إسلام ويب

إن الأدب في اللغة العربية هو البيان الساحر الذي يبين الحقائق والمستشكلات، وقد كان للأدب بين العرب مكانة ومنـزلة، والإسلام أشاد بالشعر والبيان، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشجع شعراءه، فيذبون عن الإسلام، وكذلك أصحابُه مِن بعده، ومَن بعدهم.

إن الأدب الذي يوافق المكارم ويصفها، ويمدح الكرم والجود، ويصف الشجاعة هو الأدب الباقي، والأدب الذي يتألم لما يحصل للمسلمين هو الأدب الرائع الجميل، فلابد أن نحييه وننشره ونحافظ على بلاغته وفصاحته.

الكلمة ما لها وما عليها

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أمَّا بَعْد:

فإن الكلمة تحكم الكون منذ البدء.

فسِّر وجود الكون يكمن في كلمة، أليس الخالق -تبارك وتعالى- يقول لخلقه: (كن فيكون) وبالكلمة نحيا.

أليست حياتنا سلسلة كلمات تحمل عقائد وشرائع وعهوداً ومواثيق وعقوداً وإجراءات وبالكلمة ندين؟

أليس مفتاح الإيمان كلمة أو عدداً من الكلمات؟

ألسنا نتعبد الله بكلمات؟

أليس نهاية المطاف كلمة أو عدداً من الكلمات؟

أوليس أنه قد تقتلنا كلمة واحدة، وترفعنا كلمة، وتخفضنا كلمة، وتبكينا كلمة، وترضينا كلمة، وتغضبنا كلمة؟

إذاً: فالكلمة سلطان لا ينازع في عالم البشر، فحين نفرح نخف إلى الكلمات نستسرها فرحتنا وبهجتنا وسرورنا، وحين تضيق علينا السبل ويتملكنا الكرب لا نجد إلا الكلمات، ننفس بها عن همومنا، ونفرج بها كربنا، فنجهر بالدعاء إلى الله القادر تارة، ونبث شكوانا للخلائق تارة أخرى، وكل ذلك بكلمات منثورة ومنظومة.

والأدب أيها الأحبة في الله! هو الكلمة في أرقى صورها الجمالية، وهو الشعر، والقصة، والرواية، والخطبة، والخاطرة، والمقالة؛ فما موقع أرقى أشكال الكلمة من حياتنا؟

إن موقعها في الصميم، وأمة بلا أدبٍ أمة بلا حياة، أمة جافة خاوية، وأدبٌ لا يمثل أمة أدبٌ جاف خاوٍ.

ودور الأدب في الحياة مما لا يجادل فيه، فإذا اشتدت الخطوب، وقطب الزمان حاجبيه، ففي الأدب ملجأ ومتسع، ونحن المسلمين نعتز دائماً بموقف الأدب من الرسالة الشريفة، حيث وقف الشعراء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ضيقه، ونصروه وآزروه ونافحوا عنه بتشجيع منه عليه أفضل الصلاة والتسليم.

ونحن نعتز كذلك بتراثنا الأدبي العظيم الذي نستجلي فيه وبه وقفات شرفية لأدبائنا وشعرائنا مع أمتهم، وقد ترك أُدباؤنا الأوائل نتاجاً عظيماً في صدر الإسلام وعهد الفتوحات، وتركوا لنا مثل ذلك بعد سقوط الأندلس، وخلال الحروب الصليبية، وفي هذا العصر وجد أدبٌ متميز واكب الأحداث العظام في الحربين العالميتين وفي فلسطين وأفغانستان وغيرهما، وكما نلمسه هذه الأيام مواكباً للأحداث المؤلمة الحاضرة.

أيها الأحبة في الله: لتجلية أكثر لدور الأدب في معايشة النكبات، دعاكم النادي الأدبي في الرياض إلى هذه المحاضرة التي تسعدنا جميعاً أن يتحدث إلينا فيها مفكرٌ وأديب إسلامي هو الشيخ: عائض القرني.

الأدب في غير موضعه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القائل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:24-25].

والصلاة والسلام على من قال فيه ربه: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69] فهز بفصاحته البلغاء، وأسكت بمنطقه الشعراء، وأفحم ببيانه العرب العرباء، وعلى آله وأصحابه اللُّسَّن المفوَّهين، والكماة الباسلين.

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وشكر الله لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم الأستاذ الجليل والأديب النبيل عبد الله بن إدريس رئيس النادي الأدبي في الرياض، أدام الله سعوده، وسدد جهوده، وقد دعاني لإلقاء هذه المحاضرة بعنوان: (دور الأدب في معايشة النكبات) وهي تحمل الرقم (302) فلبيت دعوته، وأقول له كما قال أبو الطيب المتنبي لـسيف الدولة:

أتاني رسولك مستعجلاً >>>>>فلباه شعري الذي أدخر

ولو كان يوم وغىً قاتماً>>>>>للبَّاه سيفي والأشقر

أصرف نفسي كما أشتهي>>>>>وأملكها والقنا أحمر

أيها الحضور! الأدب كلمة مؤثرة حية تبعث في الشعوب الحياة، عاشها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بنفسه متكلماً وسامعاً، وخطيباً وفقيهاً ومفتياً، وقبل أن أبدأ اسمحوا لي بكلماتٍ سطرتُها، ومعذرة إن ندَّ بيان أو اختل لفظ.

سيدي علل الفؤاد العليلا>>>>>أحيني قبل أن تراني قتيلا

إن تكن عازماً على قتل روحي>>>>>فترفق بها قليلاً قليلا

الأدب الراقي سوف أذكره بعد هذه الأسطر؛ لكن أتحدث عن أدبٍ رخيص، وعن أدبٍ متبذل، وعن أدبٍ ليس مقصوداً في الإسلام.

نعيش اليوم أدباً في مجموعة لا تحمل مبدأً، ولا يتعامل مع قضيتنا الكبرى، ولا يتحمس لرسالتنا الخالدة.

أدباً غلب عليه التذبذب، ويبدل المواقف بحسب المنافع والأغراض.

أدباً يسترضي الخواطر، ويجامل على حساب الحق.

فإذا قائله أول من يُكَذِّبُه ولا يؤمن به، أدباً مزوقاً مستهلكاً، مجته الآذان، وعافته القلوب، وتمردت عليه الأجيال؛ لأنه لا يلبي حاجتها، أدباً يجعل السارق محترماً، والأمين خائناً، والسفاك فاتحاً عظيماً، وإمام المسجد متطرفاً مريباً، والمتزلج على الثلج وجامع الطوابع حكيماً عبقرياً.

أدباً سهلاً لسذج البادية، تلطيخ صحف الأمة بساقط القول ومتبذل الهراء، فأصبح دراويش الأعراب حملة فكر، وروَّاد قلم، في حين أَفَلَ نجمُ الطليعة وغاب شمس الرواد وأصحاب المبادئ.

إذا عَيَّرَ الطائي بالبخل مادر >>>>>وعيَّر قساً بالفهاهة باقل

وقال السهى للشمس أنت كسيفة >>>>>وقال الدجى للبدر وجهك حائل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة>>>>>ويا نفس جدي إن دهرك هازل

أدباً مجمركاً! عليه الوصاية، يصف الزوارق البحرية في شواطئ اللهو والضياع، ويبكي على موت أرانب الصحراء، ويحدثنا عن امرئ القيس وتدمر، والأمة تغرق في بحور الدماء، وتئن تحت سياط الجلادين، وتموت في زنزانات الطغاة الدجاجلة، وتحاصر بطوابير الملحدين المرتزقة.

مِن شعراء السوء

أدباً فصل الأمة عن دينها، فالتطور في نظره: ألاَّ تذكر المسجد ولا المصحف، ولا تفكر في الكعبة ولا في زمزم، ولا تتغنى بـبدر ولا حطين، ولا تتلهف لـعمر وخالد والرشيد والمعتصم.

أدباً مهمته: توسيع البطون للمتآكلين به من أموال اليتامى والأرامل واللاجئين.

أدباً نتيجته: ميدالية ذهبية، أو سيارة فاخرة، أو كلمة شكر من الجنرال، أو ابتسامة من أمير المؤمنين.

ولذلك قام طاغية العراق فحكم بالإعدام على ابنه تزويقاً وإلهاءً وضَحِكاً على ذقون الشعوب، هو ما حكَّم الشريعة، وهو داس المصحف بقدمه، وهو قد كفر برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ولكنه تظاهر بالعدالة ليقتص من ابنه القاتل السفاح، فقام شاعر العراق عبد الرزاق عبد الواحد يقول للسفاح ويستبكي عينه التي ما بكت من خشية الله:

أكان هذا امتحان الله نقبله>>>>>لكن معاً كلنا لله نمتثلُ

يا سيدي كل نفس قبلك امتحنت>>>>>حتى الأئمة والأسباط والرسلُ

ولم يقل رب إسماعيل قدمه>>>>>لكن فداه ألا تفديه يا رجلُ

ماذا يقول العراقيون لو سئلوا>>>>>ماذا يقال لـصدَّام الذي حملوا

بين الضلوع ومن أصفاهم دمه >>>>>وحبه وإلى أحلامه دخلوا

هذا الذي ملأت فلاَّحةٌ فمَه >>>>>خبزاً ومن كلهَّ من كفه أكلوا

ماذا يقال أجل جاءت مسددة >>>>>وهكذا أبداً تأتي بها الغيلُ

لكننا يا كبير القوم نفزع أن >>>>>تقول أهل العراق اليوم ما فعلوا

لقد صنعت سلاماً فارفقن به >>>>>أعط السلام سلاماً أيها الرجلُ

فماذا كان؟

قامت الجماهير تبكي على هذه العدالة، وتشيد بسيادة الرئيس، وتناديه أن يفدي ابنه -كبشه- بكبش سمين وبالفعل، فهذا هو الأدب المنافق المزور الذي ضلل الأمة، أدب أخرج أفراخ العلمانية أبرياء أمام الشعب، نجوماً في وسائل الإعلام، أبطالاً في مسيرة الأمة، وجعل الأعلام خونة، والناصحين غششه، والأتقياء أهل خطورة.

ولـو أني بليت بهاشمي>>>>>خئولته بنو عبد المدان

لهان علي ما ألقى ولكن >>>>>تعالوا فانظروا بمن ابتلاني

أدب طارد الجنس، وطلب الشهرة، وحرص على الظهور.

فأين أدبنا؟! وأين شعرنا؟! وأين إبداعنا؟! وأين طموحاتنا؟! وأين دموعنا؟!

الأدب الذي نريد

نريد أدباً جميلاً طموحاً عفيفاً، أدباً يستفيد من روعة السبع المثاني والقرآن العظيم، أدباً يلهب حماس الأمة فيوقظ الغافل، وينبه البليد، ويزجر العاصي، أدباً يعيد لنا مجدنا ويذكرنا تاريخنا، ويحمل مبادئنا.

أدباً يوصلنا بالماضي، ويحثنا إلى المستقبل، في ظلاله نعيش، في ظلال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

وفي أحيائه نحيا تحت أفياء لا إله الله محمد رسول الله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

أدبٌ يزكي النفس من أوضارها >>>>>ويرتل التوحيد في أذن الملا

فرسولنا عليه الصلاة والسلام عاش الأدب بكل معاني هذه الكلمة، عاش الأدب فجاشت روحه، ودمعت عينه، وعاشت نفسه مع الأدب، ففي صحيح مسلم عن عمر بن الشريف قال: {رُدِفْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتحفظ لـأمية بن أبي الصلت قلت: نعم. قال: هيه أنشدني، فأنشدته بيتاً، قال: هيه، فأنشدته ثانياً، فما زال يقول: هيه حتى أنشدته مائة بيت، ثم علق محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: آمن لسانه وكفر قلبه}.

كان عليه الصلاة والسلام يجيد الأدب، فإذا تكلم بذَّ الفصحاء، يقول عليه الصلاة والسلام: {أوتيت جوامع الكلم} أحيا من الأمة الخام، أمة الصحراء، أمة الأرانب والضب، أحيا منها أمة فريدة تكتب باسم الله في قرطبة، وتصلي في إشبيلية، وتسجد في ضفاف دجلة والفرات.

يقول الزبيري قاضي اليمن وهو يمدح بلاغة المصطفى عليه الصلاة والسلام:

ما بنا جملة من اللفظ إلا >>>>>وابتنى اللفظ أمة من عفاء

يقول: ما قال كلمة إلا أحيا جيلاً، وما خطب خطبة إلا جهز جيشاً، وما أرسل عبارة إلا فتح مدينة، هذا هو الأدب الذي سيطر به عليه الصلاة والسلام على العقول وملك به الأفئدة.

الأدب في الإسلام

وكان عليه الصلاة والسلام يجعل من مسجده منتدىً، فيظهره للأنظار، ويقرب المنبر لـحسان، ويقول: (اهجهم وروح القدس يؤيدك).

موقع الشعر من حياة النبي صلى الله عليه وسلم

يسأل النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت: {كيف أنت والمشركين؟ -أي: كيف بك إذا جُمِعْنا مع المشركين في صراع أدبي رهيب- فأخرج حسان لسانه متحدياً وضرب أرنبة أنفه، وقال لسانه: يا رسول الله! والله لو وضعته على حجرٍ لفلقه، وعلى شعرٍ لحلقه، فدعا له} فأرسل القوافي كالقنابل، وأرسل الأبيات كالسهام، يقول قبل غزوة الفتح مهدداً الشرك والوثنية والإلحاد والزندقة:

عدمنا خيلنا إن لَمْ تروها>>>>>تثير النقع موعدها كداء

أي: نسأل الله ألا يعيد هذه الخيول إلى رحابها وإلى بيوتنا إن لم تصف الحساب معكم، وإن لم تعلن نتيجة النصر مع الباطل.

تظل جيادنا متمطراتٍ >>>>>تلطمهن بالخُمُر النساء

فيتبسم عليه الصلاة والسلام، ويسأل أبا بكر النسابة الحافظ للشعر، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يحفظ الشعر، وعدم حفظه للشعر كمالٌ فيه، إذ لو حفظ الشعر؛ لقالوا: نسج القرآن شعراً وإن الأمية فيه كمال، إذ لو كان كاتبـاً؛ لقالـوا: كتب القرآن بيده، قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69] وقال سبحانه: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48].

فيقول لـأبي بكر وهو يرى خيول خالد قد فتحت من كداء بـمكة ونساء مكة يخرجن الخمر يلطمن الخيل، فيتبسم عليه الصلاة والسلام لتحقيق قول حسان، ويقول: {يا أبا بكر! كيف يقول حسان؟ فيعيد عليه الأبيات}

ويسمع القائد العظيم أبيات الحماسة والصدق والنبل فيتأثر بها، ويشهد الرسول عليه الصلاة والسلام بدراً وينتصر انتصاراً رائعاً سجله التاريخ، فيأتي حسان ويشارك، فقد كان حسان يقصف بلسانه والأبطال يضربون بأسيافهم، فيقول للحارث بن هشام الذي فر من المعركة - وهو أخو أبي جهل - فبعد أن تغزل حسان، واستفتح بالرقة والعاطفة الجياشة، قال:

إن كنت كاذبةَ الذي حدثتني >>>>>فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم >>>>>ونجى بفضل طمرة ولجام

يقول للمحبوبة: إن كنت كاذبة فأنجاك الله -عز وجل- كما أنجى الحارث بن هشام، الذي ترك الأبطال في بدر وفر، فوقعت هذه الأبيات وخزاً وسيفاً على الحارث، وقد أسلم وخرج إلى اليرموك ليبيع دمه وليطهر أوضاره من هذه، وليكتب في سجل الخالدين، وتوفي عليه الصلاة والسلام وترك لنا شعراء ثلاثة، والله عز وجل يسطر في الشعراء آيات بينات: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221].

هل نخبركم بالدجاجلة؟ هل نخبركم بالمرتزقة المنافقين؟ هل نخبركم بباعة المبادئ؟

تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222] الذي لا يحمل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223] يتشدقون عند الكيانات والأشخاص، يمدح من ذم أمس، ويذم من مدح أمس.

عندما أتى شعراء المصطفى عليه الصلاة والسلام الثلاثة: حسان، وكعب، وابن رواحة يبكون ويقولون: {يا رسول الله! نحن الشعراء وأنزل الله فينا ما تعلم! فنزل جبريل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227]} إلا الذين آمنوا بلا إله إلا الله، إلا الذين توضئوا ودخلوا المسجد، إلا الذين حملوا المصحف، إلا الذين أيدوا الرسالة التي أتى بها عليه الصلاة والسلام، إلا الذين تطهَّروا من أوضار التخلف والحزبية للباطل، والركوع للآثم الفاجر: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227].

اهتمام الصحابة بالأدب

يتولى أبو بكر الخلافة فيجعل الأدب المؤمن في حياته جزءاً كبيراً، بل هو نفسه من مواصفاته ومن مؤهلاته أنه كان خطيباً نَسَّابةً أديباً.

في اليوم الأول يعقد مجلس في دار بني ساعدة، وكاد هذا أن يتحول إلى كارثة، وكاد أن يصبح نكبة من النكبات التي أستعرضها لكم هذه الليلة، كاد أن يكون هذا المجلس معناه تغيير مسار الخلافة، كان الأنصار يريدون به أن يتولوا زمام الحكم أو يشاركوا الخليفة خلافته، فتحرك أبو بكر إليهم ومعه عمر وأبو عبيدة وأسكتهم؛ لكن ما سكتوا، وأراد عمر أن يحد القول لكن ما نفع إحداد القول؛ فما هي الحاجة؟ وما هو الموقف؟ وما هو الحل؟

الحل هو أن يتكلم أبو بكر، والحل أن ينطق بالكلمة اللينة التي قالها الله لموسى يوم أرسله إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].

قال أبو بكر: [[يا معشر الأنصار! آويتم وواسيتم ونصرتم وأكرمتم، فجزاكم الله عنا خير الجزاء، والله ما مثلنا ومثلكم أيها الأنصار إلا كما قال طفيل الغنوي:

جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت >>>>>بنا نعلنا في الشارفين فزلَّتِ

هم خلطونا بالنفوس وألجئوا >>>>>إلى غرفاتٍ أدفأت وأظلتِ

أبوا أن يملونا ولو أن أُمنا >>>>>تلاقي الذي يلقون منا لَمَلَّتِ

فتهللت وجوههم، وانشرحت صدورهم، وحيوا القائد العظيم، وقاموا فبايعوه.

إن الكلمة المؤدية المؤمنة الصادقة تغير أفكار الشعوب وتوجه طاقات الأمم.

ويتولى عمر الجاد الخلافة، فلا يتبسم لأنه صارم، فالشيطان يسلك فَجَّاً، وعمر يسلك فَجَّاً آخر، وإن الأعداء تهاب عمر، وإن الأكاسرة والقياصرة على منابرهم وفي دواوينهم يخافون من سمعة عمر وهو في المدينة، كما يقول محمود غنيم:

يا مَن يرى عمراً تكسوه بردتهُ >>>>>والزيت أدمٌ له والكوخ مأواهُ

يهتز كسرى على كرسيه فرقاً >>>>>من خوفه وملوك الروم تخشاهُ

لكن يرتاح للأدب، وأنا أورد قصة طريفة: أرسل عمر رضي الله وأرضاه النعمان بن عدي أميراً على ميسان قريباً من البصرة، فتولى الإمرة، وكان النعمان صحابياً؛ لكن يجيش الشعر بما لا يستطيع أن يحمله، وينفذ المصدوق وربما قال الشاعر ما لم يعمل، كان هذا الصحابي خفيف الدم، لطيف الشذا، جلس مع أصحابه في سمر، وقال:

فمن مبلغ الحسناء أن حليلها>>>>>بـميسان يُسقَى مِن زجاجٍ وحَنتمِ

إذا كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني >>>>>ولا تسقني بالأصغر المتثلمِ

لعل أمير المؤمنين يسوءه>>>>>تنادمنا بالجوسق المتهدمِ

ما معنى الأبيات؟

لما ولاه عمر يقول: من يبلغ زوجتي في المدينة أنه تطور بي الحال بعد ثورة (14) سبتمبر وأصبحتُ بعد أن كنت أنام على الرصيف أصبحت أميراً، وبعد أن كنت أشرب الماء الحار أشرب الخمر، ولا أشربه إلا في الحنتم والزجاج:

فمن مبلغ الحسناء أن حليلها >>>>>بـميسان يُسقَى مِن زجاجٍ وحَنتمِ

إذا كنتَ ندماني: إن تريد أن تسمر معي وعازم على السمر، فلا تسقني في الكاسات الصغيرة، ابحث لك عن كأس كبير:

إذا كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني >>>>>ولا تسقني بالأصغر المتثلمِ

ثم قال: لعل خوف عمر يدخل معه حتى في الجوسق:

لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدمِ

ولم يفعل ولم يشرب الخمر، وما كان له أن يشرب الخمر وقد آمن بالله، وما كان له أن يشرب المسكر وقد عاهد الله وباع نفسه إلى الله.

وتصل الأبيات إلى عمر، ويقرأ عمر رضي الله عنه الخبر، ويستدعي أميره، وعمر ليس عنده كل شيء على ما يرام، وليس عنده أنصاف الحلول، كان في الحج يؤدب العمال بالعصا، وكان يتفقد الأمراء، ويسيس سياسة الأمة، ويقبل الرأي الموجَّه والعقل السليم والكلمة الصادقة الحارة.

يوافقه أعرابيٌ على المنبر يوم الجمعة وعمر يتحدث للناس، فيقول عمرأيها الناس! ما رأيكم إن رأيتم فِيَّ اعوجاجاً، فيقوم الأعرابي فيسل سيفه، ويقول: يا أمير المؤمنين! والذي نفسي بيده! لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا، فيتبسم الزعيم، ويقول: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر، من لو حاد عن الطريق قوموه إلى الطريق بحد سيوفهم أو كما قال.

استدعى الأمير، وقال له: ما قولك:

لعل أمير المؤمنين يسوءه >>>>>تنادنا بالجوسق المتهدم

الحد عليك، وقد ساءني والله، قال: يا أمير المؤمنين! لا تعجل علي، والله ما شربت الخمر، وإنَّما قال الله عز وجل: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226] قال عمر: أما الحد فقد أسْقَطَتْهُ عنك بهذه الآية، ولكن والله لا تلي لي عملاً، ثم عزله.

وكانعمر ينشد هذه الأبيات، -كما قال أهل التاريخ- ويستأنس بها؛ لأنها جميلة ورائعة، فما جعل ما فيها من خدش يسكت عمر أن ينشدها لجمالها، بل هو العاطفة والأدب والرقة رضي الله عنه وأرضاه.

دور الشعر الإسلامي في النكبات

يستمر الحال، وتتوالى النكبات على المؤمنين، فيعيش الشعراء مع النكبة يصورونها، لا يعيشون تحت الأرض والأمة تعيش فوق الثريا، فهم لا يعيشون في البر والأمة تعيش في البحر، ولا يضحكون مع لعبات البلوت والكيرم والأمة تُسحقُ جماجمُها بدبابات الغزاة.

أبو تمام والمعتصم

استشار المعتصم المنجمين: ما رأيكم في فتح عمورية؟

فقال المنجمون: العقرب نزل في كوكب الذنب ولا نصر في هذه الفترة، فقال: آمنت بالله وكفرت بكم، ثم جهز جيشاً عرمرماً.

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت>>>>>جلودهم قبل نضج التين والعنب

وتوجه على بركة الله، ولما انتصر عاد ليسمع ماذا يقول شاعر الإسلام أبو تمام وهو يسجل عمورية بأبدع ما يقال، فافتتح بين يدي المعتصم هذا الرجل العملاق الذي نصر المرأة المسلمة التي لُطِمَت هناك، وقالت: وا معتصماه! ولكنها تردد اليوم في أفغانستان بالآلاف، وفي فلسطين، ولكن لا معتصم، ولا متوكل، ولا طارق، ولا صلاح الدين.

رب وامعتصماه انطلقت>>>>>ملء أفواه الصبايا اليتمِ

لامست أسماعهم لكنها>>>>>لم تلامس نخوة المعتصمِ

قال:

السيف أصدق إنباءً من الكتب >>>>>في حده الحد بين الجد واللعب

ثم ضحك على المنجمين، وقال: أين فتواكم الرخيصة؟ أين العمالة؟ أين الكذب على الله وعلى الدين وعلى الرسالة؟ أما انتصر؟ أما ذَبح الأبطال؟ أما مزق أديم الكماه؟

فالنصر في شهب الأرماح لامعة >>>>>بين الخمسين لا في السبعة الشهبِ

هذا هو النصر، ثم قال بروحٍ إسلامية:

رمى بك الله جنبيها فحطمها>>>>>ولو رمى بك غير الله لم يصبِ

الله الذي رمى بك أيها المعتصم؛ لأنك ساجدٌ لله، ما كنت بعثياً ولا علمانياً ولا ناصرياً ولا ماركسياً، وإنما كنت حنيفاً مسلماً: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

رمى بك الله جنبيها فحطمها>>>>>ولو رمى بك غير الله لم يصبِ

ثم يثني عليه بالإيمان، ويقول:

تدبير معتصم بالله منتقم>>>>>لله مرتقب في الله مرتغب

ويسجل الإسلام لـأبي تمام قصيدته الرائعة الإسلامية البديعة التي حملت روح الإسلام، وإنَّا لفي حاجة إلى شاعر في النكبات ينشد مبادئنا، ويمسح جراحنا، ويكفكف دموعنا، ويقيلنا من العثرة، لسنا بحاجة إلى أدب يصف القائد ولا سيارته ولا شارته ولا طابوره، ولا يتهجم تهجم الحطيئة على أعدائه، إن هذا الأدب سوف يموت، وبالفعل مات قبل أيام، وما كتب اليوم يموت غداً.

المتنبي وسيف الدولة

وتستمر القافلة، وتأتي نكبات لنا وعلينا، ويأتي شاعـر الدنيا أبو الطيب المتنبي - ولولاه لَمَا ذُكِر سيف الدولة - فيقف مع سيف الدولة بالوغى، ويحشد معه بقوافيه، ويمجده تمجيداً رائعاً، ينتصر في معركة - في شمال الروم - أمام الروم، فيقف أبو الطيب المتنبي فيحيي سيف الدولة القائد قائلاً:

وقفت وما في الموت شكٌ لواقف >>>>>كأنك في جفن الردى وهو نائمُ

أي شجاعة مثل شجاعتك؟

ومَن ينام في عين الأسد؟

ومن الذي يخصي الأسد؟

أنت في قلة قليلة تبارز قوة الروم (الصليبية العالمية) وأنت وحيدٌ! مَن يفعل فعلك؟!

وقفت وما في الموت شكٌ لواقف >>>>>كأنك في جفن الردى وهو نائمُ

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة >>>>>ووجهك وضاح وثغرك باسمُ

من يضحك إلا أنت في المعمعة؟ من الذي يتبسم والسيوف تقصف الرءوس إلا أنت؟

ثم يتذكر أبو الطيب الإسلام، ولو أن عليه ملاحظات كما يقول ابن تيمية وابن القيم فيقول:

وما كنت قرناً هازماً لقرينه>>>>>ولكنه التوحيد للكفر هازمُ

أنت فقط ما قتلتَ رجلاً واحداً، إنما انتصرتَ للمبادئ، إنما (لا إله إلا الله) غَلَبَتْ (لا إله والحياة مادة) إنما بيت:

نحن الذين بايعوا محمدا >>>>>على الجهاد ما بقينا أبدا

غَلَبَ:

آمنت بـالبعث رباً لا شريك له >>>>>وبالعروبة ديناً ما له ثانِ

إذاً هو التوحيد، والمتنبي يبكي عيون الناس.

يقولون: إن الصاحب بن عبَّاد غضب على المتنبي؛ لأنه لم يمدحه أبداً، وقد رفض لأنه لا يمدح إلا الملوك (الحجم الكبير) وقد حاول فيه واسترضاه فرفض فقال ابن عبَّاد: لا ينشدني أحدٌ شعراً لـأبي الطيب إلا قتلته، فماتت أخت ابن عبَّاد فأتته ستون رسالة مصدرة ببيتين لـأبي الطيب المتنبي يقول فيها:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ >>>>>فزعت بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً>>>>>شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

قال: لمن هذا؟

قالوا: لـأبي الطيب.

قال: هذا كالشمس انتشر، أنشدوا شعره... أو كما قال.

إن المبادئ الإيمانية ترصع بالأدب، والأدب إذا لم يكن في خدمة مبادئنا، أو في خدمة أي مبدأ كان فلا عبرة به، ولا حياة له، ولا نريده.

الشعر في نكبة الأندلس

تسقط الأندلس، ونصاب بنكبة؛ قلوبنا ودموعنا وأسرارنا وتاريخنا هناك، هل سمعت بنكبة سقوط الأندلس؟ آهٍ يا تلك الأيام! وآهٍ يا تلك المعالم!

بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربا >>>>>وما أحسن المصطاف والمتربعا

بكت عيني اليمنى فلما زجرتها >>>>>عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

دفنا علماءنا في الأندلس وتاريخنا وليالينا وسمرنا وقمرنا ونجومنا، دفنا أشجاننا وعتابنا هناك ثم عدنا بلا مصير.

يا ليلة الجزع هلَّا عدت ثانية>>>>>سقى زمانك هطال من الدِّيَمِ

عسى الله أن يعيدنا إلى الدنيا، يبكي العالَمُ الإسلامي الأندلس، ولكن بكاءهم ناقص في جانب بكاء أبي البقاء الرندي، فاسمع إليه وهو يستفتح قصيدته باكياً متأثراً صارخاً من ألم النكبة التي عاشها الأطفال والنساء، والكيان والدعاة والعلماء، كما يعيش أهل الكويت اليوم، يعيشونها مرارة كمرارة أهل الأندلس.

لكل شيء إذا ما تم نقصانُ>>>>>فلا يغتر بطيب العيش إنسانُ

ويمضي مع القافلة، ثم يقول ونغمته في الإيمان، ومسجده لا يفارقه، ومصحفه في جيبه:

ما ذا التقاطع في الإسلام بينكم>>>>> وأنتم يا عباد الله إخوانُ

لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ >>>>>إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ

من منكم لا يعرف بغداد؟

بغداد الحب والجمال والطموح.

بغداد أرض أحمد بن حنبل، والشافعي، وابن الجوزية، والجيلاني.

بغداد أرض المنصور، والرشيد والمأمون والمعتصم.

بغداد أرض أبي تمام والبحتري وأبي العتاهية تصاب بنكبة التتار، يوم انحرف أهلها في مرحلة عن الصلاة، وعن إقامة الإيمان، وعن لا إله إلا الله، وعن التحاكم إلى شرع الله، وأصبح العلماء في الطابور السادس، وأصبح الأوباش والجواري وباعة القيم والرخصاء في الطابور الأول، أصيبت بنكبة: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً [الطلاق:8-9]. ويبكي الناس ويقوم شاعر فيخاطب بغداد وهي أطلال والدماء تسيل، والأطفال تحت سنابك الخيل، وكُتُبُ دار الحكمة رُمِيَت في نهر دجلة، فيقول:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين>>>>>ألست كنت زماناً قرة العين

أستودع الله قوماً ما ذكرتهم >>>>>إلا تحدر ماء العين من عيني

إنه بكاء، وإنه الأدب الذي يتقطع لوعة وحسرة، وهو الأدب الذي نفقده يوم أصبح الكلام بغير حماس، وبغير إحساس، يخرج لكن من اللسان فهو لا يخرج من القلب.

الشعر وموت العظماء

ومن النكبات المدلهمة -أيها البررة-:

موت العظماء، وقتل النبلاء، يقول ابن دريد:

والناس ألف منهم كواحدٍ >>>>>وواحدٌ كالألف إن أمر عنا

أعظم العظماء محمد صلى الله عليه وسلم

موت بعض الناس موتٌ لأمة، وموت أمة لا يساوي موت واحد، وأعظم العظماء محمد عليه الصلاة والسلام، وأكبر الزعماء وإنسان عين الدنيا رسولنا وحبيبنا عليه الصلاة والسلام، يموت كما يموت الناس: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

وينتقل إلى الله لكن مبادئه لم تنتقل، مليار مسلم اليوم سبَّاباتُهم تشهد أن لا إله إلا الله، وفي عنق كل مسلم يدٌ بيضاء للرسول عليه الصلاة والسلام كما يقول شوقي:

المصلحون أصابعٌ جمعت يداً>>>>>هي أنت بل أنت اليد البيضاءُ

يقول البردوني، أعمى القلب والبصر، شاعر اليمن ولا زال حياً: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].

يقول قصيدةً يحيي فيها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، قصيدة تبكي العيون وتثير في القلب شجون الله أعلم بها من شجون، ويهاجم الطغاة المتمردين على شريعته، فيقول:

بشرى من الغيب ألقت في فم الغار >>>>>وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرارِ

بشرى النبوة طافت كالشذى سحراً >>>>>وأعلنت في الدنا ميلاد أنوارِ

ثم يقول في آخر القصيدة:

نحن اليمانين يا طه تطير بنا >>>>>إلى روابي العلا أرواح أنصارِ

أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا >>>>>جيش الطغاة بجيش منك جرارِ

إذا تذكرتَ عمَّاراً وسيرته >>>>>فافخر بنا إننا أحفاد عمَّار

إنها بديعة، وإنها جزلة، وإنها مؤثرة؛ لكن ربما يخرج الورد من الشوك، مات عليه الصلاة والسلام، ولكن كأن الأمة ماتت يوم موته.

لعمرك ما الرزية فقد مالٍ>>>>>ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ

ولكن الرزية موتُ شهم>>>>>يموت بموته بشرٌ كثيرُ

ويتولى عمر إلى الله ويذهب، ويُرثى بمرثية، ويبكيه شاعر مسلم، وربما نسب هذا إلى الجن؛ لكن دعونا في عالم الإنس حتى يأتينا سندٌ جيد أن الجن قالوه:

جزى الله خيراً من إمامٍ وبارَكَتْ>>>>>يدُ الله في ذاك الأديم الممزقِ

من هو عمر؟

يقول أبو البقاء أحد علماء الأندلس: كُفِّنَت سعادةُ الإسلام في أكفان عمر، كان حاجزاً أو عازلاً لا يخترقه الصوت، فلما قتل دخلت الفتن، وبصبص الأذناب، وتكلم المرتزقة، وتصدر السفلة، لما قُتِل ذهب ذاك اللموع الذي عاشته الأمة الإسلامية؛ فنسأل الله أن يعيد مجدنا كما كنا:

كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها >>>>>وبات يملكنا شعبٌ ملكناهُ

المقصود من هذا: أن الأدب المؤمن الملتزم يحول الأنظار والأفكار، ويحيي الأمة فتعيش مع الأدب رسالة خالدة، وأشجاناً ولوعة وأسى.

محمد بن حميد الطوسي قائد الجيش

محمد بن حميد الطوسي: بطل لم يتجاوز عمره السادسة والثلاثين، قاتل في جيوش المعتصم وكان قائد الجيوش في عهد المعتصم، خرج مع الروم فقاتل من بعد الفجر إلى صلاة المغرب.

يقولون: كان يأخذ السيف فيقاتل به حتى تتكسر شظاياه من على رءوس الأبطال، فيأخذ السيف الآخر، ومع الغروب فتر فاجتمع عليه الكماة فقتلوه، فأتى أبو تمام ليشارك في المصيبة، فسجل قصيدة مبكية في محمد بن حميد الطوسي، لما سمع المعتصم قال: والله ما مات من قيلت فيه هذه القصيدة.

يقول أبو تمام:

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر>>>>>فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ

توفيت الآمال بعد محمد >>>>>وأصبح في شغل عن السفر السفرُ

ثم يقول عن محمد:

ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة >>>>>غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ

تردى ثياب الموت حمراً فما أتى>>>>>لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضرُ

فتىً كلما فاضت عيون قبيلة >>>>>دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكرُ

ثم يقول عنه -حتى لا يُظَن أنه فر من المعركة أو عَجِزَ عن القتال-:

وما مات حتى مات مضرب سيفه>>>>>من الضرب واعتلت عليه القنا السمْرُ

عليك سلام الله وقفاً فإنني>>>>>رأيت الكريم الحر ليس له عمْرُ

ويستمر أبو تمام في هذه الإشادة ويلقيها عند المعتصم، وتسيل دموع المعتصم ويقول: والله ما مات من قيلت فيه هذه القصيدة. فهو ما زال باقياً حياً.

دخل وفد غطفان على عمر فقال عمر: أمنكم أحدٌ من أبناء هرم بن سنان الذي مدحه زهير؟

قال رجل: أنا يا أمير المؤمنين.

قال: ماذا قال فيكم زهير؟ وماذا أعطيتموه؟ قال الابن: مَدَحَنا وأعطيناه مالاً.

قال عمر: ذهب والله ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.

من يستطيع من الشعراء أن يقول كما قال زهير في هرم:

قومٌ أبوهم سنان حين تندبهم >>>>>طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم >>>>>قومٌ بآبائهم أو مجدهم قعدوا

محسَّدون على ما كان من نعم >>>>>لا ينزع الله منه ما لهم حسدوا

إلى آخر ما قال هذا هو الخلود، ولذلك لا زلنا نتناشدها اليوم ونحيا معها. أما أدَبُ:

أنا ذبابة الليمون>>>>>أطير من شجرة إلى شجرة

سيارتي مازدا>>>>>يا سبور أنت سيارتي

عشت في رحلة في الروابي ..... أو كما قال.

يا وانت ونيتها يوم صليت>>>>>وانت غراباً طارداً حمامة

فعلى كل حال! لكلٍ مشارب؛ لكن نريد الخلود والروعة والإبداع أن يتجلى بأدب الأمة، وسوف أعرج على هذا الكلام إن شاء الله.

الوزير ابن بقية ومرثية الأنباري

ابن بقية وزيرٌ عباسي، أطعمَ الناس وكسا العلماء، فحسده عضد الدولة؛ لأنه أخذ عليه الاسم الإعلامي، وأصبح رمزاً دائماً، فالصحف الصباحية تحيي ابن بقية في عهد العباسيين، وتركت السلطان عضد الدولة؛ فأتى عضد الدولة فتربص بهذا الوزير حتى أوقعه في حديقة، وأغلق عليه وأرسل عليه الفيل فركضه حتى مات، وفي الصباح تفاجأت الأمة الإسلامية بهذا الكريم الوزير الباذل التقي، وإذا هو مصلوب عند باب الطاق في بغداد، وقد صُلِبَ جثمانُه على خشبة الصلب، فيأتي أبو الحسن الأنباري أحد العلماء والأدباء العاشقين لـابن بقية فينظر إلى الجثمان، وإذا هو مصلوب فيقول:

علوٌ في الحياة وفي الممات>>>>>بحق أنت إحدى المعجزاتِ

عجيب أمرك حتى في الموت ما يدفنونك في الأرض، دائماً تحب الخلود والعلو، انظر إلى الروعة والإبداع، يقول ابن خلكان: وأجزم جزماً أنه لا توجد مثلها مرثية يقول:

علوٌ في الحياة وفي الممات>>>>>بحق أنت إحدى المعجزاتِ

كأن الناس حولك حين قاموا>>>>>وفود نداك أيام الصِّلاتِ

الناس الذين حول الجذع والجثمان كأنهم يمدون أيديهم لتعطيهم الدنانير في الدنيا.

كأنك قائم فيهم خطيباً>>>>>وهم وقفوا قياماً للصلاة

مددت يديك نحوهم احتفاء>>>>>كمدهما إليهم بالهباتِ

ثم قال:

ولما ضاق بطن الأرض عن أن>>>>>يواروا فيه تلك المكرمات

أصاروا الجو قبرك واستعاضوا >>>>>عن الأكفان ثوب السافياتِ

يقول: ضاقت الأرض أن تواري مكارمك ولموعك وسطوعك وكرمك، فجعلوك في الجو، إلى آخر تلك القصيدة البديعة.

من أشعار النكبات

أصابت مصر هزة أرضية بالذنوب والخطايا، فنحن لا نقول كما يقول الطبائعيون الماديون: قشرة أرضية انكسرت، نعم. ولكن من الذي كسرها:

تقضون والفلك المسير سائرٌ>>>>>وتقدرون فتضحك الأقدار

من الذي يبدي ويعيد، ويعز ويذل، ويخلع ويعزل، ويقوي ويضعف، ويعطي ويمنع؟

إنه الله.

هز مصر في عهد الفاطميين زلزال، فخاف الخليفة الفاطمي وقيل الحاكم بأمر الله وقيل ابنه- من هذه الهزة، فأتاه العلماء، وقالوا: احذر من سخط الله، هذه بسبب الذنوب، فحاول أن يتوب، فدخل عليه شاعر، وقال: لا ليست بالذنوب.

ما زُلْزِلَت مصر من كيدٍ ألمَّ بها >>>>>لكنها رقصت من عدلكم طربا

يا سلام على الخيبة! وعلى قلة الحياء من الله! وعلى قلة المبادئ!

شاعر الأندلس الحسن الذي ذكره الذهبي وترجم له، ثم فضحه في آخر الترجمة، يقول: مبدع! لكنه كلب دخل على السلطان، يقول:

ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ >>>>>فاحكم فأنت الواحد القهارُ

فعلمه الله مَن هو الواحد القهار! أصابه مرض عضال حتى كان يتقلب على فراشه، ويقول:

أبعين مفتقرٍ إليك نظرت لي>>>>>فأهنتني وقذفتني من حالق

لستَ الملوم أنا الملومُ لأنني>>>>>علقت آمالي بغير الخالقِ

الأدب الذي يجعل من السفاك حليماً حكيماً، ومن المجرم عبقرياً فاتحاً: يا درة الزمان! يا فاتح الدنيا! يا بركة الوقت! بوجودك سالت الأمطار، وكثرت الأشجار، ورخصت الأسعار، وبردت درجات الحرارة.

فيقولون: إنه لما سمع عضد الدولة -وكان فتاكاً- بما قيل في ابن بقية، وكذلك ما قيل في الديلمي الذي مدحه أبو الطيب المتنبي بقصيدته الرائعة التي يقول فيها:

فداً لك من يقصر عن فداكا >>>>>فما ملك إذاً إلا فداكا

إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٌ>>>>>تبين من بكى ممن تباكا

يقولون: يقول عضد الدولة: والله الذي لا إله إلا هو لوددتُ أني قُتِلْتُ وصُلِبتُ وقيلَتْ فيَّ هذه القصيدة، فما دام المسألة مسألة مجد وشهرة وددت أنها قيلت فيَّ (علو في الحياة وفي الممات).

نكبة ابن عبَّاد الأندلسي

ويُنكب المعتمد ابن عبَّاد سلطان الأندلس، وقد غلب عليه الترف، وغلب انحرافه عن الجادة، وكثَّر الجواري في بيته، والدفوف والطنابير، والعزف على الموسيقى، وسماع الغناء الغربي من غناء الإفرنجة، والكأس بعد الثانية ليلاً، فأراد الله أن يؤدبه فاستنجد بـابن تاشفين في تونس ليجيره، فدخل بجيش جرار، ظاهره من قبله الرحمة وباطنه من قبله العذاب!!

دخل بجيش موحد فلما نصره الله على الغزاة في الأندلس أنزله ابن عبَّاد يضيفه في الحدائق والقصور والدور ويرحب به ويكرم فخامته على هذا النصر، وكان ابن تاشفين كالأسد ينظر في مداخل المدينة وفي مخارجها ومتى يستولي، وبعد ثلاثة أيام هجم على ابن عبَّاد وقيده، وسَلَب مُلكه، وأخذ دوره، ودمر قصوره، وعاث في حدائقه، ونقله إلى أغمات محبوساً، لقد كان شجاعاً ابن عباد، ولكنه إذا نزل القدر عمي البصر.

أي يومي من الموت أفر >>>>>يوم لا قدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا أرهبه >>>>>وإذا ما جاء لا يغني الحذر

وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ [إبراهيم:45].

تقلد ابن تاشفين زمام الحكم، وادعى أن أهل الأندلس استنجدوا به، وأنه يريد أن يقيم حكومة ليبرالية في الأندلس بدل ابن عبَّاد، وأن ابن عبَّاد كان ديكتاتورياً مستبداً ظالماً، فمرت الأيام وإذا ببنات ابن عبَّاد يصلنه في السجن حافيات باكيات كسيفات جائعات، فيبكي عند الباب، ويودع البنات وقلبه يتقطع، وهو يقول:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا>>>>>فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعةً>>>>>يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

ما هذه الحياة؟!

برزن نحوك للتسليم خاشعة >>>>>أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية >>>>>كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا

إلى آخر ما قال، وهي بديعة أبكت الناس.

ابن اللبانة شاعر الأندلس زار ابن عبَّاد في أغمات؛ فأدخل عليه في السجن، فلما رآه يقول: رأى عليه كساء بلا إزار، فبكى ابن اللبانة بكاءاً عظيماً، ثم قال:

تنشَّق رياحين السلام فإنمــا>>>>>أخض بها مسكاً عليك مختما

وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة>>>>>فقد كنت ذا نعم وقد كنت منعما

ثم يقول:

بكاك الحيا والريح شقت جيوبها>>>>>عليك وناح الرعد باسمك معلما

وهي قصيدة بديعة أوردها الذهبي ومجَّدها، وعلى كل حال إنما هذه نتيجة الصدوف، والمقصود: كيف عاش هذا الأدب الحي؟ وكيف أحيا في هذه الأمة الروح؟ رثى نفسه، ورثى حياته، ورثى بناته، وأتاه الشاعر يسليه بقصيدة معه وأبكاه، وبكت الأمة مع ابن عبَّاد ولو لا هذه القصائد ما سمعنا بـابن تاشفين ولا بـابن عبَّاد.

من مرثيات متمم بن نويرة في أخيه مالك

روى الترمذي عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها أنها: [[مرت بقبر أخيها عبد الله بن أبي بكر فسلمت عليه وقالت: يا عبد الله! مثلي ومثلك كما قال متمم:

وكنا كندماني جذيمة برهة >>>>>من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

وعشنا بخيرٍ في الحياة وقبلنا >>>>>أصاب المنايا رهط كسرى وتُبَّعا

فلما تفرقنا كأني ومالكاً ً>>>>>لطول اجتماعٍ لم نبت ليلة معا

ثم بكت وأودعت، هذه الأبيات تكتب بماء الذهب.

سمع عمر الأبيات فبكى، وقال: [[يا متمم! والذي نفسه بيده لوددت أني شاعر، فوالله ما هبت الصبا من نجد إلا جاءتني بريح زيد.

يا متمم! إن زيداً أسلم قبلي وهاجر قبلي وقُتل قبلي]] ثم بكى عمر.

يقول: يا ليتني أجيد الشعر! يا ليتني أعرف صنع القصائد لأرثي أخي زيداً الذي قُتل في اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب، هذا متمم سطر لأخيه مالك قصائد تبكي القلوب قبل العيون يقول:

لعمري لقد لام الحبيب على البُكا >>>>>رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكي كل قبرٍ رأيته>>>>>لقبر ثوى بين اللوى في الدكادك

فقلت له إن الشجى يبعث الشجى >>>>>فدعني فهذا كله قبر مالك

إلى آخر ما قال.

وما زلنا الآن بعد خمسة عشر قرناً نتأثر به ونتوج به خطبنا، وأمسياتنا وندواتنا، أما شعر الأسمنت ودرجات الحرارة، والصيدليات المناوبة، وشعر البطيخ والكوسة، والأسعار، والمحيطات، والجغرافيا، والعواصم، فإنه يموت سريعاً حتى ربما ينظر إليه بنظرة فإذا رأيت المطلع، قلت: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق).

ابن زيدون يبكي الأندلس أسرة في الأندلس، أما ابن جهور أو بني الأحمر فنُكِبوا نكبة ما بعدها نكبة.

أتى ابن زيدون وسلم عليهم في السجن، وقدم لهم أعظم هدية أنه عزاهم فقال:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر >>>>>فما البكاء على الأشباح والصور

أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة>>>>>عن نومة بين ناب الليث والظفر

إلى آخر ما قال وفيها شريط مسجل لأحد الأدباء شرحها شرحاً وافياً، وعلى كلٍّ فقد ذكرهم بالله في آخر القصيدة، وهذا هو الفرق بين الشاعر الملتزم المؤمن المصلي، وبين الشاعر المجرم المنحرف.

نكبة البرامكة

إن من أعظم النكبات في التاريخ نكبة البرامكة، وقيلت فيهم قصائد تربوا على العشرين قصيدة يقول يحيى بن خالد البرمكي حين أُدخل السجن ومكث فيه سبع سنوات لا يرى الشمس وقتل أبناؤه جميعاً، ودخل عليه أحد الناس بعد النعيم الذي كان فيه البرامكة في عهد هارون الرشيد، فقد كانوا في نعيم لا يعلمه إلا الله، وقد بلغ فيهم الترف أنهم يموهون القصور بماء الذهب، مثلما فعل شاه إيران يقولون: كان السيفون عندهم في دورة المياه من ذهب، بطرت معيشتها: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16].

أصبح الكافر -الآن- يسير النعمة لمبادئه وماديته أعظم مما يفعل كثيرٌ من المسلمين في تبديد الثروات والأموال، يدخل هذا الرجل على البرمكي، فيقول: يا يحيى! ما هذا بعد النعيم؟

قال: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.

لا إله إلا الله! يقول أحد أهل العلم: أسأل الله أن يغفر له في هذه الكلمة: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.

سجن المهدي أبا نواس في السجن، فأرسل له قصيدة يقول فيها:

أما والله إن الظلم شؤمٌ >>>>>وما زال المشوم هو الظلوم

إلى ديان يوم الحشر نمضي >>>>>وعند الله تجتمع الخصوم

فبكى وأطلقه.

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52] استبداد، ونكاية بالشعوب، وقتل للصوت الحر، وعدم سماع الرأي الآخر، وقتل الإرادات، وتحطيم المبادئ باسم الحكمة، فالبرامكة فعلوا ذلك ولكن هذا الرجل نسأل الله أن يغفر له حين قال هذه الكلمة.

قيل لـعلي بن أبي طالب: [[كم بين العرش والتراب؟ قال: دعوة مستجابة]].

من أشعار المعاصرين في النكبات

نكبة فلسطين

يُنكب المسلمون في فلسطين نكبة دامية لم يسمع التاريخ بمثلها، ولا زلنا الآن نعيش النكبة أربعين سنة، ومعاملات فلسطين في هيئة الأمم لا يحملها ثلاثة حمير، كل يوم شكوى، والعرب إذا شكوا إسرائيل، يقولون: دولة توسعية لها نوايا سيئة في المنطقة -الغيبة حرام- أإسرائيل لها نوايا توسعية؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].

واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا >>>>>نضجاً وقد عصر الزيتون والعنبُ

لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم >>>>>هوى إلى بابك الخرمي ينتسبُ

إذا تبدت لنا الميراج تقذفنا >>>>>سعت لتسقطها الصيحات والخطب

شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها >>>>>الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا

يقول موشي ديان في مذكراته الحكم والسيف من أراد أن ينتصر فليقاتل العرب، قلنا له: نعم يا مجرم، قاتلك عرب وما قاتلك مسلمون، وإلا لو كان صلاح الدين وخالد وطارق لكنت رأيت.

يقول المجرم نزار قباني -لا حياه الله ولا بياه- وإنما أستشهد بشعره استشهاداً، وأقول: إذا رأيته فابرُك على صدره وتعوذ بالله من الشيطان، وأنا أوصيكم ألا تدخلوا نتاجه، فإنه عقيم ومسموم، وقد حادَّ الله وسب رب العزة والجلال، ورأيت له قصيدة تقطع القلوب، لكنه أبدع في هذه القصيدة، يرثي جمالاً المجرم -جمعه الله به على يساره في جهنم- يقول:

نساء فلسطين تكحلن بالأسى>>>>>وفي بيت لحم قاصرات وقصر

وليمون يافا يابسٌ في حقوله >>>>>هل شجرٌ في قبضة الظلم يثمر

رفيق صلاح الدين هل لك عودة >>>>>فإن جيوش الروم تنهى وتأمر

رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم>>>>>وجيشك في حطين صلوا وكبروا

تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ

تناديك من شوقٍ مآذنُ مكة >>>>>وتبكيك بدر يا حبيب وخيبر

تعال إلينا فالمروءات أقفرت >>>>>وموطن آبائي زجاجٌ مكسر

يطاردنا كالموت ألف خليفة >>>>>ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر

حقيقة أبدع!! ولكنا لا نقبله؛ لأنه يعيش بلا مبدأ، يعيش بلا إيمان، ولا يعرف المسجد، فهو متخلفٌ زنديق، عدوٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، نمقته ونشهد الله على بغضه، ونسأل الله أن ينصفنا ورسالتنا ورسولنا وقرآننا منه، يقول في مقطوعة أخرى:

دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي >>>>>أشكو العروبة أم أشكو لك العربا

أدمت سياط حزيران ظهورهم >>>>>فقبلوها وباسوا كف من ضربا

وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا >>>>>متى البنادق كانت تسكن الكتبا

وإني أحيي -بالمناسبة- فضيلة الدكتور زاهر بن عواض الألمعي، فهو من شعراء الصحوة الإسلامية ومن روادها، وقد أتحفنا بحضوره، وأنا أقول هذا من باب أن نقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت، وسبق تحية الشيخ عبد الله بن إدريس ومعي مقطوعات العشماوي وسوف أوردها، وعسى الله أن يكثر من الصف الإسلامي أحبابنا وإخواننا أهل الطهر والوضوء والسجود والقرآن والسنة نحييهم. يقول في أطفال الحجارة:

طفلٌ صغيرٌ والمدافع حوله >>>>>مبهورة والغاصبون تبرموا

في كفه حجرٌ وتحت حذائه >>>>>حجر ووجه عدوه متورم

من أنت يا هذا ودحرج نظرة >>>>>نحوي لها معنى وراح يتمتم

أنا من ربوع القدس طفلٌ فارسٌ >>>>>أنا مؤمنٌ بمبادئي أنا مسلمُ

سكت الرصاص فيا حجارة حدثي >>>>>أن العقيدة قوة لا تهزم

إلى آخر ما قال.

نكبة الكويت

وتُنكب الكويت ويدخل صدَّام، ويتمزق الأطفال، وتُسحق الشريعة، ويُكفَر بالله، ويتجمع العالم فيندد به، فما هي آثارها في أدبنا وفي شعرنا؟

قام كثيرٌ من الشعراء إلى صدَّام الذي زكوه بالأمس، وأثنوا عليه، ونادوه يا فاتح الدنيا! ويا رمز النصر! ويا إله الخلود!! بل شاعرة كانت تناديه بـ(يا إله المجد)!! وكانت تقول: الآخرون سكارى يصيدون الحبارى، وكان كثير منهم يبوس كف المجرم وما علموا، وقد علموا أنه قتل الأكراد أجداد صلاح الدين، واكتشفوا فيما بعد أنه عميل، وإلا قد زكوه وطهروه وأثنوا عليه، ومصيبة الكويت أرسلتُ فيها رسالة:

كتبتها بدموعي قبل أرسلها >>>>>وصغتها من دمي روحاً وريحانا

ماذا أقول وجرحي من جراحكم>>>>>فما أصابكم والله أبكانا

وتصاب الكويت فلا يجدون لهم إخوة إلا نحن وأمثالنا، نقولها ولا فخر: إخاء الدين ونسب العقيدة، ورسالة لا إله إلا الله، ويأتون إلينا فنواسيهم والفضل لله، ونحييهم والمنة لله، ونعانقهم والخير خير الله:

ألهفي لشعبٍ بات في خير نعمة>>>>>وأصبح في هولٍ من الليل يمرج

سيصغي له من عالم الغيب ناصرٌ>>>>>ولله أوسٌ آخرون وخزرج

وتستمر المسيرة، ويأتي أدبه ليشيد بمبادئه ويعيش معه، وزولا، شاعر فرنسا كان يعيش مبادئ ديقول لحظة بلحظة، وحاييم ناتشمان أيضاً، شاعر اليهود.

تقول جولد مائير في مذكراتها (ص: 68): إن هذا الشاعر ما حاد عن المبادئ حتى في حرب (1967م) أرادوا أن يدخل بأشياء وبعدها في الصلح، ولكن كان ينادي أن تكون دولة إسرائيل من خيبر إلى حيفا ويافا، فهو شاعر مبادئ.

يقول شاعر مبادئ البعث:

هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة>>>>>وسيروا بجثماني على دين برهم

ألا أهلاً بكفر يؤلف بيننا >>>>>وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

بلادك قدمها على كل ملة >>>>>ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم

وعلم البعث الذي سارت به الطوابير يقول:

آمنت بـالبعث رباً لا شريك له >>>>>وبالعروبة ديناً ما له ثاني

لكن قد اكتشفنا صدَّام في آخر الليل أنه كان مجرماً، عجباً! كيف اتخذناك صديقاً؟ وحسبناك أخاً براً شقيقاً؟! أليس بكافرٍ قبل الغزو؟! أليس بعدوٍ لله؟! أما داس المصحف؟! أما قتل الأبرياء؟! أما كان نجساً؟! لماذا تذبذبنا في المواقف؟ متى كان صدَّام صديقاً لنا؟ متى كان باراً رشيداً شقيقاً قريباً؟

والله إنه من أبعد البعداء، وقد اكتشفنا أنه كان عميلاً لإسرائيل، وأنه كان يكلمها في الخفاء، ويسالمها في الدجنة، ولكن هكذا يفعل الأدب، ولو صالحنا صدَّام، والله الذي لا إله إلا هو لظهرت أقلامٌ وأدباء كانوا يذمونه، فمدحوه، وقالوا: يا فاتح المشرق والمغرب.

وأنا أحفظ نماذج لكني أستعفيكم من ذكرها إبقاء على القلوب أن تُخدش، علَّ الله أن يتوب عليهم إلى المبدأ المسلم، فالأدب يسير بمبدأ (لا إله إلا الله) فهي تنطلق من رسالة, أما أدب الهواية فهذا الأدب كجمع الطوابع وركوب الخيل، وهواية المراسلة، والسفر إلى لندن وباريس، والتزلج على الثلج، فالأدب رسالة، والأدب إيمان، والأدب كلمة يسألك الله عنها، والأدب أن تخدم به هذا الدين وأن تجعله فيما يرضي رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

حدود الشاعر المسلم

يقول الشاعر المسلم وهو يذكر بلاده -لأن الوطنيين الآن قالوا: حدودنا إقليمنا وما غيرها من البلاد فليست لنا، لا. فـبغداد لنا، بغداد أرض المعتصم، وأحمد، والمتوكل، والكويت لنا، وطاشقند لنا، وقرطبة لنا؛ لكن فقدناها لما فقدنا لا إله إلا الله، يقول:

وأين ما ذكر اسم الله في بلدٍ >>>>>عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا >>>>>بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني

هذه بلاد المسلم، وهذه عقيدته، وهذه رسالته:

بلادي كل أرضٍ ضج فيها >>>>>نداء الحق صداحاً مغنى

إذا كابول أعيتها جراحٌ >>>>>ففي صنعاء إخوان المثنى

قصيدة للشيخ عائض بعنوان: (بين الأمس واليوم)

وهنا قصيدة قلتها في هذه الأحداث بعنوان: (بين الأمس واليوم) قلت فيها:

صوتٌ من الغور أم نورٌ من الغار >>>>>أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار

هذه في مدح الرسول عليه الصلاة السلام، وهو أعظم من مدحي، وأقول كما قال أحمد شوقي لما مدح الرسول عليه الصلاة والسلام:

أبا الزهراء قد جاوزت قدري>>>>>بمدحك غير أن لي انتسابا

يقول: أنا تطفلت على جنابك الشريف.

صوتٌ من الغور أم نورٌ من الغار >>>>>أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار

يا عيد عمري ويا فجري ويا أملي >>>>>ويا محبة أعمار وأقطار

تطوي الدياجير مثل الفجر في ألَقٍ >>>>>تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري

الشمس والبدر في كفيك لو نزلت >>>>>ما أطفأت فيك ضوء النور والنار

أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة >>>>>يذوب في ساحها مليون جبار

فما لقومي بلا وعيٍ قد انتكسوا >>>>>أصغوا لصيحات عربيدٍ وخمار

ما جاءهم من صلاح الدين موعظة >>>>>فما انجلت عن حماهم وصمة العار

هم الأسود ولكن في حظائرهم >>>>>هم الثعالب عند الفاتك الضار

لهم لموعٌ ولكن لا شموس لهم >>>>>لهم سلاحٌ ولكن غير بتار

جمع الطوابع من أسمى هوايتهم >>>>>أعلى مفاخرهم من يوم ذي قار

الشاربون دماء الجيل في دعة >>>>>الراقصون على ناي وأوتار

الساهرون على كأسٍ وأغنية >>>>>العاكفون على طبلٍ وقيثار

هل حرروا القدس من صهيون أو حضروا >>>>>يوم الوغى وارتدوا أسياف أحرار

هل طهروا المسجد الأقصى وهل طهرت >>>>>أكفهم ويحهم ليسوا بأطهار

هل أعلنوا الحرب إسلاماً وتضحيةً >>>>>هل واصلوا سيل سلمان وعمَّار

تبرأت منهم الأجيال وانسحبت>>>>>جيوشهم وعليها وصمة العار

وطاردتهم جيوش البغي فانحسروا >>>>>يروون ملحمةً للقط والفار

تبكي المنابر منهم كلما هتفوا >>>>>لأن في يدهم سكين جزار

عروبة ليس للإسلام في دمها >>>>>وحيٌ وليس عليها فطرة الباري

عروبة برئت منها جحافلنا >>>>>ما لم تتوج بإيمانٍ وأذكار

أروي حياة رسول الله أبعثها >>>>>شذاً تفوح بآمالٍ وأزهار

يخشى إعادتها لصٌ ويحذرها >>>>>نذلٌ تربى على أنغام غدار

لأن مجد رسول الله تذكرة >>>>>على جبين العلا كالكوكب الساري

عدلٌ وفضلٌ وإحسانٌ ومرحمة>>>>>وحيٌ ونورٌ وتخليدٌ لأعمار

يغرد المجد في بستان شرعته >>>>>في هيبة النور لا تغريد أطيار

أصحابه عبروا التاريخ وانتصروا >>>>>وحدثوا طلعة الدنيا بأسرار

في قندهار دماء من عروقهم >>>>>تكفي طموحاً لمهزومٍ ومُنهار

سل نخل بيسان والحمراء ما فعلوا >>>>>اقرأ مكارمهم يا أيها القاري

ثم اكتفينا بآمالٍ وفلسفة >>>>>نيل العجائز أو أخبار سُمَّار

عاش الفريق ولا ذلٌ يفارقه >>>>>تيجان أوهام لا تيجان أحرار

عاش اللواء وكم قد باع ألوية >>>>>قالوا عقيد ولا عقدٌ لختار

فن الهزيمة سهلٌ كم تعلمه >>>>>جيش الموسيقى بطبلاتٍ وأزيار

أبكي وأضحك من أفعال صبوتهم >>>>>يا ألف صدَّام بل يا ألف عمَّار

شادوا الدنانير هالات مزخرفة >>>>>جمَّاعُها لا يساوي ربع دينار

يبيع قيمته بالرخص من سفهٍ >>>>>والدين ينهار منه في شفاً هار

دروسٌ من هذه النكبة في عالم الأدب، النكبة التي حلت بشعب الكويت حلت بكل مسلم، أمن وسكينة وهدوء في الليل وفي الصباح دمار.

يا راقد الليل مسروراً بأوله >>>>>إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

هذا بشار يقول: يا نائم على الأغنية والموسيقى ربما تصحو على دبابة ومن يدريك!

أليس الصبح بقريب؟! وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

يقول عبد الله بن المبارك الزاهد العابد الولي أمير المؤمنين في الحديث: قصيدة عدي بن زيد خيرٌ عندي من قصر طاهر بن الحسين.

وطاهر بن الحسين أمير عباسي كان في خراسان له قصرٌ عجيب، لكن القصيدة التي يقول فيها عدي بن زيد والتي ذكرها ابن كثير وابن خلكان وأثنوا عليها ثناءً حسناً يقول:

أيها الشامت المعير بالدهـ >>>>>ـر أأنت المبرأ الموفورُ

يا من يعرينا بالمصايب! يا من يعيرنا بالنكبات! أتظن أنك سوف تسلم: وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ [إبراهيم:45] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27].

يقول عدي:

أين كسرى كسرى الملوك أنوشروان >>>>>أم أين قبله سابور

إلى آخر ما قال عدي بن زيد، وهو جاهلي لكن ما كان يشرب الخمر، نزل مع النعمان بن المنذر في نزهة، فقال: أبيت اللعن، هل تسمح لي بالكلام؟

قال: تكلم، قال: هل تدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك؟

قال: ما أدري! وهل يتكلم الشجر؟

قال: تقول:

رب ركبٍ قد أناخو حولنا >>>>>يخلطون الماء بالخمر الزلال

قد مضوا حيناً وساروا زمناً >>>>>وساروا جثثاً تحت الرمال

فبكى النعمان ورفع الخمر، فهذا نذير أمة، يقول: يا نعمان! لا تضيع حياتك في الخمر، فهذه الشجرة تخبرك أن قبلك ملوك سكنوا وجلسوا هنا، وضحكوا وشربوا لكن ذهبوا.

ما يستفاد من النكبات

يقول صاحب كليلة ودمنة، عبد الله بن المقفع: أرسل الأسدُ الحيوانات تجمع له صيداً، فأتت بغزال وأرنبٍ وظبي، قال: من يقسم بيننا؟

فأتى الذئب -الذئب دائماً فيه عجلة سامحه الله- فقال: أنا، قال: تفضل يا أبا حسل -وقيل: أنها كنية الضب- قال: أما الأرنب فللثعلب أبي معاوية، وأما الظبي فلي، وأما الغزال فلك، فالغزال أكبرها، فغضب الأسد ومد ذراعه فخلع رأس الذئب فإذا هو ميت، قال: من يقسم؟

قال أبو معاوية الثعلب: أنا، قال: تفضل، قال: أما الأرنب ففطورٌ لك، وأما الظبي فغداء لك، وأما الغزال فعشاء، لك قال: أحسنت، بارك الله فيك، من علمك هذه الحكمة؟ قال: رأس الذئب المخلوع.

عدم الوقوع في نفس المشكلة بتفادي الأسباب

ومقصود صاحب كليلة ودمنة أنه يخاطب السادة، يقول: اعتبروا بما حل بجيرانكم قبل أن يحل بكم، ورأس الذئب المخلوع درسٌ عظيمٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

إياك أعني واسمعي يا جارة!!

يقول ابن القيم: نزل أعرابي يسأل عن بعير له ضاع، قال: مَن القوم؟

قالوا: بنو سعد، فارتحل إلى الوادي الآخر، قال: مَن القوم؟

قالوا: بنو سعد، فارتحل إلى الوادي الثالث، قال: مَن القوم؟

قالوا: بنو سعد، قال: في كل وادٍ بنو سعد! فصارت مثلاً.

والمعنى: في كل دارٍ مصيبة.

وهكذا فعل الله بالأيام وبالساعات وبالحوادث، والمقصود هو: سرعة تغير الحال، فليس عندنا عهد من الله، فالعهد الذي بيننا وبين الله أن نطيعه ونتولاه وننصر دينه.

أرسل عمر إلى القادسية سعد بن وهيب، فقال: [[يا سعد بن مالك بن وهيب -لم ينسبه لـأبي وقاص-: لا يغرنك قول الناس: إنك خال رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله ليس بينه وبين أحدٍ من خلقه نسب؛ فإن أحبهم إلى الله أتقاهم]] وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] متى كانت الشعارات الكاذبة تبرئة لأصحابها؟

متى كان المجرم الذي يَلِغ في الدم ولياً لله؟

متى كان المتكلم أمام الجماهير بالعدالة وهو ظالم قريباً من الله؟

هذا المجرم يدعي حماية المقدسات والشريعة والإسلام والجهاد وأمثاله كثير: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18].

الاستفادة من المصيبة في إصلاح الأحوال

دريد بن الصمة أوصى قومه فقال لهم: أرى ألا تتوقفوا هنا لقسمة الغنائم، فإن العدو مقبل، قالوا: لا يوجد عدو، وأصروا على الاقتسام هناك، فداهمهم العدو واجتاحهم، وقَتل منهم من قَتل، فيقول دريد:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى >>>>>فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ

فقلتُ لهم ظنوا بجيش مدجج>>>>>سراتهم في الفارسي المسرَّدِ

قال: سوف يصبحكم جيشاً عرمرماً، يلبس الفارس والقائد منهم البازوك والكلاش نكوف وغيرها -من سلاح زمانهم- لكن ما أطاعوه، قالوا: أنت مهلوس، وفي الصباح اجتاحهم، قال:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت >>>>>غويت وإن ترشد غزيةُ أرشدِ

وهذا منطقٌ جاهلي: لا. أنا لست من الضالين، وأنت لا تقل في الدنيا: نفسي نفسي، أنت مسئول أن تصلح وأن تدعو، وتوجه وتأمر وتنهى، ثم تتبرأ من أعداء الله، أما أن تكون مع الأمة ومع الرأي العام ومع الجماهير فهذا ليس مبدأً إسلامياً، بل هو خطأ.

الاستعداد وترك التَّرَفُّه

استفدنا من هذه النكبة: أن علينا أن نستعد وأن نترك التَّرَفُّه، والشهيق والزفير، وحمامات السباحة، ومطاردة الحمام، والتزلج على الثلج، وبيع الأوقات الغالية في البلوت والكيرم، والأغاني الساقطة، فلن يبقى معنا إلا مبادئنا وإرادتنا ورجولتنا، تقول أم الملك الأندلسي حين ضيع ملكه:

ابكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً >>>>>لم تحافظ عليه مثل الرجالِ

أنت الذي ضيَّع مجده ومبادئه وخلوده.

ذكر ابن كثير: أن معاوية بن أبي سفيان حضر صفين فخرج علي بن أبي طالب وتعرفون من هو علي أشهر ما فيه أنه حيدرة الأسد يقول:

أنا الذي سَّمتني أمي حيدره

كَلَيْثِ غاباتٍ كريه المنظره

أكيلكم بالسيف كيل السندره

كان إذا خرج الأبطال وضعوا الدروع في الأرض علامة: (خطر ممنوع الاقتراب!!) أخرج السيف يوم صفين وقال: [[مَن يبارز؟ قال المسلمون: بارز أنت يا معاوية، قال والله لا أقدر عليه، ثم ردها على عمرو بن العاص، وقال: يا عمرو بن العاص! بارز الرجل، قال: لا أريد، قال: عزمت عليك أن تبارزه، فخرج عمرو، فلما رأى علياً وضع درعه وسيفه، قال: (مكرهٌ أخاك لا بطل!!) وبدأت المعركة وفر معاوية، ولما وقف في الصحراء تذكر ابياتابن الإطنابة الحجازي، الرائعة الجميلة التي حثَّته على حفظ المبادئ وحفظ أصالته ورجولته وإيمانه.

يقول ابن الإطنابة الحجازي وهو جاهلي أراد أن يفر لكن أبى عار الفرار قال:

أبت لي عفتي وأبى حيائي >>>>>وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإقدامي على المكروه نفسي >>>>>وضربي هامة الرجل السميح

وقولي كلما جشأت وجاشت >>>>>مكانك تحمدي أو تستريحي

ذكرها معاوية فعاد إلى المعركة وانتصر بآخر المطاف]] والمقصود أن أهل المبادئ ولو كانوا أهل جاهلية يثبتون على مبادئهم، فالنار نار، والموت موت.

لبَّث قليلاً يشهد الهيجا جمل>>>>>لا بأس بالموت إذا حان الأجل

أما التلوي، وتضييع الوقت، فليس من دأبنا.

النكبات تربي الرجال

إن هذه النكبة علمتنا أن علينا أن نكون رجالاً، وأن نعد للموقف عدته، وأن نحفظ عهد الله، وأن نسير أمورنا على منهج: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فالشعر خالد، والأدب إذا وجه بهذه الوجهة الصحيحة أصبح أدباً رائداً، أمَا تعرف أن الجاهلي يتحول من بخيل إلى كريم بسبب أبيات؟

يقولون عن المحلَّق إنه كان أبخل العرب، عنده ثمان بنات نشبن في حلقه لم يتزوجن؛ لأن العرب تعفو عن كل شيء إلا عن بخل البخيل، كُن عند العرب الجاهليين ما كنت: كن مجرماً، كن سكيراً، خماراً، مجرماً، ضائعاً؛ لكن لا تكن بخيلاً! فـالمحلق لم يتقدم إليه رجل يخطب بناته، فهن ثمان، فذهب فشاور امرأته: ما رأيكِ في هؤلاء الثمان البنات؟

قالت: اذهب إلى الأعشى، شاعر العرب وضيفه وأعطه هدية علَّه يمدحك، فيسري مديحه في العرب فيتزوجون بناتك، فذهب فاستدعى الأعشى، وضيفه وذبح له ناقة، وكساه جلباباً، وأعطاه دنانير، وخرج الأعشى ولما ركب الناقة طَرِب وقال:

لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ>>>>>إلى ضوء نارٍ باليفاع تحرق

تشب لمقرورين يصطليانها>>>>>وبات على النار الندى والمحلق

وذهبت هذه الأبيات كالسحر وكالماء وكالضياء حتى بلغت آذان العرب، فقالوا: فما أتى شهرٌ إلا وقد تزوجن بناته جميعاً، الأدب الذي يحول أفكار الناس وأنظارهم.

أبو نعامة قطري بن الفجاءة خارجي حضر المعركة، ولما رأى القوم كادوا أن يفروا تماسك، وقال وهو في المعركة، وأحسنُ الشعر ما كان وقت المعمعات:

أقول لها وقد طارت شعاعاً >>>>>من الأبطال ويحكِ لن تراعي

فإنكِ لو سألتِ بقاء يوم >>>>>على الأجل الذي لكِ لم تطاعِ

فصبراً في مجال الموت صبراً >>>>>فما نيل الخلود بمستطاعِ

إلى آخر ما قال، ثم قُتِل في المعركة، لكن قُتِلَ شريفاً، فإن قتل المرء وهو مقدمٌ صابرٌ محتسبٌ على مبادئه أحسن من أن يؤخذ وهو فارٌ هارب يترك حذاءه وأهله وعرضه، وهذا هو العار.

يقف حسين بن الحمام الجاهلي في المعركة ويقول:

وليس على الأعقاب تدمى كُلومُنا>>>>>ولكن على أقدامنا تقطر الدما

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد>>>>>لنفسي حياة مثل أن أتقدما

يقول: أنا لا أموت إلا مقبلاً، وهذه شارة الإيمان التي علمها الله أولياءه.

الشعر وتخليد المواقف ونزع الأحقاد

صلاح الدين بن أيوب

يوم انتصر صلاح الدين خطب شمس الدين الحلبي الجمعة في بيت المقدس فمدح صلاح الدين.

وذلك أنه لما ترك العرب مبادئهم وتولوا إلى التصفيق والصفير، وترصيع البيوت والمنازل والحدائق، نقل الله الرسالة ومبادئها إلى الأكراد وانتصر صلاح الدين، ودخل يوم الجمعة، وأذن المؤذن في بيت المقدس، فبكى المسلمون جميعاً مما أثاره ذلك الأذان من خلودٍ وذكريات في أذهانهم، قام الخطيب شمس الدين -وكان شاعراً- فابتدأ بحمد الله وأثنى عليه، وذكر النصر، ثم قال لـصلاح الدين:

تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ >>>>>وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن

إلى آخر ما قال، يقول: هذا هو التاريخ والمجد، وهذا هو الجيش، هذا هو اللموع والسطوع، وهذا هو الخلود لك ولأمثالك.

تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ >>>>>وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن

وعاش صلاح الدين في ضمائرنا، وسوف يعيش إن شاء الله، وعسى الله أن يجمعنا به في دار الكرامة.

لـأبي الصلت، والد أمية بن أبي الصلت من أهل الطائف من ثقيف مدحٌ لـسيف بن ذي يزن يقول فيه:

تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ >>>>>شيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا

اجلس بـغمدان عليك التاج مرتفقاً>>>>>في قصر غمدان حالاً دونه حالا

إلى أن أتى إلى هذا البيت.

وأنا أذكر قصة، فأستطرد لذكر المكارم والخلود والمبادئ:

دخل ثلاثة من الشباب على عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد رضي الله عنه وأرضاه، مجدد أمر الأمة الإسلامية وحافظ مبادئها في القرن الأول، فجلس الشباب الثلاثة، فقال للأول: أنتَ ابنُ مَن؟ قال: أنا ابنُ الأمير الذي كان أميراً لـعبد الملك بن مروان على الكوفة.

فماذا تعني هذه عند عمر بن عبد العزيز؟ لا شيء. المؤهلات عند عمر بن عبد العزيز غير هذا، فالنسب عند عمر بن عبد العزيز هو: لا إله إلا الله؛ التقوى، الصلاة، قيام آخر الليل، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، حمل الرسالة، نصرة دين الله، أما ابن أمير أو وزير أو جنرال في حرب (1967م) أو في العدوان الثلاثي، فهذه كلها خزعبلات، فسكت عمر بن عبد العزيز وأشاح بوجهه.

وقال للآخر: وأنتَ ابنُ مَن؟ قال: أنا ابن شريك بن عرباء، الوزير الذي كان عند الوليد فسكت.

وقال للثالث: وأنتَ ابنُ مَن؟ وكان الثالث -ابن أنصاري- ابن قتادة بن النعمان، الذي شارك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، فضُربت عينه بالسيف فنزلت إلى خده فردها المصطفى عليه الصلاة والسلام بيده- فقال:

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه >>>>>فرُدَّت بكف المصطفى أحسن الردِ

إلى آخر القصيدة، فدمعت عين عمر بن عبد العزيز وقال:

تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ >>>>>شيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا

ومعنى البيت يقول: أمية بن أبي الصلت: يا سيف بن ذي يزن! تحريرك العرب من أبرهة وأذناب أبرهة والملاحدة والمرتزقة هذا هو المجد، فما هو مجدنا نحن معشر العرب؟

يخرج الواحد منا من الخيمة بقعبان من لبن في كفه فيعطيها، فنقول: هذا أكرم الناس، هذا هو الكرم؛ لكن أكرم من سيف بن ذي يزن وأحسن منه من ثبت على مبادئه وهو صلاح الدين الأيوبي.

تلك المكارم لا قُعبان من لبنٍ >>>>>وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن

أيها الإخوة الكرام! ومن شعر المبادئ: لماذا كان يقاتل الأشتر؟

تقدم الأشتر إلى محمد بن طلحة بن عبيد الله أحد أبناء الصحابة، فإذا هو سَجَّادٌ ولِيٌّ لله، فأراد قتله، فقال: لا تقتلني، قال الأشتر: ولِمَ لا أقتلك؟ قال: أتقتلون رجلاً يقول: ربي الله، فسل الأشتر سيفه وقتله، ثم لما قتله قال:

وأشعث قوامٍ بآيات ربه >>>>>قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

شققت له بالسيف جيب قميصه >>>>>فخر صريعاً لليدين وللفم

على غير شيء غير أن ليس تابعاً >>>>>علياً ومن لا يتبع الحق يندم

يذكرني (حم) والرمح شاجرٌ >>>>>فهلا تلى (حم) قبل التقدم

قتلته لأنه ما تبع علياً على المبادئ، فأنا أقاتل من أجل أن تنتصر راية علي، إنهم أهل المبادئ.

كعب بن زهير مع النبي صلى الله عليه وسلم

أيها الإخوة! الأدب يُسِّل السخيمة في النكبات، وسوف أجعلها آخر فقرة لتبدأ المداخلات.

غضب الرسول عليه الصلاة والسلام غضباً شديداً، وكان إذا غضب غضب.

وإذا وعدت وفيت فيما قلته>>>>>لا من يكذب فعلها أقوالها

أنت الشجاع إذا لاقيتَ كتيبة >>>>>أدبت في هول الردى أبطالَها

غَضِبَ على كعب بن زهير لأنه هجاه فأهدر دمه في العرب، وذهب كعب في القبائل يمضي النهار، وينام الليل حتى وصل إلى أبي بكر الصديق فقال له: أعندك شيء من الشعر، كما يقول عمر بن الخطاب: [[ الرجل يقدم بين يدي حاجته شيئاً من الشعر]] فأتى في صلاة الفجر وسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذه تروى في السيرة- فقال: يا رسول الله! اسمع مني، قال: قُلْ، فقال:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ >>>>>مُتَيَّمٌ إثرها لم يفْدَ مكبولُ

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ومَن سعاد؟

قال: زوجتي، قال: لم تَبِنْ إذاً، فهي ما زالت معك.

ثم استطرد قائلاً:

إن الرسول لنورٌ يستضاء به >>>>>مهند من سيوف الله مسلولُ

إلى أن قال:

نُبِّئتُ أن رسول الله أوعدني >>>>>والعفو عند رسول الله مأمولُ

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ >>>>>ـقرآن فيها مواعظٌ وتفصيلُ

وسل سخيمته ورضي قلبه عليه الصلاة والسلام وأعطاه بردته، وأطلق قياده وجعله حراً بسبب تلك الأبيات الرائدة التي حملت مبدأً وحباً.

النابغة والنعمان

ويغضب النعمان على النابغة الذبياني ويتوعده، ويأتي النابغة إلى النعمان ويقول له في مجلس محتجب والسيف يكاد يقطر في يد النعمان دماً، يريد أن يفتك بـالنابغة فيقول:

أتاني أبيت اللعن أنك لمتني >>>>>وتلك التي أهتم منها وأنصب

إلى أن يقول:

حلفت فلم أترك لنفسي كريبة وليس وراء الله للمرء مذهبُ

لئن كنت قد بلغت عني وشاية >>>>>لمبلغك الواشي أغش وأكذب

فعفا عنه.

وهذا دور الأدب أن يحول الغضب إلى رضا، ويجعل الناس يغيرون قراراتهم الفاسدة إلى قرارات صحيحة، وأن يوجهوا الأفكار من الخطأ إلى الصواب، وألا ينادي بالاستقرار والاستمرار على الريبة ولسان الحال: (كل شيء على ما يرام) وهو ليس على ما يرام.

الحسن بن هانئ وعلي الرضي

يقول الذهبي كان علي بن موسى الرضا ولي عهد المأمون ممدوحاً عند الشعراء وهو من أحفاد علي بن أبي طالب مدحه الناس إلا الحسن بن هانئ فاستدعاه وقال: [[لماذا هجرتني ولم تمدحني؟ فاعتذر بقصيدة هي من أجمل الأبيات -يقول الأصمعي: أجزم جزماً أنه ما قيل في المديح كهذه الأبيات- يقول الحسن بن هانئ في علي بن موسى الرضا:

قيل لي أنت واحد الناس في >>>>>كل معنى من الكلام بديهي

لك في جوهر الكلام بديعٌ >>>>>يجتنى الدر من يدي مجتنيه

فعلام تركتَ مدح ابن موسى >>>>>بالخصال التي تجمعن فيه

قلت لا أهتدي لمدح إمامٍ >>>>>كان جبريل صاحباً لأبيه

هذا إبداع، يقول ابن هاني: قيل لي: أنتَ واحد الناس معكوسة، لكن الذهبي غيرها فغيرتها معه يقول:

قيل لي: أنت واحد الناس في >>>>>كل معنى من الكلام بديهي

لك في جوهر الكلام بديعٌ >>>>>اجتنى الدر من يدي مجتنيه

فعلام تركتَ مدح ابن موسى >>>>>بالخصال التي تجمعن فيه

قلت: كيف أهتدي لمدح إمامٍ >>>>>كان جبريل خادماً لأبيه

قال الذهبي: ليس بخادم ولكنه صاحب، وهو الصحيح فهذا هو الإبداع، ورضي عنه علي بن موسى وأيده وأصبح شاعراً من شعراء الدعوة.

خاتمة في موضوع الأدب

الشعر النبطي

أيها الكرام: أختتم محاضرتي هذه بأمور:

الأمر الأول: يلاحظ في أدبنا طغيان الشعر النبطي، فأنا أعرف أن للشعر النبطي قراء، ولكن ليس معقولاً أن يوجه الإعلام والصحف كلها للشعر النبطي، وهذا يعني أننا صرنا بَدْواً كلنا، تحولت الأمة إلى شعر نبط.

إن الشعر النبطي الذي في نجد لا يناسب الشعر النبطي الذي في الجنوب ولا الذي في الشمال ولا في الحجاز، لكن الذي يناسب الأمة من شرقها إلى غربها: الشعر العربي الفصيح، شعر القرآن والسنة، فهو الشعر الذي يعيش معنا في ضمائرنا، وهو المفهوم الواضح البيِّن، أما أن نرى كل صحيفة نفتحها فيها عشرات الصفحات بقصائد قيلت في مكان ما، فإن ذلك خسارة من وجهة نظري، ونحن الآن نعيش الرأي شورى، فمَن عنده كلام فليتفضل، وهذا ميدان للمصارعات، وسوف يرى مَن يتقدم ماذا يُقال له.

وأما النتائج التي جنيناها من الشعر النبطي فقد كملت، ومعي بعض الإخوة القائمين على الصحف، وسألناهم عن الإنتاج: أين روعة شعر المتنبي وأبي تمام وزهير ومحمد إقبال وشعراء الدعوة قديماً وحديثاً؟

لماذا يُقَدَّم للأمة شعرٌ فيه كلمات لا يدري هل هي من فعل أمر أو مضارع، أو هي من الحروف؟ وهل هي عربية أو فرنسية أو إنجليزية أو بشتوية؟ فهذا ليس بصحيح، فالأمة لا زالت راشدة وواعية ومثقفة، عندها أقلام وأدباء.

الشعر الحر

الأمر الثاني: انتقلنا من النبطي فوقعنا في الشعر الرخيص (الحر) عندما مر بـعمر مولاه وابنه؛ وإذا المولى والابن ينشدان نشيداً، قال عمر: [[مَن الذي ينشد منكم؟ قالا: ما أنشدنا، قال: أنشِدْ أنتَ، فأنشَدَ، وقال للآخر: وأنتَ أنشِدْ؟ فأنشَدَ، فقال: أنتما مثل حمارَي العبَّادي]] فـالعبَّادي رجل جاهلي عنده حماران، قيل له: أيهما أخس حمارَيك؟

قال: هذا ثم هذا، ونحن خرجنا من النبط فوقعنا في الحر الذي ليس له ضابط، لا بقافية ولا وزن، وبهذا أصبح كل الناس شعراء.

أنا ذبابة الليمون

أطير من شجرة إلى شجرة

أنام على زورق تحت الأفق

نمت مرة

فانزلقت حذائي

من على الدرج

حلمت أن البحر كفي

هذا الكلام ليس بشعر.

الفرق بين الشعر والنظْم

هناك فرق بين الشعر والنظم، فالشعر شيء والنظْم شيء آخر، وبعض أهل الخير من طلبة العلم والعلماء ينظُمون قصائد ويقولون: لماذا لا تنشر ولماذا لا يعجب بها الناس؟

والجواب: لأنه نظْم! فهناك فرقٌ بين النظْم والشعر، الشعر أسلوب وخيال وإبداع.

وإن تفق الأنام وأنت منهم >>>>>فإن المسك بعض دم الغزال

غضب الإمام محمد بن علي بن دقيق العيد مجدد الشافعية والمالكية في القرن السادس، العالم الكبير الفقيه، ذكره ابن خلدون في المقدمة، وغيره وذلك لأنه يريد أن يكون شاعراً لكنه ليس بشاعر يقول ابن دقيق العيد:

واختلف الأصحاب في وصلنا >>>>>فرجحوا نجواك وهو الصحيح

فـ(اختلف) عبارة فقهية، و(الأصحاب) عبارة فقهية، و(رجحوا) عبارة فقهية، (وهو الصحيح) عبارة فقهية، فلذلك يموت شعر العلماء بسبب أنه نظْم.

أحد الإخوة جلس معنا في مجلس وأرغمنا وأغضبنا وأغضبناه بسبب قوله: لماذا لا تجعلون ابن القيم أشعر من أبي الطيب المتنبي؟! وهل الفضل عند الله بالشعر؟! وهل المنزلة عند المسلمين بالموهبة؟

لا. قلنا: اسمع إلى شعر المتنبي واسمع إلى شعر ابن القيم.

المتنبي يقول في الحمَّى:

وزائرتي كأن بها حياء >>>>>فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المطارف والحشايا >>>>>فعافتها وباتت في عظامي

أبنت الدهر عندي كل بنت >>>>>فكيف نجوت أنتِ من الزحام

إذا ما فارقتني غَسَّلَتْنِي >>>>>كأنَّا بائتَين على حرام

واسمع لـابن القيم رحمه الله يقول:

إسناده حسن ومصداقٌ له >>>>>في الترمذي فافهمه بالبرهان

قال ابن عباس ويرسل ربنا >>>>>ريحاً تهز ذوائب الأغصان

فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ >>>>>إنسان كالنغمات بالأوزان

يا خيبة الآذان لا تتعوضي >>>>>بلذاذة الأوتار والعيدان

والله إن ابن القيم أحب إلينا من ملء الأرض من أمثال المتنبي؛ ولكن ذاك شاعرٌ لا يُبْلَغُ هامتَه وهذا ناظم عالم فلا ندخل هذا في هذا، ففرق بين النظم وبين الشعر، ولذلك نسمع صحفنا دائماً والمجلات، خاصة مجلة اليمامة أكثر المجلات اعتذاراً كلما ضاق بها الحال، قالوا نعتذر لسوء أو لعدم إقامة الوزن وربما تكون من أبدع ما يكون لكن ما ندري عنهم، وعلى كل حال شكر الله سعيهم، ولكن ربما أنهم يصدقون في كثير مما يقولون إنها مكسرة الأضلاع، فكثير من القصائد موجودة غير موزونة ولا مقفاة.

أيها الإخوة الكرام! دور الأدب: أنه كلمة مؤثرة تصل إلى القلوب وتعيش على المبادئ، وعندنا الكلمة الأدبية، وعندنا إيمان وخلود ويدعو إلى المسجد وإلى الفضيلة وإلى المصحف، وليس ضياع وقت ولا ترضية خواطر ولا استجابة لنزوات المغرضين، ولكنها وقوف مع الحق أينما وقف.

وانتهت محاضرة: (دور الأدب في معايشة النكبات).

وأشكر رئيس النادي مرة ثانية وأشكركم والآن يفتح المجال للتعليق والمداخلات.

وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

مداخلات

مشاركة الأستاذ يحيى المعلمي

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فقد فاجأتني هذه الدعوة الكريمة من أخي وزميلي الأستاذ أحمد بن يحيى البحكلي ولعله قد لاحظ أني أثناء استماعي للمحاضرة كنت أستمع بقلبي وبعقلي، وكنت أتمتم بيني وبين نفسي مردداً كلمات الإعجاب لهذا السيل الدافئ من العبارة البليغة الفصيحة المؤمنة؛ التي شنف أسماعَنا بها فضيلةُ الأستاذ الكريم الأخ عائض القرني، الذي ألوم نفسي كثيراً على أني لم أسْعَ إلى التعرف عليه قبل الآن، وإن كنت قد عرفته وقد قرأت كثيراً من أقواله وكلامه وأحاديثه.

وقد استمعت إلى كثير من الأشرطة التي تفضل بتسجيلها وعمت فائدتها الناس جميعاً، ولقد أعجبني كثيراً تدفقه في الاستشهاد بالآيات الكريمة وبالأحاديث النبوية الشريفة وبالأشعار الطريفة الجميلة، ولقد كنت أظن أنه بعيدٌ عن مجال الأدب والشعر ككثيرٍ من أساتذتنا الأفاضل العلماء الكرام، ولكن ثبت لي ما قدمه به أستاذنا الكبير الشيخ عبد الله بن إدريس إذ قال عنه إنه يملك ناصية البيان، فعلاً إنه يملك ناصية البيان الأدبي كما ملك ناصية البيان الديني، فزاده الله توفيقاً، وشكر له مسعاه، ونفع بعلمه وبأدبه لنا جميعاً. وشكراً لكم والسلام عليكم.

مشاركة الدكتور ناصر بن سعد الرشيد

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد:

فلقد قدمت طلباً للتعليق قبل أن أسمع الكلمة التي قالها محاضرنا الليلة وهي: من أراد أن يعلق فليسمع، فكأن الشيخ يتحداني ولو علمت ذلك لما تقدمت، لكني سأحتال لنفسي وأتجنب غضب الشيخ عليَّ؛ لأني لن أتحداه هذه المرة، وإنما هناك نقطتان أشار إليهما الشيخ ويبدو أن الوقت لم يسعفه لأن يبلورهما؛ فبراءة للذمة أردت فقط أن أوضحهما.

النقطة الأولى: تتعلق بشخصية المعتمد بن عبَّاد: والحقيقة أن المعتمد بن عبَّاد تعرضه كتب النصوص الأدبية على أنه رجلٌ مترف فقط، وتقدمه لنا من خلال زوجته اعتماد البرمكية، ومن خلال نكبته، وقد يكون هذا صحيحاً، وقد قدمت النصوص جوانب غير مضيئة من شخصيات إسلامية مضيئة، كما قدمت لنا بعض الجوانب من حياة الرشيد، وكما قدمت لنا بعض الجوانب من حياة عبد الحميد السلطان، وقد ظلم الأدب كثيراً من الشخصيات الإسلامية العظيمة، وقد عظَّم كثيراً من الشخصيات الإسلامية التي ليست بعظيمة.

وقد أشار الشيخ جزاه الله خيراً إلى تخليد المتنبي لـسيف الدولة الحمداني، والحقيقة التاريخية أنه لا مقارنة بين سيف الدولة الحمداني وكافور الإخشيدي مطلقاً، فـكافور الإخشيدي كان رجلاً مشهوراً بالعدل والشجاعة وبغير ذلك، وسيف الدولة الحمداني له ما له وعليه ما عليه، ولن أتعرض لهذا الرجل لأني لا أحب أن أشوه سمعة أحدٍ من علمائنا أو قوادنا أو شخصياتنا.

لكن المعتمد بن عبَّاد من الرجال الذين لم يعرضوا العرض المطلوب، وأنا أردت فقط أن أنبه على ذلك؛ لأن شخصية المعتمد بن عبَّاد لا نحتاجها، ولا نحتاج أن نعرف حقيقته مثلما نحتاج أن نعرفها اليوم، وما أريد أن أقوله عن هذه الشخصية أني أحيلكم على النصوص التاريخية حتى تروا موقف هذا الرجل من الأزمات، ولا أريد أن أقول أكثر من هذا حول شخصية المعتمد بن عبَّاد إلا أن المؤرخين لهذه الشخصية أثنوا عليه ثناءً كبيراً، ووصفوه بأنه البطل الصنديد الغيور على الإسلام، والذي رفض العروض التي انهالت عليه من هنا وهناك لتحمي عرشه، ولا أريد في حقيقة الأمر أن أستشهد لكم لعظمة هذا الرجل، لكني أتمنى أن ترجعوا إلى الكتب والمصادر الأصيلة التي كتَبَت عن ابن عبَّاد هذا وسترون فيه رجلاً مسلماً عظيماً.

وأرجو هذه المرة ألا تسألني عما قصدت؛ لأني لا أستطيع أن أقوله حقيقة لهذا الموقف؛ ولكن من أراده فسيجده.

النقطة الثانية: هي أيضاً لست أدري عتاب لـلشيخ أم لا! لأنه في حقيقة الأمر قارن بين نص للمتنبي ونص لـابن القيم، لا شك أنه لا مقارنة بينهما، ولكن أيضاً سنداعبك أيها الشيخ الجليل وأنت شاعر وعجيب، أنك في حقيقة الأمر لم تنصف الرجل؛ لأنك قارنت بين قصيدة وجدانية للمتنبي وهي قصيدة في وصف الحمَّى بأبيات مِن الكافية الشافية ابن القيم وشافيته التي قالها في العقيدة ولا أظن أن في هذا إنصاف لـابن القيم، فيجب علينا أن نتحرى الإنصاف والعدل حينما نقارن بينهما، وأنا في حقيقة الأمر لا أرى أن ابن القيم يرقى إلى المتنبي، ولكن ابن القيم أيضاً رجلٌ جدير بأن يُدْرَس أديباً، ويُدْرَس ناقداً، ويُدْرَس بلاغياً، ولو لم يكن له سوى البيت المشهور الذي سرى بين الناس دون أن يعلموا مَن القائل:

إذا طلعت شمس النهار فسلمي فإنها>>>>>إشارة تسليمي عليكم فسلموا

أي: أنها أمارة تسليمي فسلموا، ولو لم يكن إلا هذا البيت لكفى.

وصلى الله على محمد.

الرد: أولاً: أشكر الأستاذ الأديب يحيى المعلمي، وأسأل الله عز وجل أن يغفر لي تقصيري، وأعرف أن مقصده تربوي، وحث الهمم على الاستزادة، وإلا فأنا أصغر مما قال.

ثانياً: أشكر فضيلة الدكتور ناصر الرشيد وأقول له كما قال ابن القيم في قصيدته التي أستشهدُ منها ببيت:

أما والذي شق القلوب وأوجد>>>>>المحبة فيها حيث لا تتصرمُ

وحملها جهد المحب وإنه >>>>>ليضعف عن حمل القميص ويعلمُ

لأنتم على بعد الديار وقربها >>>>>أحبتنا إن غبتمُ أو حضرتمُ

أنت من أحباب قلوبنا، وقد جلست معه وسعدت بالمجلس وعرفت غيرته على دين الله، وانتماؤه لـ(لا إله إلى الله) فأنا أتحمل عنه ما قال، وأعفو عنه إن كان خطر شيء ما

وإذا الحبيب أتى بذنت واحدٍ >>>>>جاءت محاسنه بألف شفيع

وسوف أراجع -إن شاء الله- ترجمة ابن عبَّاد، وأما المقارنة فلي وجهة نظر وله وجهة نظر، والمسألة ديموقراطية.

مشاركة الشيخ عبد الوهاب الطريري

الحمد لله وبعد:

أولاً: إن كلماتك شيخنا -أمتع الله عمرك كما أمتعت ليلتنا هذه، وأسعد الله حياتك كما أسعدت ساعاتنا هذه- روعة أدبية في الحديث عن الأدب، ورحلة تاريخية محفوفة بشوارد الأبيات وبديع الكلمات، ومليح القصص، وسداد الرأي، وحسن التوجيه، وإن كنت أرى أنه ينبغي أن يكون لهذه الكلمة عنواناً آخراً غير عنوانها الذي أتينا نسمع الموضوع تحته.

ثانياً: القضية الأخرى قضية الشعر الغث الرث؛ الشعر النبطي المشحون بالإطراء الساذج والمديح الرخيص شحناً، إنه محرمٌ شرعاً، ممجوجٌ ذوقاً، مردودٌ عقلاً، وهو طرح غير حضاري في زمن غير زمن النقائض والمعلقات، فمسئولية مَن تخليصنا من هذا النوع؟

هذا النوع من القصائد التي ينْظُمها ناظِمُها ويعلم أنها كذب، وينشرها ناشرها ويعلم أنها تزلفٌ فارغ.

أما نحن فنعرض عنها ونستغفر الله، وإن مسئولية ذلك على الذين بسط الله أقلامهم وألسنتهم على ساحتنا الفكرية، فعليهم أن يجعلوا في سلة المهملات متسعاً لهذا النوع من الثقافة الفكرية.

ثالثاً: إلى متى تظل عقولنا تخادع أو تفتن من خلال غتامة التعبير والغموض المطلسم في مقالات تظلم أمام عيوننا، لا يتغير فهمك لها إن بدأتها من أولها أو آخرها، ربما يشعرك غموضها وعجزك عن فهمها بالرهبة، لكن إذا أدركتها أصابع النقد تبين أن وزنها قشة، وقيمتها صفر.

أسأل من يكتب هذا النوع إذا كان من أصحاب الشهادات الجامعية فما فوق أن يعلنوا عجزهم عن فهم هذا الكلام؟

وأعجب كيف يكتب كاتب مقالة سريرية في مجلة لنا كبرى، حتى إذا استنكرَتْ قارئة عليه مقالَهُ، ردَّ بأنه يرمز بكتابته لها إلى الوطن، عجباً لمثل هذا النوع من الأدب! أيعلن هوية هذا الوطن ويعبر عن عشقه! أي مبادئ تعلن لها بمثل هذا الكلام؟!

والسلام عليكم.

مشاركة الشيخ محمد القحطاني

قبل البداية أنا كتبت في ورقة التعليق اسمي بدون لقب وأنا في هذا المكان وفي هذه الدرجة، كتبت محمد بن دريم القحطاني ولم أكتب الشيخ فالألقاب نؤمن بأنها وسيلة للدفاع، أو لحث الإنسان أن يرتقي بمستوى الدفاع عن القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة التضحية في زمنٍ افتقدنا فيه التضحية خاصة من أصحاب هذه الألقاب.

وما أودُّ قوله باختصار:

نحن لا نؤمن في زمن التقنية والتكنلوجيا والصناعة والذرة والرقي بكل مفاهيم الرقي والتقدم لـأوروبا وأمريكا؛ أن نلتزم بالثرثرة، وتركيب الجمل، وزخرفة الكلمات، في وقت يُداس فيه شرف الأمة، ويُطعن فيه القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحطم قيمة الأخلاق إلى درك الحضيض... إلخ.

أقول: أنا أسأل الأدب الملتزم واللا ملتزم، الأدب بكل الصفات التي يحلو لكثيرٍ من الإخوان أن يعلقوها على الأدب المعاصر: ماذا قدم لهذه الأمة؟

فالعلم والثقافة سببان رئيسيان للارتقاء بمستوى الإنسان والمجتمع والفرد والأمة والعالم من درك الحضيض إلى قمة الفضيلة، ومن قاع التبعية والاستعباد والذل إلى قمة القيادة والريادة والسمو.

ففي عام: (1914م) حتى عام (1919م) قضى طه حسين فترة نقاهة في باريس وعاد من بعدها بالثقافة الفرنسية كتبعية مطلقة للاستشراق والتغيير، ثم إلى هذه اللحظة نحن نتكلم في الندوات، نتكلم في بطون الكتب، ونتكلم بالألفاظ الطيبة النقية الطاهرة، لكن تصاغ المناهج التعليمية والتربوية عكس ما نسمعه في مثل هذه اللقاءات، فالذي يدرس الآن في كثير من المناهج التعليمية وخاصة على مستوى الجامعات هو الأدب التغريبي والاستشراق.

وأنا لا أحتاج لأن أستشهد بكثير من هذه الأمور، إنما مما قاله أحد دكاترة الأدب في جامعة الملك سعود: إذا لم يكن المثقف حداثياً فلا يستطيع أن يكون مثقفاً... هذا أمر، فالذي نريده من هذه الأمور أن نرتقي من مستوى الكلمة الطيبة إلى مستوى العمل، وأن يكون لنا منبراً، وأن تكون هي اللفظة الدارجة على ألسنتنا عندما ندرس هذا الجيل معنى الأدب، وأن تستفيد هذه الأجيال من الأدب، فنحن نسمع كثيراً لكن الواقع يشهد عكس ذلك.

إن المناهج التربوية والتعليمية لا تعكس على الإطلاق أدباً رفيعاً وإن كان هناك قلة في مثل هذه المناهج أو الأماكن التربوية، الحكم بالشريعة للعموم وليس للخصوص، ما صنع الأجيال المعاصرة الآن يجعل لي الحق في الاستشهاد، الثقافة والعلم والأدب المعاصر هو الذي أحط وأوصل الأمة إلى درجة السقوط، ونحن مررنا بمرتبة الخواء الفكري ومرحلة الانبهار والإعجاب، ثم مرحلة التقليد للغرب ولثقافة أوروبا التي أتت من بعد القرن الرابع عشر حتى هذه اللحظات، لوثة بعد لوثة كما ذكر سيد قطب رحمه الله، ثم مرحلة السقوط ونحن نعيشها الآن، فمن المسئول عنها؟

هل هو الأدب الذي ارتبط ونسمع أنه مرتبطٌ بالقرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

كلا. إنه الذي ارتبط بجميع المذاهب والنظريات الأدبية المستوردة من الغرب، ففي هذا المقام نسأل القائمين على النادي الأدبي بوجه خاص والقائمين على النواحي الأدبية أن يوجهوا الكلمة الصالحة الطيبة الطاهرة المرتبطة بالقرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهاً عملياً صادقاً مخلصاً عبر المناهج التعليمية، أما أن يُدرَّس بدر شاكر السياب، وطه حسين فلا.

أنتم تعلمون وقائع وشواهد التاريخ، فضلاً عن شواهد التاريخ والأحداث المعاصرة على رداءة الأدب المعاصر ممثلاً بـالحداثة أو الرجعية. وأن نجلس نتسلَّى بالعبارات الطيبة فقط في المحاضرات وفي الندوات هذا أمر لا يسكت عليه على الإطلاق، فنحن نعيش في مرحلة يجب أن تتكافأ فيها الجهود حتى نكون كلنا عمليين بالقرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم ننبثق في جميع تصوراتنا كلها من القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم سواءٌ في الأدب، أو التقنية أو التكنولوجيا أو أي صناعة فكرية أساسها كلمة، ثم تأتي بكلمة ترفع من مستوى الأمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

الرد: أولاً: أشكر فضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر على تعقيبه، وعلى جمله المفيدة والمتوعية والبصيرة، وهكذا عودنا -لا نقولها مجاملة- ووددت أن النص الذي معه كان في محاضرتي، لكن سبقني.

وكذلك الأخ محمد القحطاني أشكره كذلك، وأقول له: ماذا بيدك وبيدي؟! ما نملك إلا الكلمة، أتريد مني أن أغير مجال الأدب أو المقررات أو الإعلام؟! أتريد أن نلغي المحاضرات؟! أتريد أن أذهب بالبندقية لأقتل صدام حسين أو أصنع حنفية أو طائرة أو صاروخاً، فأنا أملك الكلمة وغيري يملك الهندسة، والثالث يملك الإعلام، والرابع يملك الأدب، على كل حال قد علم كل أناس مشربهم، فإن كان عندك تغيير أنت فتفضل.

واعذر حبيبك إن فيه فهاهة >>>>>نبطية ولك العراق وماؤها

الأسئلة

الأدب وشخصية صدَّام

السؤال: إن أدباء الأمة الإسلامية كثيرون -ولله الحمد- ولكنهم لم يتبينوا حقيقة شخص طاغية كـصدام حسين إلا بعد أن غزى الكويت، فعلى من تقع المسئولية في هذا التضليل أو هذا الجهل الذي ساد هذه القضية؟

الجواب: تقع المسئولية على من يملك المسئولية، على من أظهر صدَّاماً قبل اليوم ومدحه وجعله فاتحاً عظيماً وعبقرياً، ثم حطه وسفَّه به هذه الأيام، فهي تقع على من يستمع له من الناس، وتقع على من يحسن أن يتكلم وأن يقول؛ وسوف يسأله الله عن فعله، وقد أشرت أنا إلى أن حَمَلة المبادئ لا يتغيرون، هم يموتون ويقدمون جماجمهم عن مبادئهم.

بعض الناس لو صادقه صدَّام عاد إليه وسلم على رأسه في المربد، وقبَّل يده ونسي أنه بعثي علماني كافر ملحد بالله، أما أهل الخير فمواقفهم من قبل الغزو وما بعده واحدة، والله كنا نعلم أنه عفلقي مجرم، وأنه عدو لله وأنه لا يؤْمَن جانبُه، وأنه خائن قبل أن يدخل الكويت، وما زادتنا فيه الأيام إلا بصيرة لأنا عرفنا لا إله إلا الله وعرفنا الولاء والبراء.

موقف الشيخ عائض من الشعر النبطي

السؤال: موقف الشيخ عائض من الشعر النبطي فيه بعض القسوة، رغم وجود كثير من نماذج هذا الشعر فيها دعوة إلى الله وسمو بالأخلاق، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، فكيف يرى الشيخ عائض هذا الجانب من هذا النوع من الشعر؟

الجواب: على كلٍّ أنا لا أنكر أن فيه بعض الإبداع والفضائل، فحتى كلام العجائز فيه دعوة إلى الفضائل والمبادئ، لكني أنكر أن يكون هذا أدباً خالداً للأمة وأن يكون مرآة لها، وأن يكون طموحاً وأملاً لها ولأدبائها وأقلامها وإعلامها وصحفها، فلا يصلح أن نبيع أفكارنا بهذا المستوى.

أوليس في الأمة علماء وأدباء ومفكرون حتى نأتي برجل لا يعرف الفاتحة ولا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ولم يصلِّ في الشهر إلا مرتين أحياناً، ونقول: تفضل يا شاعر الأمة ويا أستاذها فيخلط علينا أفكارنا وأمتنا ومقدراتنا، فهو بعشر ريال يمدح وبسحب عشرة ريال يذم، لا يحمل مبدأ ولا عنده فكر ولا قلم وأنا لا أستصغر أحداً، وإلا فأنا أحفظ شعراً نبطياً، وقلت قصيدتين لكني استغفرت الله عز وجل، ففيه الطيب وفيه كلمات تعجب.

أقول: الله الله في رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي هذه اللغة الحية التي أثبتت وجودها وخلودها أن تطفأ بهذا الشعر النبطي، وأن تتحول الأمة إلى أمة لا تعي الشعر ولا تفهمه ولا تستسيغه، حتى لو ألقيت على جمهور من الناس قصيدة للمتنبي فلن يتفاعلوا وسينامون، ولو أتيت برجل من البادية وألقيت من خزعبلاته كل عشرة أبيات بقرش أصغوا وبكوا وسبحوا وحَمَدوا، وهذا من فساد الأمزجة؛ لأننا نحن أطعنا طه حسين فتحولت مقدرات الناس إلى شعر نبطي، حتى الدكاترة الذين في الجامعات أصبحوا يشعرون، فالحمد لله الذي حولهم من عربية إلى نبطية، أصبح في جريدة عكاظ يفتتحها بقصيدة نبطية بتوقيع الدكتور فلان متخصص في قسم اللغة والبيان والأدب، على كل حال هذا ما تم توقيعه.

وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومعذرة.

سامحن بالقليل من غير عذل>>>>>ربما أقنع القليل وأرضى

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , دور الأدب في معايشة النكبات للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net