.

إنزال الناس منازلهم

كذلك ينبغي أن ينزل الناس منازلهم، فلا يجعل الناس سواسية.. العالم له منزلة، والشيخ الكبير له منزلة، والشاب له منزلة، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60] فلا يكون دائماً ميزان الناس عنده واحد، لا يختلف في مسألة اللقاء، وهذا ليس من التفريق أو التمييز العنصري، بل هذا من أدب الإسلام، يختلف لقاء هذا عن ذاك، ويختلف منزل هذا عن ذاك، وبعضهم لا يرضى إلا بصدر المجلس، وبعضهم يرضى أن يكون طارفاً، وبعضهم من الحكمة ألا تركب أمامه في السيارة أو أن تخرج وتفتح له الباب وتجلسه أمامك، وبعضهم إذا لقيته عانقته عناقاً حاراً، وبعضهم عناقاً من نوع آخر، وهذه من الحكمة التي يتحلى بها الداعية في تعامله مع الناس، كما فعل عليه الصلاة والسلام مع كثيرٍ من أصحابه، ومع المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم، وهذا الحديث في صحيح مسلم ورواه مسنداً وأبو دواد وهو صحيح من كلام عائشة.

محاسبة الداعية لنفسه

على الداعية أن يحاسب نفسه محاكماً في ذلك قوله، فيستمع قوله إذا قال، ويحاسب عمله، هل هو يعمل بما قال؟ وهل هو يطبق ما اقترح؟ حتى يكون قريباً، ثم يسأل ربه العون والسداد، وعليه أن يبتهل إلى الله في أول كل كلمة، وأول كل درس، ويسأل الله عز وجل أن يسدده، وأن يفتح عليه، وأن يهديه، ومما يؤثر في ذلك كما ورد في الحديث (اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أحاول) وكان كثير من العلماء إذا أرادوا أن يدرسوا الناس سألوا الله بهذا الدعاء، وبعضهم كان يقول: اللهم اهدني وسددني، وبعضهم يقول: اللهم افتح عليّ من فتوحاتك، وبعضهم يقول: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك، فإن الإنسان لو بقي إلى رشده أو إلى صوته أو إلى ذاكرته وقدراته، لتقطعت به السبل، فليس لنا معين إلا الله، فالداعي إذا أراد أن يصعد المنبر، وأن يمتطي المنبر عليه أن يبتهل إلى الله أن يسدد كلماته، وعباراته وأن يهديه سواء السبيل، وأن ينفع بكلامه وأن يلهمه رشده، فإنه لو شاء الله عز وجل ما استطاع أن يواصل، ولو شاء الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لخانته العبارة، أو أتى بعبارة ربما تورطه وتورط الناس، أو أتى بعبارة خاطئة تخالف الدين، أو أتى بعبارة لا تصلح أن تعرض، فعليه أن يسأل الله السداد والثبات، فإن من سدده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى سُدد، ومن خذله الله فهو المخذول.

التقرب إلى الله بالنوافل

ومنها: أن يكون للداعية نوافل من العبادات، وأوراد من الأذكار والأدعية، فلا يكون عادياً كسائر الناس، بل يكون له تميزٌ خاص، فيحافظ على الدعاء بعد الفجر، وقبل الغروب حتى يحفظه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولو وقع عليه القضاء والقدر فإنه يتلطف به سُبحَانَهُ وَتَعَالى بسبب دعائه، فيكون له جمعية خاصة -أقصد جمعية من الدعاء- ويكون له وقت إشراق مع نفسه، يحاسب نفسه بكلمات مباركة وبدعاء، وله وردٌ يومي بعيداً عن أعين الناس، يقرأ فيه القرآن ويتدبر أموره، ويكون له مطالعة في تراجم السلف بعيداً عن الناس، لأن كثرة الخلطة مع الناس تعمي القلب، وتجعل الإنسان مشوش الذهن، ملولاً، سئوماً، وقد تقسي قلبه، فلابد من العزلة ولو وقتاً من الأوقات، كآخر الليل، أو العزلة يوم الجمعة، أو ساعة من الساعات، أو بعض الأوقات في اليوم والليلة يعتزل وحده، فلا يجلس مع زائغ، ولا يلتقي بأحد ولا يتصل بهاتف، ولا يقرأ إلا فيما ينفعه، ثم يحاسب نفسه على ذلك.

التفكر في الارتحال من الدنيا والتقلل منها

وعلى الداعية أيضاً أن يتفكر في الارتحال من هذه الدنيا، وأنه سوف يرتحل قريباً، وأن الأجل محتوم سوف يوافيه، فلا يغتر بكثرة الجموع، ولا بكثرة إقبال الناس، فإن الله يقول: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] فليعلم أنه سوف يموت وحده، ويقبر ويحشر وحده، وأن الله تعالى سوف يسأله عن كل كلمة قالها، فليتأمل لماذا يدعو؟ ولماذا يتكلم؟ وبماذا يقول؟ وبماذا ينطق؟ حتى يكون على بصيرة.

كذلك على الداعية: أن يتقلل من الدنيا تقللاً لا يحرجه، لكن عليه بالوسط، يسكن كما يسكن وسط الناس، ويلبس كما يلبس وسط الناس، مع العلم أن هناك حيثيات أريد أن أذكرها، قد تخفى على كثيرٍ من الناس.

فإن بعض الناس يرى أن على الداعية أن يلبس لباس الفقراء، أو يلبس لباساً من أوضع اللباس، وهذا ليس بصحيح، فإنه على مقصده، والله أحل الطيبات، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى التجمل (تجملوا كأنكم شامة في عيون الناس) (إن الله جميلٌ يحب الجمال) وقد يكون من الفرضيات المحتومة المطلوبة العظيمة النتائج؛ أن يكون الداعية متجملاً متطيباً، ويكون مجلسه وسيعاً يستقبل فيه الأخيار والبررة، ويكون له مركبٌ طيب، فإن هذا لا يعارض كتاب الله عز وجل، ولا يعارض سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

بل عليه أن يكون له في كل حالة ما يناسبها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتني بذلك، ففي صلاة الاستسقاء خرج صلى الله عليه وسلم في لباس متبذل -لباس قديم- ليظهر الخشية والخشوع والفقر أمام الله عز وجل، ولكنه في الأعياد لبس بردةً تساوي ألف دينار، وخرج بها أمام الناس، بل أهديت له هدية صلى الله عليه وسلم قيمتها مائة ناقة.

البس لكل حالة لبوسها>>>>>إما نعيمها وإما بوسها

وإن من الإجحاف أن يطالب الدعاة أن يعيشوا في بيوت الطين في هذا العصر، الذي لا تبنى فيه البيوت إلا من الفلل، وفيها من الأشياء التي تعرفونها، أو نطالب الدعاة أن يكونوا على الحصير، مع العلم أن الناس يجلسون على الكنب، أو نطالب الداعية أن يلبس لباساً متمزقاً قديماً ويكتفي بثوبٍ على طول السنة، مع أن الله قد وسع عليه، والله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.

لكن مقصودي بكلامي: ألا يتشاغل الداعية بالدنيا تشاغلاً هائلاً يعميه عن طريقته، فإنه من الحسرة أن تجد كثيراً من الدعاة، أو بعض المشايخ، أو بعض طلبة العلم غارقاً في الدنيا إلى أذنه، له من المؤسسات والشركات والدور، ويتشاغل بها عن الدعوة، أنا لا أعارض أن يكون لطلبة العلم تجارة، ولهم عَمَار في الأرض، ولهم دخل، فهذا مطلوب كما فعل عثمان وابن عوف وغيرهم من الصحابة، لكن أن يستغرق طالب العلم والداعية وقته في هذه الأمور، فتجده دائماً في مكاتب العقار، في البيع والشراء، مع الشيكات ويترك الأمة للمهلكات، فهذا ليس بصحيح، وهذا محرج، ومخجل، فإن الله عز وجل استخدمك في أحسن طاعة وفي أجل قربة، ولا بأس أن يكون لك أسهمٌ وأن يكون لك مشاركات وتجارات، لكن وكلها غيرك من الوكلاء، واهتم أنت بالدعوة وبرفع راية التوحيد، وبتثقيف الناس وتعليمهم.

اهتمام الداعية بمظهره الشخصي

أيضاً أيها الإخوة! أرى كذلك اهتمام الداعية بمظهره الشخصي، وأن تكون حليته إيمانية، وأن يظهر عليه الوقار والسكينة، وأن يلبس لباس أهل الخير والعلم، فإن لكل قومٍ لباسا، فإن تميز أهل العلم مثلاً بلباس، فيلبس لباسهم ويمشي مشية أهل العلم، ويكون مظهره جميلاً، ويعتني بخصال الفطرة، وقد أكدت على ذلك كثيراً كالسواك وتقليم الأظافر، وإعفاء اللحية، وأخذ الشارب، ومعاهدة أمور الجسم الأخرى من خصال الفطرة، وأن يكون متطيباً، يحافظ على الغسل، ويحافظ على مظهره الجميل حتى يمثل الدعوة تمثيلاً طيباً أمام الناس.

الداعية لا يتقمص شخصية غيره

كذلك أرى أن على الداعية ألا يتقمص شخصية غيره، وألا يذوب في بعض الشخصيات، فتجد أن بعض الدعاة إذا أحب داعية أو عالماً آخر، قلده في كل شيء حتى في صوته، ومشيته، وحتى في حركاته فذاب في شخصية ذاك، والرسول صلى الله عليه وسلم يروى عنه وهذا الحديث في سنن الترمذي، لكن في سنده عبد المهيمن بن عباس فيه نظر يقول: (لا يكن أحدكم إمعة إن أحسن الناس أحسن وإن أساء الناس أساء، لكن إذا أحسن الناس فأحسن، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) بل في هذا الحديث اضطراب عند أهل العلم.

فذوبان الشخصية ليس بجيد للداعية، بل عليك أن تستقل في شخصيتك، وتعلم أن الله خلقك نسيجاً وحدك، وأن الأرض لا تستطيع إلا بإذن الله عز وجل أن تخرج واحداً مثلك، فأنت من بين الملايين التي خلقها الله منذ آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وحدك، صوتك وملامح جسمك واستعدادك وما عندك من مواهب لا يشابهك فيها أحد، فأنت تقدم نفسك وتقدم ما عندك، لكن لا تذوب في الآخرين، ويسمي الغرب هذا ذوباناً وينهون عنه ويقولون: لا تتقمص شخصية غيرك.

قالوا عن الطاووس: أراد أن يقلد الغراب في مشيته، فنسي مشيته وما استطاع أن يقلد الغراب، وهذا يدخل يقع فيه بعض القراء، فإن القارئ منهم يريد أن يقلد قارئاً آخر فيتعب، فلا يحسن صوت ذاك، ولا صوته المعهود الذي منحه الله عز وجل، ويستثنى من ذلك ما إذا كان يستطيع أن ينطق مثل صوت ذاك بدون كلفة، وصوته جميل فلا بأس إن شاء الله.

وقس على ذلك الخطباء، حتى إنه يوجد من الناس من يتنحنح كما يتنحنح ذاك الشيخ، وليس به نحنحة، ومن يسعل كما يسعل ذاك الشيخ وليس به سعال، وهذا ذوبان مفرط، ويسمى انهزاماً نفسياً لا يقره الإسلام، بل الإنسان يبقى على شخصيته.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أصحابه على أن شخصية عمر قوية في الحق، أثنى عليه بقوته وقال: (مثلك يا عمر كمثل نوح وكمثل موسى) وأثنى على أبي بكر برقته وأبقى رقته له وقال: (ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وكمثل عيسى) عليهم السلام، فالقوي قوي، يبقى على قوته، لكن فيما ينصر به الدين، ولذلك نحتاج نحن -عالم الإسلام- إلى من هو قوي، في رأيه وفي إرادته، ونحتاج إلى من هو رقيق رحيم ونحتاج إلى كل طاقات الناس، فإن هذا له باب وهذا له باب، وقد سلف معنا كثيراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم نوع اختصاص الناس وجعلهم على جبهات بسبب مواهبهم، فسيد القراء أبي بن كعب وحسان للشعر، وزيد بن ثابت للفرائض، وأبو بكر للإدارة وعمر للقوة والصرامة والحزم وقس على ذلك.

المساهمة في النصيحة للمسلمين

أيضاً أرى: أن الداعية كذلك يساهم في النصيحة لمن جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليه واجب النصيحة، لكن بالحكمة، بالمكاتبة الغير علنية، فيناصح بالتي أحسن، ولا يحتقر نفسه مهما كبر ذاك المنصوح، فإن عليك أن ترسل له رسالة دافعها الحب، رسالة من يريد الخير للمسلمين، ولا يقول أنا لست معروفاً، أو أنا نكرة، أو أنا مجهول، بل يكتب لعل الله ينفع برسالته، ويتلطف في الكلام فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

الاهتمام بجانب النساء

كذلك على الداعية أن يهتم بجانب النساء، فلا يغفل هذا الجانب في كلامه ولا في محاضراته؛ لأنهن نصف المجتمع. والكلام الذي سمعتموه من أول المحاضرة إلى الآن موجهٌ أيضاً إلى المرأة المسلمة؛ لأن الداعية المسلمة تأخذ كما يأخذ الداعي المسلم، ولذلك أكون حريصاً -إن شاء الله- في اللقاء مع الشباب على أن أخاطب الرجال والنساء، والشباب والشابات، والذكران والإناث بمشاكلهم الاجتماعية، وما يدور في استفساراتهم وأسئلتهم وأطروحاتهم.

أسأل الله التوفيق والهداية، والرشد والسداد، كما أنه لا يفوتني في آخر هذا الدرس قبل أن أجيب على بعض الأسئلة أن أقول لكم: ينبغي أن يحتسب الإخوة في إخبار إخوانهم من الشباب وطلبة العلم والجيران وحثهم على الحضور، وأن يساهموا في ذلك حتى نتعاون على البر والتقوى، ونكون يداً واحدة ويرضى عنا سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى نهى عن التفرق والتخاذل، فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].

نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يرضى عنا وعنكم، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يحفظنا وإياكم من كل مكروه، وأن يسدد منا الأقوال والأفعال، وأن يتولانا فيمن تولى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

مهتدون جدد

هذا أخ كتب يخبر أنه حضر لأول مرة مجموعة من الشباب المهتدي وشرفوا هذا المسجد لأول مرة، وأنسنا بهم ولله الحمد، أقولها يميناً يسألني الله عنها ما أريد أن لي بهداية واحد منهم حمر النعم، ولا مبلغاً مفروحاً به أو دنيا طائلة وإن الإنسان يعتبر أن من يهتدي كأنه أخوه من أبيه وأمه، وإنه فرحٌ لنا عظيم يجب أن يكون كعيد أن يأتي عشرات من الشباب جدد مهتدون أنقذهم الله من عذابه وهداهم إلى صراطٍ مستقيم ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21] فليس الفضل في المراتب العالية؛ لأنها منهارة، وليس في المناصب فإنها منتهية، وليس في الأموال، فإنها محسوبة يحاسب عليها العبد، وليس في الكنوز ولا في القناطير المقنطرة، لكن أن يهتدي وأن يقبل إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولله الحمد والشكر.

أسأله تعالى وهو الواحد الأحد أن يثبت هؤلاء، وأن يزيدهم إيماناً وأن يردهم من هذا المكان وقد غفرت ذنوبهم، فإنه في كثير من الآثار أن الله يقول للمجتمعين على طاعته: قوموا مغفوراً لكم، فقد رضيت عنكم.

والشاب الذي حضر هذه الليلة وترك اللهو واللغو، وترك زملاء السوء ورفقة الانحراف أنا أعتبر أنه ولد من جديد، وقد ذكرت لكم أن شيخ الإسلام -سقاه الله من سلسبيل الجنة- كان يقول: لابد للإنسان من ميلادين اثنين: الميلاد الأول: يوم ولدته أمه، والميلاد الثاني: يوم وُلد في هذا الدين.

اليوم ميلادي فرحت لتوه>>>>>في ليلة الإسراء والمعراج

فليلة الإسراء والمعراج بالنسبة لهذا الشخص، معراج العلوم والفنون والحكم والمعارف هي هذه الليلة، فاشكروا الله على فضله، وكونوا أعضاء خيرين في جمعية محمد صلى الله عليه وسلم وعليكم أن تدلّوا الناس على مرضاة الله عز وجل، يعني إذا وجد أحد منكم مجموعة من الناس أن يدعوهم لحضور مجالس الخير، وقد لا يستفيد مني شخصياً، لكن يوم يراكم ويرى حرصكم وجلوسكم والإيمان فيكم، ويوم يرى سمتكم تكون عنده هذه كمائة محاضرة.

أيضاً أظن أن غداً أول أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، إن كان غداً أو بعد غدٍ فعلى كل حال أنتم أعلم، ومن صامها فكأنما صام الدهر كله، وهناك لطيفة عند بعض الفضلاء يقول: لماذا خص الشارع أيام البيض؟ بعض الأطباء العصريين قالوا: ربما كانت دورة الجسم تزداد وضخ الدم يزداد في ليالي البيض، والشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم فيزداد نشاطه في الأيام البيض، فيحاصر في الصيام، هكذا قالوا، ودعها سماويةً تجري على قدرٍ.

وأنبه على كثير من النساء أن بعض الحجاب ليس حجاباً شرعياً، فكشف الوجه في الأسواق، وفي المجامع العامة قد أصبحت ظاهرة، كذلك العباءة المفتوحة من الأمام والتي تظهر فيها مفاتن المرأة وتكون مغرية، وفاتنة وجالبة للنظر، فلتتقي الله المرأة في طاعة ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا تكون عرضة لعيون السيئين أو لتعريض نفسها لعذاب الله ومقته.

بعض المحاضرين في الجامعة لهم أفكار منحرفة

السؤال: أنا من طلبة الجامعة الملتزمين الذين يواجهون بعض المحاضرين أصحاب الأفكار المنحرفة، فهل نناقشهم أم لا؟

الجواب: بالمناسبة، اقترح عليَّ كثير من الفضلاء من طلبة الجامعة درسٌ بعنوان رسالة إلى طالبٍ جامعي وسوف أفعل هذا -إن شاء الله- وعدٌ غير مكذوب، وأحضر له بإذن الله مستعيناً بالله ثم بأفكاركم وما تكتبونه إلينا من مسائلكم، لكن أرى أن صاحب الخطأ يرد عليه تواً في خطئه لكن بأدب، فالأستاذ الذي يعرض الكفر عند السبورة لا نسكت عليه، ونقول: سوق نحاوره فيما بعد ولا نزعجه الآن؟ لا. بل نقوم بأدب ونقول: ما قلته مخالفٌ لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتورد له الخطأ، على أني أعلم وقد بلغني أن بعض من يتكلم في بعض المحاضرات يسيء في فهمه للإسلام، ويسيء لبعض النصوص وبعض الأحاديث النبوية، ويرد بعض القواعد العامة من الإسلام، ويستهزئ ببعض السنن النبوية، وينتهك حرمة بعض العلماء والدعاة، ويتعرض لهم ولأشخاصهم ولأعراضهم، فهذا لا نحاكمه نحن، فنحن أضعف من ذلك، لكن نحيله للواحد الأحد، ونقول كما قال نوح: رب! أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10] لكنا مع ذلك لا نعلن الاستسلام بأفكارنا؛ لأنا منتصرون أصلاً، والحق حقنا، والأرض أرضنا، وأفكارنا هي الثابتة بإذن الله فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17] على ذلك أرى أن يناقش هؤلاء ويحاوروا لكن من أناس يفهمون ويدركون، وإذا لم تستطع مناقشته، فلا أقل من أن تقدم له شريطاً لداعية أجاد في مناقشته، أو تقدم له كتيباً بأدب، أو مقالة أو تدعوه إلى بيتك، وتستضيف أحد الدعاة أو تذهب بأحد الدعاة إليه ليناقشه في مكتبه، أو في إدارته حتى نوقف هذا الطوفان الجارف، حتى لا يؤثر في غيره، لأن الجرباء تعدي غيرها من الصحاح، أما الصحاح فلا تعدي الجرب، فينتبه لهذا الأمر.

علاج قسوة القلب

السؤال: أنا أحضر كثيراً وأنا من المواظبين ولكن أشكو إلى الله عز وجل قسوة قلبي؟

الجواب: يقول الشاعر القديم ابن عثيمين رحمه الله في قصيدة يرثي بها الشيخ العجيري أحد المشايخ الكبار من علماء نجد الأبرار يقول:

إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا>>>>>وفي كل يوم واعظ الموت يندب

هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب>>>>>متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

نؤمل آمالاً ونرجوا نتاجها>>>>>وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب

ونبني القصور المشمخرات في الهوا>>>>>وفي علمنا أنا نموت وتخرب

إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا>>>>>وفي كل يوم واعظ الموت يندب

وكلنا ذاك الرجل، لكن يا أخي لا نيأس من روح الله، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17] أتت هذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] ثم طمعهم الله في فضله، وفتح لهم أبواب الرجاء وقال اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17] فسوف يحيا قلبك بإذن الله، وسوف تدمع عينك ولا تيأس وأنت في أول الطريق، والعبرة في كمال النهايات، لا بنقص البدايات، وعليك أن تواظب على الدروس وعلى مجالس الخير والمحاضرات وسوف تجد انشراحاً -بإذن الله- لأن الدعوات التي تلقى هنا ليست بالسهلة، الواحد الأحد يرفعها سبحانه، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] وأنا أجزم جزماً أنه بإذن الله في هذا الجمع الحاشد، ولو واحد ممن تستجاب دعوته، فكم من صالح، وكم من عابد، وكم من قائم لليل، وكم ولي من أولياء الله، الأولياء لم ينقطعوا، الأولياء كثير، وأنتم إن شاء الله من أولياء الله عز وجل على ما فينا من المعاصي جميعاً، فإنه لا زال عندنا ولاية مطلقة، ولاية الإيمان، والتوحيد: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] أما روح الإحباط الذي يذكرها بعض الناس يقول: أنا دعوت فلم يستجب لي، فهذا خطأ، أو كم دعونا فلم يستجب لنا، أو نحضر في جامع كبير وأظن كلنا لا يستجاب لنا، فهذا خطأ -والعياذ بالله- وهذا سوء ظن بالله، فلا يظن بالله السوء، بل الله يستجيب والله تعالى يحمي، ودعاء الصالحين مطلوب ومرغوب ومبذول، والذي أرجوه مني ومنكم أن تكثروا من الدعاء بإلحاح، وأن تسألوا الواحد الأحد في صلاح ونصرة هذا الدين، واستقامة الصالحين، وفي نصرة أولياء الله عز وجل، كما أطلب منكم كذلك الدعاء بعضكم لبعض في ظهر الغيب، والتواصي بالمعروف حتى نكون ممن قال الله فيهم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

أشكركم شكراً، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا بكم مراتٍ عديدة، وأعماراً مديدة، وأن يكون آخر اجتماع بكم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فن الدعوة للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net