إسلام ويب

بر الوالدين أعظم الجهاد وأيسره، ترفع فيه الدرجات، وتقبل من البار الدعوات، ولو أقسم على الله، فقسمه مبرور، لأن سعيه مشكور.

وعلى النقيض من هذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من عقوق الوالدين الذي يمكن في أسباب ثلاثة والتي تقابلها عدة أسس لبر الوالدين، ومع هذا فإن رحمة الله واسعة، والجزاء من جنس العمل، فمن أحسن أحسن الله إليه، ومن أساء فعليه.

الشباب والنوادي الصالحة

اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول.. لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن.. عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، أنت عوذ المظلومين، أنت ناصر المهضومين، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.

والصلاة والسلام على أشرف هادي ما سالت البوادي، وما هطلت الغوادي، أشرف من تكلم في النوادي، وأجل من جاء بالنور وهو خير هادي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

سلام الله أرفعه إليكم>>>>>بأشواقي وحبي والهداية

وأرفع من ربى أبها سلاماً>>>>>لأهل الحق في سبك العلاية

سلام على نادي الزيتون، وعلى القائمين عليه، وعلى رأسهم فضيلة الأخ الأستاذ/ محمد بن سعيد بن ريش ومساعدوه وزملاؤه وطلابهم، سلاماً لا ينقطع إلا بدمع العين، إلى أن نلقى الله في مستقر الرحمة.

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:1-6].

التربية على القرآن

يا أهل نادي الزيتون! نسأل الله أن تكونوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أحوجنا إلى الإيمان وعمل الصالحات؛ لأنه ينقصنا نوادٍ تقيم الإيمان، ويَتَرادُّ في جوانبها القرآن، وتسبح بحمد الواحد الديان، نوادٍ تؤسس على (لا إله إلا الله) نوادٍ ينطلق منها أشبال الإسلام، من أحفاد خالد وسعد وطارق وصلاح الدين. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109] نوادٍ تخرج شباباً يعبدون الله.

عباد ليل إذا جن الظلام بهم>>>>>كم عابد دمعه في الخد أجراه

وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم>>>>>هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه

كن كالصحابة في علم وفي ورع>>>>>القوم هم ما لهم في الناس أشباه

يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً>>>>>يُشَيِّدون لنا مجداً أضعناه

نريد شباباً يخرجون إلى العالم ليقولوا: ها نحن عدنا من جديد، وليقول الواحد منهم: أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن صلاح الدين.

رفيق صلاح الدين هل لك عودة>>>>>فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ

رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم>>>>>وجيشك في حطين صلوا وكبروا

تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ

ذاكم هو النادي الذي بدأ اسمه يلمع في سماء الحق (نادي الزيتون) ليقول للناس: لقد مللنا النوادي التي أتت بالناس لتربيهم على اللهو واللعب وضياع الوقت، لا ينقصنا ضياع وقت ولا لعب ولا لهو، ولكن ينقصنا إيمان بالله الواحد الأحد، وتوحيد وقرآن واستقبال إلى القبلة.

نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم>>>>>والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا

جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا>>>>>في مسمع الروح الأمين فكبرا

فحيا الله هذا النادي يوم أَجلسَ شبلاً من أشباله يقرأ القرآن ليسمعنا القرآن، وليشرح صدورنا به، لقد ظمئت قلوبنا -والله- لكتاب الله، يوم أن شبعت من الغناء، والغيبة والنميمة، ومن الزور إلا من رحم ربك، فأسمعنا -يا شاب الإسلام- كلام الواحد العلام، لتضيء طريقنا خلف سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.

أيا قارئ القرآن بالله قم واقرا>>>>>فصوتك يجلو عن مسامعنا الوقرا

أعد ذكر بدر كي تقر عيوننا>>>>>فقد صرت أنت اليوم في حفلنا بدرا

بر الوالدين قصص وعبر

ثم إن هذه المحاضرة بعنوان: (بر الوالدين) قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فلا يُعْبَد إلا الله، ولا يوحَّد إلا الله، ولا يقصد إلا الله، ولا يحب في الله إلا ما كان لله، ولا يبقى إلا وجه الله وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24]!

قصة الثلاثة النفر الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار

وقبل أن أتحدث عن كثير من الآيات والأحاديث أسوق قصة يرويها محمد عليه الصلاة والسلام ويتكلم بها؛ لأنه كان يربي الناس إما بضرب المثل، أو بالخطابة العارمة الجياشة التي تصل إلى القلوب، أو بالقصص الصحيحة التي تحيي الأرواح.

يقول عليه الصلاة والسلام: {بينما ثلاثة آواهم المبيت إلى غار في جبل...}.

دخل ثلاثة من بني إسرئيل في غار، وهو الكهف في الجبل، فانطبقت عليهم الصخرة، فلما أغلق الله عليهم باب الغار بهذه الصخرة، وقفوا في موقف ضيق حرج، وردوا أمرهم إلى الله، والعبد إذا ضاق فإنه لا يلتجئ إلا إلى الله الواحد الأحد، أرأيت إلى الإنسان إذا ضاقت به الحيل، فإلى مَن يلتجئ؟ قال تعالى: وإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].

يونس بن متى في بطن الحوت يلتجئ في الظلمات الثلاث إلى الله الواحد الأحد ويقول: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].

فتقطعت بهم الحيل، وانتهت بهم أسباب الدنيا، وتصرمت بهم حبال الناس، ولم يبق إلا حبل الله.

يا واهب الآمال! يا حافظ القلوب! يا مقوي حبال الطائعين بحبلك! يا مرسل الأسباب لأوليائك! انقطعت بنا الحبال.

يا واهب الآمـال>>>>>أنت حفظتني ومنعتني

وعدا الظلوم علي>>>>>كي يجتاحني فنصرتني

فانقـاد لي متخشعاً>>>>>لمـا رآك منعتني

تباكوا في الغار، فسمعهم الواحد القهار.. {فقال أحدهم لإخوانه: لا ينجيكم إلا عملكم الصالح فادعوا الله بأحسن أعمالكم}.

وهذا درس لنا؛ فإنه لا ينجي العبد من الكربات والظلمات، ولا من الأمور المدلهمات إلا تقوى رب الأرض والسماوات.

زكريا يرفع يديه يدعـو الله أن يصلح زوجتـه، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90] لماذا؟ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْـخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَـباً وَرَهَباً وَكَـانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

فلما قال لهم أخوهم: فادعوا الله بصالح أعمالكم. تقدم الأول، فقال: {اللهم إنك تعلم -ولا زال الله يعلم، فعلمه أبدي سرمدي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه كان لي أبوان شيخان كبيران} انظر إلى التصوير العجيب في الحديث.. الأب والأم إذا كبرا وأتاهما الهرم أصبحا في منظر بئيس، ترحمهم القلوب من الأجانب فكيف بالقريب! قال: {... وبلغ بي من البر أني لا أغبق عليهما أهلاً ولا مالاً...} لا يسقي أطفاله اللبن، ولا يقدم لأهله الطعام حتى يشبع أبوه وأمه ويروَيان، قال: {ونأى بي طلب الشجر ذات يوم، فلم أرجع حتى ناما...} أتى هذا الرجل، وهو يرعى الغنم بعد صلاة العشاء، ثم حلب إبله وبقره، وتقدم باللبن في الإناء، فأتى وإذا بالشيخين نائمين، فقام على رأسيهما، وأطفاله يتضاغون عند أقدامه، لا يجدون مضغة، ولا يجدون من أبيهم ما يسد عوَزَهم أو جوعهم.. قال: {فانتظرت حتى برق الفجر، ولم أقدم أطفالي على والديَّ...} فلما طلع الفجر استيقظ الوالدان، فسلم لهما اللبن فشربا، قال: {اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه، فتزحزحت الصخرة شيئاً بسيطاً؛ لكن لا يستطيعون الخروج، وقال الثاني: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، وإني راودتها عن نفسها، فأبت، حتى أَلَمَّ بها قحط وفقر وجدب، فقدمت لها مائة دينار، فلما تمكنت منها، قالت: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه فتركتها، اللهم إن كنتَ تعلم أني تركتُ ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، ولكن لا يستطيعون الخروج، وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أجراء -أي: عُمَّال- فأعطيت كلاً أجرته إلا عاملاً واحداً، ذهب مغاضباً، ولم يأخذ من أجره شيئاً، فجمعت ما له من مال، وثمرته له، فلما أتى قلت: هذا المال جميعه لك، قال: لا تستهزئ بي. قلت: بل كل هذا لك، فأخذه ولم يبقِِ لي شيئاً، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وخرجوا يمشون}.

والدرس الوحيد الذي نريده وهو الشاهد: بر الوالدين..

يوم يقول الله عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] قرن الله حقه بحق الوالدين، وجعل الله رضوانه في رضا الوالدين؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يتولى حق الوالدين.

قصة الشيخ الذي شكا ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم

يـجلس عليه الصلاة والسلام في مجلس مع الصحابة، فيأتي شيخ كبير مسن عجوز، وهو يبكي، فيقول عليه الصلاة والسلام: ما لك؟ قال: يا رسول الله! أشكو إليك داهية من الدواهي -أي: معضلة من المعضلات- قال: ما لك؟ قال: ابني يا رسول الله! ربيته، سهرتُ لينام، وجعتُ ليشبع، وظمئت ليروَى، وتعبت ليرتاح، فلما كبر غمط حقي وظلمني، ولوى يدي وضربني -ذكر ذلك الزمخشري وغيره- ثم أنشد شعراً في ولده يقول:

غذوتُك مولوداً وعِلْتًك يافعاً>>>>>تعلُّ بما أجني عليك وتنهلُ

إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت>>>>>لسقمك إلا شاكياً أتململُ

كأني أنا الملدوغ دونك بالذي>>>>>لدغت به دوني فعيناي تَهْمِلُ

فلما بلغت السن والغاية التي >>>>>إليها مدى ما فيك كنتُ أؤمِّلُ

جعلت جزائي غلظة وفظاظة>>>>>كأنك أنت المنعم المتفضلُ

فليتك إذ لم ترعَ حق أبوتي>>>>>فعلت كما الجار المجاور يفعلُ

فبكى عليه الصلاة والسلام، وروي أن جبريل نزل فقال: {إن الملائكة بكت لبكاء هذا الشيخ} ثم استدعى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه، فأخذ بتلابيب الابن وهزَّه، وقال: {أنت ومالك لأبيك} ليبين عليه الصلاة والسلام أن الابن وماله لأبيه يتصرف فيه، وأنه لا يجوز أن يخرج عن طاعته، إلا إذا أمر بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

أبو هريرة وبره بأمه

أبو هريرة يضرب به المثل في طاعته لوالدته، يقول: {هاجرت من زهران إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما نزلت في البيت ومعي أمي أخذت تسب رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فغضبت، وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقلتُ: يا رسول الله! أمي تسبك، أسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله لها، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: اللهم اهد أم أبي هِرٍّ، اللهم اهد أم أبي هِرٍّ قال أبو هريرة: يا رسول الله! وادعُ الله أن يحببني وإياها إلى صالح المسلمين قال: وحببهما إلى صالح عبادك} وعاد فوجدها تغتسل، وطرق عليها، وإذا بها تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وعادت مهتدية إلى الله، لما كان ابنها باراً بها.

من قصص التابعين في بر الوالدين

قيل لأحد الصالحين، وكان مشهوراً ببر الوالدين: ما بلغ برك بأمك؟ قال: ما مددت يدي إلى الطعام إلا بعد أن تمد يدها، وما نمت إلا بعد أن تنام، وما رقيت سطحاً وهي تحتي خوفاً من أن أعقها بأن أرتفع عليها.

وقالوا للحسن البصري: سمعنا أنك بارٌّ بأمك، فما بلغ بك من بر أمك؟ قال: ما نظرت إلى وجهها حياءً منها.. فكيف بمن بلغ به العقوق إلى أن يضرب والديه، أو يلعنهما؟!!

جاء في الأثر: [[من عق والده حتى بكى، فالذمة منه مقطوعة]].

وفي أثر آخر: [[من بكى منه أبوه أو أمه فقد سلخ النور عن جبينه]].

وهذه الآثار تنسب للسلف، ولا ترفع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

قال جعفر الصادق لابنه: [[يا بني! لا تصاحب عاقَّ الوالدين؛ فإن الله قد غضب عليه من فوق سبع سماوات، فكيف تصاحبه؟!]].

أسباب عقوق الوالدين

ولا يحدث عقوق الوالدين إلا بأسباب، أجملها في ثلاثة:

أولها: سوء التربية:

فإن الوالد مسئول عن تربية ابنه على الكتاب والسنة، والوالد الذي لا يربي ابنه على القرآن، وعلى حب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى الإتيان به إلى المسجد، والمداومة على الصلوات الخمس، وعلى تقوى الله، والصدق، والوفاء، يستحق العقوق من ولده.

ثانيها: الجهل:

فعلى الوالد أن يعلِّم ابنه ولا يتركه جاهلاً، لا بد أن يعلِّمه العلم الشرعي وهو كتاب الله، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

يُروَى أن أحد العلماء جاءه رجل، فقال له: ابني ضربني، قال: تعال بابنك، فأتى به فإذا هذا الابن كبير سمين بدين كأكبر ما يكون من الرجال، فقال له: أضربتَ أباك؟ قال: نعم. ضربتُه، قال: لِمَ ضربتَه؟ قال: وهل يحرم أن يضرب الابن أباه؟ أي: هل في الشريعة أنه لا يجوز ضرب الابن لأبيه؟ قال العالم للأب: أعلَّمتَ ابنك شيئاً من القرآن؟ قال: لا والله. قال: أعلمتَه شيئاً من السنة؟ قال: لا والله. قال: أعلمتَه شيئاً من آداب السلف؟ قال: لا. قال: فماذا صنعت معه في حياته؟ قال: أطعمتُه وسقيتهُ وآويتُه حتى كَبُر، قال: تستحق أن يضربك؛ لأنه ظن أنك ثور فضربك.

فالسبب الثاني: عدم تعليم الأبناء العلم الشرعي الذي ينفعهم في الدار الآخرة، ويقربهم من الله، ولا أعني علم الثقافة، وعلم القشور، والمعلومات التي تستحوذ على الذهن ليصبح سلة مهملات، هذا ليس بعلم.. قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].

ثالثها: عق الرجل والديه؛ فالجزاء من جنس العمل، فمن بر أبويه رزقه الله عز وجل أولاداً يبرونه.

أحد الناس سحبه ابنه من بيته حتى أخرجه خارج المنـزل، فقال الأب لابنه: قف هنا، فوالله لقد سحبت أبي من هذا المكان حتى أوقفته في هذا المكان، وهذا الجزاء من جنس العمل.

أقسام بر الوالدين

وبر الوالدين على قسمين:

بر الأم، وبر الأب.

الرسول عليه الصلاة والسلام يأتيه رجل -والحديث متفق عليه- فقال: (يا رسول الله! مَن أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).

قال أهل العلم: بين عليه الصلاة والسلام أن للأم ثلاثة أرباع الحق، وللأب ربعاً من الحقوق.

ولذلك اجتهد الصالحون في برهم بأمهاتهم.

فقد مر ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه برجل من أهل اليمن، وقد حمل أمه على كتفيه في حرارة شمس مكة، وهو يطوف بها، وقد سال العرق على جبينه في الظهيرة، فقال: [[يا ابن عمر! أسألك بالله، أجازيتُ أمي بما قَدَّمَت لي؟ قال ابن عمر: لا والذي نفسي بيده ولا بزفرة من زفراتها]].

معنى الكلام: لَطَوافك بالبيت، وهذا الضنك والمشقة التي وجدتها لا تساوي زفرة من زفراتها، أو طلقة من طلقاتها في وقت الولادة، لا يساوي بر الابن بأمه طيلة ستين أو سبعين سنة.

خرج عمر رضي الله عنه، وأسكنه فسيح الجنات، وجمعنا به وأرانا ذاك الوجه الكريم خرج في ظلام الليل بعد صلاة العشاء يتفقد الناس، ونزل إلى خيامٍ حول المدينة وفيها فقراء من بوادي العرب، فأتى إلى خيمة، فسمع امرأة تصيح وتبكي وهي في الطلق، فوقف عند باب الخيمة، وهو يرتجف كالعصفور من شدة البرد ويبكي رضي الله عنه وأرضاه، فقال له مولاه أسلم: [[ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: إنك لا تدري يا أسلم! ماذا تجد من ألم الولادة]] ثم ذهب رضي الله عنه... في قصة طويلة، وأتى بطعام لها، وصنع لها عشاءً، حتى قالت: والله إنك أحق من عمر بن الخطاب بالخلافة.

أسس بر الوالدين

وبر الوالدين له أسس:

من بر الوالدين: الدعاء لهما

أولها: أن تدعو الله لهما في أدبار الصلوات:

الدعاء العظيم، يوم أن ترفع يديك تدعو لوالديك في أدبار الصلوات وفي السجود، وتقول: (رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) (اللهم اغفر لوالدي، اللهم ارحمهما، اللهم تجاوز عنهما) يوم تقف في ظلام الليل لتدعو لأفضل مخلوقين حيين قدما لك أحسن مكرمة في الحياة الدنيا، وهو وجودك، ولذلك فليس في الإسلام ولا في الشريعة أن يُقْتَصَّ للولد من الوالد، ولو قَتَل الوالد ابنه فلا يقتل به الوالد؛ لأنه سبب لوجوده فلا يكون الولد سبباً في إعدامه؛ بل لا يجوز للولد أن يشكو أباه إلا في الميراث, ومهما تكلم عليه، أو عزَّره، أو ضربه، أو أدبه؛ فلا يجوز أن يرفع في حقه شكوى، ولا أن تسمع شكواه؛ لأنه مهما فعل فلن يجاوز ذلك خير، ولا نفع، ولا معروف أبيه وهَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ [الرحمن:60].

ويصف الرسول عليه الصلاة والسلام الرحم ويقول -كما في الصحيحين- : {لما خلق الله الرحم تعلقت بالعرش، وقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلكِ! وأقطع من قطعكِ؟ قالت: بلى يا رب! قال: فذلك لكِ}.

قال أبو هريرة: [[اقرأوا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * =6004567>أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]]].

ومن الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم من عق والديه، وقطعهما في الحياة حتى بكيا من عقوقه، فذلك نسي الله فأنساه نفسه، فيأتي يوم القيامة مبتور الحجة، مجذوم الإرادة، لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.

ومن حقوق الوالدين: أن يطاعا في أي أمر أمرا به في طاعة الله، وأما إذا أمرا بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة، خال رسول الله عليه الصلاة والسلام، لما أسلم وشهد أن لا إله إلا الله، قالت أمه: لا آكل ولا أشرب حتى تعود من الإسلام إلى الشرك، قال: يا أماه! كلي واشربي. قالت: قد سمعتَ، وحَلَفَتْ بلاتِها وعزَّاها ألا تأكل ولا تشرب حتى يعود، فحاورها وراودها ونازلها فرفضت، ثم قال: يا أماه! والذي نفسي بيده لو كان لك ألف نفس فخرجت نفساً نفساً على أن أعود عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين فلن أعود، فكلي أو اتركي، فأكلت. فأنزل الله عز وجل: وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:14-15].

إذاً: فلا طاعة لهما في معصية الله.

قال الحسن: [[مَن أمرته أمه أن يصلي العشاء في البيت ويترك الجماعة فليعصها وليذهب إلى المسجد]].

إذاً لا طاعة للوالد في المعصية؛ لأنه قد وجد من بعض الآباء من يجبر أبناءه على المعصية، ويرفض أن يستقيم ابنه، فإن قصر الابن ثوبه على السنة قال: هذا لا يوافق، هذا ليس من زينا، هذا من التزمت، هذا من التطرف، فيرفض ابنه ومسلك ابنه، وهذا خطأ.

فطاعة الوالد في معصية الله عز وجل ليست واردة، لكن يطاع في طاعة الله عز وجل.

من بر الوالدين: الإنفاق عليهما وقت العجز

ومن البر بهما: الانفاق عليهما وقت العجز عن النفقة:

وكثير من الآباء والأمهات اليوم لا يستطيعون الإنفاق على أنفسهم، لأن شبابهما وقوتهما وصحتهما وما آتاهما الله قد ضعفت، وعندما كبر هذا الشاب جحد حقهما في النفقة، وبلغ بمستواه هذا أخلاق اليهود والنصارى، فإن الذي يبلغ به العقوق إلى أن يحرم والديه النفقة فخلقه خلق اليهود والنصارى -والعياذ بالله- بل نفقة الوالدين واجبة على الولد على رغم أنفه، ومهما حاول أن يتمرد فإنه يجبر ويحبس حتى يؤدي النفقة إليهما.

من بر الوالدين: تقديمهما على الزوج والأولاد

ومن البر لهما أن يقدم والديه على أبنائه وبناته وعلى زوجته.

فلا يقدم زوجته مهما كانت، وإن فعل فقد خان الله ورسوله، وخان دين الله وميثاقه وعهده.

إن قدم زوجته وأرضاها على حساب أمه، فهذا خائن غادر لميثاق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل يجب أن يكون رضا الوالدة مقدماً دائماً، فإن أراد أن يحلي زوجته، أو يلبسها، أو يطعمها، فبعد أن يرضي أمه، وأن يقدمها في كل الحقوق؛ فإن تنازلت وسمحت ورضيت فلا بأس أن يزيد لزوجته؛ لأنه أرضى قبلها أمه.

من بر الوالدين: السكنى

قال أهل العلم: يسكنون أينما أرادوا، ولو كان في العين، فإن العين مهما ضاقت فإنها لا تضيق بالوالدين.

فمن حقوقهما: السكنى.. لا يسكن الولد إلا ووالداه معه؛ إلا إذا اختارا ورأيا أن المصلحة في عدم السكنى معه، لسلامة القلوب، والبعد عن الشجار والاختلاف، فلهما ذلك؛ لكن إذا أراد الوالد أو الوالدة بيتاً أو اختارا أمكنة من بيوته فيقدمان، ولهما الحق شريعة وعرفاً وميثاقاً وعهداً من الله.

من بر الوالدين: الزيارة

ومن حقهما: الزيارة، فإذا كانا في بلد بعيد فبالاتصال، وطلب الرضا والسماح، وطلب الدعاء منهما.

ولكن كثيراً من الناس قد جهلوا هذه الحقوق، وتغمطوها، بل بلغ ببعضهم أن هجر أباه وأمه السنوات الطويلة في غضب، أو بلغ به العقوق أن لعن أباه أو أمه، أو ضرب أحدهما، أو خاصمهما حتى بكيا، فإذا بلغا إلى درجة الغضب الشديد الذي ينتج البكاء فقد عقهما عقوقاً كبيراً، وأصبح فعله هذا من الكبائر السبع التي ذكرها عليه الصلاة والسلام.

أهمية وفضل بر الوالدين

يأتي رجل من أهل اليمن فيقول: (يا رسول الله! أريد الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، قال: ألك والدان؟ قال: نعم. قال: فالزمهما، فإن الجنة عند قدميهما أو رجليهما) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث عند مسلم. وفي رواية صحيحة: (ففيهما فجاهد).

فخدمة الوالد والوالدة أعظم من الجهاد في سبيل الله، وقد ظهر في شبابنا من يذهب إلى الجهاد -مثلاً- في أفغانستان، ولا يستأذن والديه، ويذهب على رغم أنفهما، ويغضبهما، ويريد الأجر من الله! فهذا ليس له أجر، وليس له ثواب حتى يأذن له والداه، ويسمحا له عن طيب قلب، وراحة نفس، فإذا سمحا فله الأجر والثواب عند الله.

ولذلك يقول بعض أهل العلم: أهل الأعراف الذين ذكرهم الله عز وجل بقوله: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46] هؤلاء يسكنهم الله عز وجل في مكان بين الجنة والنار، ليسوا في النار ولا في الجنة، قال بعضهم: هؤلاء الذين خرجوا في سبيل الله، ولكن بغير إذن الوالدين، فليسوا في النار ولا في الجنة؛ ولكن على الأعراف.

فليعلم العبد أن بقاءه في خدمة والديه، وطاعتهما، أعظم من الجهاد وحمل السيف والبندقية، وضرب أعداء الله في سبيل الله، هذا هو الجهاد العظيم الذي يأجر الله العبد عليه يوم القيامة، ثم الجهاد في سبيل الله بعد رضا الوالدين.

جاء في صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال وهو على الـمنبر: (رغِمَ أنفُ رغِمَ أنفُ رغِمُ أنفُ...) وفي السنن: (رغِمَ أنفُه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال رغِمَ أنفُه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: رغِمُ أنفُه، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: مَن أدرك والديه أو أحدهما في الكبر، ولم يَدْخُلِ الجنة...) من أدرك والديه الكبيرين أو أحدهما ولم يدخل بسببهما الجنة فأرغم الله أنفه في التراب، فهو محروم من البر والرحمة، والإحسان والحنان، والخير والتوفيق، والهداية والسداد.

أويس القرني بر أمه فبر الله قسمه

وهذا أويس القَرَني، وهو من مراد، ونحن نلتقي معه، لكن لا نفتخر بذلك؛ فـأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام في النار، والنسب لا يقارب ولا يباعد، يقول عليه الصلاة والسلام: {يا بني هاشم! لا تأتوني بأنسابكم يوم القيامة ويأتيني الناس بأعمالهم} وقال عليه الصلاة والسلام: {من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه} وعبد مولى قريب من الله عز وجل هو حبيب الله وولي الله، فـبلال الحبشي أتى من الحبشة، كان يباع ويشترى، فلما أسلم رفع الله ذكره في الخالدين، وأصبح له قصر في الجنة كالربابة البيضاء.

يقول عليه الصلاة والسلام للصحابة وهو يحدثهم: {سوف يقدم عليكم من أهل اليمن رجل اسمه أويس بن عامر القرني... } وضبط قبيلته: قَـرَن. كما قال ابن مالك:

وعدن وقرن ولا حق >>>>>وشذقم وهيلة وواشق

فهي قَرَن، وليست قَرْناً.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: {له أم هو بار بها، لو أقسم على الله لأبره، فيه كالدرهم من آثار مرض البرص، يشفع يوم القيامة لمثل قبيلة مضر حتى يدخلوا بشفاعته الجنة}.

وكان رجلاً فقيراً في اليمن، ليس لـه مال، ولا زوجة، ولا أبناء ولا بنات.

هذا الرجل قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم عنه للصحابة: {إذا قدم عليكم فاطلبوا منه أن يستغفر الله لكم} يستغفر لـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم خير منه لكنها حكمة من الله! ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

فكان أبو بكر في خلافته كلما أقبل وفد من أهل اليمن سألهم، وقال: أفيكم أويس بن عامر القرني؟ فيقولون: لا. فتوفي أبو بكر ولم يأت أويس،

وتولى عمر رضي الله عنه وأرضاه، فكان يسأل أهل اليمن حتى أتاه وفد الحجاج من أهل اليمن، فقال: أفيكم أويس بن عامر القرني؟ قالوا: نعم. يا أمير المؤمنين! عندنا رجل يَرْعى الإبل لنا في الوادي، إن كان هو الذي تقصد فهو راعي غنم، ماذا تريد مـن راعي الغنم؟ قـال: ألَهُ والدة؟ قالـوا: نعم. قال: أهو بار بها؟ قالوا: نعم. قال: أصابه برص فبقي في بطنه كالدرهم من آثار البرص، قالوا: نعم. فقال للصحابة: قوموا بنا إلى أويس بن عامر فركب حماره رضي الله عنه وأرضاه ومعه علي وجل الصحابة، وذهبوا إليه في الوادي، وهو في ضاحية من ضواحي المدينة، أتوا إليه، وقد توضأ وجعل عصاه سترة له إلى القبلة، يسجد ويركع ويدعو ويبتهل إلى الله، فانتظر عمر حتى انتهى أويس من الصلاة، فسلم عليه، وقال عمر: من أنت؟ قال: أويس بن عامر قال: ألك والدة؟ قال: نعم. قال: اكشف عن بطنك، فكشف، فرأى عمر رضي الله عنه كالدرهم من البرص في بطنه، فقبل عمر بطنه، وقال: استغفر لي، فبكى أويس بن عامر، وقال: سبحان الله! أستغفرُ لك وأنت أمير المؤمنين! قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لنا: {يقدم عليكم من أهل اليمن رجل له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، يدخل بشفاعته مثل قبيلة مضر يوم القيامة في الجنة} فقال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين!

فأخذ الصحابة يقولون: استغفر لنا استغفر لنا، وهو يدعو لهم.

ثم قال عمر: أتريد أن تقيم معي في المدينة؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتركني أحيا يوماً جائعاً ويوماً شبعاناً حتى ألقى الله. فعاد عمر وسأل عنه في اليوم الثاني فلم يجده، وسأل رفقته فلم يجدوه، وقالوا: اختفى وذهب إلى العراق وحيداً غريباً.

غريباً من الخلان في كل بلدة>>>>>إذا عظم المطلوب قل المساعد

سكن الخرابات حتى لقي الله، وهو يشفع يوم القيامة لمثل القبيلة العربية العظيمة مضر، يدخلهم الجنة بسبب بره بأمه.

فرضي الله عن أويس، الذي استغفر لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب إلى الله ببره بأمه.

وتتكرر دائماً صور الصالحين في برهم بأمهاتهم، وصدقهم مع ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

وأحد الصالحين من السلف قام في خدمة أمه، فطلب منه كثير من الخلفاء أن يتولى لهم أعمالاً وإمرة، فقال: لا. إمرتي في بيتي مع أمي، فقام على أمه، قالوا: كان يغسلها، ويلبسها ثيابها، ويصنع الطعام لها، ويكنس بيتها، حتى رأى في المنام قائلاً يقول: لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر بما فعلت مع أمك. يروي هذا صاحب الحلية وأمثاله من أهل الرقائق والمواعظ.

فيا عباد الله! يا أبناء من آمنوا بـ(لا إله إلا الله) وصدقوا بموعود الله: ما أحوجنا لبر الوالدين، والعبد كما يقول ابن تيمية: لا بد أن يقصر مع والديه، فإن ابن تيمية شيخ الإسلام، يتحدث عن أمه، فقد كانت في بلد حَّران، وهو في بلد آخر، فقال: قد قصرت معكم في الزيارة، وفي الحقوق، والنفقة، والله لو حملتني الطيور بأجنحتها لسرنا إليكم؛ لكن العبد لا بد أن يقصر مع والديه؛ فليستغفر الله، وليدرأ بالحسنات السيئات إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

فمن أغضب والديه فليدع لهما بظهر الغيب، ومن أنقص حقهما فليوفه يوماً من الأيام.

أنواع البر بالوالدين

من بر الوالدين تقديم القربات لهما

ومن كان عاقاً لوالديه وقد ماتا فليبرهما بعد الموت بالدعاء لهما، وبصلة قريبهما، وبالاستغفار لهما، وبقضاء دينهما،

فقد جاء في بعض الآثار: أن الرجل يموت والداه وهو عاق لهما فلا يزال يدعو لوالديه، ويستغفر لهما، ويصل قرابتهما حتى يكتبه الله في الخالدين باراً بوالديه.

وإني أوصي نفسي وإياكم يا من مات له أب أو أم: أن تقدموا لهما هدايا كل ليلة، فقد جاء في الأثر: [[ما دعا داعٍ ولا تصدق متصدق إلا أتت على أطباق من نور حتى تدفع للوالد أو الوالدة في القبر]]. وهذه آثار موقوفة على بعض السلف الصالح.

وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له}.

فيا من فقد أحد والديه! تقدم إلى الله بالدعاء، وتصدق عن والديك، وحج عنهما واعتمر؛ فإنها تصلهما، وتكون لهما في القبر وعند الله ويثقل بهما الميزان، وكلما سجدت لله سجدة فادعُ لهما، فمهما فعلت فوالله لن توفِّ لهما الحق أبداً، وإنا لمقصرون.

ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- إذا سئل عن أفضل الأعمال جعل بر الوالدين هو الثاني منها.

ففي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: {يا رسول الله! ما أحب العمل إلى الله قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله}.

فبر الوالدين هو العمل الثاني الذي يلقى به العبد ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيكون مأجوراً على ذلك.

وكان عليه الصلاة والسلام يتفقد أصحابه في بر الوالدين، بل ورد في صحيح مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج ليزور قبر أمه، قال أبو هريرة: خرجنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد ماتت أمه وهو طفل.

كفاك باليتم في الأمي معجزة>>>>>في الجاهلية والتأديب في اليتم

خرج يتيماً؛ لكنه حوَّل العالم، وُلِد يتيماً مطروداً شريداً جائعاً ظامئاً على فاقة وفقر، ولكنه أصبح أجل إمام، وأعظم زعيم، وأنبل قائد، وأحسن رائد لقومه ولأمته، وأبرك من وجد على ظهر الأرض، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ماتت أمه وهو صغير، فلما كبر -عليه الصلاة والسلام- وأنزل الله عليه الوحي، قال: {أين قبر أمي؟} لهفة الإنسان لوالديه ولقرابته وصلة وقرب وحب وعطف، كما قال الله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

تشوق عليه الصلاة والسلام لأمه حناناً بها، ولذلك كما قال الأول في قرابته لما فارقوه:

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا>>>>>شوقاً إليكم وما جفت مآقينا

نكاد حين تناجيكم ضمائرنا>>>>>يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي>>>>>مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا

قالوا: يا رسول الله، قبر أمك على طريق المدينة، فأخذ الصحابة وذهب بهم، فدخل المقبرة، فقام يبكي عند القبر حتى بكى الصحابة. ثم قال: {اللهم اغفر لأمي} فنهاه الله أن يستغفر لها؛ لأنها ماتت على غير الملة، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: {استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي} لأن المشرك لا يُشْفَع فيه، وقد مضوا إلى ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وإنما الشاهد: حنانه -صلى الله عليه وسلم- وبره بقرابته.

من بر الوالدين صلة قرابتهما

يأتي عليه الصلاة والسلام بعدما فتح الطائف، يوزع الغنائم على الناس، وإذا بـالشيماء بنت الحارث أخته من الرضاعة، أرضعته وإياها حليمةُ السعدية في بني سعد في جوار الطائف، وأخبر الناسُ هذه المرأة أنها أخت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدمت عليه، وهي عجوز كبيرة في السن، فأخذت تخترق الصفوف وعليها مظلة تظللها من الشمس، وتقول: أين رسول الله؟ فاقتربت منه صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! أنا أختك من الرضاعة، فلما سمع كلمتها قام فعانقها وبكى وأجلسها مكانه، وقام يظللها من الشمس، وأخذ يقول: كيف حالكم؟ كيف أهلكم؟ كيف أطفالكم؟ ثم قال لها: {الحياة حياتي، والموت موتي، أتريدين الإقامة معي أم تريدين الذهاب أمتعك إلى أهلك متاعاً حسناً؟ قالت: المتاع الحسن، فأعطاها مائة ناقة، وسألها أن تزوره، وأخذ يودعها وهو يبكي حتى اختفت عن العيون} والناس يلحظون بره عليه الصلاة والسلام لأن من يخاف موعود الله عز وجل يبقى باراً بقرابته وبوالديه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].

لكن بر الوالدين لا يأتي إلا بالإيمان، وبالخوف من الواحد الديان، ويوم نربي بيوتنا على (لا إله إلا الله) ونحبب المساجد لأطفالنا، ويوم نقربهم من الله، حينها ينشئون نشأة إسلامية إيمانية ترضي الله الواحد الأحد.

أما من ربى أولاده على الغناء، والتطبيل، وعلى ضياع الوقت، وقرناء السوء، والتمرد على آيات الله، فكيف يريد أن يكونوا بارين به؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

فندعو أنفسنا وإخواننا المسلمين إلى بر الوالدين، والعطف عليهما، والحنو بهما، والدعاء لهما بظهر الغيب، ومن أساء فليحسن، ومن أذنب فليستغفر، ومن قصر فليكمل، ومن كان عاقاً وقد مات والداه فليبرهما بعد موتهما؛ ليكتبه الله باراً في الخالدين.

من بر الوالدين تعليمهما أمور الدين

ومن أعظم البر بهما تعليمهما أمور دينهما:

فإن كثيراً من الآباء والأمهات لا يعرف أحدهما الصلاة، ولا يعرف أركان الإسلام وأركان الإيمان، أو لا يعرف العلم الضروري من الشريعة، فواجبك -يا عبد الله- أن تعلم والديك، وأن ترشدهما إلى أمور الصلاة والوضوء، وأن تقربهما من الله، وأن تبعدهما مما يغضب الله؛ من شهادة الزور، والغيبة والنميمة، والاستهزاء والاستهتار، واللعن والفحش، والمعاصي ما ظهر منها وما بطن، فإنهم أعظم من تدعوهم، قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] و{ الأقربون أولى بالمعروف} فدلهما على طريق الجنة، وخذ بأيديهما إلى صراط الله المستقيم، فإن من سعادة المؤمن يوم القيامة أنه إذا دخل الجنة جمع الله له قرابته إذا كانوا مسلمين.

كيف يسعد الإنسان إذا دخل الجنة وهو، يقول: أين أمي؟ أين أبي؟ أين إخواني؟ أين أبنائي؟ قال الله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] لكن بشرط أن يكونوا مسلمين، أما أبٌ مشرك وابنٌ مسلم فلا يجتعمان في الجنة، أو ابن ملحد زنديق معرض عن الله لا يجتمع مع أبيه المسلم.

فيا من أراد أن يجتمع بأسرته وبقرابته وبوالديه وبأبنائه وبناته! اعمل صالحاً، وقدهم إلى الطريق المستقيم، وجنبهم المعاصي والمنكرات، عل الله أن يجمع بينك وبينهم في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

لها أحاديث من ذكراك تشغلها>>>>>عن الشراب وتلهيها عن الزادِ

لها بوجهك نور تستضيء به>>>>>ومن حديثك في أعقابها حادي

حث الآباء على تربية الأبناء

عباد الله: براً بالوالدين، وطاعةً لهما، ويا أيها الآباء! ويا أيتها الأمهات! تعلموا حتى تربوا أبناءكم على طاعة الله، وأقيمومهم على منهج الله، وأدخلوا ذكر الله في البيوت، لتنشئوا أطفالاً مستقيمين ملتزمين، مخلصين مخبتين، عل الله أن يهدينا وإياكم، وأن يقيمنا على الطريق المستقيم.

والمآسي التي نسمعها -والعياذ بالله- مآسٍ تنبئ عن أن في بعض البيوت سوء تربية، فقد حدثنا رجل من رجال الأمن، أن أماً أتت إلى رجال الأمن وشكت ابنها، وقالت: ضربها سبع مرات، قال هذا الشرطي وكان مستقيماً: فما كان منا إلا أن داهمنا منـزله، واقتحمنا عليه البيت، وأخرجناه، فضربناه ودسناه بأرجلنا، وكان يصيح: يا أماه أنقذيني! فكانت تقول: أعدمك الله، وقتلك الله، وغربلك الله كما غربلتني، ذق بعض ما ذقتُ. هذا رجل خلع رِبْقَةَ الهداية والتوفيق عنه، وقطع الحبل بينه وبين الله، تبلغ به الدرجة وقسوة القلب ويهودية الضمير -والعياذ بالله- إلى أن يضرب أمه هذا الضرب العنيف؛ فيصبح أذل من البهيمة، وأقل من الدابة، والعياذ بالله.

فنسأل الله أن يثبتنا، ونعوذ به من الخذلان؛ فإن العبد إذا قطع ما بينه وبين الله، قطع الله ما بينه وبين والديه، وما بين قرابته والناس.

اللهم ثبتنا وسددنا، واهدنا ووفقنا.

ونكتفي بهذا القدر، ليكون ما بقي من وقت للأسئلة، عل الله أن ينفع ويهدي سواء السبيل.

وأكرر شكري للقائمين على هذا النادي، ولكم أيها الحضور.

ونسأل الله أن يجمعنا هناك في دار الكرامة، في مكان أحسن من هذا المكان وأوسع وأصفى وأرَقُّ.

فلما جلسنا مجلساً طله الندى>>>>>جيملاً وبستاناً من الروض دانيا

أثار لنا طيبُ المكان وحسنُه>>>>>مُنَىً فتمنينا فكنتَ الأمانيا

اللهم اجعل أمانينا جنة عرضها السماوات والأرض، في جوارك يا رب العالمين! فقد سئمنا الحياة، حياة الهم والغم والحَزَن.

فاعمل لدار غداً رضوان خازنها>>>>>والجار أحمد والرحمن بانيها

قصورها ذهب والمسك طينتها>>>>>والزعفران حشيش نابت فيها

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

كيفية تعليم الوالدين الصلاة

السؤال: علَّمتُ والدي كيفية الصلاة مرات عديدة، ونصحته كثيراً؛ ولكن الاستجابة قليلة، فما هو توجيهكم جزاكم الله خيراً؟

الجواب: أثابك الله على ما فعلتَ وسددك، وهذا هو الواجب أن تعلمه، لكن كيف علَّمتَه؟ وما هي الطريقة التي تعلمه بها كيفية الصلاة أو أي مسألة؟ إنما هي طريقة اللين والحكمة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

وأحق الناس بالحكمة واللين: الوالد والوالدة، فحاذر أن تكون عنيداً في تعليمهما، فتنفُر قلوبهما، فلا يستفيدان.

وعليك أن تعلِّم والدك بطريقة العمل أكثر من طريقة الكلام؛ كأن تصلي أمامه، أو تقول لـه: هذه الصلاة التي كان يصليها صلى الله عليه وسلم، وتصلي أمامه الصلاة الشرعية التي أتى بها صلى الله عليه وسلم وصلاها.

وإن لم يقبل منك فلتأتِ برجل أو بطالب علم أو بداعية فيعلمه الصلاة وكيفيتها، أو تأتي بشريط إسلامي، أو بكُتيب، أو بأي طريقة.

وإذا فشلت في المرة الأولى، فحاول في الثانية، وفي الثالثة، واصبر حتى يتعلم منك وبشكل تدريجي، ولا تعلمه دفعة واحدة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتدرج في التعليم..

فالمرة الأولى تعلمه الفاتحة، حتى يحفظها، وتستمر معه، والمرة الثانية تعلمه التحيات، والمرة الثالثة تعلمه كيفية السجود والركوع، والمرة الرابعة تعلمه السنن، والمرة الخامسة تعلمه كيفية الجلوس، وهيئة الخشوع في الصلاة.

وحينها تنجح معه بإذن الله، وثوابك، وأجرك على الحي القيوم.

حكم الحلف برءوس الأولاد

السؤال: ما حكم من حلف على رءوس أولاده؟ وهذا كثيراً ما يحدث من النساء، أرجو التوجيه في هذا؟

الجواب: إن كان القصد أنه حلف على رءوس أبنائه مثل المباهلة التي فعلها صلى الله عليه وسلم مع النصارى، أن جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين، وهذه تحدث كثيراً في الخصومات، كأن يأتي رجل يخالف رجلاً في مسألة، فيقول: تعال أباهلك على أهلي وأهلك، والعرب تفعلها، وهذا هو آخر الأيمان، ولعل السائل لا يقصد هذا، لكن للبيان: هذا كان يفعله العرب، كان الواحد منهم يأخذ أطفاله فيحلف عليهم، ويباهل الرجل الآخر، ويقول: إن كنتُ صادقاً فأبقى الله لي أبنائي وسلمهم، وإن كنتُ كاذباً فحصدهم وحشرهم وأخذهم.

وهذه من يفجر فيها عقوبته كما هي سنن الله عز وجل أن يموت في الحال، وإذا خرج بدوابه ثم حلف عليها ماتت، أو على مزارعه أعدمها الله عز وجل، وهذا لم يرد فيه نص فيما أعلم، إلا في المباهلة لأعداء الله عز وجل.

وإن كان قَصْد السائل أن الرجل أو المرأة يجمع أبناءه، ثم يحلف ويقول: على رءوس أبنائي، فهذا ليس بوارد، ولا يزيد في اليمين ولا ينقصها، وإذا حلف فبر بيمينه فأحسن، وإذا حنث، فعليه كفارة.

أما اليمين الغموس، وهي التي يقتطع بها حق امرئ مسلم، فسواء حلف على رءوس أطفاله وأولاده أو لم يحلف فهذا يحاسبه الله، ولا يكلمه، ويكون عليه غضبان يوم القيامة، ولو كان على قضيب من أراك؛ لأن بعض الناس يقول: أحلف على أموال الناس وأكفِّر بإطعام عشرة مساكين، وهذا خطأ وافتراء على الله، فاليمين قسمان:

يمين غموس، ويمين مكفرة.

فإن حَنثَ أحدٌ في اليمين الثانية، كأن يحلف ألا يذهب إلى رجل، أو لا يأكل عنده، أو لا يركب سيارته، ثم فعل فليكفر كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين.

أما إن حلف على أموال الناس، كأن يحلف على سيارة لأحد الناس، أو على قطعة أرض، أو مزرعة، أو بيت، أو ميراث، كاذباً فاجراً، فهذا لا ينظر الله إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، ويُطَوَّق بهذا الملك من سبع أرضين، يأتي بها يوم القيامة مطوقة في عنقه حتى يُفْصَل بين الناس.

حكم التفضيل بين الأولاد

السؤال: فضيلة الشيخ! بعض الآباء يثني على أحد الأولاد ويقدمه على الآخر، فما حكم ذلك؟

الجواب: هذا من سوء التربية، وقد حذر منه أهل العلم، أن يأتي الرجل فيمدح أحد أبنائه على مرأى ومسمع من الآخرين، خاصة إذا أزري بالثاني، وقال: أنت يا فلان نجيب وجيد، وذكي وفطن وعاقل، وأنت يا فلان سفيه ومعرض ومتمرد، وفيك كَيْتَ وكَيْتَ، فهذا من سوء التربية، وتؤدي إلى نتائج لا يعلمها إلا الله؛ ولذلك قال أهل العلم: يقول يعقوب لابنه في القرآن الكريم: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5] فسبب الكيد:

أولاً: أن يوسف أخبر إخوته بالرؤيا.

ثانياً: أن إخوة يوسف احتجوا أن قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]

انظر كيف تشاور أحد عشر ابناً في ظهر الغيب، وقالوا عن أبيهم، وهو نبي من الأنبياء عليه الصلاة والسلام، قالوا: أخطأ خطأًَ بيناً، كيف يقدم يوسف علينا؟ قال بعض العلماء: كان عليه السلام معصوماً، لكنه كان ينظر إلى يوسف أكثر في المجلس، ما قدمه بكسوة، ولا بطعام ولا شراب، وإنما كان ينظر إلى يوسف؛ لأنه يحبه أكثر منهم، وكان يوسف قد أوتي شطر الحُسْن في العالم، فالحسن قسمان: قسمٌ ليوسف، وقسمٌ وزَّعه اللهُ على الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

كان يوسف كالقمر ليلة البدر، فكان ينظر إليه يعقوب معجباً به، فقالوا في القرآن الكريم: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8].

فكانت النتيجة أن قالوا في القرآن الكريم: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ [يوسف:9].

قال الحسن: [[رحمهم الله أجمعوا على العمل، وأجمعوا على التوبة قبل أن يعصوا الله عز وجل فغفر الله للجميع]].

والمقصود: أن هذا الفعل من سوء التربية، ونحذر من هذا الفعل؛ لكن لك أن تذم الابن، وتعزره بكلام ليرتدع، إن كان في ذلك من التربية، كأن يكون مخلاً بالصلاة، أو ليس مثابراً على الدراسة والعلم، فلا بأس أن تسبه أمام أهله؛ لكن بشرط ألا تمدح ذاك أمامه، أو تقول: لستَ كأخيك، أو تقدمه بجائزة.

فقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتاه والد النعمان بن بشير وقال: {يا رسول الله! نحلتُ ابني هذا مزرعة، فقال عليه الصلاة والسلام: أكل ولدك أعطيته كذلك؟ قال: لا، قال: استشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على زور} فمنع صلى الله عليه وسلم تقديم بعض الأبناء على بعض، فلا يجوز أن تقدم بعض الأبناء على بعض في جائزة، أو هدية، أو عطية، أو ملبوس، حتى تساويهم جميعاً، إلا إذا رضي أحدهم وسامح فلا بأس بذلك.

العلم النافع سبب لرضوان الله

السؤال: فضيلة الشيخ! عندي أخت تدرس المرحلة الثانوية، ولكنها لم تستفد من علمها، لا في المحافظة على الصلاة في وقتها، ولا في تعاملها مع والدتها، إذ تعاملها معاملة لا يصح نسبتها إليها، أرجو التوجيه حول ذلك؛ لأنني -إن شاء الله- سوف أسمعها المحاضرة عن طريق الشريط، وجزاكم الله خيراً؟

الجواب: نعوذ بالله من علم لا ينفع، والعلم الذي لا ينفع هو الذي يُحْفَظ ثم يُعْرِض صاحبه عن ذكر الله عز وجل، وعن إقامة الفرائض، وأوامر الله، وينسى حدوده.

وهذه الفتاة ندعوها إلى الهداية؛ أن تعود إلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن تتقي الله في والدتها، وتتقي الله في نفسها أولاً، وأن تطيع ربها، فإن دراستها لا تنفعها بل تبعدها وتغضب الله عليها، فأول ما فعلت أنها تهاونت بالصلاة، وتركت كثيراً من فرائض الله عز وجل عليها، فهذا علامة الخذلان، وهي بهذا العمل تشهد على نفسها بالفجور -والعياذ بالله- وما سبب ذلك إلا الخذلان، يوم أعرضت عن منهج الله، أو أن هناك وسائل تربت عليها من فيديو مُهَدِّم، أو مسلسلات مخربة، أو أغنية ماجنة، أو مجلات خليعة، أو اتخذت أخداناً -والعياذ بالله- بظهر الغيب، فهذا كله من الخذلان، والإعراض عن منهج الله.

فيا أيتها الشابة المسلمة! ويا كل مسلمة! إن العلم النافع هو الذي يقودك إلى رضوان الله، قال الله: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].

يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا أطاعت المرأة ربها، وأطاعت زوجها، وصلت خمسها، وصامت شهرها، دخلت جنة ربها}.

فالعلم المطلوب للمرأة هو العلم الذي يوصلها إلى رضوان الله، فتكون طائعة لوالديها، متحجبة، تحفظ سمعها وبصرها وفرجها، لا تتخذ أخداناً، ولا تستمع غناءً، ولا تطالع مجلات خليعة، ولا تكون مضيعة لحقوق الله، حينها يرضى الله عنها، أما إذا عاشت الفتاة على هذا الحال فنعوذ بالله من مصير سوف تنقلب إليه، ومن حياة سوف تشرف عليها، ومن تعاسة سوف تنتظرها، فإن من تعثر في طريق الهداية عثر الله حياته حتى يلقى الله وهو مخذول، ومن أعرض عن الهداية سلب الله إرادتَه ورشده، حتى يعيش وكأنه مجنون والعياذ بالله أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:109].

حرمة لبس السراويل القصيرة أو النظر إلى من يلبسها

السؤال: فضيلة الشيخ! ما حكم اللعب بالكرة مع لبس السراويل القصيرة التي لا تستر العورة؟ وما حكم النظر إلى من يلعبون بتلك السراويل؟

الجواب: صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جُرْهَد أنه قال: {غَطِّ فخذك فإن الفخذ عورة} وعورة الرجل من السرة إلى الركبة، فلا يجوز له كشفها، واللباس الذي لا يصل إلى الركبة فليس بلباس شرعي، ولو أن فيها فتيا ضعيفة من بعض الناس، لكن الصحيح أن الفخذ عورة، وعلى شباب المسلمين إذا لعبوا الكرة أن يغطوا أفخاذهم من السرة إلى الركبة بساتر، ولا يجوز النظر إلى من لم يفعل ذلك، أو مشاركته في اللعب، أو النظر إليهم أبداً، فقد عصوا الله بهذا الفعل، وقد بُيِّنَ هذا في أكثر من فُتيا وأكثر من مناسبة.

ومن مآسي بعض الأندية: أنهم يجعلون وقت اللعب وقت الصلاة، وهذه سيئة كبرى -والعياذ بالله- ومن مآسيهم أيضاً: أنهم يوالون عليها ويعادون؛ فيصرفون الحب والبغض لأجل الأندية، فيحبون على حساب هذا النادي ويبغضون، حتى بلغ ببعض الناس ممن سمعنا من الثقات أنه طلق زوجته؛ لأنها تشجع فريقاً، وهو يشجع فريقاً آخر، وهذا صحيح، بعد أن انتصر فريقها ومنتخبها الذي تحبه أكثر من الله ورسوله، قالت: ذُقْ يا فلان! انهزم فريقك. قال: ذوقي أنتِِ يا عدوة الله! فأخذت ترد عليه ويرد عليها، حتى طلقها بالثلاث، وهذه نتيجة خواء القلوب من الإيمان، وعدم استقبالهم وطاعتهم للواحد الديان، وشرورهم عن منهج الله الذي أنزله للناس، وإلا فحياة تبنى على هذا، إنما هي كحياة البهائم إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

حكم مصافحة النساء

السؤال: عندي مشكلة وهي مصافحة النساء ولا سيما الكبار في السن، فإذا امتنعت قالوا: هذا متشدد، ويقولون: القلوب نظيفة، والإيمان في القلب، فما حكم الشرع في ذلك؟

الجواب: مصافحة النساء الأجنبيات ليس بجائز ولا بوارد، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يصافح في حياته امَرْأة لم تحل له، بل لم يمس يدها، وكان صلى الله عليه وسلم -كما في السِّيَر بأسانيد جيدة- يبايع النساء، فمدت هند يدها، لتصافح بها الرسول عليه الصلاة والسلام، فرفض صلى الله عليه وسلم وامتنع وقال: {ما هذه اليد التي كأنها يد سبع} لأنها ما كانت تختضب، ولا تأخذ من أظفارها، وهذه لها مناسبة أخرى.

إنما المقصود: قالت عائشة: {ما مست يد الرسول صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له}.

فمصافحةُ الأجنببات منكر، وهذه عادة سيئة جاهلية، ما أنزلها الله في كتابه، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام.

أما قول الأخ السائل: قلوبهم نظيفة، فلا والله! لو كانت نظيفة لاتبعت الكتاب والسنة، لكنها سيئة ومظلمة، ومتأخرة، ومعارضة لكتاب الله ولسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبقي هؤلاء على قلوبهم النظيفة إلى أن أتت فاحشة الزنى -والعياذ بالله- والفاحشة الكبرى، والله يقول: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] يقال لبعض الناس: حجبوا نساءكم، لا يجوز للضيف الأجنبي أن يجلس مع المرأة الأجنبية، فيقولون: قلوبنا نظيفة، قلنا: بل مظلمة ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] كيف يكون شيءٌ يخالف منهج الله ويكون نظيفاً؟! بل هو سيئ ووسخ والعياذ بالله.

إذا علم هذا؛ فالحذار الحذار من اختلاط الأجانب بالأجنبيات، وقد وجد أن بعض الناس يخرجون في رحلات جماعية، فيجلس الرجال والنساء سوياً في مقعد واحد وتحت شجرة، ويتحدثون ويتمازحون، وينظر هذا لزوجة هذا وهذا لزوجة ذاك، وهذا مُنْكَر، وليس من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو محاربة لشريعة الله، وفي بعض البيوت ينظر الأخ لزوجة أخيه، ويأخذ الشاي منها، ويجلس معها، ويتحدث معها، ويأكل معها، ويذهب أخوه ويسافر، ويدعهما في المنزل ليس معها أحد، وربما سافر معها في السيارة، أو أوصلها إلى المستشفى، وقد أتت منها -والعياذ بالله- نتائج وخيمة، من فاحشة كبرى، وأمور تغضب الله عز وجل، فحكم الله لا بد أن يمتثل، ولا تقدم العادات والتقاليد بحجة أنهم نِظَاف القلوب، فلم تأتِ الجاهلية والمنكرات -والعياذ بالله- إلا من هذه الأفاعيل.

ومنهج الله عز وجل هو المقدم.

بر الوالدين متعلق برضاهما

السؤال: ما رأي فضيلتكم في الذي ينام أو يسكن في الدور العلوي وأمه في الدور الأرضي؟

الجواب: إذا كانت أمه راضية، وطلب منها واستسمحها، وكانت رغبتها في الدور الأرضي فنعم؛ لأن بعض الأمهات تكون كبيرة ولا تستطيع الصعود إلى الدور العلوي، فتكون -مثلاً- في الستين أو المائة من عمرها، أو لا ترى ولا تبصر، فالأحسن لها أن تكون في الدور الأرضي دائماً، فإذا طلبت ذلك وسامحت ورضيت فله ذلك.

وبعض الناس يتصور أن بر الوالدة أن تكون ساكنة معه، وهذا ليس بصحيح، بل قد تكون معه في الغرفة التي ينام فيها، وهو عاق لها، وقد تكون في مدينة وهو في مدينة وهو بارٌّ بها، لأن البر هو إرضاؤها، فلا يتصور إنسان أنه إذا سكنت أمه معه في بيته فإنه قد أبرها، بل قد يضربها في الصباح والمساء فيعقها، وقد تكون بعيدة عنه وهو بار بها، وهي راضية؛ فالرضا هو المطلوب.

وإذا سامحت وجوزت فلا بأس بذلك، حتى ولو قدم زوجته في بعض الأمور إذا سامحت أمه، كأن يسافر بزوجته أو يزيدها من الحلي، أو الملابس، أو السكنى، فإن قالت: عفا الله عنك ورضيتُ وسامحتُ، فهو مأجور ومشكور، وقد فعل الخير والأصوب.

واجب الأبناء تجاه خصومة الأبوين

السؤال: كثيراً ما تحصل مشاجرة بين والديَّ على أتفه الأسباب، وكثيراً ما أحار في الإصلاح بينهما، فبم تنصحني جزاك الله خيراً؟

الجواب: أنصحك أن تلزم الحياد، وألا تتدخل، وأن تبقى بعيداً، وإذا ارتفعت شرارة الوقود والحرب فقف ليناً وداعياً إلى الهدوء والسكينة، وتهدئ الأمر؛ لأنك إذا وقفت بصف الأم عققت الوالد، وإذا وقفت بصف الوالد عققت الأم، إلا إذا بلغت الأمور مبالغها، كأن ترى الوالد يضرب الأم فلك أن تأخذ بيده من باب الإصلاح، لا من باب القيام في جانب الأم؛ لأن هذا يُحدث عند الأب والعياذ بالله عقوقاً، وربما يأخذ عليك، ويتصور منك العداء له، فعليك أن تلزم الحياد، وأن تكون بجانب الإصلاح دائماً وأبداً، وأن تهدئ من الوضع، وألا تتدخل في الشئون الخاصة، وليس كلما سمعتهم في مسألة تتدخل.. ما نتيجة المسألة؟ ما سببها؟ لماذا؟ هذا ليس مطلوباً منك، ولكن الإصلاح هو المطلوب، والحياد أن تكون من دول عدم الانحياز.

حكم أداء الحج والعمرة عن الأبوين وهما أحياء

السؤال: فضيلة الشيخ! هل يجوز لي أن أعتمر لوالدتي وهي لا تزال حية؟

الجواب: إذا كانت الوالدة لا تستطيع، وأصبحت عجوزاً كبيرة مسنة، أو مريضة؛ فلك أن تعتمر عنها، ولو كانت على قيد الحياة؛ لأن الخثعمية كما في الصحيحين قالت: {يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يثبت على الراحلة، أفأحج عن أبي؟ قال: نعم. حجي عن أبيك واعتمري} وهو حي. والجهنية سألت عن أمها، فأجازها صلى الله عليه وسلم.

فتحج بشرط ألا تستطيع، أما أن تكون قوية ومستطيعة وقادرة فلا؛ بل تذهب معك.

جواز طلب الإمامة لا سيما إذا كان فيها إرضاء للوالدين

السؤال: شيخنا! إن والديَّ يريدان أن أكون إماماً بأحد المساجد كي يستفيدا من راتبي، فهل أطيعهما في ذلك؟

الجواب: أطعهـما في ذلك بـشرط أن تـكون نـيتك لوجه الله عز وجل، وألا تكون الإمامة من أجل هذا الراتب، ويكون مقصدك من أجل أن تنفع المسلمين، وأن تكون إماماً؛ لأن الإمامة في الإسلام مطلوبة، قال الله عز وجل: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] وقال عثمان بن أبي العاص فيما صح عنه: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم}.

فاطلب الإمامة، واقصد بها وجه الله، وخذ هذا الراتب الذي يصرف من الأوقاف؛ بشرط أن تداوم على الفرائض في المسجد، وأعطه والديك، فتكون باراً من جهتين: أنك أحسنت لنفسك فكنت إماماً، وكنت متبوعاً ومقتدىً بك في الخير، وبررت والديك لأنهما قد يحتاجان للمال، وليس عندك وظيفة، ولا عندهم دخل، فأحسن إليهما بهذا الفعل، والله يأجرك.

لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

السؤال: كثيراً ما يسأل والدي بوجه الله، فما حكم ذلك؟

الجواب: يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يُسْأل بوجه الله إلا الجنة} فحذار حذار من التبذل بهذه الكلمة، وجه الله عظيم، وعزيز، وكبير، وكريم، ومن يفعل هذا فقد أخطأ وأساء وارتكب ذنباً، وعليه أن يستغفر، وهذه العادة منتشرة بين الناس؛ أنهم يدعون بوجه الله عند العزومة والدعوات والأمور التافهة، وهذا من قلة الورع، وقلة التقوى والعياذ بالله! وهو من عدم احترام حدود الله وحرماته وشعائره.

فوجه الله عظيم، لا يُسْأل به إلا الجنة تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

حال أهل الأعراف

السؤال: لقد ذكرت في محاضرتك أن رجالاً يسكنون بين الجنة والنار، فهل هم منعمون بخيرات الجنة؟

الجواب: ذكر أهل التفسير في هؤلاء الرجال أقوالاً منها:

أنهم أناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فأنزلهم الله في الأعراف، لكن لا بد لهم من دخول الجنة فيما بعد؛ لأنهم من الموحدين، ومنتهى الموحد ولو دَخَل النار أن يُدْخَل الجنة.

وقال بعضهم: هم الشهداء الذين لم يستأذنوا والدِيهم قيل:

وأهل الأعراف مُنَعَّمُون، لكن قيل: إنهم في جبال تشبه جبال الدنيا، وشجر الدنيا، ومثل ماء الدنيا، ودور الدنيا، وهذه ليست كالجنة، فإن موضع السوط الواحد فيها يعادل الدنيا وما فيها.

وأقل أهل الجنة منـزلة يملك عشرة أمثال ملك في الدنيا، قصره في الجنة كالربابة البيضاء، أي: كالسحابة، يركب هو وأهله في القصر، فيمشي بهم في سماء الجنة، من قصر إلى قصر، وكل هذه الأراضي التي يجتازها ملك له، وهو من أقلهم منـزلة.

الخيمة الواحدة طولها في السماء ستون ميلاً، يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.

والشجرة الواحدة في الجنة لا يقطعها الراكب على الفرس المُجِدِّ إلا في مائة عام.

وهم فيها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون ولا ينامون، ولا يهتمون ولا يحزنون ولا يغتمون، قلوبهم على قلب رجل واحد، خلا من الحقد والحسد، نزع الله الحقد والحسد يوم دخلوا الجنة، وجوههم كالقمر ليلة أربعة عشر.

ولباسهم الإستبرق والحرير، وأساورهم الذهب والفضة كما وصف الله، ومهما وصف الواصفون فلن يبلغوا حقيقتها، نسأل الله رحمته وأن يدخلنا جنته.

يجب طاعة الأم مهما كانت الأسباب

السؤال: فضيلة الشيخ! أنا شاب متزوج، ومقر عملي بعيد عن القرية التي أسكنها بحوالي (500) كيلومتر، وبعد مضي ستة أشهر من زواجي أردتُ أن أذهب بزوجتي إلى المدينة التي فيها عملي، فرَفَضَت والدتي، وأصْرَرْتُ على السفر بزوجتي، فبكت أمي وأخذت تسبني، فماذا أفعل بأمي، حيث أنها غضبانة، وقد ذهبت بزوجتي؟

الجواب: لقد أخطأت بهذا العمل، وعصيت الله عز وجل عندما أبكيت أمك، وجرحت شعورها، وكسرت قلبها، فأنت بالخيار:

إما أن توافقك أمك بالذهاب معك ومع زوجتك؛ لتقوم ببرها وخدمتها، فلك ذلك، وإما أن تُبقِي زوجتك مع أمك، وهذا هو المفروض عليك.

ولا تفعل ما فعلتَ من الخطأ، واستغفر الله وتب إليه، وخير أمك بأحد الأمرين: الذهاب معك، أو أن تبقى زوجتك معها في القرية أو المكان الذي تسكن فيه.

حكم قول الأشعار التي فيها ذكر الحروب بين القبائل

السؤال: فضيلة الشيخ! والدي وبعض كبار السن كثيراً ما نسمع منهم بعض الأخبار عن الحروب التي حدثت في الماضي القريب، ونراهم يمجدون فلاناً؛ لأنه قتل فلاناً من الناس، ويكيلون المدح له، نرجو أن توضح في هذا الأمر توضيحاً كاملاً؟

الجواب: ذكر الحروب التي جرت من قبل عشرات السنوات فيما يسمى بالجاهلية عند الآباء والأجداد، هذه عصبية جاهلية، وهم ما فتحوا بها بدراً، ولا أحد ولا حنيناً ولا حضروا القادسية، ولا اليرموك، كلها قتل للشيطان ومن أجل الشيطان والجاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا بليتم فاستتروا} فليس ذاك بمدح.. أيتمدح على الناس بقتل المسلمين؟! فليستتر ويسأل الله عفوه ورضوانه.. كيف يمدح قبيلته على أنها هاجمت القبيلة الأخرى المسلمة؟! هذه والله وصمة عار، وهذا عيب لا يُعْرض في المجالس، بل يُتابُ ويُسْتَغْفَر منه.

أما أن فلاناً ذبح الناس فما ذبح اليهود ولا النصارى ولا الشيوعيين، بل ذبح إخوانه المسلمين، وهذه كبيرة عظيمة.

وبعض الآباء يذكرون السرقة أو الزنا -والعياذ بالله- أو القتل، وهذا ليس من منهج الإسلام تجاه العصاة، بل هم من المجاهرين.

فعلى العبد إذا أذنب أن يستغفر، ويتوب، ويستتر، ولا يخبر الناس بما فعل؛ عَلَّ الله أن يتوب عليه؛ فإن الله يغفر لكل الناس إلا المجاهرين، أما أن يذكر قبيلة ذبحت قبيلة أخرى؛ فهذا ليس بمجد ولا فخر، وإنني أُنَدِّد مِن هذا المكان بالشعراء النَّبَطِيِّين، هؤلاء القَبَليون الجاهليون الذين يمدحون القبيلة أنها صبَّحت القبيلة الفلانية، وذبحت منهم وأخذت.. هؤلاء جهلة سفهاء، والواجب أن يؤخذ على أيديهم، وإذا حوكموا إلى القضاة يُعَزَّرون تعزيراً بالغاً، ويجلدون، ويوقفون عند حدودهم، ويحبسون؛ لأنهم حاربوا شرع الله وكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

كان الجدير بالشاعر من هؤلاء الشعراء أن يمدح الإسلام، أو يذكر الجنة والنار، أو يتحدث عن الآداب والأخلاق الإسلامية، ويسب الكفار، أَمَّـا أن يواشي بين القبائل ويعادي بينها، فهذا عدو لله، وقد عصى الله بفعله هذا.

فعلى العبد أن يتوب ويستغفر، لكن لا بأس أن تتحدث عن أخبار الجاهلية، مثل: الجوع والفقر الذي مر بالناس؛ لأن هذا من ذكر نعمة الله الموجودة، ومن ذكر ما كان عليه الناس؛ لينشط الشباب لذلك، ويحمدوا الله عز وجل على هذه النعم.

حرمة المسجد

السؤال: من عادات الناس في بلدتنا أن يتقدم المتزوج أو قريبه يوم الجمعة في المسجد بعد أن يسلم الإمام ويقول: عندنا زواج يوم كذا، ويدعو الناس، فهل يجوز دعوة الزواج في المسجد؟

الجواب: ليس للإنسان أن يتحدث بزواج في المسجد، قياساً على حديث إنشاد الضالة، والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال: {من سمعتموه في المسجد ينشد ضالة، فقولوا: لا ردها الله عليك} وورد حديثٌ عند الحاكم بسند صحيح: {ومن سمعتموه يبتاع ويشتري في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك} ولا تقام الحدود في المسجد، وهذا مثل أن يحول المسجد إلى عزائم، فكل ذلك لا يجوز.

لكن للإنسان أن يقول في المسجد: يا جماعة، أو يا إخوان! نريدكم في كلمة، ثم لا يتكلم حتى يخرجوا خارج المسجد، أو يخرج هو وينتظرهم ويجمعهم خارج المسجد فيكلمهم.

ثم هناك ظاهرة لا تجوز: وهي أن يقوم إنسان فيشكو من رجل، أو يقول: يا جماعة الخير! إني سادعو على فلانٍ الذي ظلمني فأمنوا، هذا من فعل الجاهلية، ولا يجوز أن يُدعى معه، ولا يؤمن على دعائه؛ لأنه أتى بفعل بدعي ما أنزل الله به من سلطان، وهو يدعو على المسلمين بفعله هذا، فهو ولو جَارَ عليه أخوه المسلم فهو مسلم؛ لكن لا يوافَق، بل يؤخذ على يديه، أو يشكو إلى بعض الناس، أو يقول: سيارتي سرقت، أو بيتي سرق، فلا يجوز التشكي إليهم إلا إذا خرجوا خارج المسجد.

لا يبنى المسجد إلا على أرض طاهرة

السؤال: مجموعة من البيوت لا يوجد حولها مكان لإقامة مسجد، وعند أحد هؤلاء مكان تقف فيه السيارات تحته بيارة، هل يجوز بناء المسجد على هذا المكان؟

الجواب: لا يجوز بناء المسجد على البيارة مباشرة؛ لأنها أكيد ومُتَيَقَّنٌ أنها نجسة، فعليه أن يبحث عن مكان آخر، أو ينضح ما بهذا المكان ويطهره وينظفه إذا اضطر إليه، أو يحول ماء هذه البيارة إلى مكان آخر، فإن أصبح المكان طاهراً وطيباً فلا بأس.

أنا أقول: هذا هو الرأي الراجح والصحيح، ولو أن بعض أهل العلم قالوا: إذا بُنِيَ على هذا المكان فقد أصبح مرتفعاً دوراً ثانياً فلا بأس؛ لأن الحسن البصري يقول في صحيح البخاري: [[لا بأس أن يُصَلَّى على القناطر التي يَمُر من تحتها ماءٌ نجس]] فقاسوا على ذلك البيارات؛ لكن أقول: الأحوط والأحسن والأقرب ألا يفعل ذلك، وليبحث عن مكان آخر أطهر؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , بر الوالدين للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net