إسلام ويب

بلغت دعوة خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم الآفاق، وشهد له الجميع بأنه خير داعية إلى الله عز وجل.

ذلك أنه كان يدعو على بصيرة من الله عز وجل وحكمة، فتبعه المسلمون وقدموا معه الغالي والنفيس من أجل المضي بهذه الدعوة إلى الأمام، لينالوا رضا الله عز وجل.

أسباب تفوق الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالاً

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً، ومبشراً ونذيراً.

يقول الله تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

أما أعداء الله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:42-43]

وأخيراً: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]

(على بصيرة) ما أحسن الكلمة! وما أجمل العبارة! فما هي البصيرة؟

إنها التوحيد الخالص، فلا يربون الأجيال على شرك ووثنية وخرافة.

بل على بصيرة: على منهج رباني خالد، فلا يربون الأمة والأجيال على قوانين وضعية.

بل على بصيرة: فينصحون لله ولكتابه ولرسوله ولولاة الأمر، فلا يألبون ولا يشغبون عليهم، ولا يثيرون على البلاد والعباد فتنة.

على بصيرة: فينصحون للعامة ويقودون الأمة إلى الاستقامة والالتزام والسكينة والأمن والإيمان.

ولكن اسمعوا إلى تلكم البصيرة في عشرة أسباب أنتجت بإذن الله ذاك الداعية الموفق عليه الصلاة والسلام.

أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا >>>>>وأنت لنا التاريخ أنت المحرر

تذوب شخوص الناس في كل لحظة >>>>>وفي كل يوم أنت في القلب تكبر

عليه الصلاة والسلام، أنا أتلوها عليكم ثم أفصلها، والله المستعان.

لماذا تفوق؟ الله معه كيف انتصر؟ الله حسيبه وكافيه. لماذا أنتج هذا الجيل وهذه الأمة، والبلاد؟ لأنه يدعو إلى الله على بصيرة هو وأتباعه، ولأن أتباعه ليسوا مرتزقة كلام، ولا مروجي فتنة، وليسوا خوارج، ولا يلعبون بالنار، ولا ينثرون الدماء على الرءوس، بل هم عقلاء، يعرفون أين يضعون أقدامهم.

إنهم قادة الأمة إلى شاطئ الأمان، غيرهم المفسد والمنافق والذي يشعل الفتنة ثم يتركها ويفر.

أما أسباب تفوق الداعية العظيم عليه الصلاة والسلام فعشرة أسباب:

الأول: التوحيد الصادق، والتوكل الذي يحطم زيف الباطل وينسف ركام الجاهلية.

الثاني: الطموح الذي يتخطى آفاق الزمن وأقطار التاريخ وحدود الدهر.

الثالث: الثبات على المبدأ ثبات الواثق من العاقبة المتأكد من الخاتمة.

الرابع: التعالي على متع الحياة وبريق المادة، وجميع الأعراض الفانية.

الخامس: البذل والتضحية؛ بذلاً وتضحية كأنها من أساطير الأخبار لولا أنها حقائق، وكأنها من نسج الخيال غير أنها ثوابت.

السادس: استصحاب الزاد في الطريق الشاق، زاداً من العبادة المتأملة، والذكر الحي، والخشوع العجيب، والتبتل المنقطع النظير.

السابع: التفوق في أسلوب الدعوة تفوقاً تاجُه اللين، ليناً يسبي القلوب، ويشتري الأرواح، ويملك به الرقاب عليه الصلاة والسلام.

الثامن: العمل بما يدعو إليه، فإذا جوارحه تسبق لسانه، ودمعاته تسبق عباراته، وإذا هو قرآن يمشي على الأرض، وقداسة تتحرك على الكوكب.

التاسع: استغلال المواهب، وتوجيه القدرات، والاستفادة من العقول التي استنارت بنور الوحي.

المصلحون أصابع جمعت يـداً >>>>>هي أنت بل أنت اليد البيضاء

العاشر: وعد محبيه وأتباعه وتلاميذه برضا الله وجنة عرضها السماوات والأرض، هذا هو الثمن للتضحيات، وأيما ثمن دونه فإنما هو غبن لا يساوي الجهد المبذول والتضحية.

وقفات مع النبي صلى الله عليه وسلم

فيا أيها الناس: أيها العلماء! وأيها الدعاة! وأيها الجيل! يا أبناء لا إله إلا الله! ويا حفظة التوحيد! ويا حملة الرسالة! يا دهر! يا تاريخ! يا زمن! اسمع إلى وثيقة عنه عليه الصلاة والسلام.

يعيش عليه الصلاة والسلام معنا دائماً وأبداً، في مشاعرنا وآمالنا وطموحاتنا، يعيش معنا في قلوبنا رحيماً، وفي أبصارنا إماماً، وفي آذاننا مبشراً ونذيراً: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9].

نسينا في ودادك كل غال >>>>>فأنت اليوم أغلى ما لدينا

نلام على محبتكم ويكفي >>>>>لنا شرفاً نلام وما علينا

ولما نلقكم لكن شوقاً>>>>>يذكرنا فكيف إذا التقينا

تسلى الناس بالدنيا وإنا >>>>>لعمر الله بعدك ما سلينا

النبي القدوة

يكرر القرآن ذكر هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام.

فهو الرجل لكن لا كالرجال، فهو يحمل هموم الرجال كل الرجال، وهو الإنسان لا كتلك الناس، فهو يجمع مناقب الناس جميعاً عليه الصلاة والسلام، يتحدث عنه القرآن فإذا هو الخلوق القريب: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] يدعو إلى الله على بصيرة، ويتحدث عن لينه وسهولته ويسره: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

إنه الإمام -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- وهو الإمام الذي على الأمة كل الأمة أن تذعن لإمامته، فهو إمام في الصلاة، وإمام في الحياة، وإمام في التربية، وإمام في الاقتصاد، وإمام في الحرب، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].

يا أمة الإسلام: يا إخوة العقيدة! يا أبناء الرسالة الخالدة! هل يحق لنا شرعاً أو عقلاً أن نبحث عن غيره أو نتلمس سواه؟ لا. بل حرام حرام حرام أن نجعل غيره إماماً يقود المسيرة إلى الله؛ لأنه هو الرجل الذي ختم الله به النبوة في الأرض.

مقومات الرسول صلى الله عليه وسلم

هذا الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش لحظات الحياة، ودقائق الزمن، وثواني الدهر، بما يجب أن تعاش، في الصلاة خاشع قانت أواب منيب؛ لأن الله قال: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء:79].

وفي الجهاد رجل شجاع، ومقدام صنديد، وبطل بارز:

وقفت وما في الموت شك لواقف >>>>>كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمـة >>>>>ووجهك وضاح وثغرك باسم

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [النساء:84].

وعند الإنفاق، هو المنفق الباذل، السخي الكريم، كما قال ابن عباس في الصحيحين: (كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

في الفطر، صبور متماسك محتسب، وفي الرقة والرحمة، صاحب الدمعة الحانية، والشفقة البالغة، إنه الإنسان عليه الصلاة والسلام، الداعية الذي يدعو إلى الله على بصيرة.

الإنسان الذي أتى إلى الأمة الضعيفة، المسلوبة المنهوبة المظلومة، فرفع رأسها بين الرءوس، فأنا وأنت، وأبي وأبوك، وجدي وجدك لم يكن لنا تاريخ، حتى أتى محمد عليه الصلاة والسلام:

إن البرية يوم مبعث أحمد >>>>>نظر الإله لها فبدل حالها

بل كرم الإنسان حين اختار من >>>>>خير البرية نجمها وهلالها

لبس المرقع وهو قائد أمة >>>>>جبت الكنوز فكسرت أغلالها

لما رآها الله تمشي نحوه >>>>>لا تبتغي إلا رضاه سعى لها

أمة وراء إمام هو محمد عليه الصلاة والسلام هي في خير: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].

هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ *وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62-63].

أتى عليه الصلاة والسلام إلى أمة ترعى إبلها وبقرها وغنمها في الصحراء القاحلة، صحراء الجوع والظمأ واليأس، فأخرجها بلا إله إلا الله إلى ضفاف دجلة والفرات وبساتين الشام ومصر، وحدائق الأندلس، وملاعب الهند والسند، فكبرَّت هناك وأذَّنت وصلت، وخرجت من الجزيرة، لا بطائرات ولا دبابات، ولا صواريخ.. بل خرجت بلا إله إلا الله.

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك >>>>>فوق هامات النجوم منارا

كنا جبالاً في الجبال وربما >>>>>صرنا على موج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا >>>>>قبل الكتائب يفتح الأمصارا

كنا نرى الأصنام من ذهب >>>>>فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

المرشد بإذن الله إلى الصراط المستقيم

وأخرج عليه الصلاة والسلام الأمة من القتل والنهب والفتنة والسلب إلى الوئام والإخاء، والصفاء والحب: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].

إن أيام الرسول عليه الصلاة والسلام هي الأيام التي يجب على الدعاة وطلبة العلم والشباب أن يعيشوا جزئياتها، وأن يجعلوا منها دستوراً لأيامهم، فقد عاش أيام العمر في الأعمال والمهن التي يعيشها غالب الناس.

أما رعى الغنم؟! لكنه حكم الأمم.

أما رقع الثوب؟! أما حلب الشاة؟! أما كنس البيت؟! أما ضحك وبكى؟! أما صلى ونام؟! أما صام وأفطر؟! أما تزوج النساء؟! أما تاجر وسافر؟! أما افتقر فصبر، واغتنى فشكر؟! بلى. حكم الناس فهو قدوة للحكام، وأفتى فهو قدوة للمفتين، ودعا فهو قدوة للدعاة، ورعى فهو أستاذ للرعاة، وعلم الناس فنون الاقتصاد والحرب والسلم.

كأنه وهو فرد من جلالته >>>>>في موكب حين تلقاه وفي حشم

إن محمداً عليه الصلاة والسلام عاش هذا العمر الطويل ليكون لنا نموذجاً حياً نقتدي به، يقول كما عند مسلم: {والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} أما المسلم فليس في الحسبان أن مسلماً يصلي ويعترف بلا إله إلا الله، ثم يتخذ غير محمد عليه الصلاة والسلام قدوة للأمة.

حارب عليه الصلاة والسلام الجيوش الجرارة، فكان أول مبارز، وكان أول شجاع، تجرح أمامه الكماة، وتنهزم أمامه الكتائب، ومع ذلك يتواضع لله، ويعلم أن النصر من عند الله، يغلب أحياناً، وتنكسر رباعيته، ويجرح، ويذبح أصحابه أمامه، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكنه مع ذلك لا ينهزم، بل يواصل المسيرة بعزيمة أقوى وأقوى.

التوازن والتواضع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

لبس الجديد عليه الصلاة والسلام إظهاراً للنعمة ورداً على متصوفة الهندوك، الذين يرون التقشف وقتل النفس والقضاء على الطموح حياة وإشراقاً:

البس لكل حالة لبوسها >>>>>إما نعيمها وإما بؤسها

والله جميل يحب الجمال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] فالنبي صلى الله عليه وسلم يلبس الجديد إظهاراً للنعمة، ودمغاً للباطل، وهو عليه الصلاة والسلام يلبس البالي شكراً للباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتواضعاً للحق عز وجل.

إذاً فمن لبس منا الجديد، فقدوته محمد عليه الصلاة والسلام، ومن لبس منا البالي فقدوته محمد عليه الصلاة والسلام، ومن جلس على كرسيه للحكم فإمامه محمد عليه الصلاة والسلام، ومن باع أو اشترى، أو سافر أو أقام، أو صام أو أفطر، أو اغتنى أو افتقر؛ فإن إمامه وأستاذه وشيخه محمد عليه الصلاة والسلام:

هو البحر من أي النواحي أتيته >>>>>فلجته المعروف والجود ساحله

وأنتم في غنى وهو في غنى -بأبي هو وأمي- عن مدحي، لكن من الناس من يتصور يوم يقرأ سيرته أنه إمام في الصلاة، وأنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الجنائز والاستسقاء والكسوف، وأنه كان يفتي وعنده بعض الأحاديث وأنه من الأنبياء، لكن لا. فالرجل إمام، اعترف حتى أساطين الكفر، أنه إمام على مستوى العالم.

مايكل هارف صاحب العظماء المائة، جعل محمداً عليه الصلاة والسلام في المركز الأول، ويقول في كتابه: إني أعلم أن الأمريكان سوف يغضبون يوم جعلت محمداً في المركز الأول؛ لكن ماذا أفعل؟ قلنا له: أرغم الله أنفك وأنوف الأمريكان، هو الأول سواء رضيت أم غضبت، هو الأول سواء كتبت أو لم تكتب.

وكيف يصح في الأذهان شيء >>>>>إذا احتاج النهار إلى دليل

محمد عليه الصلاة والسلام تزوج، يا جيلاً صدف عن الزوجات! بحجة البذل في الدعوة والجهاد، محمد أكبر الدعاة وأكبر المجاهدين وتزوج: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].

وضاحك الأطفال، يا متكبراً لا يسلم على الأطفال ولا يمسح رءوسهم! محمد حمل الأطفال وصلى بالأطفال، ففي الصحيحين عن أبي قتادة قال: {صلى بنا رسول الله عليه الصلاة والسلام فحمل أمامة بنت زينب فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها} وعند النسائي عن أبي بسرة الغفاري: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى بالناس فسجد، فأتى الحسن وأعجبه منظر الرسول عليه الصلاة والسلام ساجداً فامتطى ظهره الشريف -ظهر العظمة والزعامة، والطهر والعفاف- فمكث صلى الله عليه وسلم طويلاً، لئلا يؤذي الحسن، ثم اعتذر للناس وقال: إن ابني هذا ارتحلني -صعد على ظهري- فخشيت أن أقوم فأوذيه فانتظرت حتى نزل}.

اسمع يا زمن! وسجل يا تاريخ! وانظري يا دنيا! أي إمام هذا الإمام، الذي عبأ حاجات الناس كلهم، إن الرسول عليه الصلاة والسلام مازح الأضياف وحياهم، وأتحفهم وبياهم، قاد الأمة؛ فكانت قيادته دستوراً للقادة، ومنهجاً للزعماء، ووثيقة للساسة.

النبأ العظيم والقائد الأعظم

وأعود فأقول: اسمع يا تاريخ! وسجل يا زمن! وقف يا دهر! لتعرف هذا النبأ الذي هز العالم كل العالم! والذي أوقف التاريخ كل التاريخ، إنه مبعثه عليه الصلاة والسلام: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ:1-3].

ما هو النبأ العظيم، أهو اكتشاف الذرة؟ أم تسيير الهواء؟ أم تفجير الطاقة؟ أم نسف الجبال؟ أم تحويل الماء المالح إلى عذب؟ أم اكتشاف الكهرباء؟ لا. بل هو وصول محمد عليه الصلاة والسلام إلى قيادة العالم، فقد تغيرت الدنيا لمبعثه عليه الصلاة والسلام.

الآن تتوافد قبائل العرب لتنظر إلى هذا العظيم، وهو في مكة؛ لباسه عادي لا يساوي ثلاثة دنانير، وخبزه الشعير، وينام في بيت متواضع، يقف مع العجوز الساعات الطوال، يحمل الأطفال، يحلب الشاة، لا يجد كسرة الخبز، ومع ذلك تتساقط عروش الظالمين كسرى وقيصر.. لماذا؟

لأنه كسر بسيوف العدل ظهور الأكاسرة، وقصَّر برماح التضحية آمال القياصرة.

إن محمداً عليه الصلاة والسلام كان بين الناس رجلاً، وبين الرجال بطلاً، وبين الأبطال مثلاً، عليه الصلاة والسلام.

تتساقط الشاهات والباباوات؛ لأنها بنيت على الظلم: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81].. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].

أيها الإنسان! يا بن آدم! يا مسلم! يا من يحترم نفسه! إن سعادتك مرهونة باتباعه عليه الصلاة والسلام، وإن أبواب الجنة بعد مبعثه أوصدت فلا تفتح إلا لأتباعه على دينه، وأنصاره على مبادئه، الذين يدعون إلى الله على بصيرة، لا يدعون فحسب ولا يخطبون وكفى، ولا يتلاعبون بالألفاظ، ولا يتشدقون، إنما هم على بصيرة: علم وعقل، وثبات وانضباط، يغلبون المصلحة على المفسدة، ويريدون أن يلحقهم الأذى في أنفسهم وأعراضهم، ولا يلحق الأمة والجيل، لتبقى الأمة مطمئنة آمنة في سكينة، لأنهم ينصحون لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله ولأئمة المسلمين ولعامتهم، هؤلاء هم الذين يدعون إلى الله على بصيرة.

جوانب الكمال في حياته صلى الله عليه وسلم

يا قوم! إن محمداً عليه الصلاة والسلام سيعيش معكم بسنته إذا أردتم أنتم أن يعيش معكم، ستجدونه يتحدث إليكم في مجالسكم متى أردتم أن يتحدث إليكم.

إنه عالم في العبادة؛ وفي الصلاة والصيام، والذكر والجهاد، وهو عالم في الأخلاق؛ في التبسم والتواضع، والصبر والشجاعة والكرم، وهو عالم في الزهد في المسكن والطعام والميراث.

وهو عالم في التربية؛ مع المرأة ومع الأسرة، ومع الطفل.

يقف في منتصف الليل فيصلي إلى الفجر، ويقوم فيقول دعاء تنخلع له القلوب، واسمع إلى دعائه، جاء عن ابن عباس في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، ومحمد عليه الصلاة والسلام حق..) الحديث، وعند مسلم من حديث عائشة: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).

كماله في العبادة

وعَالَمٌ في الصيام فهو يصوم الليالي والأيام العديدة أربعة وخمسة وستة، لا يفطر لا ليلاً ولا نهاراً، فيقول له الصحابة: { إنك تواصل يا رسول الله! -يريدون أن يواصلوا معه- قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني} قال ابن القيم: لا يطعمه الله طعاماً وشراباً حسياً، إذ لو أطعمه طعاماً حسياً وشراباً حسياً لما كان صائماً لكن يطعمه اللطائف والمعارف والحكم والفتوحات الربانية.

فقوت الروح أرواح المعاني >>>>>وليس بأن طعمت ولا شربتا

لها أحاديث من ذكراك تشغلها >>>>>عن الطعام وتلهيها عن الزاد

لها بوجهك نور تستضيء به>>>>>ومن حديثك في أعقابها حادي

وعالم في الجهاد، أي معركة فر منها عليه الصلاة والسلام؟ متى فر؟ ومن قال أنه فر؟ يقول أبو الحسن علي بن أبي طالب: [[كنا إذا اشتد الكرب وحمى الوطيس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله عليه الصلاة والسلام فيكون أقربنا إلى القوم]].

أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة >>>>>أدبت في هول الردى أبطالها

وإذا وعدت وفيت فيما قلته>>>>>لا من يكذب فعلها أقوالها

محمد عليه الصلاة والسلام هو عالم في الذكر، فحياته وليله ونهاره ذكر: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر:98].. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35].. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

بل أنفاسه ذكر، وفتواه ذكر، ومزحه ذكر، وخطبه ومواعظه وتوجيهاته ذكر، فهو قرآن يمشي على الأرض، عليه الصلاة والسلام.

وهو عالَم في الأخلاق، شرى قلوب العرب بالبسمات، وأسر الأرواح بالبسمة الحانية عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] يأكل على التراب، حتى قالت امرأة: { انظروا له يأكل كما يأكل العبد، ويشرب كما يشرب العبد فقال: وهل هناك عبد أعبد مني} فرفعه الله، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه.

صبره وشجاعته

عاش الفقر، والحروب والمصائب، ماتت بناته، وقُتل أصحابه، وشرد من وطنه، وبيعت أملاكه، ولطخت سمعته وأوذي؛ ومع ذلك كان صابراً صبراً يغلب الصبر.

صابر الصبر فاستجار به الصبر >>>>>فقال الصبور للصبر صبرا

وذا يقوله بعض المفسرين لما قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

يقولون لـعنترة: بم غلبت العرب في المعارك؟ قال: بالصبر، فقال له أحد الشجعان: كيف تكون صابراً وأنا أصبر منك؟ قال: ناولني إصبعك، وخذ إصبعي فأدخل إصبعه في فمه وأخذ إصبع الرجل في فمه، ثم قال له: عض وأعض، فعض ذاك وعض هذا، فقال: ذاك أح فأخرج ذاك إصبعه، فقال عنترة:

بهمة تخرج ماء الصفا >>>>>وعزمة ما شابها قول آح

أقسمت أن أوردها حرة >>>>>وقاحة تحت غلامٍ وقاح

إما فتى نال المنى فاشتفى >>>>>أو فارس زار الردى فاستراح

محمد عليه الصلاة والسلام الذي وصل بالصبر إلى حد ما استطاع أن يصابره الصبر، فكان سيد الصابرين صلى الله عليه وسلم.

الشجاعة: فعنده صلى الله عليه وسلم شجاعة الواثقين من المبادئ، ينام وحول البيت خمسون شاباً بسيوفهم، لا درع ولا سيف، ولا موكب ولا حرس!

عناية الله أغنت عن مضاعفـة >>>>>من الدروع وعن عال من الأطم

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على >>>>>خير البرية لم تنسج ولم تحم

عليه الصلاة والسلام.

الكرم: سألوه ثوبه فخلع ثوبه وأعطاه؛ فما كان يقول: لا. وعند أحمد في المسند من حديث جابر {أن أعرابياً قال: يا رسول الله! أعطني مالاً قال: لا. وأستغفر الله} معناه: ليس عندي مال، وأستغفر الله من كلمة "لا".

ما قال "لا" قط إلا في تشهده>>>>>لولا التشهد كانت لاؤه نعم

زهد النبي صلى الله عليه وسلم

وهو عالَم في الزهد، يقول الفيلسوف برناردشو: عجباً لمحمد على كومة من التراب، يتناول فنجان القهوة ويصلح مشاكل العالم، وهو لا يعلم أن القهوة اكتشفت بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام، ولا يهمنا اكتشاف القهوة، ولكن يهمنا اكتشاف الحكمة والنور الذي حل به مشاكل العالم، والحق ما شهدت به الأعداء، فهو عالم في الزهد عليه الصلاة والسلام، يعيشه صلى الله عليه وسلم ويتعامل مع الناس.

مسكنه غرفة من الطين، وفي صحيح البخاري: {كان إذا أوتر يغمز عائشة رضي الله عنها وأرضاها فتكفكف قدميها ليجد مكاناً للسجود} و{يأتيه الملك بمفاتيح كنوز الدنيا فيقول: لا. بل أجوع يوماً وأشبع يوماً حتى ألقى الله} فثوبه ثوب واحد.

كفاك عن كل قصر شاهق عَمِدٍ >>>>>بيت من الطين أو كهف من العلم

تبني الفضائل أبراجاً مشيـدة >>>>>نصب الخيام التي من أروع الخيم

وعالم في الزهد، لا يجد أحياناً حفنة من التمر، هذا الإنسان عليه الصلاة والسلام الذي أدخل -بإذن الله- محبيه إلى حدائق الأندلس، وإلى ضفاف دجلة والنيل والفرات، لا يجد حفنة من التمر، هذا الرجل الذي ملك -بإذن الله- أتباعه ثلاثة أرباع الدنيا، وأتى هارون الرشيد وهو أحد أتباعه يقول للسحاب: " أمطري حيث شئتِ فسيأتيني خراجكِ بإذن الله " ولا يجد حفنة من التمر.

هذا الرجل دخل أحد أتباعه وهو قتيبة بن مسلم كابل الحزينة، التي ضيعناها يوم ضيعنا لا إله إلا الله، كابل التي ذهبت مع المرتزقة والزنادقة، يمزقون مصاحفها، ويدوسون كرامتها وعفافها وحياءها، كابل أرضنا، ووطننا وحبيبتنا، يفتحها قتيبة أحد أتباعه عليه الصلاة والسلام فيأتي إلى الأصنام فيحرقها لأنها عبدت من دون الله، قالوا لـقتيبة: خذ الأصنام، وتاجر بها، قال: لا. أصنام سُجد لها من دون الله تحرق، قال إقبال:

كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام.

الرسول صلى الله عليه وسلم والطفل

أيتها المرأة المسلمة: يا أيتها المرأة التي تسمع الصوت! محمد إمامك عليه الصلاة والسلام، المعلم والشيخ والأستاذ يعتني بالمرأة، يقف يوم عرفة، فيعلن حقوق المرأة؟من الذي أعلن حقوق المرأة؟ أقاسم أمين؟ كذب عدو الله، أسعد زغلول، كذب عدو الله، أأتاتورك؟ كذب عدو الله.

إنه محمد عليه الصلاة والسلام، يقول يوم عرفة متحدثاً عبر الزمن: {الله الله في النساء، فإنهن عوان عندكم} ويقول: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} عليه الصلاة والسلام.

يعيش معها أباً وزوجاً وأخاً، يأمرها بالحجاب وهو الذي حررها بإذن الله، أما الذين يدعون حرية المرأة وتحرير المرأة؛ فهم قتلة المرأة، وهم أعداء المرأة، فجعلوا المرأة سلعة تباع وتعرض كالأزياء، أخرجوا المرأة سافرة في الحوانيت والبقالات، ومجامع الناس والأسواق، أخرجوا المرأة وجعلوها تشارك في الجيش في الحرب العالمية الثانية، تحمل السلاح وهي ضعيفة، وتقاتل بالبندقية وهي لطيفة، وتعارك الجنود وهي شريفة، فمن حرر المرأة؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.

وقد عاش مع الطفل مربياً، فكان معه يوم سقط رأس الطفل في الأرض، أتت فاطمة بنته بـالحسن أول يوم ولدته، فأتى فأذن في أذن الحسن، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لماذا؟ ليسمع الطفل الأذان أول شيء، لا الموسيقى، ولا الأغنية الماجنة، ولا الصيحات المعربدة، ولا الزندقة والإلحاد، بل ينشأ طفلاً موحداً من أول يوم، فهذا هو محمد عليه الصلاة والسلام.

وهو عالم الأسرة وعالم الاقتصاد، ولكن -والله- لا أستطيع أن أوفيه حقه.

تفصيل أسباب تفوقه صلى الله عليه وسلم

فأعود إلى التكلم عن النقاط والمسائل التي من أراد أن يكون داعية. إلى الله على بصيرة ويكون حكيماً منضبطاً عاقلاً، فعليه أن يحفظ هذه المسائل، ثم يبثها في الناس.

كان من أسباب انتصار الداعية العظيم عليه الصلاة والسلام كما قلت:

توحيد الله عز وجل

أولاً: التوحيد الصادق، والتوكل الذي يحطم زيف الباطل، وينسف ركام الجاهلية، يقول الله سبحانه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] ويقول الله عز وجل له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] ويقول الله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].

أول ميزاته: التوحيد الخالص، وصفاء العقيدة.

إذاً يا دعاة! يا طلبة العلم! يا شباب محمد عليه الصلاة والسلام! التوحيد أولاً والعقيدة أولاً.

ولذلك تميزت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله واكتسبت قوتها وعمقها وأصالتها حتى نفذت إلى القلوب، وذلك لأنها صافية، ولأنها على منهج السلف ولأنها ضاربة في أعماق الكتاب والسنة، فلذلك بقيت إلى اليوم: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17] وقبل أن ندعو الناس إلى الأخلاق والسلوك، قبل أن نتكلم إليهم عن التربية والأدب والاقتصاد، لابد أن نتكلم لهم عن التوحيد.

يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] ويقول: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66].

فيكون موحداً دائماً وأبداً، يأتي الأعرابي من الصحراء، فقبل أن يعلمه الوضوء وكيفية الأكل والشرب، يقول له: قل لا إله إلا الله، يقول لـحصين بن عبيد كما عند أبي داود: {يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء} قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110].

وعقيدة أهل السنة والجماعة العقيدة الرائعة الجميلة الحسنة البديعة، هي التي يجب على الدعاة أن يدعوا الناس إليها أولاً، ففي الصحيحين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن فقال: -واسمع إلى الداعية الكبير، الذي يدعو إلى الله على بصيرة- إنك سوف تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أطاعوك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة} الحديث.

ويقول صلى الله عليه وسلم لـابن عباس: {احفظ الله يحفظك} ويقول في آخر الحديث عن العقيدة: {واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك} هذا هو أول عنصر جعل محمداً عليه الصلاة والسلام داعية ناجحاً بإذن الله.

يا دعاة الإسلام! يا طلبة العلم! وحفاظ الرسالة! قضيتنا الكبرى هي تصحيح معتقد الناس، أما التلفيق والمسامحة في هذا الجانب فلا يصلح أبداً، ولا تنجح الدعوة فيه أبداً؛ لأن الدعوة أقيمت على التوحيد الخالص.

الطموح الذي يتخطى الآفاق

الثاني: الطموح الذي يتخطى آفاق الزمن، وأقطار التاريخ، وحدود الدهر، ينزل عليه الصلاة والسلام الخندق ليحفر وعلى بطنه حجران من الجوع مربوطان، فيضرب الصخرة فيلمع ضوءاً كالبرق، فيقول: {أريت قصور كسرى وقيصر، سوف يفتحها الله لي} فيضحك المنافقون. فهذا رجل حاله أنه مطوق باليهود والأحزاب والمنافقين والعملاء والزنادقة، وهو في المدينة ثم يقول: يفتح الله عليه الكنوز والقصور فيقول المنافقون: ما هذا؟ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:12].

ولكن بعد خمس وعشرين سنة، دخل سعد بن أبي وقاص إلى قصر كسرى والإيوان فقال: الله أكبر! أليس هذا طموحاً؟ بلى إنه لطموح، ويأتي عليه الصلاة والسلام فيقول للصحابة: {زويت لي الأرض -يعني في المنام، أي قرب الله له الكرة الأرضية- قال: فرأيت ما بلغ ملك أمتي أو ملكي أو ما يفتحه الله عليّ} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

أما دخلت دعوته روسيا؟ بلى. وقد حج من روسيا هذا العام ما يقارب ألفين، نعم ألفا حاجٍ خرجوا من موسكو عاصمة جرباتشوف وبرجنيف الملاحدة الزنادقة، يقولون: لبيك اللهم لبيك، ليبك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

وحدثنا مصدر مطلع موثوق بسند جيد على شرط ابن حبان، من المجاهدين الأفغان أن وفد المجاهدين شارك قبل ثمانية أشهر في جلسة هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، فلما حضرت صلاة الظهر، قام أحد المجاهدين من أهل العمائم، أهل لا إله إلا الله، أهل التكبيرات،والمواقف الخالدات، قام إلى الميكرفون وأذّن لصلاة الظهر داخل هيئة الأمم المتحدة؛ أليست هذه دعوته عليه الصلاة والسلام؟ أليس هذا هو الطموح الذي تجاوز الزمن؟

أما دخل يونس خالص إلى ريجان في البيت الأبيض وقال: أدعوك إلى الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم كل أمريكي على وجه الأرض.

فهذا طموحه عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء أتباعه، وهؤلاء تلاميذه.

الثبات على المبدأ

الثالث: الثبات على المبدأ ثبات الواثق من العاقبة، المتأكد من الخاتمة، الرسول عليه الصلاة والسلام لا يتعامل مع الأهواء، ولا يرضى بأنصاف الحلول، يقول: المتشدق الزنديق أبو جهل: يا محمد! تعال نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، وهذا لعب وفوضى، لا. فأتى القول من الله: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6] أنا منفصل عنكم تماماً، لا جسور تمتد بيننا وأنتم مشركون، ولا حلول إلا بلا إله إلا الله، هذا هو الحق الصراح.

كان من أسباب انتصاره صلى الله عليه وسلم، الثبات على المبدأ ثبات الواثق من العاقبة، والمتأكد من الخاتمة:

يروى أن الجاهليين أتوا إليه عليه الصلاة والسلام فقالوا: {يا محمد! سفهت أحلامنا، وسببت آلهتنا، إن تريد ملكاً ملكناك، وإن تريد زوجة زوجناك، وإن تريد مالاً أعطيناك، فلما انتهوا قال: انتهيتم؟ قالوا: نعم. قال: والذي نفسي بيده! لو وضعتم الشمس في يمني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه} هذا هو الجواب، وهذا هو الثبات، الذي جعله يستمر عليه الصلاة والسلام، لا يرضى إلا أن يتم هذا الدين في الأرض، أو يقتل عليه الصلاة والسلام.

جاء في البخاري في كتاب الجهاد: {.. ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أُحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} عليه الصلاة والسلام، وإنما ذلك لتبقى لا إله إلا الله وليبقى التوحيد، وليسلم الناس لرب العالمين، فثباته عليه الصلاة والسلام مكن له بإذن الله في الأرض، ونصره بعون الله حتى بلغ الغاية.

إن الذي يقاتل من أجل دنيا، ومن أجل وطنية ينتهي ويتلاشى ولا يواصل، أما هو عليه الصلاة والسلام فقاتل من أجل أن تبقى كلمة لا إله إلا الله مرفوعة خفاقة في الأرض.

التعالي على متاع الحياة الدنيا

الأمر الرابع: التعالي على متع الحياة وبريق المادة، ولموع الأغراض الفانية، فملبسه متواضع ومسكنه وطعامه كذلك، فهو لا يريد الدنيا، تؤتى إليه مفاتيح وكنوز الدنيا، فيقول: لا. بل أشبع يوماً وأجوع يوماً حتى ألقى الله، وقال عنه الجاهليون: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً [الفرقان:7-8].

ما لهذا الداعية أليس عنده دخل ولا راتب ولا منصب، لا يملك اللحم ولا الطعام ولا الملابس ولا خدم ولا مساعد، ولا معاون، ويبيع ويشتري في الأسواق، فقال الله رداً على هذا الباطل: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [الفرقان: 9].

ثم قال: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [ الفرقان:10] لكنه في الجنة، قصره كالربابة البيضاء وله المقام المحمود، وهو أنعم من ينعم في الجنة، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، يدعو إلى الله ويقول للأمة: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام:90] أي: لا أتقاضى راتباً شهرياً، ولا أريد مادة، فما سألتكم من أجر فهو لكم، خذوا دراهمكم ودنانيركم وحياكم، خذوا بيوتكم وهداياكم فأنا أريد أن تبقى لا إله إلا الله وتنتصر لا إله إلا الله، ولذلك انتصر لما صدق مع الله.

خذوا كل دنياكم واتركوا >>>>>فؤادي حراً طليقاً غريبا

فإني أعظمكم ثروةً >>>>>وإن خلتموني وحيداً سليبا

يقول فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: {ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كرجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها} ويقول عليه الصلاة والسلام لأحد أتباعه ومحبيه، كما في البخاري: {كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل} وقال في حديث يصححه بعض أهل العلم: {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} فإذا هو الزاهد عليه الصلاة والسلام، وإذا هو الذي يعطي ولا يأخذ، لئلا تكون لأحد من الناس منة عليه، صلى الله عليه وسلم.

ويموت عليه الصلاة والسلام وإذا ميراثه: بغلة ودرع وسيف، كل هذا التاريخ وكل هذا الدستور، وكل هذه المسيرة: بغلة ودرع وسيف؟ نعم. ثم يقول: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة} عليه الصلاة والسلام.

البذل والتضحية والتزود من الطاعة

الخامس من أسباب انتصاره وتفوقه: البذل والتضحية، بذلاً وتضحية كأنها من أساطير الأخبار لولا أنها حقائق، وكأنها من نسج الخيال غير أنها ثوابت، يقول الله له في القرآن: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [المزمل:1-2] فقام وما جلس، وجاهد وما استكان، قام ثلاثاً وعشرين سنة، ليله دموع وخشوع وبكاء، ونهاره صلاة وصيام وجهاد، وبذل وتضحية، ثلم في عرضه، وثلم في جسمه، وفي بيته، ورسالته، ومع ذلك يستمر ويضحي، ويدفع دمه ودموعه ووقته وماله عليه الصلاة والسلام.

إن على الدعاة الذين يدعون إلى الله على بصيرة؛ أن يعرفوا أنهم سوف يدفعون الثمن غالياً، والمهج والأرواح رخيصة في سبيل الله.

الرسول عليه الصلاة والسلام يُدمى عقبه، فيقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يروى أن ملك الجبال أتاه فقال: {أتريد أن أطبق على قريش الأخشبين، قال: لا. إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} فيخرج الله من صلب أبي جهل عكرمة، ومن صلب الوليد خالداً، ومن صلب فلان الميت فلاناً الحي: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:27] فتكسر ثنيته، ويُقتل أصحابه، ويُشرد من وطنه، ويكذب ويطارد ومع ذلك يرى أنه ما بذل شيئاً:

إن كان سركم ما قال حاسدنا >>>>>فلما لجرح إذا أرضاكم ألم

وفي آخر المطاف بعد هذا البذل والتضحية يقول الله له: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3] ولو بذلت فاستغفر الله، ولو أعطيت فاستغفر الله، إن مِنَنَ الله أعظم مما قدمت وأعطيت.

فيا معاشر الدعاة! مهما بذلتم وأعطيتم فإن نعم الله وأياديه أفضل وأعظم مما بذلتم وقد متم للأمة.

التزود بالعبادة والتقوى

السادس: استصحاب الزاد في الطريق الشاق، زاداً من العبادة المتأملة، والذكر الحي، والخشوع العجيب، والتبتل المنقطع النظير، لقد جعلت الثقافة الغربية من دعاتها أناساً يحملون العلوم في أذهانهم سلات مهملات: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66] يعلمون كل شيء إلا الآخرة، ويعرفون كل شيء إلا الدين، ولذلك لا أثر لهم في قلوب الناس ولا حياة.

أما محمد عليه الصلاة والسلام فأعطى الجزء الكبير من وقته للعبادة؛ لأنها الزاد والطاقة للداعية التي تجعل كلمة الداعية حارة صادقة مخلصة تصل إلى القلوب، فلا تموت الكلمات إلا يوم تموت القلوب، ولا تموت المبادئ إلا يوم تموت الأعناق بالمنن، ولا تموت المناهج في الأرض إلا يوم يموت أصحابها في أوحال الأطماع والشهوات، فلا يبقي لهم الله أصلاً ولا ذكراً.

والرسول عليه الصلاة والسلام يقوم الليل -أكثر من ست ساعات- يقوم معه أحد محبيه وأتباعه: حذيفة، فلا يستطيع أن يواصل، ويقوم ابن مسعود فيقول: {هممت بأمر سوء، قالوا ماذا هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه} ويصوم عليه الصلاة والسلام فيواصل، ويذكر الله دائماً على لسانه، فيكون مدده زاداً من العبادة وتوجهاً من الطاعة، لأن الله عز وجل دائماً يطالب منه أن يكون عابداً مهما انشغل بشواغل الحياة، أو بمشاغل الناس.

التفوق في أسلوب الدعوة

السابع: التفوق في أسلوب الدعوة، تفوقاً تاجه اللين، لين يسبي القلوب، ويشتري به الأرواح ويملك به الرقاب، وأنا أقول عن هذه الصحوة المباركة: إنها صحوة معتدلة ومتأنية، منضبطة في العموم الغالب، إنه لا يحكم عليها بالتطرف أبداً، وليس التطرف في الصحوة الإسلامية ظاهرة حاشا وكلا، فليس بظاهرة، ربما أتت صور لا يخلو منها البشر؛ لكن العموم والسواد الأغلب صحوة منضبطة، عاقلة، متزنة، تعرف الكتاب والسنة، وتتعامل مع الواقع بحكمة، وهي بإذن الله أساس سعادة البلاد والعباد، وهي بإذن الله تبشر بالخير؛ لأنها صحوة قامت على التوحيد، وجعلت محمداً عليه الصلاة والسلام إمامها، ولأنها صحوة، جعلت أياديها في أيادي البعض والتفت حول القيادة العلمية الراشدة في هذه البلاد، فهي تسير بخطى مطمئنة إلى الله عز وجل.

إن التطرف في غير الصحوة كثير وهناك تطرف يسمى التطرف اللاديني، وذلك في الكأس، وفي الاستهزاء بالدين، والسخرية بالصالحين، في الحداثة، والزندقة وبيع القيم والهجوم على المرأة وإخراجها سلعة، وبالتشدق والسخرية بالكتاب والسنة، وفي السفر إلى الخارج للمعصية، هذا هو التطرف اللاديني.

أيها المسلمون! كان عليه الصلاة والسلام ليناً، قال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وأنا أقول وأنتم تقولون معي: لم ننجح في دعوتنا إلا باللين، الله يرسل موسى عليه الصلاة والسلام مع هارون إلى فرعون فيقول لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

تعهدني بنصحك في انفراد >>>>>وجنبني النصيحة في الجماعه

فإن النصح بين الناس نوع >>>>>من التوبيخ لا أرضى استماعه

فإن خالفتني وعصيت أمري >>>>>فلا تجزع إذا لم تعط طاعه

والله عز وجل يقول للرسول عليه الصلاة والسلام الداعية: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] وفعلاً دفع بالتي هي أحسن، فأتى أعداؤه الذين قاتلوه في المعارك يبكون يوم الفتح بين يديه ويقولون: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91].

لقد تفوق باللين، هل سمعتم منه كلمة نابية؟ أن هناك كلمة نابية في كتب السنة عنه، هل جرح المشاعر؟ هل سب وشتم؟ لا. بل كان متأدباً، كان ينزل الناس منازلهم، ولم يكن يفضح الناس، أو يشهر بالعصاة، كان يقوم على المنبر فيقول: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} فيفهم المخطئ أنه أخطأ، ولا يدري الناس أن المخطئ فلان بن فلان، أي حكمة هذه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].. ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

العمل بما يدعو إليه

الثامن: العمل بما يدعو إليه، فإذا جوارحه تسبق لسانه، ودمعاته تسبق عباراته، وإذا هو قرآن يمشي على الأرض، وقداسة تتحرك على الكوكب، يقول للناس: صلوا، وهو أول المصلين، ويقول: اخشعوا، وهو أول الخاشعين، ويقول: تصدقوا، وهو أول الباذلين، ويجاهد ويدعو إلى الجهاد، وهو الذي يحمل السيف في أول الصفوف.

ولذلك لام الله عز وجل دعاة بني إسرائيل والمتلاعبين بالألفاظ، ومرتزقة الفكر الذين يقولون ما لا يفعلون، قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أتعلمون الناس الفضيلة وأنتم في الرذيلة؟! أتعلمون الناس الأمن وأنتم أهل الفتنة؟! أتعلمون الناس الانضباط وأنتم أهل الهمجية؟! أتعلمون الناس البذل وأنتم أهل الإمساك؟! أتعلمون الناس الشجاعة وأنتم جبناء!

يا أيها الرجل المعلم غيره >>>>>هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها >>>>>فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

كان عليه الصلاة والسلام يقول كما عند البخاري في كتاب العلم: {إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا} صدقت. أنت أتقى الناس وأعلم الناس، وأنت أخشى الناس؛ لأنك تعمل بما تقول، إن مما يفضح الدعوات ويحطم المسيرة؛ أن يرى الناس دعاة أفعالهم تخالف كلامهم، يقولون كلاماً جميلاً على المنبر لكن الفضائح تظهر في تصرفاتهم وتكذب أقوالهم على المنابر، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فحاشا وكلا، في صحيح مسلم أن عائشة رضي الله عنها، سئلت عن خلقه عليه الصلاة والسلام فقالت: {كان خلقه القرآن}.

استغلال المواهب

الأمر التاسع من أسباب انتصاره: استغلال المواهب، وتوجيه القدرات، والاستفادة من العقول التي استنارت بنور الوحي، معنى ذلك أن يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب قال: أبو الطيب المتنبي:

فوضع الندى في موضع السيف بالعلا>>>>>مضر كوضع السيف في موضع الندى

عمرو في منزلة عمرو، وزيد في مكانة زيد، فعلها عليه الصلاة والسلام أتى إلى الخامات من أصحابه، فعرف قدراتهم واستعداداتهم فوجههم الوجهة الصحيحة التي ينتج فيها أصحابها، أتى إلى أبي بكر فإذا أبو بكر رجل ريادة وسيادة وإدارة وسياسة، فجعله خليفة من بعده، وأتى إلى عمر فإذا هو داهية عملاق قوي، فأوكل إليه مهمة تدوين الدواوين وتجنيد الجنود وتجييش الجيوش.

ومعاذ: {أعلمكم بالحلال والحرام معاذ} وخالد، خالد مهمته تقطيع رءوس الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، لأن استعداد خالد أن يكون مجاهداً وهذه ثغرات المسلمين.

إن الرجل المناسب الذي يصلح الله به الحال يجب أن يكون مناسباً في حاله وفي مقامه، فالخطيب خطيباً، والمهندس مهندساً، والطبيب طبيباً، والمجاهد مجاهداً، ولا نقول للطبيب: كن واعظاً، ولا للواعظ: كن مهندساً، ولا للمفتي: كن طبيباً، لا. لأن تداخل التخصصات معناه انثلام في صرح الرسالة الخالدة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.

يقول صلى الله عليه وسلم يمدح خالداً -أيمدحه بكثرة الحفظ؟ إن خالداً فيما يذكر عنه لم يكن يحفظ كل القرآن أيمدحه بحفظ الحديث؟ لم يكن يحفظ الحديث، أيمدحه بالفتيا؟ لم يكن عنده الفتيا، يقول: {خالد سيف سله الله على المشركين}.

ثابت بن قيس بن شماس، خطيب يدخل الجنة بالخطابة، وحسان أديب يدخل الجنة بالأدب، وبلال مؤذن يدخل الجنة بالأذان.

فعلى رواد الصحوة وأبطال العقيدة أن يصنفوا الشباب كل فيما يخصه، وكل رجل في المكان الذي يناسبه، ليفعل مثلما فعل عليه الصلاة والسلام.

الوعد بالجنة

العاشر: وعد عليه الصلاة والسلام محبيه وأتباعه برضا الله، وجنة عرضها السماوات والأرض، هذا هو الثمن للتضحيات، وأيما ثمن دونه فإنما هو غبن لا يساوي الجهد المبذول، يقول له الأنصار: {يا رسول الله! أئن نصرك الله ما لنا؟ قال: لكم الجنة} ليس عنده دنانير، هو أصلاً ليس مساوماً، لا يلعب بالنار، وهو لا يشتري دعايات، فهو عليه الصلاة والسلام ليس في اقتراع أصوات ولا في انتخابات، لا. بل من أراد الجنة فطريقها من لا إله إلا الله، ومن أراد النار سلك طريقها: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3]

يأتي أبو بكر فيقول: يا رسول الله! إذا آمنت بك ما لي؟ قال: الجنة قال الأنصار: {يا رسول الله! إن نصرناك فما لنا، قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل} إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]

الرسول عليه الصلاة والسلام: لم يُمن أحداً بمنصب، ولا مال، ولا برتبة ولا قصر، أو دار، أو بمديحة بل قال لهم: رضا الله والجنة.

صح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {من يقتل خالد بن سفيان الهذلي وله الجنة، فذهب عبد الله بن أنيس فقتله، فقال: يا رسول الله! ألي الجنة؟ قال: لك الجنة، قال: ما علامة ذلك؟ قال: خذ هذه العصا، علامة بيني وبينك يوم القيامة} تتوكأ بهذه العصا -إن شاء الله- في الجنة، والمتوكئون بالعصي في الجنة قليل وأخذها عبد الله بن أنيس ليتوكأ بها في الجنة إن شاء الله.

يقوم على المنبر -والقصة صحيحة- فيقول: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟} ليس عند الرسول عليه الصلاة والسلام إلا الجنة، ليس عنده رشوة ولا مداهنة ولا زهرة الدنيا، فجهزه عثمان، فقال: {اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.

إن التربية التي تربي الشباب على الجوائز لذاتها فحسب، سوف تربي جيلاً مادياً رأسمالياً، نعم نحن نشجع الناس بالجوائز، لكن المقصد رضوان الله، وجنة عرضها السماوات والأرض، نقول للحافظ: احفظ القرآن ليرضى الله عنك، وليلبسك حلة على رءوس الأشهاد، ثم لك جائزة، ونقول للشاب: احفظ الأحاديث ولك جائزة بعد رضوان الله والجنة.

أما أن نجعل الجيل يطلبون بالدين وبالعلم الشرعي النافع أغراض الدنيا، فمعنى ذلك: الرياء والسمعة وإحباط العمل: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].

أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].

بالله يا مسلمون! لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام -فرضاً وجدلاً- يوم بذل أصحابه مابذلوا وضحوا بما ضحوا به، قال لهم: أما جزاؤكم على تضحياتكم، فلك يا عمر الكوفة، ولك يا علي البصرة، ولك يا أبا بكر عشرة آلاف ألف دينار، ولك يا فلان! كذا وكذا، فكم هو ثمن بخس؟ وكم هو قلة؟ وكم هو ضياع؟ لكن قال: الجنة، ولذلك تسابقوا إلى الجنة.

جعفر خرج إلى مؤتة ليس عنده كسرة خبز من شعير، وكسرت السيوف في صدره وقطعت يداه وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها >>>>>طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها>>>>>كافرة بعيدة أنسابها

عليَّ إن لاقيتها ضرابها

أنس بن النضر في آخر رمق يقول: [[إليك عني، والذي نفسي بيده! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]].

خلاصة في معنى آية: (قل هذه سبيلي)

هذه تعاليمه عليه الصلاة والسلام، ولذلك تفوق صلى الله عليه وسلم تفوقاً خالداً، شهد له به التاريخ، فنجح نجاحاً باهراً.

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] سبيله ماذا؟ طريقه ومنهجه ودستوره في الحياة، قبل أن يبعث إنساناً بعث داعية، لكنه داعية إنسان، ومبشر إنسان، ومنذر إنسان: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ [المرسلات:45] فالحصر هنا جعل مهمته الإنذار فحسب.

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] وهي الطريق التي يسيرها محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه من العلماء والدعاة وطلبة العلم.

(أدعو) وهذه لوحة شرف يحملها كل من دعا إلى منهج الله، والدعاة هم أشرف الناس بهذا، وهم أحظ الناس بهذا اللقب، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] ما أحسن العبارة.

أدعو إلى الله [يوسف:108] أنا لا أدعو إلى نفسي، ولا أدعو إلى كياني أو شهرتي، أو منصبي، أو أغراضي، لا.

يا مسلمون! إن الدعاة اليوم والعلماء يدعون إلى الله على بصيرة، ليس عندهم ألغاز وأحاجي، فمبادئهم تعلن كل يوم خمس مرات من على المنبر، ما عندهم تكلموا به، يعلمون الناس: التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج.

يعلمون الناس: السلوك والأدب والأخلاق، هذا ما عندنا وما عند الدعاة والعلماء وطلبة العلم؛ لأننا ندعو إلى الله.

ثم قال عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] وأي بصيرة كهذه البصيرة التي يعيشها العلماء والدعاة في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد الإسلامية في العموم الغالب؟

أليست بصيرة التوحيد؟ وهو موجود.

وبصيرة الحكمة؟ وهي موجودة.

من الذي كلما سلَّ الخوارج سيوف الفتنة لإزهاق الأرواح وإسالة الدماء قالوا: حرام؟ إنهم العلماء والدعاة، من الذين كلما هاج هائج وماج مائج قالوا: حرام فوقف مكانه؟ إنهم العلماء والدعاة، ومن الذي كلما أتى حداثي وزنديق ومارق ليشعل الفتنة ويستهزئ بالدين ويلطخ الشريعة، قالوا: حرام، فوقف؟

إنهم العلماء والدعاة،فهم يدعون إلى الله على بصيرة وعندهم المادة: العلم الشرعي، الكتاب والسنة، ولديهم الحكمة: يعرفون التدرج، أطباء القلوب، وساسة الأمة، ويوم تفقد الأمة العودة إلى العلماء؛ تخسر الصفقة، ويفوتها حظ وافر من القيادة والريادة، وربما تخفق في مسيرتها، ويوم يبتعد العلماء عن الشباب، ولا ينزل العلماء لقيادة الشباب تقع المسيرة في اضطرابات لا يعلمها إلا الله، وتنتهي الأمة إلى هاوية سحيقة من التشتت والتمزق والدمار.

والعلماء هم الرواد، وهم مدعون وقد فعلوا: والشباب مدعون وقد فعلوا: إن يلتحموا بالعلماء، وأن ينظروا إلى هذه القمم أنها شموع ومعالم في طريقهم إلى الله عز وجل لا بد أن يُسمع لقولهم، وأن يعاد إليهم، وأن يشاوروا، وأن تحترم آراؤهم؛ لأنهم أعقل وأعلم، وأصدق وأخلص.

هذا الذي يجب على رواد هذه المسيرة أن يفعلوه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] من الدعاة والصالحين، والعلماء وطلبة العلم: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

توحيد في أول المسيرة وتوحيد في آخرها: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

لم تكن دعوته صلى الله عليه وسلم رياءً ولا سمعة، وإنما كانت توحيداً خالصاً، يوم ينزل الإنسان ويدخل الدين يقول: (لا إله إلا الله): ويوم يموت، يموت على (لا إله إلا الله) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فنسأل الله بصيرة وحكمة، وتوفيقاً وفقهاً في الدين.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفق ولاة الأمر لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بأيديهم لكل خير، وأن يوفق عامة المسلمين، وأن يهدي شبابهم، وأن يرد ضالهم، وأن يتوب على تائبهم، وأن يغفر ذنوبنا جميعاً.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قل هذه سبيلي للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net