إسلام ويب

تواصلاً مع آداب النبوة, يتكلم الشيخ في هذه المادة عن آداب التبسم والضحك.

وإذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أساساً لهذه المادة, فقد قامت على هذا الأساس فوائد أخرى كثيرة يحتاجها المسلم, كأنواع الضحك, وأنواع البكاء, معرجاً على فضائل بعض الصحابة.

وتظل الآداب النبوية هي الينبوع الصافي الذي لا ينضب, تمدُّ البشرية عبر العصور بأروع وأجل الأخلاق التي عرفها التاريخ, ومن شمولها لكل جوانب الحياة أنها تعالج موضوعاً دقيقاً كالضحك والبكاء.

الضحك والبكاء

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

هذا حديث المصطفى>>>>>صلوا عليه وسلموا

هذا الرحيق المجتنى >>>>>فيه الشفا والبلسم

بعد الكتاب هو النجاة>>>>>فبالهدى فاستعصموا

تجد البخاري روضة >>>>>أما الغدير فـمسلم

من كان هذا هديه>>>>>لا لن تراه جهنم

ما نزال مع البخاري رحمه الله في كتاب الأدب، وهو يشنف الأسماع ويثلج الصدور بكتابه, فهو يدبجه تدبيجاً, ويوشحه توشيحاً.

يقول: (باب التبسم والضحك) فما هو حد التبسم؟ وما هو حد الضحك؟

وما هو المحمود منه؟ وما هو المذموم؟ وما هو الذي وردت به السنة؟

وكأني ببعضكم يقول: حتى الضحك والتبسم لا بد فيه من حلال وحرام، ومن دليل وتعليل؟! فنقول: إنها أمة تتلقى وحياً من فوق سبع سماوات، وإن نبيها صلى الله عليه وسلم يؤدبها في الحركات والسكنات، حتى في الضحك والبكاء، فهي أمة ليست مسيرة من البشر، إنما تُسَيَّر بوحي من السماء.

قال: (باب التبسم والضحك) وسوف يورد كلاماً عند هذا، يقول: وقالت فاطمة عليها السلام: [[أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت]] وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن الله هو أضحك وأبكى]].

وقبل هذا اعلموا أن الضحك فيه شيء مذموم وفيه شيء ممدوح، وهو أقسام، والبكاء أقسام، وفيه مذموم وفيه ممدوح.

أنواع الضحك

أما الضحك فهو أنواع، كما قال علماء التربية، فمنه ضحك التعجب، وقال أهل التفسير: ضربوا على ذلك مثالاً -ضحك التعجب- بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ [هود:71] كيف ضحكت؟ بعض المفسرين يقولون: حاضت، على لغة بعض القبائل العربية، لكن الصحيح عند الجمهور أنها ضحكت تعجباً: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72] امرأة تنيف على الستين أو تصل إلى السبعين، ثم تأتيها البشارة بغلام لها فتضحك ضحك التعجب، إذاًً فمن الضحك: ضحك التعجب.

ومن الضحك: ضحك السخرية، والاستهتار، والاستهزاء، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف:47] عجيب! يضحكون من آيات الله! يضحكون من الأسس الخالدة التي أقام الله سبع سماوات وسبع أراضين من أجل هذه المبادئ الأصيلة والأهداف الجليلة! فكان عاقبة الضحك أن دمرهم الله تدميراً هائلاً، وأذاقهم لعنة في الدنيا والآخرة: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف:47].

ومنها ضحك الاعتزاز بالنفس، بعض الناس إذا هُدد وتُوعد ضحك معتزاً بنفسه.

أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا>>>>>متى أضع العمامة تعرفوني

وماذا يبتغي الشعراء مني>>>>>وقد جاوزت حد الأربعين

فإذا تُوعِّد الشجاع ضحك، يقول المتنبي وقد توعده خصومه بالقتل:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة >>>>>فلا تظنن أن الليث يبتسم

يقول: إذا ابتسمت فأنا متوعدٌ لهم، وأنا متهددٌ لهم، وهذا موجود في أفعال الرجال، أنهم ربما ضحكوا استهتاراً بهذا الخصم، يقول جرير للفرزدق:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع

ومنها: تبسم الإقرار.. وضحك الإقرار.. أن ترى شيئاً وأنت مطاع، وكلمتك مسموعة؛ فتضحك كأنك تقر هذا الشيء، يلعب طفلك في البيت فتضحك مقراً لفعله، أو يتكلم بكلمة فتتبسم له، ودليل ذلك أنه صح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وهو أرطبون العرب، صاحب القوة الهائلة، والذكاء الخارق، الداهية الدهياء، الذي لعب على عقول الكفرة، خرج في سرية من الصحابة؛ فأجنب وكان الجو بارداً، والنسيم معتلاً، فأراد الماء، فوجده مثلجاً؛ فتيمم، وأفتى نفسه، وصلى بهم هكذا، وذهبت الشكاية إلى المعلم الأعظم، وإلى المعلم الأكرم، تشتكي هذا الرجل، لأنه ليس مشرعاً، فلا بد أن تعرض الشريعة على الذي أتى بها، وتعرض المخطوطة على من يحققها، وليس لها إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما عرضت عليه صلى الله عليه وسلم، تبسم ضاحكاً، وقال: {يا عمرو! أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال يا رسول الله! إن الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء:29] فضحك صلى الله عليه وسلم} وهذا ضحك الإقرار.

ومن التبسم: تبسم الغضب، فقد يتبسم المغضب، فإذا رأى شيئاً تبسم من غضبه ونفس عن خاطره بالتبسم، ودليل ذلك: ما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم من تبوك، وقد تخلفت مع الثلاثة، فلما رآني تبسم تبسم المغضب عليه الصلاة والسلام. وله أنواع أخرى، وسوف نأتي إلى الممدوح من الضحك والمذموم.

أنواع البكاء

أما البكاء فهو أنواع: منها: بكاء الحزن على الفائت، وأعظم بكاء في تاريخ الإنسانية هو بكاء يعقوب عليه السلام على يوسف، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] بل ورد في بعض الآثار: أن الملائكة شاركته في البكاء، ودرجة بكاء تصل إلى أن يشارك الملائكة هذا الرجل الصالح، إنها درجة عظيمة.

ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة>>>>>يواسيك أو يسليك أو يتوجع

وممن بكى كذلك كثيراً في تاريخ البشرية داود عليه السلام، ألم بذنب فبكى بكاءً عظيماً حتى كادت تتلف روحه.

ومن أنواع البكاء: البكاء من خشية الله، وأخشى خلق الله لله هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن مردويه وابن جرير: أن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه مر بالرسول عليه الصلاة والسلام ليخبره بصلاة الفجر، فقال: يا رسول الله! الصلاة، قال: { يا بلال نزلت علي آيات ويلٌ لم قرأها ولم يتدبرها، ثم قرأها صلى الله عليه وسلم، وأخذ يبكي، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]}.

وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: {كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المرجل}.

الأزيز: صوت يحدثه البكاء في الصدر. والمرجل: القدر إذا اجتمع غلياناً بالماء، فكأن صدره صلى الله عليه وسلم لكثرة أحزانه وخشيته لله القدر يوم يجتمع غلياناً، وورد عنه صلى الله عليه وسلم البكاء في أكثر من حديث ليس هذا مقام ذكرها.

ومن البكاء: بكاء الهلع، وبكاء الجبن والخور، وهذا مذموم، كأن ترد على الإنسان مصيبة. فيبكى ساخطاً متسخطاً على قضاء الله، ولو بكى قليلاً من غير تسخط لكان لا شيء عليه.

ومن أنواع البكاء: البكاء من الفرح.. سبحان الله! أفي الفرح بكاء؟! نعم، إن أقصى درجات الفرح يحدث بكاءً، لذلك إذا بشرت الأم -مثلاً- بولدها وقد قدم من سفر طويل بكت، قال الأول:

طفح السرور عليَّ حتى إنني >>>>>من عظم ما قد سرني أبكاني

وقال أنس: [[ما كنت أظن أن الإنسان إذا فرح بكى، حتى رأيت الأنصار يوم قدم صلى الله عليه وسلم المدينة يتباكون]] وجاء في صحيح مسلم أن أبي بن كعب وأبي هذا أمة من الأمم، سيد القراء، أتى رجل من العراق وعمر رضي الله عنه في اجتماع طارئ للصحابة ولكبار علماء الصحابة، واضع على يمينه أبي بن كعب سيد القراء، وكانت لحيته بيضاء، ورأسه أبيض، وكان عابداً لله عز وجل، يتلو كتاب الله دائماً، فقال العراقي: يا أمير المؤمنين! من هذا الرجل الذي بجانبك، قال: ثكلتك أمك! أما تعرفه؟! هذا سيد المسلمين أبي بن كعب.

أتى جبريل فقال للرسول عليه الصلاة والسلام: {إن الله يأمرك أن تقرأ سورة: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] على أبي بن كعب -فذهب صلى الله عليه وسلم معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية إلى طالب من طلابه، وتلميذ من تلامذته، وإلى حسنة من حسناته ليقرأ عليه السورة- فقال أبي: يا رسول الله! من أمرك بهذا؟ قال: الله، قال: وسماني في الملأ الأعلى؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فبكى أبي} من الفرح؛ لأن الله سماه من فوق سبع سماوات.

وسطية الرسول صلى الله عليه وسلم في الفرح والحزن

قال البخاري: (باب التبسم والضحك) ومن التبسم المجاز، ويستخدم في الضحك، قال البحتري في قصيدته الرائعة الربيعية وهو يصف الورود في الخمائل:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً>>>>>من الحسن حتى كاد أن يتكلما

فهذا مجاز.

وقال زهير يمدح هرم بن سنان:

تراه إذا ما جئته متهللاً>>>>>كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وهذه من أعظم القصائد، حتى كان عمر يتأثر، ويقول: لا تصلح هذه الأبيات إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وسطاً في رسالته، ليس بالضاحك الذي أسرف على نفسه في الضحك عليه الصلاة والسلام، أو أكثر في هذا الجانب، وليس بالذي تقمص شخصية الحزن والكآبة والحسرة والندامة، والناس قليل منهم الوسط، فهو وسط في كل شيء، وسط في المعتقد، ووسط في العبادة والتشريع، ووسط في الآداب والسلوك.. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143].

وتجد كثيراً من الناس يضحكون ويقهقهون حتى يتمايلوا ويتساقطوا، وربما يترح أحدهم ترحاً برجله.. فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36] وتجد بعضهم لا يضحك أبداً حتى في عيد الفطر وفي عيد الأضحى، فتجد الناس يتعاودون والكباش تذبح وهو لا يضحك.

يقال له: ابتسم, فلا يتبسم. أين أسنانك الطاهرة الطيبة؟ فلا يرينا أسنانه.

وذاك صنف، وهذا صنف، لكن الوسط محمد صلى الله عليه وسلم.

كان يبكي من خشية الله بكاءً ربما أحدث صوتاً أحياناً، وكان يتبسم كثيراً، والضحك نادر في حياته، وأكبر ضحكه -كما ورد في الأحاديث- أنه ضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم، وكان إذا ضحك ربما وضع يده الشريفة على فمه، لكن هذا نادر، ولم توجد في الصحيحين إلا في أربعة أو خمسة مواضع، أما تبسمه صلى الله عليه وسلم فكثير.

قال جرير بن عبد الله -كما سوف يمر معنا-: [[ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي]] والبسمة ليست عبثاً، بل شرى بها قلوب الناس وقلوب القبائل والشعوب عليه الصلاة والسلام، يقول الله عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول له: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].

وهؤلاء العرب مشاغبون كلهم، يتضاربون كأنهم في الحراج، وليس عندهم تأسيس ولا نظام أو معرفة أو ثقافة، فلما أتيت -يا رسول الله- جمعت هذه القبيلة التي كانت تنحر هذه، فقد كان الإنسان يسلب أخاه في الحرم المكي، ويتعقبه بالسيف فيقتله، وهذا كله على شاة أو ناقة، فلما أتى صلى الله عليه وسلم حبكهم بنظام عالمي عجيب، لا يمكن أن يخترقه الصوت، عليه أفضل الصلاة والسلام.

فالمقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يتبسم كثيراً، ويضحك نادراً كما سوف يمر معنا.

نماذج للبكائين من السلف الصالح

والبكاء من خشية الله ورد عن قوم صالحين كثيرين، وأنا لا أقول: إن الضحك حرام، فإن بعض الناس من جبلتهم الضحك، ولو كان من أتقى الناس، لكن من جبلته وفطرته وتكوينه الشخصي أنه كثير الضحك، فـابن سيرين هذا العالم العابد الزاهد التابعي المحدث الشهير، وهو أكبر تلميذ لـأنس بن مالك، وراوية الصحابة الكبير، ومعبر الرؤيا، قد كان من أعبد الناس، وكان يضحك حتى يتمايل، ولكن إذا أتى الليل يبكي حتى يسمع جيرانه بكاءَه.

يقول أحد التابعين: هل أريكم الضحاك البكاء؟ قالوا: نعم. قال: تعالوا، فأطلعهم على ابن سيرين في حلقته، قال: هذا ضحاك النهار بكاء الليل. وقالوا: كان صاحب دعابة إذا جلس في المجلس، وكان يروح على الغادي وعلى الرائح بها، لكن إذا أتى الليل بدأ يبكي من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر.

قلت لليل هل بجوفك سرٌ>>>>>عامر بالحديث والأسرار

قال لم ألقَ في حياتي حديثاً>>>>>كحديث الأحباب في الأسحار

ومنهم: عامر الشعبي، فقد كان من أفكه الناس، وكان مزاحاً، خفيف الظل، لكن كان من أتقى عباد الله لله. فلا نظن أن الإنسان إذا كان كثير الدعابة وكثير الضحك والتبسم؛ أنه لا يتقي الله، لا. بل قد تجد أفجر الخلق لا يتبسم ولا يضحك، ولكنه فاجر، فتجده دائماًً قابضاً وجهه، كأنما عقدت عليه لعنة الأولين والآخرين وهو كافر, فليست تقوى الله في عدم الضحك.

ووجد من الصالحين من كان كثير البكاء، فقد روى وكيع في كتاب الزهد بسند جيد، قال: قرأ ابن عمر قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فبكى حتى أغمي عليه. وقال مجاهد: رأيت أجفان ابن عباس كالشراكين الباليين من كثرة البكاء.

قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ليلة كاملة: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123] فبكى حتى أصبح.

وقد كان أكثر الناس بكاءً بعد أبي بكر عمر رضي الله عنهما، والنماذج تطول، ولكننا نذكر نماذج على حسب الطاقة.

قال البخاري: وقالت فاطمة عليها السلام.. وهنا سلم عليها، ونحن نسلم ونصلي عليها وعلى أبيها؛ الزهراء.. البتول.. الطاهرة.. الصادقة.. الأمينة.. سيدة نساء الخلق، فهذه بنت محمد صلى الله عليه وسلم، يقول محمد إقبال شاعر الباكستان، يتكلم عن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها:

هي بنت من هي أم من هي زوج من>>>>>من ذا يباري في الأنام علاها

بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوجة علي بن أبي طالب، وأم الحسن والحسين.

أما أبوها فهو أكرم مرسل>>>>>جبريل بالتوحيد قد رباها

وعلي سيف لا تسل عنه سوى>>>>>سيفاً غدا بيمينه تياها

أكبر المفاخر لـفاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ونحن لا نغلو فيها وفي أبنائها غلو الجهلة الذين لا يعلمون, ولا نجفو جفاء الذين لا يعقلون، فكلا الطرفين ضلال، وإنما نعتدل فنحبها في الله، ونكثر من محبتها لمحبة أبيها عليه أفضل الصلاة والسلام.

قال: وقالت فاطمة عليها السلام -لأنها من بيت النبوة- {أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت} وهذا الإسرار كان وقته في ساعة الوداع، يوم ودع النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، ورحل عن المعمورة، يوم خير بين البقاء والرحيل, فاختار الرحيل، وكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تأتيه، فيقول: {بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} فأتى بأحب الناس إلى قلبه، وأقرب الناس إلى روحه، بـفاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فكلمها صلى الله عليه وسلم ليودعها، فقال: {أنت أول الناس لحوقاً بي -وأخبرها أنه سوف يموت من وقته- فبكت، فقال: ادني مني، فدنت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟} فضحكت، وهذه أعظم بشرى، فنساء العالمين جميعاً سيدتهن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وصلى الله على أبيها وسلم.

الضحك والبكاء من الأمور الجبلية

وقال ابن عباس: [[إن الله هو أضحك وأبكى]] أيُّ إشراقٍ هذا الفهم لـابن عباس! وأي عقلية هذه العقلية الضخمة الكبرى! يستدل على أن الضحك والبكاء من أمر الله الجبلي؛ لأن غلاة الصوفية قالوا: لا تضحك، وإذا ضحكت فاستغفر. وقد ذكر ابن الجوزي وبعض المحدثين أن أحدهم كان محدثاً، ولكنه كان شرس الخلق، لا يتبسم، ولا يضحك، ولا يداعب، فكان عابساً أبداً، فإذا سمع خشخشة الأوراق طوى دفاتره وذهب إلى بيته، فجلس في مجلس، فأتى طالب من الطلاب يريد أن يعطس، والعطاس من أمر الله عز وجل وقضاء منه وقدر، فأراد أن يعطس، فتذكر الشيخ، والشيخ ينزعج من أي شيء، إذا سمع الإبرة قام، وقال لتلاميذه: والله الذي لا إله إلا هو، إن تحرك متحرك منكم لا أسمعكم حديثاً هذا اليوم. فأتاه هذا الطالب فما استطاع فكتم أنفاسه، فتجمع العطاس كله دفعة واحدة فعطس، فقال لزملائه أمام شيخه: أنحن جالسون أمام رب العالمين؟ فضحك الشيخ، وهذه ذكرها ابن الجوزي وغيره.

فالمقصود أن بعض الهدي يخالف هديه صلى الله عليه وسلم، ولا يعرض الكلام والبضاعة والسيرة إلا على سيرة محمد صلى الله عليه وسلم.

فإذا سمعت عن الإمام أحمد، أو مالك، أو الشافعي، أو أبي حنيفة -على جلالتهم- أي أمر فاعرضه على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه فبها ونعمت، وإن عارض وخالف تركناه.

قالت فاطمة: [[أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت]] ولم يذكر البكاء؛ لأنه يريد أن يستدل على التبسم والضحك.

وقال ابن عباس: [[إن الله هو أضحك وأبكى]] أما يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] فمن الذي خلق الضحك والبكاء إلا الله عز وجل، ولذلك يقول أحد العلماء: في كتابنا علم نفس، علم النفس يذكر الضحك وأسبابه ودوافعه وعلاماته وآثاره، والبكاء وأحواله، لكن الله عز وجل اختصر هذا كله بقوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] فهو الذي يضحك وهو الذي يبكي، لكن الإنسان يقتصر في هذه الأمور على حسب السنة.

ما جاء في ضحك النبي صلى الله عليه وسلم

ثم قال البخاري: حدثنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله..

وهو الإمام العلم أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك، وقصة عجيبة في تاريخ الإسلام، وثوب جديد ما لبس إلى الآن، إذا أردت أن تعرف العالم الحق العابد الزاهد المجاهد الغني المنفق، فهو عبد الله بن المبارك.

قال: أخبرنا معمر.. معمر بن راشد اليمني، شيخ عبد الرزاق.. قال: أخبرني الزهري.. علامة الدنيا وحافظها، أملى أربعمائة حديث على الخليفة سليمان بن عبد الملك، فأراد أن يختبره بعد سنة، فقال: ضاعت مني تلك الدفاتر التي فيها الأحاديث فتعال فأملها علي, فأملاها؛ قالوا: فو الله ما خرم حرفاً واحداً، وهي أربعمائة حديث.

وكان في جيبه زبيب, فقد كان يأكل زبيباً دائماً؛ لأنه يرى أنه يقوي الذاكرة، والباذنجان يفسد الذاكرة فانتبهوا، لكن نخاف أن نغيظ بعض التجار في الباذنجان، وقد حمل الباذنجان بعض التجار إلى أن وضعوا حديثاً في فضل بيع الباذنجان، وفضل أكله، يقول بعض الكتبة في كتب الموضوعات: إذا أفلست البضاعة ونشبت في حلقه وضع حديثاً عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

أحدهم كان عنده ديك عرضه في كل سوق، كلما أصبح الصباح وهو بهذا الديك يعرضه للباعة ليشتروه، فما اشتراه أحد، وقد أكل عليه الدهر وشرب، فوضع حديثاً في فضل الديك، قال: إن الله عز وجل يبعث الديك يوم القيامة له ريشة من زبرجد، ونونية من المرجان، يسبح الله عز وجل لصاحبه، وبكل شعرة من شعراته حسنة في الجنة. فاشترى المساكين الديك, والوضاعون لهم مذاهب وأصناف، لكن ذكرت هذا من باب التزجية أو الاستطراد.

قال: عن عروة.. وهو عروة بن الزبير، ابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسرة آل الزبير أسرة مجيدة ضاربة في أعماق التاريخ، وعروة عالم عابد زاهد مبتلى، رفع الله درجته، وهو من العلماء الذين ينبغي أن ندرسهم في الفصول، وأن نعرضهم في الحلقات، بدلاً من بعض النماذج التي لا تصلح أن تدرس، النماذج التي أتت من بلاد الغرب والشرق، فهؤلاء يعرضون ليكونوا نماذج تربوية للشباب.

تبسمه صلى الله عليه وسلم من مجاهرة امرأة عبد الرحمن بشكواها

قال: عن عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي طلق امرأته، فبت طلاقها.

والطلاق البت هو: أن يبتها ثلاثاً على السنة؛ لأن طلاق البدعة هو أن يطلق في الحيض، أو أن يطلق ثلاثاً دفعة واحدة، وطلاق السنة أن يطلق في الطهر طلاقاً واحداً، ثم يتركها، وهكذا ثلاث مرات، فبت طلاقها، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: { يا رسول الله! إني كنت عند رفاعة فطلقني ثلاثة تطليقات فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة -لهدبة أخذتها من جلبابها- وهذا كناية عن أمر، أي: أنه لا يستطيع الجماع، وهي تشكو من هذا.

قال: وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم، وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة ليؤذن له، فطفق خالد ينادي أبا بكر: يا أبا بكر! ألا تزجر هذه عما تجهر به عند الرسول صلى الله عليه وسلم؟ -تشكو زوجها الأخير، وتقول: ليس كالأول في الجماع، تريد أن تعود للأول، قال: وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم عليه الصلاة والسلام.. هذا دليل البخاري على أنه صلى الله عليه وسلم يتبسم من هذا الأمر، ثم قال- لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك}.

هذا دليلٌ على أن المطلقة البائنة بالطلاق السني الشرعي لا تحل لزوجها الأول حتى تتزوج زوجاً غيره، زواجاً شرعياً لا حيلة فيه، لا يكون تيساً مستعاراً، وفي سنن أبي داود {أن الرسول عليه الصلاة والسلام لعن المحلل والمحلل له} والمحلل هو: الذي يتزوج المرأة المطلقة ليحللها للزوج الأول وهو التيس المستعار, والمحلِّل له هو الذي يرضى بهذا.

قال ابن القيم: لا يعود علي رضي الله عنه وأرضاه إلى الدنيا بعد أن طلقها ثلاثاً وهو راوي حديث: {لعن الله المحلل والمحلل له} انظر إلى هذا الفقه، علي قبل قليل يقول: [[يا دنيا يا دنيئة طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها]] وهو الذي روى في سنن أبي داود: {لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له} فيقول ابن القيم: كيف يعود علي رضي الله عنه لحب الدنيا وهي لم تحلل له بعد الطلاق وهو راوي هذا الحديث.

يقول ابن القيم: أهل السنة والجماعة ليس لهم جماعة إلا أنهم أهل السنة، أي: عندهم الكتاب والسنة، ويتجهون إلى الخمس الصلوات، ليس عندهم جماعة داخل جماعة أهل السنة والجماعة، قال: يسئلون: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد وجهه، قال: وما هو مرجعكم؟

يقولون: دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها، قال: وما هو كتابكم؟ قالوا: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] قال: من توالون؟ قالوا: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55].

أنحتاج إلى أسس وإلى مبادئ غير هذه المبادئ التي أنزلها الله عز وجل؟ هذا القول لا أدعيه على ابن القيم، فليراجع كتاب حلية طالب العلم للشيخ الدكتور بكر أبو زيد، وهذا الكلام في الصفحة (61) من كتابه القيم هذا، وقد ورد قريباً.. انتهى المقصود من هذا الحديث.

حديث في مهابة عمر وضحك الرسول صلى الله عليه وسلم

ثم قال البخاري رحمه الله تعالى: عن محمد بن سعد عن أبيه، قال: استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عاليةً أصواتهن على صوته، فلما طرق عمر عرفنه فتسابقن يرتدين الحجاب وينفرن من مجلسه صلى الله عليه وسلم، خيفة من عمر.

عمر رضي الله عنه خافته الجن، وكثيرٌ من الإنس والنساء، يكفي أن كسرى وقيصر إذا ذكر عمر أغمي على أحدهم حتى يرش بالماء.

يا من يرى عمراً تكسوه بردته>>>>>والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقاً>>>>>من خوفه وملوك الروم تخشاه

هذا عمر رضي الله عنه جعله الله حصناً منيعاً، وكأنه رجل الساعة بعد موت أبي بكر؛ لأن الأمة كادت أن تتقلقل بعد موت أبي بكر، فأتى الله بهذا الحصن المنيع.

قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها>>>>>بفضل ربك حصناً من أعاديها

كان يلاحظ كل شيء في الأمة، فكان سداً منيعاً، يصلي الفريضة، ويقول: [[والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة]] فيقول بعض الناس: كيف يجهز الجيش وهو في الفريضة؟ قلنا لهم كما قال ابن حجر: تعارضت فريضتان، والفريضة كانت عليه عينية، فأدخل فريضة في فريضة, حسنات كلها, أما نحن فما الذي نشتغل به؟ أحدنا عنده عمارة يعمرها ويخططها، ويقول: عمر جهز الجيش في الصلاة! عمر يجهز الجيش لحماية الدولة الإسلامية، ودك خصوم الإسلام، وجعل أنوفهم في الأرض، ولرفع لا إله إلا الله، أما أنا وأنت فنفكر في أفكار لا تفكر فيها إلا الحشرات والدود، أين الثرى من الثريا؟!

لا تعذل المشتاق في أشواقه>>>>>حتى يكون حشاك في أحشائه

فـعمر صنف آخر.

فالمقصود أنه دخل رضي الله عنه وأرضاه على الرسول صلى الله عليه وسلم والنسوة يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فسبحان من جعل الرحمة في قلبه! النساء في مجلسه صلى الله عليه وسلم, هذه ترفع صوتها تسأل سؤالاً، وهذه تتحدث، وهذه تتبسم، وهذه تأتي بقصة، والرسول صلى الله عليه وسلم هادئ ساكن الطباع، إنه الكمال، ليس الكمال فعل عمر رضي الله عنه، لا، الكمال فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

لو كان كخلق عمر رضي الله عنه وأرضاه لما وسعت الشريعة النساء والأطفال والأعراب والناس وأهل الكتاب، ولما استفادوا جميعاً، ولكنه وسعهم صلى الله عليه وسلم خلقاً، فخلقه هو الكمال، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرخى أكنافه، وهدأ من روعه، ومن شخصيته، وإلا فإنه مهاب، يقولون: ساكن وديع، همته تمر مر السحاب: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88].

يجلس على التراب، ولكنه يسري بالأرواح إلى فوق سبع سماوات، فسمع صوت عمر رضي الله عنه؛ فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب، فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك.

وقد ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم في عدة مناسبات، منها: في أحد، عندما أتت نسيبة الأنصارية إلى كافر، واقترب منها الكافر يريد ضربها، فعاجلته فضربت رأسه فأنزلته إلى الأرض، فضحك صلى الله عليه وسلم من هذا الطويل العريض الشجاع الذي أتى بالسيف فضربته هذه المرأة فقتلته.

والضحك هنا قد يطلق على التبسم، والرسول صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يقهقه؛ لأن فيه الرزانة والجلالة والعمق والأصالة، بل هو المربي العظيم صلى الله عليه وسلم، قال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله! وهذا من أحسن ما يمكن، ويقال هذا الدعاء عند رؤية مسلم يضحك.

لكن أن ترى إنساناً يكاد يتقطع من الضحك، فتقول: أضحك الله سنك! لا. أتريد أن يموت! ما بقي عليه إلا لحظات ويلقى حتفه, فهذا يقال له: خفف الله عليك مصيبة الضحك، وأيقظك الله من سباتك, فلا تقل ذلك إلا لمن تبسم أو ضحك بهدوء.

معنى قول: (فداك أبي وأمي)

وقال: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي) أي: أفديك بأبي وأمي، وهذا شرف عظيم، وابن تيمية كان إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول، يقول: بأبي هو وأمي، إي والله! ويقول الذهبي: بنفسي ذاك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان الأنصار يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، ويقول حسان لـأبي سفيان بن الحارث:

أتهجوه ولست له بكفء>>>>>فشركما لخيركما الفداء

إلى أن يقول:

فإن أبي ووالده وعرضي>>>>>لعرض محمد منكم وقاء

ويقول الأعرابي:

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه >>>>>فيه الحياء وفيه الجود والكرم

يا خير من دفنت في القاع أعظمه >>>>>فطاب من طيبهن القاع والأكم

يقول: بأبي أنت وأمي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يقولها إلا في القليل النادر لبعض الناس، وتأملوا وتخيلوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في بعض المواقف لبعض الناس من الصحابة: {ارمِ فداك أبي وأمي} سبحان الله! ويا له من شرف عظيم!

وهذا هو سعد بن أبي وقاص كما في الصحيحين، أخذ يرمي وكان من أرمى الناس، فما كان يرمي إلا وتأتي في رأس كافر، لا يخطئ أبداً، إنه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يأخذ كنانته، ويأخذ أسهمه، ثم يضعها ويرمي، وسواءً قد قرر المكان أو صمم على الهدف، أو وجه على المرمى أولا؛ فإنها ستقع، قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

دعها سماوية تجري على قدر >>>>>لا تفسدنها برأي منك منكوس

فأتى رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد وعنده أسهم طويلة في رءوسها مشاقص من الحديد! فكان يضرب بها ويرمي، ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم الرءوس تسقط على الأرض، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: خذ يا سعد! ويعطيه صلى الله عليه وسلم من كنانته وهو الذي دعا له.

فيعطيه، ويقول: {ارمِ سعد فداك أبي وأمي، ارمِ سعد فداك أبي وأمي} ولذلك يقول علي بن أبي طالب كلمة حق يسأل عنها عند الله: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أبويه إلا لـسعد بن أبي وقاص يوم أحد، فإني سمعته يقول: {ارمِ سعد فداك أبي وأمي} والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعطي هذه التوشيحات والأوسمة إلا لأناس كبار في الإسلام.

أتى رجل من الأنصار وكان من أشجع الناس، تكسَّر سيفه من كثرة الضرب يوم بدر، وتثلم, ولم يبقَ منه إلا المقبض، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! أريد سيفاً، الرجل هائج مائج، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: انتظر؛ فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم عوداً، ليس عنده سيف، فقال: خذ هذا هزه، فهزه فإذا هو سيف! وهذا ثابت بأسانيد صحيحة، فأخذه فضرب به فما تثلم، بل بقي يضرب جيداً، وبقي مع الرجل حتى يقال في بعض الروايات دفن معه في القبر ليلقى الله به.

حتى إذا سئل ما هي شهادته؟ يقول: هذا السيف، سلخت به أعداءك في سبيل الله، ليست هذه الشهادات الورقية التي إذا لم نعمل بها فو الله إنها خسارٌ وبوار وعار وشنار ودمار، إلا أن يغفر لنا الله بالعلم النافع.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يعطي بعض الأوسمة والأمور في بعض المواقف.

أتى أبو دجانة، وهو من الأنصار وكان من أشجع الناس، وكان معه لفافة حمراء يخرجها إذا حضرت المعركة ويربط رأسه، معناها (خطر ممنوع الاقتراب) فكان إذا أخرجها، قال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، أي: تأخروا، وأفسحوا له الطريق، فأتى يوم أحد؛ فأخرج عصابته فلف رأسه بها، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت؛ أي: غضب، فقال صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف؟ فقال المهاجرون والأنصار: نحن يا رسول الله! كلٌ يمد يده، قال: من يأخذه بحقه، فسكتت الألسن ونزلت الأصابع، وبقي أبو دجانة رافعاً يده الوحيد، وقال: ما هو حقه يا رسول الله؟ قال: {أن تضرب به حتى ينحني} هذا حقه، لم يقل حقه أن تغمده، أو تدخله عند الصانع، أو تلبسه وتتمشى به وتتبختر، حقه أن تضرب به حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه.

قال أنس: فذهبت وراء أبي دجانة، فرأيته يفلق به هام المشركين، وفي آخر النهار أتى به وهو منحنٍ من كثرة ما ضرب به رضي الله عنه وأرضاه.

سبب خوف النساء من عمر

ونعود إلى قصة عمر، قال: بأبي أنت وأمي، والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم فدى بعض أصحابه بهذا، فقال: {عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب} أي: أنه صلى الله عليه وسلم يضحك ويعجب من هؤلاء النساء، وهن ناقصات عقل ودين، أشرف الخلق وأجل البشر صلى الله عليه وسلم جالس، فلما أتى رجلٌ من رعيته وطالب من طلابه فررن، وهذا ليس من وضع الأمور في مواضعها، فقال عمر -انظر الحصيف العاقل لو كان غيره لسكت، وقال في نفسه: هيبة مني لمكانتي، ولشخصيتي الكبرى، ولعظمتي، لكنه تواضع وأرخص نفسه أمام الغالي عليه الصلاة والسلام- فقال: {أنت أحق أن يهبنك يا رسول الله! ثم أقبل عليهن وقال: يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم}.

فقالت امرأة منهن عاقلة: إنك أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأفظ وأغلظ -هنا- ليست للمفاضلة، فليس المعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فظاظة وغلظة، لكن عمر أغلظ, لا. بل هي من باب أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] ليس هناك حاكم والله أحكم منه، فليست للمفاضلة، إنما وردت هكذا.

فمعناها: إنك فظ غليظ، لأنها لو كانت للمفاضلة لكان هناك قدر ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينسب إلى عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك}.

وإيه: تستخدم على صور:

منها: متى أردت أن يسترسل المخاطب في الحديث الذي يتكلم فيه، فتقول: إيه, أي: زد زد..

وإيهٍ: إعجاب بهذا الشخص، يقول: أنت البطل الذي لا مثله أحد.

ففي صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد قال: كنت ردف الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لي: {أتحفظ شيئاً من شعر أمية بن الصلت، قلت: نعم، قال: أنشدني، قال: فأنشدته بيتاً، فقال: إيه، فأنشدته بيتاً، فقال: إيه، فأنشدته ثالثاً، فقال: إيه، فأخذ يقول: إيه، حتى أنشدته مائة قافية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: آمن لسانه وكفر قلبه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فيقول لـعمر: إيه، أي: ما أعجبك وما أحسنك! وهكذا كن يا ابن الخطاب! استمر على هذا المنوال, من القوة والعظمة.

انظر إلى المربي العظيم، لم يحسده عليه الصلاة والسلام لأن له هيبة، إنما أراد أن يوجهه؛ لأنه في ميزان حسناته، وهو من مدرسته، ومن خريجي صرحه العظيم عليه الصلاة والسلام.. { والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} وورد في الآثار بأسانيد تقبل التحسين: أن عمر رضي الله عنه وجد عفريتاً من الجن واقفاً؛ فقال عمر: من أنت؟ قال: أنا عفريتٌ من الجن، قال عمر: تصارعني، قال: نعم. فصرع عمر رضي الله عنه العفريت في الأرض، وألصقه بها، فقام الجني مرة ثانية فصرعه، فقام ثالثة فصرعه وبرك على صدره، فقال العفريت: لقد علمت الجن أني من أقواهم، فكيف بالضعاف! ففر، وفي الأخير أخبرهم خبراً، وأعلن لهم إعلاناً طارئاً ممنوع الاقتراب من عمر رضي الله عنه وأرضاه.

قال بعض أهل العلم من الشراح: إنما ذلك لقوة إخلاصه ولصدقه مع الله عز وجل، ولتجلي قلبه لما يرد عليه من الوضوح جعل الله فيه قوة، فهو من أعظم الناس إيماناً، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {عرض الناس علي في المنام وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها مادون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره. قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين} فدينه بلغ الغاية، وكان محدَّثاً، أي: ملهماً من الله عز وجل، يتكلم بشيء فيقع كما قال, وترجمته في غير هذا المكان.

ضحك النبي من أصحابه بعد حصار الطائف

وعن عبد الله بن عمر، قال: {لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالطائف قال: إنا قافلون غداً إن شاء الله} فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نبرح حتى نفتحها، أي: لا نسير من هنا حتى نفتح حصون الطائف؛ لأنه حاصر الطائف صلى الله عليه وسلم وطال الحصار، وفي الأخير اضطر بعض جيشه صلى الله عليه وسلم وكتائبه أن تقتحم بعض الأسوار، ولكن لم ينفع، ولم ينزل العدو من الحصون، فقال عليه الصلاة والسلام: {نرتحل غداً إن شاء الله} فقالوا: لا نبرح حتى نفتح حصون الطائف، فقال صلى الله عليه وسلم: {فاغدوا على القتال} أي: قاتلوا غداً، قال: فغدوا فقاتلوا قتالاً شديداً، وكثر فيهم الجراحات، وأصابهم جراح ورمي بالأسهم، وبالنبال، وبالحجارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنا قافلون غداً إن شاء الله} بعد الجراح والرمي؛ فسكتوا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ذاقوا الأمرين من اليوم الأول، فأصبح أدنى شيء يمكن أن يسيرهم إلى المدينة المنورة.

قال الحميدي: حدثنا سفيان بالخبر كله، والحميدي هو: عبد الله بن الزبير شيخ البخاري، ليس الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين، وسفيان هنا هو: سفيان بن عيينة، حدثهم بالخبر كله، إنما الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك من الصحابة، وهذا يسمى ضحك ملاطفة، حيث لاطفهم صلى الله عليه وسلم في ذلك.

رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وحلمه العظيم

حديث الذي وقع على امرأته في نهار رمضان

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت! وقعت على امرأتي في رمضان، قال: أعتق رقبة، قال: لا أستطيع، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، فأتي بعرق فيه تمر -قال إبراهيم: العرق: المكتل، والمكتل مثل الزنبيل- فقال: أين السائل؟ قال: نعم. يا رسول الله! قال: اذهب فتصدق بهذا، قال: على أفقر منا؟ والله ما بين لابتيها بيتٌ أفقر منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: فأنتم إذن}.

ملخص القصة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان جالساً مع أصحابه في منتدى عام، فأتى رجل بوجهه وفيه الأسف واللوعة والحرقة من أمر تم عليه، وهو أنه واقع امرأته في شهر رمضان، وهو يعلم أنه ذنب، لكنه لا يدري بالكفارة، فأتى وقال: يا رسول الله! هلكت، وهذا بيان عام لا بد له من تفسير؛ لأن من تكلم بمجمل من العلم أو بشيء عام فلا بد أن يفسر ويفصل، والسائل إذا سأل سؤالاً عاماً فعلى العالم أن يسأله عن حيثيات السؤال، وعن جزئياته وقرائنه، وعن سياقاته وظروفه التي اكتنفت به، ليجيب على بصيرة.

أما أن يقول: هلكت، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ما هلكت غفر الله لك، فالقصة لم تعرض حتى الآن، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: وما أهلكك؟ في بعض الروايات قال: وقعت على أهلي في رمضان، أي: في نهار رمضان ليس في الليل؛ لأن هذا معروفٌ عندهم، ولو أنه كان ممنوعاً في أول الإسلام لكنه نسخ.

قوله: والله ما بين لابتيها.. اللابة هي: الحرة من حرتي المدينة، والمدينة بين لابتين، تكتنف تلك المدينة الطيبة الطاهرة التي يرقد في ثراها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي والله تحب لمحبة من جلس في تلك البقاع، ومن رقد في ذاك الثرى.

أمر على الديار ديار ليلى >>>>>أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي>>>>>ولكن حب من سكن الديارا

ولذلك نحن نحب جبل أحد، ونشهد الله أننا نحبه، وجبل أحد ليس فيه تفاح ولا موز ولا برتقال، وليس فيه نهر زلال، وليس فيه خلايا عسل، وإنما هو جبل أجرد أمرد أسود، لكننا نحبه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الصحيح: {أحد جبل يحبنا ونحبه} فنحن لذلك نحبه.

وسيد قطب له في الظلال لمعان، لما مر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أحد جبلٌ يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة} قال: انظر إلى الأنس بين المؤمن والكائنات لما اتجهت إلى الله عز وجل، وبعض البقاع يُغضب عليها لبغض أصحابها، ومن سكن فيها، ومن جاورها، والسعادة تحل في البلد الذي يحل فيه الصالحون والأخيار، يقول أحمد شوقي:

وإذا الكريم أتى مزوراً بلدة >>>>>سال النضار بها وقام الماء

النضار: الزهر، وقام الماء: أي: أصبح له كيان في أمور أخرى.

قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: { فأنتم إذن} فذهب الرجل لا كفارة عليه، ولا عتق، ولا صيام، ولا إطعام ستين مسكيناً، وعاد يحمل تمراً إلى أهله، وهذا من يسر التشريع، ومن يسر هدايته صلى الله عليه وسلم، ومن شريعته الكاملة الجميلة العميقة عليه أفضل الصلاة والسلام.

حديث في بيان حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره

ثم ينتقل بنا البخاري في روضة أخرى، يقول أبو الحسن الندوي وهو يتكلم عن البخاري:

يزيدك وجهه حسناً>>>>>إذا ما زدته نظرا

كلما نظرت في صحيح البخاري نقلك من روضة إلى روضة، فكأنه يعطيك العلم مجاناً وهو الواقع، قال: عن أنس بن مالك قال: {كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه -يستخدم جذب وجبذ كذا في العربية- بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء}.

وبيان الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي في سكة من سكك المدينة وعليه بردٌ، والبرد أشبه شيء بالفرو الغليظ، بردٌ نجراني غليظ الحاشية، أي: حاشيته ليست خفيفة لطيفة، فأتى أعرابي، وانظر ماذا يفعل بالرسول صلى الله عليه وسلم! فاقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من البادية، لا عنده أدبٌ، ولا علمٌ، ولا فهمٌ، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه، ثم جبذه جبذة شديدة، يجبذ معلم الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم ليته سكت، أو قال: عفواً أو سامحني، بل قال: أعطني من مال الله الذي عندك، وفي بعض الروايات: لا من مال أبيك ولا من مال أمك.

ما هو الداعي لهذا الكلام؟ ولماذا هذا التصرف؟ إنه من قلة معرفة قدره صلى الله عليه وسلم، وإلا لو أتى وسلم وتبسم، وقال: يا رسول الله! أعطني من مال الله، أعطني أعطاك الله؛ لكان خيراً له، لكن ضربٌ ومعاندة وكلام غليظ، ولو كان غير الرسول صلى الله عليه وسلم، لقال: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، لا نراه ولا يرى الشمس أبداً، ولا رئيت إلا بطون أقدامه في الجو.

فلما جبذه، التفت إليه فضحك صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما التفت إليه وهو ساكت، التفت إليه وهو يضحك.. أي مرب هذا المربي؟! وأي مرسل هذا المرسل؟! وأي معلم هذا المعلم عليه أفضل الصلاة والسلام؟ إن الذي لا يتعلم من سيرته سوف يبقى حقيراً صغيراً في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولن يكون عنده من الفهم ولا من المعرفة صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] الأعمى هو الذي لم يتجه إلى سيرته ولا إلى سنته، والأصم هو الذي ما سمع هديه ولا أحاديثه ولا عمل بها؛ فليفهم هذا.

قال: فأمر له صلى الله عليه وسلم بعطاء، ولو أنه أدبه، أو أنكر عليه، أو شدد عليه لذهب داعي السوء إلى قومه، وقال: احذروا لا تسلموا، أنا ذهبت إلى هذا الرسول ففعل بي كذا وكذا، ولكن عاد إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا جميعاً.

تبسمه لجرير بن عبد الله رضي الله عنه

وعن جرير قال: [[ما رآني النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم]] وهو جرير بن عبد الله البجلي، سيد بجيله، قبيلة من قبائل الجنوب، وهو يوسف هذه الأمة، إذ كان من أجمل الناس، حتى كان عمر يخاف عليه العين، يقول: أنت يوسف هذه الأمة، كان ربما غطى وجهه أحياناً خوفاً من العين أو الافتتان، أسلم وهو شاب، ودعا له صلى الله عليه وسلم بالتثبيت، وشارك في حروب القادسية وأخذ سيفه، وقال: يا بجيلة! قاتلوا هذا اليوم، فوالله الذي لا إله إلا هو لا يفر أحدٌ منكم من المعركة إلا قتلته بهذا السيف، فاختاروا أن تموتوا شهداء في المعركة، أو أن تفروا وأقتلكم وقد ارتددتم على أدباركم. فكان الواحد منهم يأتي ويقاتل، ويرى الفيلة مقبلة، وكانت فيلة فارس أحدثت دوياً عجيباً وصراخاً هائلاً في جيش المسلمين، حتى قتلت من قبيلة أسد في لحظات خمسمائة رجل.

فيل عظيم أخذ يتعبط في المسلمين، والعرب لا تعرف الفيلة، ولا تربت معها، لا تعرف إلا الخيل والحمير، ليست من سلاحها ولا من منتوجاتها، فكانت أشجع القبائل بجيلة؛ لأن جريراً واقف لهم بالمرصاد، ما يفر بجلي إلا ضربه بالسيف، فيقول شاعرهم، يريد أن يفر، فرأى جريراً واقفاً بالسيف فرجع يقاتل ويقول:

لولا جرير هلكت بجيله>>>>>نعم الفتى وبئست القبيله

قال المؤرخون: بل نعم الفتى ونعمت القبيلة، جزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء، وبعد ثلاثة أيام دخلوا في إيوان كسرى، إيوان العمالة والضلالة، الذي عشعش فيه البغي والظلم، فدكدكوه، وأنزلوه، وسحبوه، وأقاموا لا إله إلا الله هناك، فهؤلاء هم القوم.

الأسئلة

بيان عورة المرأة

السؤال: ورد في جريدة المسلمون في العدد رقم (192) بتاريخ الجمعة فتوى لأحد الناس، ثم ذكر هذه الفتيا، والسؤال يقول: هل يجوز للمرأة المسلمة أن تؤدي الصلاة وهي حاسرة الرأس، أو عارية الذراعين، أو بنصف كُم؟

فكان جوابه كالتالي:

العورة التي تبطل الصلاة بكشفها هي العورة المغلظة، وهي من جسم المرأة ما بين سرتها وركبتها، فأي جزء من هذه المساحة انكشف أثناء الصلاة فإنها تبطل به الصلاة، وليس من عورة المرأة المغلظة صدرها، ولا أطرافها، ولا وجهها، ولا رأسها، ولكن يجب ستر هذه الأشياء وجوباً غير شرط عدا الرأس، فإذا انكشف من المرأة صدرها أو كتفها حرم عليها ذلك، ولكن لا تبطل به الصلاة وتعيدها ما دام الوقت حاضراً، والأمر كذلك في الذراعين لا في اليدين، أما كشف الرأس فلا تعاد له الصلاة، وليس الرأس عورة مغلظة ولا مخففة، وقد تكشف المرأة رأسها أمام أخيها أو أبيها أو محرمها أياً كان، ولكنها لا تكشف شيئاً من صدرها أو كتفها.

الجواب: أولاً: هذه فتيا لم تسند بالدليل، وفتيا لم تسند بالدليل إنما هي كلام وهراء وهذيان، فلا أسندت بدليل من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: هذا الرجل الذي أجاب اسمه موجود هنا، وهو ليس من أهل هذه البلاد، لكن من بلاد أخرى، وهو أحد رجلين: إما واهمٌ مفتر على الله عز وجل، وإما جاهل، فإن كان جاهلاً فلا تحق له الفتيا؛ لأنه ما استقرأ النصوص ولا عرف الأدلة، وإن كان مفترياً على الله فهو فاجر فيما افتراه، وحسيبه الله عز وجل، ولم يأتِ بحديث ولا بآية.

وأما قوله: إن عورة المرأة المغلظة ما بين سرتها وركبتها فليس له دليل، بل قد خالف النصوص التي بينت عورة المرأة، والتي أخبرت بحجاب المرأة، حتى إن حديث أسماء الذي فيه إذا بلغت المرأة المحيض فلا يحق لها أن تكشف إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه عليه الصلاة والسلام؛ ليس بصحيح، بل هو ضعيف، حتى هذا وهو ضعيف يتجرأ على هذا الحديث، وليته استدل به وقال: الوجه والكفين، لكنه تعدى وظلم وأساء في الفتيا، فأخطأ خطأً بيناً.

ثم قال: فأي شيء من هذا انكشف أثناء الصلاة تبطل به الصلاة -يقصد من الركبة إلى السرة- وقد أخطأ، بل المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفاها في الصلاة، فقد ورد بذلك أحاديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: ليس من عورة المرأة المغلظة صدرها ولا أطرافها ولا وجهها ولا رأسها، فماذا بقي؟ اتق الله في هذه الفتيا، فإن معناها أن الأمر سهل، وأنه لا بأس على المرأة أن تكشف صدرها ورأسها وعضدها، وتصبح امرأة كأنها أتت من باريس أو من واشنطن، وليست هي من بلاد محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا لا أطيل الإجابة أو الرد على هذا، وإنما حسبك من السر بيانه، وما يتجرأ على الفتيا إلا ظالم لنفسه، فنسأل الله أن يتغمدنا وإياكم برحمته.

والذي أحب أن أنبه عليه: أن على المسلم ألا يأخذ الفتيا إلا من رجل يثق بدينه وعلمه، من عباد الله عز وجل أهل المعتقد السليم، وأهل الدليل، وأهل البصيرة في الكتاب والسنة، أما هؤلاء غير المسئولين فإنهم إذا حوسبوا ما وجدوا شيئاً، فتوى كاملة بلا دليل!

فالمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفاها في الصلاة، فليعلم هذا، حتى إن المرأة عليها أن تغطي أقدامها وأن ينزل ثوبها كما في حديث أم سلمة، حتى يكون شبراً تجر ثوبها جراً، وأما هذه فهي فتوى باطلة..

تعريف النواجذ

السؤال: ما هي النواجذ؟

الجواب: النواجذ هي الأضراس المتأخرة وليست الأنياب، فقد ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه -صلى الله عليه وسلم.

حكم الصلاة بين السواري

السؤال: ما حكم الصلاة بين أعمدة المسجد التي تقطع الصفوف؟

الجواب: أعلم أنها مكروهة، ولا أعلم أنها محرمة، ولا أن الصلاة تبطل بقطع هذه الأعمدة، ولو كان هناك ضرورة كأن ازدحم المصلون فلهم أن يصلوا بين الأعمدة، وأما هذه فثبت من حديث أنس، قال [[كان الناس يتحاشون في عهده صلى الله عليه وسلم الصلاة بين السواري]] ولا أعلم حديثاً مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم، فالصلاة للضرورة والازدحام لا بأس بها، وبدونها فالأولى ألاَّ يصلى بينها.

حكم الصلاة إلى غير سترة

السؤال: ما حكم صلاة الفرد والإمام والمأموم بدون سترة، والمار يمر أمام المصلي في الصلاة؟

الجواب: هناك تفصيل: فالفرد والإمام لهما حكم، والمأموم له حكم؛ فالمأموم سترته إمامه، فإذا كان هناك إمام فسترته هذا الإمام، فإذا مر أحدٌ بين الصفوف فإنه لا يقطع الصفوف؛ لحديث ابن عباس في الصحيح: {تركت الأتان ترتع ودخلت في بعض الصف فلم ينكر علي أحد} لأنه قطع بعض الصفوف؛ وسترتهم هو الرسول صلى الله عليه وسلم الإمام.

وأما الفرد والإمام فلا بد من سترة, وبعضهم أوجبها، والظاهر والله أعلم عدم الوجوب، وأنها سنة مؤكدة، إذ لو كانت واجبة لبطلت كل صلاة مصلٍ لا يستتر بسترة، فالمقصود أن عليه أن يتقي الله، وهي سنة مؤكدة، وفيها أحاديث صحيحة صريحة، وأحاديث السترة ثمانية عشر حديثاً، منها صحيحٌ، وحسن، وضعيف، وباطل؛ فليعلم هذا، وهذا ليس مقام بسطها.

نقض العهد

السؤال: لقد عاهدت شخصاً على أمر معين، وعاهدته أيضاً على ألاَّ أكفر عن يميني، ثم نقضت هذا العهد فماذا أفعل؟

الجواب: العهد إن كان يميناً فتكفر عنه إذا نقضته، وإن كان عاهدك بالله فلا أعرف هل في هذا اللفظ كفارة أم لا. أما إذا قلت: والله، أو تالله، أو بالله، أو قسماً بالله أو بأسمائه وصفاته، ثم نقضته؛ فعليك كفارة، هذا ملخص هذا؛ لأنه ورد في حديث عقبة: {كفارة النذر كفارة يمين} وفي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة:89] فليعلم هذا.

السنة في العقيقة

السؤال: ما هي السنة في العقيقة؟

الجواب: العقيقة هي ذبيحة المولود، وإذا ولد مولود فمن السنة أن يعف عنه، كما في المسند وسنن أبي داود وسنن الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها، وعند أبي داود عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً، وعند أبي داود بسند جيد، قال صلى الله عليه وسلم: {كل غلام مرتهن بعقيقته، عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاةٌ واحدة}.

أما وقت العقيقة فقد ورد في ذلك أنه يوم سابعه, وورد في الرابع عشر أو الواحد والعشرين، كما أتى به صاحب السلسبيل على زاد المستنقع، وأتى بحديث مخرج عند البيهقي في السنن الكبرى.

فالسنة إيقاعها في هذه الأيام، لكن لو أوقعتها في أيام أخرى لكان في الأمر سعة، وكانت عقيقة، ولكنك خالفت السنة في هذا.

الحكمة من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي

السؤال: ما الحكمة من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم سورة البينة على أبي بن كعب؟ وما الغاية منها؟

الجواب: الذي أعلمه -والله أعلم- أن من الحكم التي قد تظهر: أن أبي بن كعب سيد القراء، وأنه معتمد في القراءة، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه القراءة، ليكون معتمداً ومعروفاً ومشهوراً بالقراءة، ولذلك سمي بعدها سيد القراء.

الأمر الثاني: أن أبي بن كعب صاحب علم وعنده فهم واعتناء بالقرآن، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يعرض عليه هذا الأمر؛ لأنه من تخصصه ومن سيرته.

الأمر الثالث: قد تكون كرامة أكرم الله بها أبياً واختصه من بين الناس، فإن لله عز وجل فضلاً يختص به من يشاء: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105].

وفي الختام: أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والنصر، والإلهام والتسديد، والعون والتأييد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , من آداب النبوة (4) للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net