إسلام ويب

من هو هذا الرجل الممتاز؟

إنه عمر بن الخطاب تلك الشخصية العظيمة، وكم هي عظيمة مواقف عمر بن الخطاب.

من يبلغ منزلته في عدله، وذكائه، وخشيته لله وقوته، وحبه للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه، وصدقه...

شائعة تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بَعْد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،،

معنا في هذا الدرس جلسة طيبة بإذن الله، ومجلس مبارك بعون الله مع أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، مع الذين فتحوا الدنيا، مع الذين بذلوا دماءهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله، واشتروا رضوان الله وجنة عرضها السماوات والأرض بكلمة لا إله إلا الله، مع الذين صدقوا الله فصدقهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18].

اتفق الشيخان واللفظ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سافرت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يحدث بالقصة مكة، فبينما نحن في الطريق عدل رضي الله عنه وأرضاه يقضي حاجته، فقال: اتبعني بماء أتوضأ به، قال: فحملت إداوة ولحقته، فلما انتهى من قضاء حاجته أخذت أصب عليه ثم سألته قلت: يا أمير المؤمنين!! من هما المرأتان اللتان أنزل الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]

قال عمر: عجباً لك يا بن عباس!

قال الزهري: كره عمر سؤال ابن عباس وكره أن يكتم العلم الذي أعطاه الله إياه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثم اندفع عمر رضي الله عنه وأرضاه وقال: لما قدمنا المدينة مهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في عوالي المدينة عند رجل من الأنصار؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤاخي بين المهاجرين الأنصار.

قال عمر: فنزلت في العوالي عند أخٍ لي من الأنصار، فكنت أتناوب وإياه النزول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. أي: هذا ينزل ليلة وهذا ليلة وهكذا..

لأنهم كانوا يكدحون وسوف يأتي مجمل الحديث، قال: فنزل صاحبي في الليلة التي بقيت فيها، وكنا نتحدث أن غسان -قبيلة من القبائل العربية بـالشام - تريد أن تغزو المدينة، قال: فقدم صاحبي علي في الليل فطرق الباب طرقاً شديداً، وضربه ضرباً، فقلت: ماذا حدث؟

قال: حدث أمر عظيم.

قال عمر: أغزت غسان المدينة المنورة؟

قال صاحبي: لا، أمر عظيم. قلت: ما هو؟

قال: طلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه.

فقال عمر: الله أكبر.

ثم قال: ويحاً لـحفصة، أما نهيتها عن معاندته صلى الله عليه وسلم حتى وقع ما وقع، ولكن عمر كان صبوراً وحازماً وكان صارماً رضي الله عنه كالجبل.

قال عمر: فأخذت علي ثيابي، ثم أخذت حذائي فلبستها فنزلت فصليت الصبح.

انظر ما أحسن سياق القصة! وما أحسن هذا التصرف الحكيم من عمر رضي الله عنه وأرضاه! لم يأتِ وسط الليل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن تركه حتى صلى الصبح.

قال: ثم أتيت مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدت الناس يبكون حول المنبر؛ وذلك لأنهم سمعوا بالخبر، وهم يعيشون أحداث الرسول عليه الصلاة والسلام وقضاياه.

قال: فقلت للناس: أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه؟ قالوا: لا ندري.

عمر يستأذن للدخول على النبي صلى الله عليه وسلم

قال: فذهبت إلى حفصة في بيتها فدخلت عليها فوجدتها تبكي. فقد أتاها الخبر ولكن ما تثبتت منه فقلت: أطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالت: لا أدري.

قلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قالت: هو في المشربة قال: فانطلقت فإذا على المشربة غلام أسود يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فذهب فاستأذن فلم يأذن؛ فرجع الغلام فقلت: أستأذنت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: نعم، حدثته أنك بالباب فلم يرد علي كلاماً.

قال: فذهبت إلى المسجد وغلبني ما أجده في صدري فعدت فقلت للغلام: استأذن لي؛ فاستأذن مرة ثانية فلم يأذن له.

قلت للغلام: أستأذنت لي؟ قال: نعم، ولكنه لم يرد عليَّ جواباً.

قال: فذهبت إلى المسجد.

انظر إلى هذا الصابر والجبل العظيم والعملاق، سوف يتحدث في مناظرة شفوية حارة مع الرسول صلى الله عليه وسلم عن السبب، وما هو الداعي، وسوف يكون من صف الرسول صلى الله عليه وسلم لا من صف ابنته؛ لأن بعض الناس إذا طلقت ابنته؛ قام معها ظالمة كانت أو مظلومة، شاكية أو مشكوة، والله يقول: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4] يعني حفصة وعائشة.

كأنه يقول: لا تنخدعا، لا تظنا أن أبا بكر وعمر سوف يكونا في صفيكما؛ بل سيكونا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: فرجعت مرة ثالثة، وقلت للغلام: استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستأذن فقال: دعه يدخل.

قال عمر: فتسلقت درجة المشربة -درجة من عود منحوتة تصل إلى المشربة- قال: فدخلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع وقد أثر الحصير في جنبه -لأنه لم يكن بينه وبين الحصير الذي هو من خصف النخل وطاء ولا غطاء- قال: فلما رآني صلى الله عليه وسلم تربع في مجلسه، فعرفت الغضب في وجهه، فجلس صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حساساً، وكان يتأثر بالمثيرات فتظهر في وجهه صلى الله عليه وسلم.

كان المنكر يظهر في وجهه، وكان سيما البشريات تظهر في وجهه، تقول عائشة: [[إذا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأسارير وجهه كانت تبرق كالعارض البارق]] أي: كالبرق إذا عرض، ولذلك قالت: كنت أتذكر قول أبي كاهل يوم قال:

وإذا أستسر ترى أسرة وجهه>>>>>برقت كبرق العارض المتهلل

عمر يتأكد من الخبر

قال عمر: فتربع في مجلسه، فأراد عمر أن يدخل بالدعابة إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يتكلم معه.

بماذا يدخل من المزح حتى يتبسم صلى الله عليه وسلم؟ اسمع ماذا يقول فاروق الإسلام أبو حفص، الذي دكَّ دولة الباطل وإمبراطورية كسرى وقيصر، والذي كان كما يقول الأول:

يا من يرى عمراً تكسوه بردته>>>>>والزيت أدم له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقاً>>>>>من خوفه وملوك الروم تخشاه

قال: يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.

قال: لو رأيتنا كنا رجالاً -يقصد قريشاً- تخافنا النساء ونحن في بكة، فقدمنا إلى أناس في المدينة فوجدنا نساءهم تخيفهم، فأصبحنا نخاف النساء، لو رأيت بنت زيد -يقصد عاتكة زوجته- تطلبني النفقة يا رسول الله -رجل مهاجر فقير مسكين ليس عنده ما يتغدى منه ويتعشى، وهي تطلب الحلي الذهب والفضة- تطلبني النفقة يا رسول الله وتغاضبني؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ثم جلس.

كان ذلك الكلام توطئة، فلما تبسَّم صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه. انظر إلى الحكمة! وإلى الدخول إلى قلوب العظماء والزعماء والقادة!

فلما جلس قال: فنظرت فإذا أثر الحصير في جنبه صلى الله عليه وسلم. قال: فلمحت المشربة، والله ما رأيت شيئاً يرد البصر إلا شيئاً من شعير كان معلقاً في جانب البيت، فدمعت عيناي.

من قال من المؤرخين: إن عين عمر سوف تدمع لولا الإسلام؟

ومن قال: إن قلبه سوف يرق لولا (لا إله إلا الله)

ومن قال: إن روحه سوف تلين برهة من الدهر لولا عظمة هذا الدين، كان لا يعرف الدمعة من الرحمة، ولا يعرف اللين، ولا المسامحة، إنه رجل عملاق؛ ولذلك جعلته قريش السفير لها مع قبائل العرب، فهو الواجهة العظمى التي لا تلين، وكان الناس يخافونه.

لكن لما دخلت لا إله إلا الله في هذا القلب الكبير؛ أصبح يتأثر تأثراً عظيماً، من يصدق أنه يصعد المنبر يوم الجمعة، فينقطع صوته من البكاء على المنبر؟!

ومن يصدق أنه يرى الأثر الذي يثير الخشية فيبكي؟!

فلما رأى حفنة الشعير ورأى الحصير يؤثر في جنب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يا عجباً.. ألا يجد اللحم!

ألا يجد الخبز!

ألا يجد اللذائذ والطبيات، والفواكه والخضروات...!!

فلماذا يجدها كسرى وقيصر؟!

وتدمع عيناه رضي الله عنه؛ فيلتفت صلى الله عليه وسلم ويقول: ما لك يـ ابن الخطاب؟

فقال عمر: يتنبأ بالأحداث، وأنه سوف يدكدك بقدميه تلك الدولتين الظالمتين- قال: يا رسول الله.. كسرى وقيصر وهما ما هما -أي: أعداء الله- وهما في العيش الرغيد، وأنت رسول الله وأحب الناس إلى الله، وأنت في هذا الحال..! فجلس صلى الله عليه وسلم مستوفزاً، وقال: أفي شك أنت يـ ابن الخطاب؟ أي: أفي شك من عدل الله؟ أو في شك من ميزان الله في الأرض؟ أوفي شك من رسالة الله؟ أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم.

النبي صلى الله عليه وسلم ينفي هذه الشائعة

ثم أتى عمر فقال: يا رسول الله.. أطلقت نساءك؟ قال: لا. قال عمر: الله أكبر!

ارتاح وهدأ باله وارتاح ضميره؛ لأنه لا يريد أن يخسر بنته من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يأتي يوم القيامة وصهره ورحيمه هو رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ويريد إذا دخل الجنة أن يزور رحيمه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم

فخرج عمر رضي الله عنه إلى الناس وبشرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، وإنما حلف ألا يدخل عليهن شهراً كاملاً، فلما انقضت تسعة وعشرون يوماً؛ نزل صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه، وبدأ بـعائشة فقالت عائشة: يا رسول الله، بقي ليلة، الشهر ثلاثون يوماً، قال صلى الله عليه وسلم: لا، الشهر تسعة وعشرون يوماً. ولذلك يقول: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا} يعني أمة ذكية بليغة، عبقريتها مستوحاة من الصحراء، فنحن لا نعرف الجبر ولا الهندسة ولا نعرف الجمع ولا الطرح وإنما نحسب هكذا، ثم نزل صلى الله عليه وسلم وقد آلى من نسائه ثم عاد.

هذا مجمل الحديث أو نحو هذا أو شبه هذا، ونستغفر الله إن زدنا أو نقصنا، لكن هذا الحديث أو نحوه هو الذي أورده البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد.

من فوائد حديث هجر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته

وفي هذا الحديث مسائل:

الحرص على طلب العلم

حرص ابن عباس على طلب العلم؛ ولذلك قال عنه ابن تيمية: أما ابن عباس فعلمه كالبحر ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4] لكنه لقي أعلم منه وهو عمر بن الخطاب فأصبح ذرة صادفت جبلاً، فأعلم الناس في هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ولذلك طرح سؤال في كتاب المنطق لـابن تيمية المجلد التاسع يقول: يدعي بعض المتأخرين أنهم لكثرة معلوماتهم في أصول الفقه وعلم المنطق وعلم المساحة والفلسفة وعلم الكلام، يظنون أنهم أعلم من أبي بكر وعمر..! هذا وسواس ورد إلى بعض الناس، لأن أبا بكر وعمر ما كانا يعرفان المنطق، ولا علم الكلام ولا الفلسفة، فأتى ابن تيمية يرد برد قوي جازم قال: كذب أفراخ الفلسفة وأفراخ علم الكلام وأفراخ النصارى واليهود، بل أعلم الناس وأتقاهم وأخشاهم وأصدقهم -وكلاماً نحو هذا- أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي فـأبو بكر، وعمر من أعلم الناس.

فلما أتى ابن عباس وسافر مع عمر أخذها فرصة أن يتعلم من هذا الرجل الملهم، والبحر الخضم، الذي تنساح وتنداح الفوائد من على لسانه ومن جنباته كالدرر من البحر، أو كمكنوزات الجواهر من كنوزها.

فضل عمر رضي الله عنه وكراماته

عمر رضي الله عنه فاق الناس بعلمين اثنين: علم النظر وعلم الإلهام، علم النظر: هو الحاصل المحصل بالتحصيل، والأسئلة من الرسول صلى الله عليه وسلم.

والعلم الآخر: علم الإلهام الذي ألهمه الله عز وجل، فإنه يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب} وفي لفظ آخر: {لو بعث بعدي نبي لبعث عمر بن الخطاب} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن يكن منكم محدثون فإنه عمر بن الخطاب} وقال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر]] وقال ابن عمر رضي الله عنهما: [[ما كنا نبعد أن السكنية كانت تنطق على لسان عمر رضي الله عنه وأرضاه]] والسبب:-

أولاً: الإخلاص والصدق مع الله قال الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]

فلما علم الله صدقه وإخلاصه وإنابته وعبوديته؛ رزقه الله الإلهام فكان يفيض عليه العلم فيضاً.

وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: {رأيت البارحة كأني أتيت بقدح من لبن فشربت منه، حتى رأيت الري يدخل في أظفاري قال: ثم أعطيت فضلتي عمر بن الخطاب، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} ويقول في حديث آخر في البخاري: {رأيت في المنام الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره في الأرض قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين} فكان من أعظم الناس ديناً وعلماً.

رجل ملهم كان يتحدث بالكلام فيأتي كما يتحدث بإذن الله، ينطق والسكينة عليه، يقول مثلاً: ليت الله أنزل لنا في الخمر شيئاً شافياً، فأنزل الله في الخمر شيئاً، ويقول: لو حجبت نساءك يا رسول الله، وبعدها بأيام ينزل الحجاب، ويقول: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى في الحرم، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125].

أصبح إنساناً يتحرك بنور من الله عز وجل، يخطب المسلمين يوم الجمعة والصفوف وراءه، وعظماء الإسلام وقواده وزعماؤه بين يديه، وفجأة يقطع الخطبة مباشرة.. وينادي في المسجد: يا ساريةُ الجبل، يا ساريةُ الجبل، يا سارية الجبل. فينزل وينتهي من الصلاة فيقول الصحابة: ما لك يا أمير المؤمنين، ماذا حدث؟ قال: كشف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لي فرأيت سارية -قائد من القواد أرسله في جنوب إيران ليقاتل أعداء الله عز وجل- فأحاط به الأعداء من كل جانب وقت صلاة الجمعة وعمر على المنبر في المدينة، فكشف الله الغطاء لـعمر كرامة من كرامات الأولياء، فرأى سارية وهو يحاصر من كل جانب فيناديه عمر ويقول: التجئ بعد الله بالجبل. فيسمع سارية صوت عمر وهمسات عمر ونداء عمر، فيأتي ويلتجئ بإذن الله إلى الجبل فيعصمه الله ذاك اليوم..! فيأتي سارية بعد أن انتصر فقال له المسلمون: أحدث لكم شيء؟ قال: كدنا نهلك في يوم كذا يوم الجمعة، فسمعت صوت عمر الذي لا أنكره وهو يقول: يا سارية الجبل؛ فالتجأت إلى الجبل فعصمني الله. هذا سند صحيح رواه صاحب تاريخ داريا.

فـعمر رضي الله عنه يكشف الله له؛ لأنه صادق مع الله، وقد علم الله سريرته، وعلم أنه يريد الخير لهذا الدين، وهو يتكلم من اعتزازٍ قوة؛ فأعطاه الله القوة والاعتزاز؛ ولذلك فالمهزوم في داخل نفسه لا يمكن أن تستفيد منه شيئاً؛ الذي لا يعتز بالإسلام، ولا يعتز بالسنة، ولا بالاستقامة إنسان مهزوم، فاشل في الحياة، فكيف تطلب الماء من الظمآن؟! وكيف تطلب الشبع من الجائع؟! هذا إنسان ولو صلى وصام لكن لا يعتز بالإسلام، لا يعتز بالرسالة الخالدة.

عجباً.. الأمريكي يعتز بـالنصرانية المحرفة، واليهودي ابن القرد والخنزير يعتز بـاليهودية المحرفة، والشيوعي البلشفي يعتز بـالشيوعية، والمسلم الذي بعثه الله للناس كما بعث رسوله صلى الله عليه وسلم في أمة رائدة خالدة خاتمة لا يعتز بالإسلام..! كيف لا نعتز بهذا الدين كما اعتز به عمر رضي الله عنه وأرضاه، وصلى الله وسلم على صاحب الدعوة وعلى آله وصحبه.

يأتي عمر ليفتح بيت المقدس فيلبسه بعض الصحابة بعض اللباس الجميل حتى يظهر أمام الأحبار والرهبان بمظهر جميل، ويستعرض الصحابة القواد، وتستعرض الجيوش أمامه والخيول والفرسان، فيخلع لباسه ويلبس بردته الممزقة التي فيها أربع عشرة رقعة، ويأخذ عصاه ويقول للجيوش: [[انصرفوا عني، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].

نحن قوم بنينا ثقافتنا وحضارتنا ودولتنا ومعرفتنا من (لا إله إلا الله) أي: لولا (لا إله إلا الله) ما كانت لنا حضارة ولا ثقافة ولا معرفة، فالآن تريدون أن نتزين للناس ونتجمل بالأرض، فلما علم الله أنه يريد نصرة هذا الدين عزه عزاً ما بعده عز، ولذلك يذكر في كل مجلس، وفي كل دولة، وكل مقاطعة، وإقليم، وعرفه الناس كافة مؤمنهم وكافرهم، ويهوديهم ونصرانيهم وشيوعيهم: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].

سبب قلة مرويات عمر مع وفور علمه

فـابن عباس سأل عمر عن هذا، فأخبره عمر رضي الله عنه.

ولسائل أن يقول: كيف تقول أن عمر أعلم من ابن عباس وأحاديث ابن عباس أضعاف مضاعفة على أحاديث عمر؟ أقول: نعم. أحاديث ابن عباس من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف حديث، ولـعمر ما يقارب من سبعمائة حديث أو نحو هذا في السنن والمسانيد التي جمعت فكيف يكون أعلم؟

والسؤال الثاني: كيف تقول: إن عمر أعلم من ابن عباس، وابن عباس تكلم في جل آيات التفسير وعمر لم يتكلم إلا في آيات معدودة؟

والجواب: أن يقال إن عمر أعلم بلا شك، لكن شغله عن الرواية الخلافة والإدارة والسياسة، كان رجلاً إدارياً من الدرجة الأولى، والعجيب أنه قد كتب عن حياته كتاب إنجليزيون وفرنسيون وأمريكان؛ ألفوا في سياسته وإدارته وعلم الاجتماع عنده وعلم العمران؛ لأنه رجل فذ، هو الذي دون الدواوين وجند الجيوش، وأسس الأسس، وسن للدولة الإسلامية على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم معالم خالدة، فشغل بهذا الأمر فأصبحت روايته قليلة، فهذا من جانب.

ومسألة الحرص على طلب العلم من أعظم خصال المؤمن، وإذا رأيت المؤمن يحرص على طلب العلم والتفقه في الدين، فاعلم أن الله أراد به خيراً قال صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين}متفق عليه.

والذي لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، يعيش هملاً سواء استفاد أم لم يستفد، عرف شيئاً من القرآن أم لم يعرف، تدبر السنة أم لم يتدبرها، حصل على فائدة أم لم يحصل عليها، فالأمر عنده سيان، فإرادة الله للعبد الخيّر هو أن يفقهه في الدين.

الرحلة في طلب العلم

موسى عليه السلام؛ رسول المناظرة وأستاذ العقيدة الذي وقف في أعظم المواقف مع فرعون، يقف في بني إسرائيل خطيباً فينطق بالحكمة، ويسمعون الموعظة الحسنة وهي تنساب على لسانه فيقول بنو إسرائيل: أتعلم يا موسى أن الله خلق أعلم منك؟ فيقول: لا. وصدق عليه السلام، هو نبي وعنده رسالة، والتوراة كتبها الله بيده وأعطاها موسى، فهو لا يعلم أعلم منه؛ فأوحى الله إليه أن عبدي الخضر بأرض كذا هو أعلم منك.قالوا: في العلم الباطن أما علم الظاهر فأنت أعلم. لماذا؟ ليتواضع أولاً- وهو متواضع عليه السلام- والأمر الثاني: ليطلب العلم ويحرص عليه.

وقد عقد البخاري في كتاب العلم باب (الرحلة في طلب العلم) ثم أتى برحلة موسى إلى الخضر عليهما السلام، فارتحل وطلب العلم، وانظر إلى قول موسى لفتاه وهو يقدم له السمك وقت الغداء بعد أن تعب وارتاح وبدأ يتأوه وعرقه يتصبب وهو يقول: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً [الكهف:62]

يعني: تعبنا في هذا السفر، ولذلك يقول: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الكهف:60]

يقول: سوف أسافر في طلب العلم أياماً أو سنوات حتى أصل، فلما وصل إلى الخضر عليه السلام بدأ معه، وموسى فيه جرأة وشجاعة وصراحة، وكان عمر بن الخطاب يشبه موسى عليه السلام، وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {أما أنت يا عمر فأشبهت موسى عليه السلام} فهو صريح.

ولذلك لما ركب مع الخضر في السفينة ركب كالتلميذ، لكن الخضر اشترط عليه ألا يتكلم في القضايا، يعني: يصبر قليلاً ولا يناقشه في الأسئلة، لكن لما خرب ذاك السفينة قفز موسى عليه السلام قال: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] التلميذ يقول للشيخ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74].

ثم لما قتل الغلام قال: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74] وقبل سامحه الخضر يقول له أول مرة: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:72]

وبعدها يقول: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:75] فزاد (لك) هنا تأكيداً له.

وفي الثالثة جاءا جائعين ساهرين متعبين فينزلان في قرية، فيسألان أهل القرية أن يضيفوهما ببعض الطعام، فرفضوا، شد الله على قلوبهم البخل، نظر في الجيران فلم يجد جاراً ولا أخاً ولا صاحباً، فلما تركوهم ذهب الخضر وقال لموسى: تعال نبني هذا الجدار. قال: سبحان الله! قوم لم يضيفونا وتريد أن تبني جدارهم؟! ركبنا مع صاحب السفينة وتخرق السفينة وكان أولى بالمعروف، ومررنا بغلام من الصبيان فقتلته، والآن هؤلاء طردونا وتريد أن تبني جدارهم؟! فقال الخضر قبل أن يتكلم: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] لا أتحمل إلى هذا المستوى، يعني: أنا في جدال وفي نقاش حتى هذه اللحظة، أنا أريد تلميذاً لا يسأل؛ ولذلك غلاة الصوفية يقولون: لا يفلح التلميذ إذا قال لشيخه: لماذا تفعل كذا أو لماذا تقول كذا. قال الذهبي: [[والله يفلح ثم يفلح والسلام]] يفلح عشرين مرة، لأن هذا الدين ليس إلغاءً للعقل كـالنصرانية بل لك أن تناقش ولكن بأدب، ولكن أن تقول للأستاذ ولو كان من أساتذة الدنيا وعلماء المعمورة، ولو كان أمامك أحمد بن حنبل أو مالك أو ابن تيمية تقول: لماذا تأتي بهذه المسألة وما هو دليلك؛ لأن المعصوم هو محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال الخضر: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78] لكن قبل أن تذهب سوف أعطيك الحكم؛ لأن هذه فائدة الرحلة، وإلا لو قال له: لا أخبرك بشيء ذهب موسى يعلم بني إسرائيل ويقول لهم: خرب السفينة وقتل الغلام وبنى جداراً بلا أجرة!

استطراد

وذكر في الآيات أربع إرادات قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79]

انظر هنا كيف قال: (فأردت) ولم يقل (فأردنا) وسوف يأتي (فأردنا) وسوف يأتي (فأراد ربك) وسوف يأتي في الجدار (فأراد أن ينقض) هذه أربع إرادات، لكن هنا في الضمير قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79] بضمير المتكلم، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ [الكهف:80-82] ولم يقل (فأردت) مثل الأول ولم يقل (فأردنا) فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:82].

الآن نعود إلى الإرادة الأولى قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] الذي أمره أن يعيب السفينة هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فليس من الأدب أن يقول: فأردنا أو أراد ربك أن أخرب السفينة والله هو الذي قدر الخير والشر -هذا معتقد أهل السنة والجماعة لكننا نتأدب مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في ذكر الشرور والخراب، فلا نقول: إن الله الذي فعل كذا وكذا من باب التأدب؛ لأن خراب السفينة ظاهر عند الناس أحاله على نفسه تأدباً مع الله، وهذا من الوقار والخشية.

قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا ) [الكهف:79] فإذا رآها فسدت لا يأخذها وإذا رآها تكسرت لا يأخذها، لا يأخذ إلا شيئاً صحيحاً، ولا يأخذ إلا آخر موديل، فإذا رآها مكسرة الأخشاب قال: ردوها على اليتامى. فهذا من الحكمة.

وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:80-81] جمع هنا الضمير لأن في قتل الغلام خراباً ظاهراً ومصلحة باطنة، فالمصلحة الباطنة أن الله يبدلهما خيراً منه، والمفسدة الظاهرة: قتل نفس معصومة، فكأنه يقول: إن كان هناك شيء من الخراب؛ فهو من جانبي وأما الصلاح فهو لله عز وجل فجمع الضمير.

ولما أتى إلى الجدار قال: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف:77] والعرب تنسب الإرادة من باب المجاز أو غيره على قول من قال: أن في القرآن مجازاً، وابن تيمية يقول: ليس في القرآن مجاز. والعرب تنسب الإرادة أحياناً إلى الجماد، يقول الله عز وجل في سورة يوسف: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:82] والقرية لا تُسأل، لكن من عادة العرب أنهم يمرون على الأطلال فيقول الشاعر إذا مر على الأطلال:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنـزل>>>>>بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها>>>>>لما نسجتها من جنوب وشمألِ

وذاك يقول:

وقفت على الأطلال أسألها>>>>>هل في المحبة والأوطان أحباب

فعلى تلك اللغة كان الله يسأل أهل القرية.

ولما أتى إلى الأخير قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ [الكهف:82] لأنها مصلحة ليس فيها مفسدة، أناس لم يضيفوك؛ فبنيت لهم الجدار فلا فساد، بل صلاح محض، فكانت الحكمة لله، ولذلك انظر إلى تلطف الجن عندما أتوا ليأخذوا الأخبار وقت نزول الوحي، أرصدهم الله عز وجل بالشهب والأجرام السماوية حين تغيرت الأرض والسماء لمبعث الرسالة، فذهبوا يلتمسون الوحي؛ فوجدوا أن السموات قد أغلقت بالحرس، كلما أتى واحد منهم ضرب بشهاب في قفاه وقتله، فأخذوا يتجمعون خائفين ثم أخذوا يقولون: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10] (أريد) وما قالوا (أراد) فبنوا الفعل (أريد) للمجهول تأدباً مع الله، ولما أتوا إلى الخير قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10] فأظهروا الفاعل هنا، وإبراهيم عليه السلام يقول: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78-80] وإلا فالصحيح أن الله هو الذي أمرضه، ولكن ما قال: والذي يمرضني ويشفين، ولكن قال: إذا مرضت أنا تأدباً مع الله عز وجل.

والله عز وجل ما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً أن يتزود منه إلا العلم فقال له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] ولذلك فمن الصحابة من سافر شهراً كاملاً في طلب حديث واحدٍ، كـجابر بن عبد الله الذي سافر شهراً كاملاً لطلب حديث من مصر، وسعيد بن المسيب سافر ثلاثة أيام لطلب حديث واحد، أما نحن والحمد لله ففي بيوتنا مئات الألوف من الأحاديث والمسانيد والمعجمات والمستخرجات، ولكن قلّت الهمم في القراءة، الإمام أحمد يطوف الدنيا أربعين سنة ويجمع أربعين ألف حديث، وهي مطبوعة ومحققة ومجلدة وموضحة في أدراجنا، فمن يقرأ ومن يستنبط ومن يفهم؟

جوانب من عظمة عمر

علمه

علم عمر رضي الله عنه، وقد سبق أن قلنا: إن علمه نظري استنباطي وإلهامي، فهو محدث من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا بسبب إخلاصه وإنابته إلى الله عز وجل. وكان من مواصفات علم الصحابة أنه كان قليلاً لكنه مبارك، وكلام المتأخرين أكثر من علمهم، الآن إذا سألت شيخاً في مسألة أعطاك محاضرة! بينما لو تسأل عمر بن الخطاب مسألة لقال: نعم أو لا.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتي بسطر أو بسطرين، ويخطب يوم الجمعة ما يقارب ست دقائق -كما حسبها بعض الناس الآن- أما نحن فإننا نحتاج إلى إفهام الناس وتفهيم أنفسنا أوقاتاً طويلة، وإلا لو وقف الخطيب الآن ست دقائق ما استطاع أن يكمل مقدمة الخطبة أن يقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نفعني الله وإياكم بالآيات والذكر الحكيم.

ومن الفائدة العطرة، والموعظة البليغة: ألا ضرر ولا ضرار، ولا يطلب من الخطيب أو من الواعظ أن يأخذ الناس على حسابه فلا يطلقهم إلا لصلاة العصر! لماذا؟ أخذ عليهم صكاً شرعياً أن يبقوا في مسجده حتى يقطع ظهورهم بالكلام، ولا يطلب منه كذلك أن يأخذ دقائق فلا يوفي الكلام حقه، فكن بين بين.

هيبة عمر رضي الله عنه

رغم جلالة ابن عباس ومكانتة في الإسلام؛ فإنه كان يهاب عمر، وكان كبار الصحابة يهابون عمر بن الخطاب، ومن عادة الناس أنك إذا خالطت الإنسان كأبيك وأخيك ومعلمك دائماً أن تقل هيبته، لكن عمر بخلاف ذلك، يخالطه الصحابة دائماً في مجالسهم وفي منتدياتهم ومجتمعاتهم وما يزداد مع ذلك إلا هيبة، رضي الله عنه وأرضاه.

من مواصفات شخصيته أنها كانت قوية جداً، كان فيه شدة لكن في الحق، يقول ابن كثير: ما كان يضحك ولا يمزح، عمر في خلافته لا يضحك ولا يمزح أبداً، صارم كالسيف؛ ولذلك أرهب الله به أعداء الله من الإنس والجن، حتى الجن كانوا يخافون منه، وثبت في الحديث أنه صارع جنياً فصرعه على الأرض، قال عمر: [[كيف أنت في الجن؟ قال: لقد علم الجن أني من أقواهم]] لكن واجه رجلاً قوياً فصرعه. وعمر حتى من حيث تكوينه الجسمي كان من أقوى وأعتى الناس، كان إذا مشى كأنه راكب على فرس.

وبعض الأمور والطرائف وضعها بعض أهل السير وما أظنها تثبت، لكن يذكر أن حلاقاً كان يحلق رأس عمر فعطس عمر فأغمي على الحلاق حتى رش بالماء، فكيف إذا تكلم عمر أو نهره..!

وأنا سمعت من بعض الدعاة المفكرين يذكر في خطبته يقول: لما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في القبر أيقظه المنكر والنكير -الفتان- ليسألاه، فلما استيقظ بدأ بهما وقال: من ربكما؟ من نبيكما؟ ما دينكما؟ لقوته رضي الله عنه وأرضاه. فيذكر عن عمر رضي الله عنه وتركب عليه مثل هذه الدعابات؛ لأنه كان من القوة بمكان لا يعلمه إلا الله عز وجل.

تصور أن الهرمزان رسول إمبراطورية كسرى جاء يفاوض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فيأتي في حشم وحاشية، يلبس الحرير والديباج، ومعه من الأكسية والذهب والفضة ما يريد أن يرعب به الأمة العربية، والبدوي إذا رأى شيئاً من ذهب ربما يصرع، أو رأى شيئاً من الفضة يغمى عليه؛ لأنهم لا يعرفون الفضة ولا الذهب، دائماً مع الغنم والإبل، ودائماً مع الخيام والثياب والسيوف المثلمة والرماح، في حياة بدائية. أما أولئك فأهل حضارة، ولذلك هم يعدون الآن مثل أمريكا وروسيا، أنزلهم الله في النار جميعاً: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38].

فالمقصود أن الهرمزان اختاره الملك فقد كان ذكياً وصاحب هيبة، فدخل المدينة بالموكب، فأتى يسأل الناس: أين قصر الخليفة؟ عمر هذا الذي دوخ الدنيا، أخذت نساء فارس يسقطن الحمل من هيبته وهو في المدينة جالس على عباءته المرقعة وخبز الشعير أمامه والزيت معه، ليس عنده من الحرس ولا من الهيلمان والقصور شيء. فيقول الهرمزان: أين قصر الخليفة؟ قال الصحابة: ليس له قصر. قال: أين مجلس الشورى الذي يجتمع بالناس فيه؟ قالوا: ليس له مجلس شورى، بل في المسجد. قال: دلوني على المسجد. وأخذ يذهب معهم ويظن أنه سيلقى ناطحات سحاب أو قصوراً مثل قصور كسرى مطلية بالذهب.

فأخذ يسأل قالوا: في المسجد، فمر في سكك المدينة، وتخيل قرية صغيرة، بيوت الطين منها مبنية، طرقها متلاصقة ومتواضعة، حتى إذا مددت يدك لحقت السقف في كل بيت، لكن من هنا انبعثت (لا إله إلا الله) ومن هنا أتت حضارة الإنسان، ومن هنا رفعت راية لا إله إلا الله، ومن هنا أعيدت معالم البشرية مرة ثانية، ومن هنا خرج أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحسان والزبير وطلحة وزعماء الإسلام وأدباؤه وشعراؤه وعلماؤه.

فذهب إلى المسجد والناس وراءه، منظر عجيب! من هذا الذي يلبس هذا اللباس، والشمس تلمح مع الحرير والديباج والفضة، كلما ذهب في حارة ذهبوا معه في الطريق. فدخل في المسجد والتفت وقال: أين عمر بن الخطاب؟ قالوا: ما وجدناه. خليفة الدولة الإسلامية لا يوجد ويبحث عنه بالملاقيط؟! قالوا: ما وجدناه.

في الأخير، قال رجل: أبشركم، وجدت عمر بن الخطاب. قالوا: أين؟

قال: نائم تحت شجرة في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهب الهرمزان وذهب وراءه الناس، وأتوا إلى عمر رضي الله عنه في آخر نومه قبل صلاة الظهر، فوقف على رأسه، وكان أهل فارس أهل عقول ودهاء؛ ولذلك يقول عمر: [[إن لأهل فارس عقولاً ملكوا بها الدنيا]]. انظر.. ما استهزأ بـعمر، ولا سخر، ولا قال: هذا ملك وخليفة المسلمين في هذا الزي المقطع؟! لا، أخذ يرتعد، فيقول له الناس: ما لك؟ فيقول للترجمان وهو يشير إلى عمر: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، ولذلك حافظ إبراهيم شاعر وادي النيل في محفل في القاهرة حضره ألوف مؤلفة أتى بهذه الكلمات: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، يقول حافظ إبراهيم في أول القصيدة:

حسبي وحسب في حين أرويها>>>>>أني إلى ساحة الفاروق أهديها

يا رب هب لي بياناً أستعين به>>>>>على حقوق ديون نام قاضيها

إلى أن يقول:

قل للملوك تنحوا عن مراتبكم>>>>>فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

إلى أن يقول:

وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً >>>>>بين الرعية عطلاً وهو راعيها

يقول: ذهل واندهش صاحب كسرى لما أتى وعمر وهو صاحب الرعية عطلاً أي: أنه جالس بلا حلي وعليه ثوب ممزق.

رآه مستغرقاً في نومه فرأى>>>>>فيه الجلالة في أسمى معانيها

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً>>>>>ببردة كاد طول العهد يبليها

لبسها من أول الخلافة إلى آخر الخلافة، ما خلعها إلا ولبس الأكفان بعدها، كان يرقعها كل يوم، تنشق من هنا فيرقعها من هنا والذهب والفضة تحت يديه! لكن أولئك قوم اختارهم الله للآخرة، قال:

رآه مستغرقاً في نومه فرأى >>>>>فيه الجلالة في أسمى معانيها

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً>>>>>ببردة كاد طول العهد يبليها

فقال قولة حق أصبحت مثلاً>>>>>وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها

أمنت لما أقمت العدل بينهم >>>>>فنمت نوم قرير العين هانيها

وقام عمر رضي الله عنه وأرضاه وفاوضه، وما يزداد هذا إلا رعباً وخوفاً، أنزل الله الخوف والرعب فيه فهو يرتعد بجانب عمر، وقد كانت قوة الأرض مع أولئك؛ لكن قوة (لا إله إلا الله) مع عمر، فـعمر بلا شك كان من أهيب الناس، الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس مع النساء؛ لأنه معلم ومربِ ولين وحكيم، وقد كان عمر حسنة من حسناته صلى الله عليه وسلم، بل هو ورقة من شجرته، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثل عمر في القوة والصرامة ما تعلم الناس كثيراً، ولا جلس معه الأطفال، ولا سألته النساء، لكن النبي هو معلم البشرية، فهو لين، يقول الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ويقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

{فجلس مع النساء، وأخذ بعض النساء يتمازحن في مجلسه صلى الله عليه وسلم، فلا إله إلا الله ما أبره! ولا إله إلا الله ما أرحمه وما أحلمه! ولكن فجأة جاء عمر بن الخطاب، فسمع النساء جلبة عمر فأخذن يتسابقن إلى الحجاب بعضهن تركب بعضاً! ودخل عمر، فقال: يا عدوات أنفسكن -وهذا في الصحيح- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تهبن منه (أو كما قال رضي الله عنه) لكن ردت امرأة عاقلة، قالت من وراء الحجاب: أنت فظ غليظ القلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم رحيم لين} أو كما قالت. فهو صارم رضي الله عنه، فأخزى الله الشياطين من الجن والإنس بصرامته؛ لأنه لو كان ليناً وكان أبو بكر ليناً ما صلح اللين مع اللين، أبو بكر تولى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة في مرحلة تستحق اللين سنتين وستة أشهر، لكن تمردت بعض القبائل وتمردت بعض الشعوب وبعض الدول، فأتى هذا الداهية العملاق يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {رأيت في المنام كأن أبا بكر أخذ الدلو فدلى دلوين أو ثلاثة وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت، فما رأيت عبقرياً يفري فريه} أو كما قال.

فوائد في الحديث تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم

التشديد في كتمان العلم

عمر كره مسألة ابن عباس رضي الله عنهما ولكنه لم يكتم العلم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ *إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160] ومن اعتقد أن الصحابة قد كتموا شيئاً من العلم أو أنهم سكتوا على شيء من العلم الذي تحتاجه الأمة؛ فغضب الله عليه وله من الله ما يستحقه، بل بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم الرسالة فصيحة ناصعة بليغة مطبقة لكل شئون الحياة قليلها وكثيرها، وبعض فرق المبتدعة تقول: الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا بالأسماء والصفات، أخبرنا بالوضوء والحيض، وأخبرنا بالصلاة والصيام والزكاة والحج، أما الأسماء والصفات فما أخبرنا، هذه خيانة منهم، بل هذا من أعظم المطالب وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بكل دقيقة وجليلة ومن أعظمها الأسماء والصفات؛ فقد بينها بياناً شافياً.

سبب نزول الآية وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه

في آية: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4] ينتقل بنا القرآن إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لنعيش مع الأب المربي الحاني في بيته، رسول الهداية وأستاذ البشرية ومعلم الإنسانية، وهو يعيش مع المرأة زوجاً، فالقرآن يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شأن من شئون الحياة، يتابعه قائداً عملاقاً، وإدارياً بارعاً، وخطيباً مصقعاً، ومفتياً فطناً، ويتابعه مجاهداً وقائداً، ويتابعه مربياً في البيت ومعلماً، فتعالوا مع القرآن في لمحة من اللمحات وفي سورة من السور والرسول صلى الله عليه وسلم في البيت مع زوجاته.

سبب نزول هذه الآية عند كثير من أهل العلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى زوجته زينب بنت جحش، فقدمت له عسلاً فأكل العسل، سمعت عائشة وهي ضرة لـزينب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل عسلاً عند زينب فأخذتها الغيرة، فذهبت إلى حفصة وطرقت عليها بيتها.

حفصة بنت عمر وعائشة بنت أبي بكر يتظاهران أي: تقومان صفاً واحداً في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فقوله: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [التحريم:4] أي: تعاونا عليه، فإن الله هو عونه وجبريل وصالح المؤمنين، فالله معه في حزبه، فقالت عائشةلـحفصة : [[سمعنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل عسلاً عند زنيب، فإذا دخل عندك فقولي: يا رسول الله إني أشم منك ريح مغافير]] والمغافير نبت رائحته ليست بذاك، تأكله النحل ثم تأتي منه العسل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصعب عليه أن يوجد منه رائحة، كل شيء يتحمل منه إلا الرائحة، رائحته دائماً مسك، حتى إذا مر من الشارع يعلم الناس أنه مر ولو لم يروه، وكان عرقه يتصبب مسكاً أذفر من أغلى المسك، وكان الأعراب يوم حجه يأخذون كفه صلى الله عليه وسلم فيرسل كفه للحجيج فيأخذون كفه فيمسحون على وجوههم، فيبقى الأعرابي سنة كاملة أو أكثر يجد ريح المسك، ويقول أحدهم: {صافحت الرسول صلى الله عليه وسلم فوالله ما زالت أثر الرائحة إلى اليوم في يدي} كل العرق الذي يتصبب منه والآثار مسك أذفر، ولذلك ما كان يأكل الثوم والبصل، يقول لـأبي أيوب وقد قدم له من أحد الأنصار هدية (ثوم وبصل) قال: {كل يا رسول الله. قال: لا. وقال لـأبي أيوب: كل. قال: لا، لم تأكل يا رسول الله. قال: كل فإني أناجي من لا تناجي. يناجي الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، يتكلم معهم، فأكله أبو أيوب}.

فدخل صلى الله عليه وسلم على عائشة، فقالت: يا رسول الله.. إني أجد منك ريح مغافير، أظن أن نحله أكل العرفط (وهو شجر آخر) فسكت صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى حفصة فقامت حفصة وقالت: يا رسول الله أجد منك رائحة مغافير، أظن أن نحله أكل العرفط؛ فحلف صلى الله عليه وسلم ألا يأكل العسل بعدها، ما دام أن العسل يسبب هذه الرائحة التي لا تليق فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1] شيء أحله الله لك من فوق سبع سماوات، اتركهن فالله هو مولاك وجبريل وصالح المؤمنين.

وسبب آخر وكأنه الصحيح عند بعض أهل العلم، وقد أورده ابن جرير وابن كثير أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل في بيت حفصة وقيل في بيت عائشة بجاريته مارية القبطية وهي ما زالت جارية، ثم خرج صلى الله عليه وسلم، فكبر عند حفصة كيف يدخل بها في بيتها، فذهبت إلى عائشة فأخبرتها، فقامت عائشة واتحدت مع حفصة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فحرم صلى الله عليه وسلم عليه مارية القبطية فقال الله له: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1].

إذاً هذا الخير هو السبب فجعل الله له كفارة من أيمانه، وقال الله للنساء: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً [التحريم:4-5] أي: وهل لا يوجد في الدنيا نساء إلا أنتن؟! انظر إلى التهديد والوعيد. فلما سمعن الخطاب أخذن يتباكين وأتين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تعلن كل واحدة منهن التوبة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم:3] وهذا سبب من الأسباب، وهو الصحيح إن شاء الله.

حياة النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لكل مسلم

الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته كان يصارع الأحداث التي لا يسلم منها أحد، ولذلك لا يتعاظم أحدكم أن يعيش مع أهله في البيت قضية اختلاف أو طلب نفقة أو جدل، فالرسول صلى الله عليه وسلم عاش هذه الأحداث، ليكون أسوة لكل مسلم، إن كنت راعي غنم فالرسول صلى الله عليه وسلم كان راعي غنم، وإن كنت تاجراً فالرسول صلى الله عليه وسلم كان تاجراً، وإن كنت معلماً فالرسول صلى الله عليه وسلم كان معلماً، وإن كنت إدارياً فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إدارياً، ومفتياً فهو مفتي، أو خطيباً فقد كان خطيباً، وكل صورة تمر بالإنسان سوف يجد في الرسول صلى الله عليه وسلم لها ما يناسبها، ولذلك كان بالإمكان أن يستغني صلى الله عليه وسلم عن الزواج وعن مراعاة الأهل، والقيام مع المرأة والأخذ والعطاء، وتضييع الوقت في الكلام والجدل؛ لكن الله أراد منه أن يكون إنساناً يعيش أحداث الأمة، ويعيش آلامها وآمالها، ويكون رباً للأسرة عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك يقول الله له: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] فكان يحمل الأطفال صلى الله عليه وسلم.

أفضل من خلق الله يأتي في صلاة العصر يحمل أمامة بنت بنته، فإذا سجد وضعها في الأرض وإذا قام حملها، والآن بعض الناس يأنف أن يحمل طفلته أمام الناس حتى في الشارع، ويتكبر أن يأتي بها في المجالس، يقول: ما هي هذه الأطفال؟ (هذه غلابة) كما يقولون: غلبونا وضيعوا أوقاتنا؛ لكن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يحمل الأطفال.

تأتي المرأة السائلة وطفلها بين يديها، فيأخذ الطفل صلى الله عليه وسلم إلى حضنه، أي خلق هذا؟! ولذلك يقول الله من فوق سبع سماوات: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وهو حقاً عظيم ما سمع الناس بمثله! يبول الطفل على ثيابه صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم - فيأتي بماء ويتبعه به، فانظر كيف يعيش هذه الأحداث، فغسله لهذا الأمر سنة، وأخذه للطفل سنة، وإفتاؤه لوالدته سنة، فكلامه وفعله وحركاته وسكناته سنة يقتدى به صلى الله عليه وسلم إلا ما خصه الدليل.. هذا في بيته.

كان في بيته كما تقول عائشة: {ضحاكاً بساماً}إذا دخل ملأ البيت سكينة وارتياحاً، وسروراً وحبوراً ودعابة، وكان يقطع مع نسائه اللحم، يمسك اللحم وهي تقطع بالسكين، أو يأخذ ويقطع وهي تمسك اللحم، وهو شفيع الأولين والآخرين يوم القيامة، والذي جاء برسالة سوف تبقى أبد الدهر، كل قائد من قواد المسلمين حسنة من حسناته، وكل عالم من علماء المسلمين حسنة من حسناته، كان يخصف النعل صلى الله عليه وسلم، ويرقع الثوب، ويكنس البيت ويكون في الخدمة، وما يزيده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلا شرفاً ومكرمةً.

ما قال الأعداء في النبي صلى الله عليه وسلم

يقول المستشرق كريسي موريسون: لقد كان محمدٌ عجباً، يصلح مشاكل العالم وهو يشرب القهوة في بيته في المدينة.

كتاب عظماء العالم المترجم فيه مائة عظيم، أخذوا عظماء الصين، وعظماء العرب واليونان، وعظماء الأمريكان والفرنسيين والإنجليز فكانت المرتبة الأولى -والحق ما شهدت به الأعداء- لمحمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: عيسى عليه السلام، والثالث مكتشف الكهرباء أديسون، والرابع عمر بن الخطاب، وأخذوا مكتشفين آخرين وأجمعوا على الكتاب، ولذلك صدر الكتاب هذا من هيئة الأمم، فنحن نستشهد ونقول: الحمد لله ما دام أنهم قالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم أول عظيم فهو فضل من الله..

جواز احتجاب صاحب السلطان لمصلحة

للمرء أن يمنع الزيارة عن بيته حين تحصل مشاغل أو ظروف، وهذا لأهل المسئوليات، للمسئول في الدائرة أو في المؤسسة أو في شركة أن يمنع الزوار في فترة من الفترات للمصلحة، لكن أن يبقى بابه مغلقاً من أول الدوام إلى آخر الدوام فهذا خطأ وباطل، وهذا ظلم، أو من لايدوام ثم يقول للحارس أو الفراش: لا تجعل أحداً يدخل عليَّ ثم يخرج من الباب الآخر، وكل ما أتى مسكين أو صاحب حاجة قال: لا، عنده شغل، هو مرهق بالأعمال والمعاملات (وهو في بيته) فأما في فترة من الفترات فلا بأس بها لأمر؛ لاجتماع، لسر، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ حاجباً على بابه للمصلحة.

مالك بن أنس، وهو إمام دار الهجرة في عهده كان على بابه حجاب رضي الله عنه وأرضاه، فللمصلحة لا بأس، يأذن لمن شاء ويدخل من شاء، والعرب كما قال ابن قتيبة: يتفاءلون ويتشاءمون بالحاجب عند الباب، إذا رأوا الحاجب يتبسم وفيه الخير استبشروا خيراً، وإذا رأوه غضبان استبشروا شراً، فهذا أمر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك قالوا: إن المغيرة بن شعبة جعل حاجباً على بابه وقال: لا يدخل أحد علي اليوم. فوقف الحاجب وأدخل جماعة من الناس، قال: أما قلت لك: لا تدخل أحداً؟ قال: هؤلاء أرحامي وأصهاري وجيراني. قال: صدقت والله، إنك حافظ للود، والله إن الكلب إذا فعلت له معروفاً يحفظ ودك فأنت الحاجب.

هذا حفظ الود في الناس، فالعدل العدل في مثل هذه الأمور، إذا كلف الإنسان بمسئولية ينبغي أن يعدل بين الناس، وله أن يود بعض الناس لشفاعة ولمنزلة أو لأمر؛ بشرط ألا يأخذ هذا من حق هذا، ولا يجور هذا على هذا.

ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من شظف العيش

الله عز وجل جعل نعيمه وقرة عينه وسروره وحبوره في الآخرة، فلم يعطه الدنيا حتى لا يأخذ من ثمرته في الآخرة، بل ادخر الله له النعيم المقيم في الآخرة عليه الصلاة والسلام، فعاش شظف العيش، يسكن في بيت من طين ويعيش هذا ليكون قدوة للناس، وإلا فمن وسع الله عليه فعليه أن يتوسع كما فعل بعض الصحابة، ومن استعان بنعمة الله على طاعته فهو مأجور، وهذا غني شاكر، وذاك فقير صابر، وأكرمهما عند الله أتقاهما.

فوائد مستنبطة من الحديث

تعجيل الطيبات للكفار في الدنيا

لا يجمع الله على الكافرين نارين ولا خزيين ولا لعنتين ولا غضبين في الدنيا والآخرة، على الأقل يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، فالله أعطاهم في الدنيا النعيم، من اللحوم والطيبات يتنعمون كما تأكل الكلاب والثيران والحمير، ثم يأتون يوم القيامة وليس لهم عند الله من خلاق.

لكن المؤمن قد يتمتع في الطيبات في الدنيا وفي الآخرة كذلك قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93] وقال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32] هذا لحزب الله وجند الله، فمن رزقه الله نعيماً؛ فالله الله أن يستخدمه في طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لبساً، مالاً، مسكناً، مركوباً جيداً، وأن يسخره في خدمة هذا الدين وفي طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

أما الكفار فلو سكنوا القصور من ذهب ومن فضة؛ فوالله إن مأواهم نار تلظى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُون * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:31-35] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:18-21] فسبحان من فضل الناس بالأعمال! وسبحان من أعطى بعض الناس جنته في الدنيا؛ ليخزيه خزياً ما بعده خزي في الآخرة! فنعوذ بالله أن يكون نعيمنا وإياكم في الدنيا ثم لا يكون لنا في الآخرة من خلاق.

الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً

والشاهد فيه: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب} أي: لا نسير على علم الفلك وعلم الهيئة، إنما علمنا بالرؤية ولا نتكلف الأمور، وعلمنا نظري بحت مسهل مقرب، وليس استقرائياً معقداً، ولذلك لا توجد أي آية في القرآن تشكل عليك إلا في النادر، والحديث النبوي سهل، وإنما عقد العلم في القرون المتأخرة، أتوا فجمعوا الكلمات فشروحها فأعجموها وألجموها، ثم أتوا بالحواشي على المتون فزادوها غباء على غباء، ثم جاءوا بالحواشي على الحواشي فأظلموا، فيأتي الإنسان يقرأ في بعض الكتب فإذا هي طلاسم. لكن افتح رياض الصالحين، أو صحيح البخاري واقرأ: {إنما الأعمال بالنيات} فيفهمها كل الناس حتى العجائز، تقرأ القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] من الذي لا يفهم هذا؟! تقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20] فإذا هو مفهوم، ولكن مع سهولة القرآن ويسره فهو أعمق ما يكون، وفيه علم الأولين والآخرين، الأصالة والعمق في القرآن، والله ثم والله إن الإنسان ليشده حتى يقف مندهشاً مذهولاً إذا قرأ لمثل ابن تيمية وهو يتكلم عن القرآن، يأتي بأمور لا تخطر لك على بال، وربما تخطر لك لكن لا تخطر لي أنا، وما فكرت فيها في حياتي، يقول مثلاً: إن آيات الربوبية يوم يتكلم عنها بدليل المناظرة الربانية يتكلم فيها موسى مع فرعون، لكن الأدلة الاستقرائية في الألوهية يتكلم بها إبراهيم مع قومه، ثم يأتي بقواعد منضبطة في القرآن قال: الله إذا أتى بهذا ختم بهذا، شيء يذهل العقول..! فسبحان من أنزل هذا الكتاب!

كفارة اليمين

يقول الله للرسول صلى الله عليه وسلم: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2] فما هي تحلة اليمين؟ الرسول صلى الله عليه وسلم حلف وآلى من نسائه، وبعد أن آلى كفر فما هي كفارة اليمين؟ الإيلاء له كفارة، لكن كفارة اليمين يوم حلف الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يأكل العسل، كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة أو صيام ثلاثة أيام، فإذا علم هذا؛ فمن حلف منكم على طعام أو حرم طعاماً أو حرم شيئاً من الحلال؛ فعليه أن يكفر كفارة يمين، ويلحق بذلك لفظ "الحرام" هذا مستخدم خاصة في هذا الإقليم وهذه المنطقة، إنسان يريد أن يغديه أحد الناس أو يعشيه فيحرم، فهي على طرف لسانه أعظم من "والله" ثم يحرم نفسه وأهله هذه الذبيحة فماذا يفعل لكي يكفر؟ يأكل ثم يكفر كفارة يمين ويستغفر الله ولا يعود لمثل هذا.

العلم الخشية

أعظم ثمرة في الإسلام للعلم وللمعرفة وللثقافة وللاطلاع: خشية الله عز وجل، فالذي لا يخشى الله عز وجل؛ فليس لعلمه ولا لثقافته ولا لاطلاعه نفع ولا فائدة، وإنما يزيده كثرة العلم عمى وضلالة كما زاد اليهود والنصارى، فالذي لا يستفيد من علمه ولا من تحصيله واطلاعه، ولا من ثقافته ومعرفته، ولا من شهادته خشية لله عز وجل فكأنه يتأخر، وكأنه ينقطع من حبل الله عز وجل، وكأنه نقض الميثاق مع الله عز وجل، ولذلك يقول جل ذكره: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فالذي لا يخشى الله ليس بعالم ولو كان يحفظ نصوص الدنيا، ولذلك يوجد منافقون في هذه الأمة يحفظون القرآن كالماء، كما ذكر ذلك ابن تيمية وغيره.

يوجد من المستشرقين الكفرة من يحفظ القرآن، حفظوا القرآن ليعرفوا الثقافة الشرقية ويردوا على رسالة الإسلام، ويوجد بعض الفسقة والفجار يحفظون القرآن والحديث؛ لكن أثر الخشية المطلوب ليس فيهم؛ لأنهم لا يريدون الاستقامة، ويوجد في أهل الصلاح وفي أهل الخير وولاية الله عز وجل من الذين هم السابقون الأبرار من لا يحفظ إلا سوراً من القرآن، ولذلك يذكر ابن القيم: أن حفظ القرآن هو العمل به، وهو أعظم مدلول للحفظ ولو لم تحفظ نصوصه، وأن أعظم تضييع له هو تضييع العمل به، لأن ابن مسعود رضي الله عنه يقول كما في الموطأ: [[إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، كثير من يعطي، قليل من يسأل، يحفظون حدود القرآن ويضيعون حروفه، وسوف يأتي زمان كثير خطباؤه، قليل فقهاؤه، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يحفظون حروف القرآن ويضيعون حدوده]].

ولذلك تجد من بعض الناشئة من يحفظ كثيراً من القرآن أو كل القرآن ولا يصلي مع الناس في المسجد، وتجد منهم من يحفظ كثيراً من القرآن ويعق والديه، ويقطع رحمه، ويلعن ويشتم، ويتعدى حدود الله، ويقترف المعاصي والذنوب بلا حدود ولا انتهاء، فثمرة العلم هي الخشية.

وإنما قلت هذا لأن أعظم ما يجعلنا نسوق قصص السلف الصالح سلام الله عليهم أننا نأخذ منهم أنهم عملوا بعلمهم، وقصصهم بلسم للقلوب ودواء وشفاء بإذن الله وراحة، مثل عمر وابن عباس يوم ذكرناهما رضي الله عنهما، العامل الكبير الذي يقدمهم على كثير من الناس هو الخشية لله عز وجل وليس كثرة العلم.

تصور عمر بن الخطاب يوم يظلم عليه الليل وهو في الليل الدامس فيأتي رضي الله عنه وأرضاه -كما تقول عاتكة بنت زيد: [[فلا ينام الليل، يأخذ عنده تور من ماء فيغسل وجهه كلما ضمه النوم كالطائر، ثم يهلل ويكبر حتى ينتصف الليل فيقوم يصلي ويبكي حتى الصباح، فتقول له زوجته: يا أمير المؤمنين لو ارتحت! أفي النهار مكدود متعوب وفي الليل مكدود متعوب؟ قال: لو نمت النهار لضاعت رعيتي ولو نمت الليل لضاعت نفسي]]

عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع سورة الصافات من أبي بن كعب وهو يقرأ على الناس: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:25-26] فيهوي على وجهه حتى يحمل من المسجد ويبقى شهراً كاملاً، يقول ابن كثير: فيزار في البيت.

يقول عطاء: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ابن عباس جفناه كالشراكين الباليين من كثرة البكاء، ولقد رأيته ليلة من الليالي يصلي من صلاة العشاء إلى الفجر وهو يبكي ويردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123] ]

فأعظم ما نستفيد منه في هذه الجلسات ومن الدراسة والمحاضرات ومن الاطلاع في الكتب الخشية، وإلا فوالله لو كان الأمر فقط بزيادة معلومات فلقد غلبتنا أمم كثيرة عندهم ثقافات ويقرأون من الكتب أكثر مما نقرأ، ولذلك تجد بعض الأمم كالأمريكان يقرأون الساعات الطويلة، العجوز منهم يركب الحافلة والطائرة والقطار وهو يقرأ كتاباً في يده، ينتظر زميله وهو يقرأ كأنه يعد للجنة بينما هو يعد للنار ويهوي في النار على وجهه، ونحن أمة الرسالة والمعرفة والتي أراد الله أن نكون أمة الخشية والإنابة ليس هناك إلا من رحم ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي ندعو أنفسنا وإياكم إليه أن تكون ثمرة هذا الجلوس والتراجم والأحاديث والندوات والدروس خشية لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، واتصال به، وزيادة في العمل الصالح وتوبة من السيئات وإنابة إليه.

أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبتني وإياكم على الحق، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، ربنا تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.

وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الرجل الممتاز للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net