إسلام ويب

في قصص الأولين عبرة، ونحن في هذا الدرس مع قصة من قصص بني إسرائيل، وفيها من العظات والعبر والدروس المتعلقة بالعمل والاعتقاد شيئاً مفيداً، إنها قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار.

حديث الثلاثة النفر الذين انطبقت عليهم الصخرة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعــد:

أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن أبعد الناس عن الله أكثرهم معصية، وإن أقربهم إليه تبارك وتعالى أكثرهم طاعة، وإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، إنما نسبهم التقوى وصلتهم القربى، ومعين قربهم تقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا >>>>>وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه

كم نطلب الله في ضر يحل بنا >>>>>فإن تولت بلايانا نسيناه

ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا >>>>>فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه

ونركب الجو في أمن وفي دعة >>>>>فما سقطنا لأن الحافظ الله

وعود الله لعباده المؤمنين

أيها الناس: يقص علينا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أحسن القصص، ومنها قصة قوم سلف بهم الدهر، ووقعوا في ورطة من الورطات، وفي نكبة من النكبات، وفي مصيبة من المصائب، فما أنجاهم الله إلا بعد أن توسلوا بأعمالهم الصالحة.

والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعد المؤمنين بالهداية، فقال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] والله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالنصر فقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52] والله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالتثبيت فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] والله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالحياة الطيبة في الدنيا وبالنعيم المقيم في الجنة فقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه قال: قال عليه الصلاة والسلام: {انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم...}:

أي: من الأمـم السالفة التي جعل الله أخبارهم عبرة لنا فقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3] علنا نفهم أو نعقل، وقال: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111] لكن لمن كان له قلب.. لمن كان له عقل.. لمن كان يعتبر.

التجاء العبد إلى الله في الشدة وكفره بالنعمة في الرخاء

{... انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى كهف في الجبل، فآووا إلى الغار وقد أمطرت السماء، فانطبقت صخرة من الصخرات على فم الغار فسدَّته...}:

يا ألله! لم يبق منجى ولا ملتجى ولا مفر من الله إلا إليه، ومن الذي ينجي العبد في الأزمة إلا الله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].

فأصبحوا في ورطة لا يعلمها إلا الله، لا أنيس، ولا قريب، ولا ولد، ولا صاحب، ولا عشيرة، ولا قبيلة.

جلس الثلاثة وضمهم الليل الدامس، وليس عندهم من الطعام والشراب ما يكفيهم، وهم في صحراء مقحلة وقفر، إن صوتوا لا يسمع صوتهم إلا الله، وإن بكوا لا يسمع بكاءهم إلا الله، وإن صاحوا لا يسمع صياحهم إلا الله، فتشاوروا.

والعبد إذا ضاقت به الضوائق أخلص التوحيد لله الواحد الأحد. والعجيب أن العبد وقت الرخاء يتمرد على الله، ويعصيه ويتعدى حدوده، وينتهك حرماته إلا من رحم الله، لكن إذا أُخِذَ بزمامه وشد عليه خناقه عاد إلى الواحد الأحد: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].

فالشاب قوي البنية، الصحيح، المتكامل العضلات يفجر إلا من رحم الله، ولا يصلي مع الجماعات إلا من وفق الله، ولكن إذا أصبح في المستشفى على السرير الأبيض عاد بقلبه إلى الواحد الأحد.

إجابة الله عباده المؤمنين في الشدة

فتشاور الثلاثة ماذا يفعلون، فقال أحدهم: {... والله لا ينجيكم من مكانكم هذا إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم...}:

إن كنتم أحسنتم في الرخاء فالله يجيبكم في الشدة؛ لأن الله يجيب من يطيعه في الرخاء وقت الشدة.

أما رأيتم يونس بن متى عليه السلام يوم ضاقت به الحِيَل، وأُلْقِي في اليم، يوم أصبح في ظلمة الليل فرد إلهامه ورشده إلى الله فقال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] فقال الله عنه: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].

{... إنه لن ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم...}:

ومعنى ذلك: أن لهم رصيداً من الأعمال الصالحة وقت الرخاء، أما الذي ليس له رصيد من العمل الصالح فبماذا يدعو ويتوسل؟ أيقول لله: أنا فلان بن فلان من آل فلان؛ الأسرة العريقة على مر التاريخ؟ أو أبي كان أميراً أو وزيراً أو تاجراً؟ ليس بين الله وبين خلقه نسب، بل النسب التقوى، ولذلك لما أدرك الموت شيخ الطغاة فرعون قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] ففعل في الدعاء كما فعل يونس؛ لكن شتان ما بين الرجلين، ذاك عبد صالح وهذا عبد فاجر، فقال الله لفرعون: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] أنسيت جرائمك يا لعين؟! أنسيت خبائثك على مر التاريخ يا خبيث؟! لا تنفعك الشهادة في هذا الموضع، فأهلكه الله ومزقه وأرداه.

توسل الثلاثة بصالح أعمالهم

(... قال أحدهم: لن ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم -الصخرة مطبقة، والليل دامس، والقريب بعيد، لا طعام ولا زاد-؛ فقام الأول فاستقبل قبلتهم وقال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران - أب وأم عجوزان، أكل عليهما الدهر وشرب، شابت نواصيهما، واحدودبت ظهورهما، وقاربهما الفناء- اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً -والغبوق عند العرب: اللبن يُشرَب في المساء، أي: لا أقدم عليهما أحداً من الناس حتى أطفالي، أي: مِن بِرِّي بوالدي لا أقدم أحداً من الناس عليهما- وإنك تعلم -يا رب!- أنه نأى بي طلب الشجر يوماً من الأيام -أي: ذهبت أرعى في الصحراء إبلي وما أتيت إلا بعد أن ناما- فلم أَرُحْ عليهما إلا بعد أن ناما، فحلبت غبوقهما، وأتيت إليهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما -يا للبر! يا للسماحة! يا للين! من يفعل هذا منا مع أبيه وأمه؟ وقف باللبن والكوب في يده وأبوه وأمه نائمان، والصبية يتضاغون عند قدمه من الجوع، أبناؤه وفلذات كبده وشذا روحه وقلبه يتضاغون عند قدمه يريدون اللبن في الإناء- قال: فلم أوقظهما ولم أسق الصبية حتى طلع الفجر -من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر والإناء في يده واللبن فيه، والصبية يتضاغون عند قدمه يكادون يتفطرون من السغب، وكره أن يوقظ أباه وأمه لئلا يعكر عليهما المنام- فلما استيقظا سقيتهما، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً لا يستطيعون الخروج منه...):

ثلث الصخرة انفرج، صخرة مدلهمة عظيمة تحركت بقدرة الله، ولكن لا يستطيعون الخروج لأنه بقي اثنان لهما دعاء.

فضل بر الوالدين

والشاهد: أن بر الوالدين الذي انتهك وضيع في هذه الأزمان إلا فيمن رحم الله، فتجد الأب إذا شاخ ازدراه ابنه، واستهزأ به، وجفاه وتغلظ عليه وتأمر، فلا يطيعه أبداً، يرى أن نفسه قد كبرت وأنه قد أصبح من الرجال الذين لا يحتاجون إلى أن يتأمر عليهم أحد من الناس، سبحان الله! أبوك وأمك اللذان تعبا لترتاح، وسهرا لتنام، وجاعا لتشبع، وظمئا لتروى.

روى الطبراني بسنده: أن رجلاً قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال: يا رسول الله! أشكو إليك شكاية، قال: ما لك؟ -شيخ كبير يبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: ما لك؟ قال: يا رسول الله! أشكو إليك ابني، قال: ما فعل بك؟ قال: ربيته يا رسول الله، فلما كبر تغمط حقي وأغلظ لي، وجفاني وتنكر لي، وبـلغ به العقـوق أن لوى يـدي وراء ظهري، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: أقلت في ذلك شعراً؟ -والعرب كانت تنفس عن أحزانها وهمومها بالشعر- قال: نعم. قال: ماذا قلت فيه؟ قال: قلت فيه:

غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً >>>>>تعل بما أجري عليك وتنهل

يقول: ربيتك صغيراً وحفظتك حتى كبرت.

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبِتْ >>>>>لسقمك إلا شاكياً أتململ

يقول: إذا زارك المرض فكأنه زارني أنا، فلا أنام وأنت المريض.

فلما بلغت السن والغاية التي >>>>>إليها مدى ما فيك كنت أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة >>>>>كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبُوَّتي >>>>>فعلت كما الجار المجاور يفعل

ليتك يوم ما بررتني ولنت لي وتسهلت لي وأكرمتني؛ حفظت أذاك عني وفعلت كالجيران، لكن زيادة في النكاية آذيتني وشتمتني وعصيتني. قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].

فيا سرور مَن بَرَّ أبويه! ويا حبور من بر أبويه يوم أن يشيبا؛ ويقتربا من القبر، يوم يكون أملهما بعد الله أنت، فتتقرب إلى الله ببرهما، حينها يفتح الله لك باب الجنة، ويسدل عليك رحمته، ويجعل أبناءك بارين بك، ويتولاك في الدنيا والآخرة.

فضل العفة ومخالفة الهوى

{... وأتى الرجل الثاني وقال: اللهم إنك كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فراودتها عن نفسها فأبت -استعصمت بحبل الله، امرأة تقية صَيِّنَة دَيِّنَة- قال: فألمت بها سنة قحط وفقر -والفقر والجهل قريبان من المعصية- قال: فعرضت عليها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، فلما فَعَلَتْ واقْتَرَبْتُ منها قالت لي: يا عبد الله، اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، قال: فقمت عنها وأنا أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً لكن لا يستطيعون الخروج منه...}:

وهذه هي العفة، وهذه هي أسوة يوسف عليه السلام يوم ابتلاه الله فرفع منزلته بالعفة والأمانة، عرضت له الملكة الجميلة نفسها في القصر وهو شاب أعزب من أجمل الناس، فتذكر لقاء الله، وموعوده، وعذابه الذي: لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25-26] فقال: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23] فمن يقول منا -يا شباب الإسلام- اليوم معاذ الله؟! من إذا نظر إلى المرأة الجميلة في السوق غض طرفه وقال: معاذ الله؟! من إذا سمع نغمة اتصال من امرأة أجنبية قال: معاذ الله؟! من إذا حدثه الشيطان وسوَّل له قال: معاذ الله؟! من إذا عرض عليه الفيلم الماجن الذي ضيع عقول الشباب ودينهم ومروءتهم قال: معاذ الله؟! من إذا رأى المجلة الخليعة قال: معاذ الله؟! من إذا سمع الأغنية الماجنة قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]؟!

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل >>>>>خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل طرفةً >>>>>ولا أن ما يخفى عليه يغيب

لهونا لعمر الله حتى تتابعت >>>>>ذنوب على آثارهن ذنوب

فيا ليت أن الله يغفر ما مضى >>>>>ويأذن في توباتنا فنتوب

إي والله! من لم يحفظ الله في الرخاء لا يحفظه في الشدة.

فضل الأمانة والتسامح

{... وتقدم الثالث فقال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أُجراء -خُدَّام- قال: فحاسبتهم فأعطيتهم أجورهم إلا رجلاً واحداً منهم ذهب مغاضباً وترك أجرته، فأخذت أجره فثمَّرته له وبعت واشتريت له، حتى أصبح له من المال والغنم والإبل والرقيق شيء كثير، ثم أتاني بعد سنين فقال لي: يا عبد الله! اتق الله وأعطني حقي الذي عندك، قلت: خذ هذا المال فإنه مالك، قال: أتستهزئ بي؟ -مِن كثرة المال- قلت: لا والله لا استهزئ بك، قال: فساقه فلم يترك منه شيئاً؛ اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون}.

فيا لسعادة الصلحاء وقت الرخاء، يوم ينجيهم الله في الأزمات! ويا لفرحة من قدم لنفسه في الساعات الثمينة الغالية! وهذا مصداق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي بسند حسن، وهو حديث مذهل مدهش، يقول أحد العلماء كما ذكر ذلك ابن رجب: " ما قرأت هذا الحديث إلا أصابني الذهول منه، حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام لـابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.

عباد الله: أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

كرامات الأولياء

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

شرطا الكرامة

عباد الله: في الحديث السابق كرامة من كرامات الأولياء، وكرامات الأولياء أثبتها أهل السنة والجماعة؛ لكن بشرطين كما يقول شيخ الإسلام وعلم الأعلام ابن تيمية رحمه الله في المجلد الحادي عشر من فتاويه قال: يشترط في الكرامة شرطان:

الشرط الأول: أن تكون على طاعة، أو تكون ثمرة ونتيجة لطاعة، فتحصل على يد رجل طائع لله عز وجل؛ لا فاجر ولا كاهن ولا مشرك ولا ساحر ولا منجم؛ لأن هؤلاء أعداء الله وأعداء رسله عليهم الصلاة والسلام، وقد يحدث لهم خوارق وأمور تخالف عادات الناس، وأمور يحدثها الله عز وجل فتنة وابتلاء لهم.

فلا بد للكرامة أن تكون على طاعة، وأن يكون صاحبها على الكتاب والسنة، قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا تغتروا بالعبد ولو طار في الهواء وسار على الماء حتى توازنوا عمله بالكتاب والسنة. أو كما قال.

والشرط الثاني: أن تستغل هذه الكرامة في مرضاة الله، وفي رفع دعوة الله عز وجل، وفي نصرة دينه وحماية أوليائه. والله عز وجل يجعل الكرامات للأولياء بسبب إخلاصهم.

قصة الإسرائيلي الذي أودع الدنانير في خشبة في البحر

وقد ورد في صحيح البخاري في كتاب الوكالة: أن رجلاً من بني إسرائيل لقي آخر فاستسلفه ألف دينار، فقال له ذاك الرجل: ما أعرفك فهل لك من شاهد، قال: ما أجد شاهداً، قال: ابحث عن شاهد، قال: ليس لي من شاهد إلا الله، قال: كفى بالله شاهداً بيني وبينك، قال: فهل لك من كفيل يؤدي عنك المال -أو يغرم المال أو يكفلك في حضورك؟- قال: ليس لي من كفيل، قال: ابحث عن كفيل، قال: والله لا أجد كفيلاً إلا الله، قال: كفى بالله كفيلاً. فأخذ الألف دينار وذهب بها وركب البحر، فلما ركب البحر ونزل في قريته مكث ما شاء الله من الأعوام، فلما أتى الموعد أخذ الألف دينار ليردها إلى صاحبها، فأتى إلى شاطئ البحر فلم يجد سفينة ولا قارباً؛ فبقي على شاطئ البحر ثلاثة أيام يسأل ويبحث حتى أيس من السفن والقوارب، وفي الأخير تذكر أن الضامن هو الله، وأن الكفيل هو الله، وأن الشاهد هو الله، فأخذ عوداً من خشب فنقر العود وأدخل فيه الدنانير ثم كتب عليه رسالة، وجعل العود في البحر وقال: اللهم إنه استشهدني فلم أجد شاهداً إلا أنت وطلبني كفيلاً فلم أجد كفيلاً إلا أنت، اللهم فأدِّ هذا المال إليه، ثم ضرب العود في البحر، فساقه علام الغيوب -الحافظ الحكيم وأسرع الحاسبين، الشاهد والكفيل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكفى بالله وكيلاً وكفى بالله كفيلاً- حتى وصل إلى الشاطئ الآخر. وخرج ذاك الرجل في نفس الموعد يتحرى لأن بينه وبين ذاك الرجل موعداً، فرمى البحر بهذه الخشبة إلى الرجل فأخذها وقال: آخذها حطباً لأهلي، وأيس من ذاك الرجل، فلما ذهب إلى بيته كسر الخشبة فوجد فيها ألف دينار ووجد الرسالة فقال: كفى بالله وكيلاً وكفى بالله شهيداً} وهذه كرامة.

كرامة صاحب عقد المرجان

وذكر ابن رجب في طبقات الحنابلة عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي قال: " ونقل عن رجل من الصالحين أنه قال: سافرت يوماً من الأيام إلى مكة حاجاً قال: فانتهت نفقتي وانتهى طعامي وزادي، وأصبح بي من الضر والجوع شيء لا يعلمه إلا الله، قال: فذهبت ألتمس الطعام والشراب والزاد في مكة، فبحثت في الأرض في مزبلة هناك فانكشف لي عقد ثمين فيه در وجواهر، كل جوهرة تساوي الآلاف من الدنانير -عقد يساوي ميزانية هائلة- قال: فحملت العقد وبي من الفرح مالا يعلمه إلا الله، قال: وذهبت به حتى دخلت الحرم، وإذا برجل ينادي من وجد لي ضالة وصفها كذا وكذا قال: فإذا هو العقد الذي هو عندي، قال: فتقدمت فسألته فأتى بأوصاف هذا العقد، قال: فاتقيت الله فدفعت له العقد قال: فوالله ما ناولني درهماً ولا ديناراً.

قال: ثم ذهب وتركني، قال: فلما انتهيت ركبت البحر في سفينة قال: فلما أصبحت في السفينة جاءتنا ريح شديدة لا يعلم قوتها إلا الله، فكسرت السفينة، وغرق أصحابي جميعاً، وبقيت على خشبة ثلاثة أيام بين الموت والحياة، وأنا أسبح الله وأذكره، قال: فرمت بي الخشبة على جزيرة، قال: فنزلت الجزيرة فدخلت مسجداً هناك في القرية، فأتيت فوجدت مصحفاً أقرأ فيه، فقال أهل القرية: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قالوا: علمنا القرآن ونعطيك أجراً، قال: فعلمتهم القرآن، قالوا: أتجيد الخط؟ قلت: نعم. قالوا: علمنا الكتابة، قال: فلما استأنست بهم قالوا: إن هنا ابنة صالحة يتيمة، وقد كان أبوها من الصالحين، نريد أن تتزوجها، قال: فلما تزوجتها ورأيتها وإذا بذاك العقد الذي وجدته في مكة في نحرها، قلت: يا أمة الله! أريني العقد، قال: فسلمتني العقد! فوالله الذي لا إله إلا هو، إنه ذاك العقد؟ قلت: ما خبر هذا العقد، قالت: حججت مع أبي سنة كذا وكذا وقد جمع أمواله ودنانيره ودراهمه واشترى هذا العقد، فهو مالنا وميراثنا وكنزنا، قالت: ثم ضاع منه فوجده رجل من الصالحين فسلمه لأبي؛ فكان أبي كلما صلى صلاة يقول: اللهم وفق بين ابنتي وذاك الرجل الصالح، قال الرجل: فوالله الذي لا إله إلا هو، إني أنا الرجل الذي وجدت العقد ".

إن من يحفظ الله يحفظه، ومن يستهدِ بالله يهدِه، ومن يستكفِ به يكفِه. وهذه من السنن الكونية الخلقية القدرية، ومن السنن الأمرية الشرعية التي أوردها الله في الكتاب والسنة، ولا يضيع إلا مَن ضيَّعه الله، فاستهدوا بالله يهدكم، واستحفظوا الله يحفظكم، واستكفوا به يكفكم، وتوكلوا عليه يكفكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

خاتمة

عباد الله: وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه يا رب العالمين، اللهم اجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك؛ برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وفق أئمتنا لما تحبه وترضاه، اللهم أعنهم على تحكيم كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ونصرة دينك.

اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التوسل بالأعمال الصالحة (2) للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net