إسلام ويب

هناك أمر من الأمور الهامة، وقضية من القضايا الكبرى التي عاشها الإنسان وسوف يعيشها، ولابد للإنسان منها ومن المستحيل عند العقلاء في جميع الأمم أن يعيش الإنسان بدونها، وهي قضية العبادة وطرق معرفة الإله الحق المعبود، وفي هذه المادة يتعرض الشيخ بشيءًٍ من التفصيل إلى طرق معرفة الله.

طرق معرفة الله

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بَعْد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

وبعد شكري لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن هيأ لنا هذا المجلس الطيب العامر الطاهر، أشكر القائمين على هذه الندوة، والذين بذلوا الكلمات الطيبة والجهد الطيب في سبيل نشر دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ومعي في هذه الندوة سؤال يُطرح، وهو من أعظم الأسئلة التي وضعت في الدنيا منذ أنشأها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذا السؤال ما استطاع أن يجيب عليه أحد حتى جاءت رسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فأجابت على هذا السؤال.

ومعي في هذه الندوة قضية كبرى، من أكبر القضايا التي عاشها الإنسان ويعيشها، هذه هي قضية العقيدة. ومن المستحيلات عند عقلاء الأمم أن يعيش الإنسان بلا عقيدة، فلا بد للإنسان أن يعيش على عقيدة يعتقدها، والذين قالوا: لا إله والحياة مادة -وهم الملاحدة من الشيوعيين ومن سار على نهجهم- كذبوا العقل والنقل، وعادوا فناقضوا أنفسهم في اتخاذ عقيدة أو اتخاذ إله، فجعلوا الطبيعة هي الإله، وهذا ما نقل عنهم كـلينين وماركس ومن سار في مسارهم في هذا الجانب.

إذاً لا بد للإنسان أن يتجه إلى معبود واحد، فرد صمد يصمد إليه، يكون هذا المعبود كاملاً حياً قيوماً فيه صفات الكمال، فمن هو هذا المعبود إذاً؟ هذا ما سوف نجيب عليه في هذا المجلس إن شاء الله.

هذا المعبود الذي نعبده وندعو الناس إلى عبادته هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وطرق معرفته عز وجل خمس طرق أجملها ثم أفصلها:

الطريقة الأولى: الآيات الكونية المعروضة للبصر التي تدل على عظمته سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

الطريقة الثانية: الآيات الشرعية القرآنية، آيات كتاب الله عز وجل، فإنها كلها تخلص التوحيد لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وتدعو الناس إلى عبادته وتوحيده وإفراده بالعبودية.

الطريقة الثالثة: الأحاديث النبوية، وهي أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي أتى بأخبار الغيب وما كنا ندري ما الغيب وما نعرف إلا ما نرى، فأخبرنا أن هناك إلهاً حكيماً قديراً حياً قيوماً سُبحَانَهُ وَتَعَالى تقوم به الكائنات ويقوم بذاته عز وجل.

الطريقة الرابعة: الفطرة فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] فطرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى جميعاً موحدين مؤمنين به سُبحَانَهُ وَتَعَالى، عندما خلقهم، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) إذاً فالإنسان حينما ولد كان مفطوراً على الإيمان بالله عز وجل.

الطريقة الخامسة: الضرورة، والضرورة معناها أن القلب عند العقلاء لا يأله ولا يسكن ولا يطمئن إلا إلى إله معبود، ولابد من هذا سواءً كان هذا الإله حقاً أم باطلاً، وقد أسلفت أنه لا بد للإنسان من عقيدة، وهذا ما أجمع عليه العقلاء، فهذه هي الطرق الموصلة إلى معرفة الله عز وجل.

والآن أتكلم على هذه الطرق الخمس إن شاء الله بالتفصيل.

معرفة الله عن طريق الآيات الكونية

فأما الآيات الكونية فقد عرضها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا في مخلوقاته ودعانا إلى التأمل والتفكر فيها، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس:101] أي نظرة اعتبار وتدبر لتدلكم على الخالق، فإن المصنوع يدل على الصانع، والأثر يدل على السائر، وأثر الرجل في الأرض يدل على أنه سائر في هذه الأرض، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53] لماذا؟ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] سنريهم آياتنا التي تدل على الوحدانية حتى يتبين لهم أن هذا الدين حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والرسالة الخالدة حق، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يلوم البشرية كيف لا يتدبرون هذه الآيات ويتأملونها: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105] يقول: كم من آية يراها الإنسان ويعيشها ثم يمر عنها وهو معرض!

ولذلك كان التأمل والتفكر والتدبر من أكبر الطرق الموصلة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأول كلمة نزلت في القرآن كلمة اقرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب لكن أين يقرأ؟ قال أهل العلم: يقرأ في كتاب الله المفتوح؛ في الكون والجبال السامقة والتلال الشاهقة والأنهار والأشجار وفي السماء بنجومها وبشمسها وبقمرها وفي الأرض ففي هذا يقرأ صلى الله عليه وسلم، ويقرأ كل متأمل.

ولذلك كثير ممن ادعى الكفر أبت قلوبهم إلا أن تعترف أن هناك مدبراً.

يقول كريسي موريسون عالم أمريكي في كتاب الإنسان لا يقوم وحده: عجيب هذه النحلة كيف تقطع آلاف الأميال ثم تعود إلى خليتها، لا بد أن هناك وازعاً يزعها حتى تعود إلى خليتها، ولكن كتابنا يجيب عليه فيقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68] فهو تدبير وتصريف وقدرة إلهية، فالآيات الكونية أكبر دليل على عظمة الله وألوهيته وعلى أن هناك مصرفاً ومدبراً.

وفي كل شيءٌ له آية>>>>>تدل على أنه الواحد

أجمعت الأمم سواء نطقاً أو اعتقاداً على وجود الله عز وجل، حتى الملاحدة الذين نفوا وجود الله بألسنتهم فقد أثبتوه بمعتقداتهم في قلوبهم، ورأس الملاحدة الذين أنكروا وجود الله هو فرعون طاغية مصر، وقد أثبت موسى أنه يقر بوجود الله كما قال الله: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102] فيقول له: أنت تعلم في قرارة نفسك أن هناك إلهاً؛ لأن فرعون أنكر وجود الإله وادعى الربوبية، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ملك قطعة من الأرض صغيرة، وادعى أنه إله وأنه معبود من دون الله، فرده موسى إلى نفسه وقال: أنت تدري في قرارة نفسك ولو لم تنطق بلسانك أن هناك إلهاً.

ولذلك كان المشركون في عهده صلى الله عليه وسلم لا ينكرون وجود الصانع ولا وجود الرب ولم يختلفوا في ذلك، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر:38] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] أي: إذا اشتدت بهم الأزمات اعترفوا بالإله الحق، فهذا لا خلاف فيه، وهم معترفون من قبل أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك.

ولذلك كان المشركون في مكة يطوفون بالبيت العتيق ويلبون ويحجون ويدعون الله بدعاء يشركون فيه مع الله تعالى فيقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك؛ فهم يعترفون بوجود الله، ولكن يجعلون مع الله نداً وشريكاً، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليأمرهم بإفراد الله في العبودية وليدعوهم إلى توحيد الألوهية أن لا إله مستحق للعبودية إلا الله.

فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وجد الناس اتخذوا آلهة مع الله عز وجل، فمنهم من اتخذ حجراً يعبده، والحجر لا ينفع ولا يضر ولا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت، لكن لضرورة قلوبهم لإله معبود اتخذوا هذا، وهذه هي الضرورة التي أشرنا إليها سابقاً فاتخذوا الحجر، وبعضهم كان يجمع تمراً فيعبده ويسجد له مع علمهم أن هناك إله، فإذا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَ تعبدون هذه؟ قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي يتوسطون لنا في طلباتنا ونتوسل بهم إلى الله في رفع حوائجنا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن الأمم -ولو لم تعبد الله عز وجل- لا بد أن تتخذ إلهاً.

فالهندوس في الهند يعبدون البقر، لماذا؟ لأن عندهم فراغاً روحياً، فلما لم يجدوا الإيمان بالله عز وجل الذي يكمن في هذه الروح فغطوا جانب هذا الفراغ بعبادة البقر، والمانوية فرقة ضالة تعبد الليل والنهار، إذا جاء النهار عبدته وإذا جاء الليل عبدته.

والعرب في جاهليتهم أخذوا الحجارة والأوثان والأخشاب والصخور فعبدوها، يذبحون لها ويتقربون إليها بزعمهم أنها توصلهم إلى الله، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال: هذا خطأ؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلقكم ورزقكم ويميتكم ويحييكم ويبعثكم إليه، وهو لا يريد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتوسط إليه في العبادة أحد، وإن كان في تبليغ الدين منه إلينا لا بد من واسطة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أما في العبادة فلا واسطة بل لك أن تصلي له في أي مكان، وتدعوه في أي زمان وتتوجه إليه وراء البحار والمحيطات، فهو يراك ويسمعك ويقبل دعاءك.

مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يقرر عقيدة التوحيد التي تنص على إفراد الله عز وجل بالألوهية، أي بالعبادة له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى والدعاء، أما الربوبية فإن المشركين معترفون بأن هناك رباً خلقهم ورزقهم ورباهم ويحييهم ويميتهم، لكنهم اختلفوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام في توحيد الألوهية، فقالوا: كيف نعبد إلهاً واحداً؟! أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] عجيب أن يكون هناك إله واحد يقوم بشأن الكون كله، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة عشر سنة يدعوهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فلا يُصرف شيء من العبادة لغيره عز وجل.

معرفة الله عن طريق الآيات القرآنية

إن أعظم قضية نتدارسها في هذه الندوة هي قضية توحيد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالألوهية، أي بالعبودية التي هي صرف العبادة إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا التوحيد الذي دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام فكان بينه وبين المشركين الحروب الطاحنة حتى نصره الله عليهم؛ لأنه ما انقاد وأذعن له صلى الله عليه وسلم بعد أن أوضح لهم بالبراهين إلا القليل منهم، وأما غيرهم فكذب، فكان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم الحروب التي كان في نهايتها النصر له صلى الله عليه وسلم وبالتالي نصرة لا إله إلا الله وبقاؤها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وأعظم ذنب في الدنيا هو الشرك بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن أعظم جريمة يتلبس بها الإنسان أن يشرك بالله عز وجل ويجعل معه إلهاً آخر، فيصرف له شيئاً من العبودية والدعاء والتوجه، هذا أعظم ذنب وأكبر جريمة، ولذلك يغفر الله ما دون ذلك من الزنا والسرقة وشرب الخمر والذنوب التي لا يسلم منها البشر لمن يشاء، أما الشرك بالله فلا يغفره الله أبداً إلا بالتوبة، وصاحبه خالد مخلد في نار جهنم، لا يفتر عنه العذاب، ولا يخرج من النار، ولا يقبل الله منه عملاً مهما عمل ما لم يتب، ولا يشفع فيه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا يخرج من النار أبداً ولا بد أن تفهم هذه القضية.

فمن أجل قضية التوحيد، وإفراد الله تعالى بالعبودية أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وكل رسول منهم يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] ولم يقل: ما لكم من رب غيره؛ لأن قومه معترفون أن الرب هو الله، لكنهم لم يجردوا العبودية له.

ومن أجل هذه العقيدة -عقيدة لا إله إلا الله- دمرت الأرض خمس مرات، دمرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حينما غضب على أهلها من أجل لا إله إلا الله، مرة بالطوفان، عندما اجتاح الماء الديار والبلاد والجبال والأودية في عهد نوح عليه والسلام؛ لأن قومه كذبوه وما انقادوا للا إله إلا الله، ومرة بالريح الصرصر، ومرة بالصيحة، ومرة بالخسف والمسخ، ومرة بالهلاك بالأوبئة والأمراض؛ لأن أكبر ما يغضبه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يشرك معه في العبودية والألوهية، ولكن بقيت بقايا من تلك الأمم آمنوا بالله عز وجل، فأنقذهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من ذلك الغضب.

معرفة الله عن طريق الأحاديث النبوية

الذي أريد أن أطرحه بين أيديكم وأقرره هو أن هذه العقيدة سهلة بسيطة ميسرة لا ألغاز فيها ولا تعقيد، وسوف أضرب على ذلك أمثلة إن شاء الله.

إن إثبات هذا التوحيد لا يحتاج إلى جهد عقلي ولا إرهاق فكري، إنما هو بسيط وسهل وميسر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرض الدين والعقيدة في دقائق معدودة، يأتيه رجل مشرك من الصحراء. وهو جالس بين الناس، كان يعرف أن هناك رباً لكن لا يعرف من هو الذي يستحق العبودية، فأتى ووقف في مسجده صلى الله عليه وسلم وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا بن عبد المطلب -ناداه بجده- قال صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليَّ، عنده سؤال لكن لا يدري صلى الله عليه وسلم ما هو هذا السؤال، وهذا السؤال الذي سوف يعرضه هذا الأعرابي البسيط أكبر سؤال في تاريخ الإنسان وأعظم سؤال عرفته الدنيا وسمعت به الأرض.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل ما بدا لك، وتبسم عليه الصلاة والسلام، فقال الرجل: من رفع السماء؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: من بسط الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال: من نصب الجبال؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله. قال الأعرابي -والناس جلوس- للرسول صلى الله عليه وسلم: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ إنه سؤال عظيم يطرح ويسمع به الناس، وهو السؤال الذي أتى صلى الله عليه وسلم ليجيب عليه، قال: اللهم نعم.

فأخذ يسأله بهذه الكيفية وهذه الصيغة (أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة) فأخذ صلى الله عليه وسلم يجيب حتى انتهى هذا الرجل من أركان الإسلام، وفي الأخير أعلن إسلامه في المسجد في دقائق معدودة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وأن ما جئت به حق؛ والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص؛ هذه هي العقيدة المبسطة تعرض في دقائق معدودة.

ولذلك يعرض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا في القرآن عقيدة التوحيد في يسر وسهولة وبساطة، لا تحتاج إلى كثرة تفكير ولا تؤدي إلى إرهاق، وإنما يفهمها المسلم بالبداهة سواء قرأ أو لم يقرأ، يعرض الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى آية التوحيد ويقول للناس أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].

وإنما أتى بالإبل هنا لأنه حيوان يعيش في الجزيرة والعرب هم المنادون أول مرة، فقد بعث منهم محمد صلى الله عليه وسلم فردهم الله إلى هذه المخلوقات، ثم لفت الله أنظارهم إلى السماء من رفعها وسواها؟ من زينها وأبدعها وجعل فيها هذه النجوم الجميلة المتلألئة وهذه الشمس النيرة، وهذا القمر الباهر؟

إن العقل سوف يقول: إنه الله، ويؤيده النقل.

ثم يقول: وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية:19] من نصبها ومن أرساها؟ أجاءت من نفسها بالصدفة؟! أمَّن أتى بها؟ ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:20] من سواها وجعلها مستوية قراراً يعيش عليها الإنسان والحيوان؟ إنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله عز وجل يلفت أنظارنا إلى التوحيد وإلى عرض صور التوحيد في القرآن وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].

معرفة الله عن طريق الفطرة

يقول العالم والمفكر ألكسيس كارل: إذا شككت في قدرة الله ووجود الله تفكرت في نفسي، وإنما أعرض هذه الأمثلة لأن الحق ما شهدت به الأعداء، والله يقول: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يقول: مالكم لا تنظرون في أنفسكم وفي هذا الجهاز المعقد، وفي خلقكم البديع؟ في هاتين العينين والأذنين وهذا اللسان وهذه الأعضاء، من صوركم؟ ومن جعلكم تتكلمون وتذهبون وتأتون وتنامون وتستيقظون؟ إن جهازاً معقداً كالإنسان يدل دلالة كاملة على وجود الله عز وجل وتوحيده عز وجل وأنه مستحق للعبادة.

ولقد أخفقت الديانات المحرفة في عرض صورة حية للتوحيد لأنها تخالف الفطرة.

فـالنصرانية تعرض التوحيد عرضاً مشوهاً تقول: الثلاثة واحد، الله والابن وروح القدس، جلَّ الله عما يقولون، جعلوا عيسى عليه السلام -الذي هو عبد من عباد الله خلقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- جعلوه شريكاً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الألوهية، وما اتخذ الله من ولد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل خلق عيسى بكلمته تبارك وتعالى وهو عبد لله، فجعلوه ابناً لله ثم شريكاً له في الألوهية هذه هي النصرانية المحرفة.

وعرضت اليهودية التوحيد فشوهته وقالت: عزير ابن الله -وهو نبي من أنبيائه- قالت: هو ابن لله، وجل الله أن يتخذ صاحبة أو ولداً، وسوف أخبركم كيف عرض صلى الله عليه وسلم التوحيد وأخبرنا عن صفات الله عز وجل وعن أسمائه لنعرف من هو الله عز وجل، وقد عرفنا بنفسه في كتابه وفي آياته الكونية.

وصف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نفسه في كتابه، وأخبرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ثم وصف صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى فأخبرنا بصفاته، وصفات الله صفات كمال.

أخبرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن نفسه أنه حي لا يموت فقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:56-58] فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يموت، والناس يموتون.

ووصف نفسه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، لا ينام لأنه يحفظ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كل نفس بما كسبت، وهو الذي قامت بقيوميته وقدرته السماوات والأرض ومن فيهن، فلا ينام ولا تأخذه سنة، وهي أخف النوم، ثم وصف نفسه بأنه رحيم يرحم العبد، وإذا أذنب ثم تاب رحمه الله وغفر له فهو رحيم غفور.

وأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شديد العقاب؛ من أذنب وأجرم ثم لم يتب وتمرد على الله وأصر على المعصية عاقبه الله، وأخبرنا أنه غني وأن ما سواه فقير، وأنه لا يحتاج إلى أحد، بل الناس كلهم محتاجون إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولذلك يسمى صمداً، والصمد هو: الذي تصمد إليه الكائنات؛ أي: تتجه إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وتطلب منه المدد، فهو الغني.

وأخبرنا أنه قوي متين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يضعف، وغيره ضعفاء مقهورون مربوبون.

وأخبرنا عن نفسه -وهي القضية الأولى- أنه واحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يتخذ صاحبة أي: ليس عنده زوجة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا ولداً؛ لأنه لا يحتاج إلى ذلك.

وأخبرنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه على كل شيء قدير، فكل ما يريده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يقع لا محالة، فأمره في كلمة كن، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] في كلمة واحدة ينفذ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويجري ما أراد، فهو الحي الذي لا يموت ولا ينام ولا يفتقر ولا يضعف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه صفات الكمال نثبتها لله عز وجل، لكنه لا يشابه المخلوقين تبارك وتعالى، فله صفات تخصه، وللمخلوق صفات تخصه.

من أعظم صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى صفة العلم، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم السر وأخفى، يعلم السر وما يضمره الإنسان في قلبه مما هو أخفى من السر.

وما هو الذي أخفى من السر؟ هو الأمر الذي يريد أن يفكر به الإنسان ولكنه لم يفكر فيه إلى الآن، أي حتى الإنسان لا يعلم ذلك، لكن الله يعلم أن هذا الإنسان سوف يفكر في هذا الأمر بعد قليل.

وينفعنا هذا العلم بأن نراقب الله عز وجل فهو معنا حيثما كنا قال تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] فالمراقبة مفادها أن هناك رباً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليماً وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه معنا لا نغيب عنه ولا نتستر بشيء، يرانا في الليل والنهار، ويراقب حركاتنا وسكناتنا، ثم يسجل لنا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الحسنات والسيئات، حتى يوقفنا في اليوم الآخر عنده، فيحاسبنا على ما فعلنا، يقول: في يوم كذا وكذا فعلت كذا وكذا.

ولذلك تفيدنا صفة العلم في مراقبة الله عز وجل، وهي من أعظم الصفات التي يجب أن نستحضرها لمراقبة الله في السر والعلن، والليل والنهار، في كل زمان ومكان، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم موصياً أحد أصحابه: {اتق الله حيثما كنت} أي: في أي مكان كنت {وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.

وفي ختام هذه الكلمة! أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبتنا وإياكم حتى نلقاه، والذي نريده منكم أنتم أيها الداخلون في الإسلام أن تعودوا إلى أهليكم وذويكم وإلى بلادكم دعاة إلى الله عز وجل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فيسألكم الله يوم القيامة عن أهلكم، يسأل الإنسان عن زوجته وأطفاله وجيرانه وأهله، هل بلغهم هذا الدين، وهي أعظم المبشرات لكم أن يهديكم الله عز وجل، ويضل غيركم، ويقدمكم ويؤخر غيركم، وهو توفيق منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يعطي هذا الدين وهذا الإسلام من يحب، وأما الدنيا فيعطيها من يحب ومن لا يحب، والذي لا ينتهج نهج هذا الدين ولا يدخل في هذا الدين ميت قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] فأنتم كنتم قبل أن تسلموا أمواتاً، ولو أنكم تعيشون وتتكلمون وتزاولون أعمالكم، لكن هذه ليست حياة، لأن الحياة هي اتصال القلوب بباريها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ومعرفة الغيب والشهادة ومعرفة الحاضر والمستقبل، ومعرفة الدنيا والآخرة، أن تجعل بين الفناء والبقاء صلة وبين الضعف والقوة علاقة، فالله هو القوي وأنت الضعيف، والله هو الغني وأنت الفقير، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] أي بالإسلام وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] أي بالدعوة والبصيرة كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:122] أي في الشرك والخرافة والجهل والضياع عن الله عز وجل، هل هذا مثل هذا؟ لا مساواة فبشرى لكم؛ أسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.

والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , العقيدة الإسلامية للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net