إسلام ويب

تحدث الشيخ في هذه المحاضرة بأسلوب أدبي عن نماذج يقتدى بهم ممن خلد الله ذكرهم.

من هؤلاء الذين ذكرهم: الخلفاء الراشدون، ومواقفهم التي اشتهروا بها في خدمة دين الله.

وتكلم بعد ذلك عن الأئمة الأربعة وختم بنبذة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

وقفات مع نماذج من الصحابة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه.

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

أيها الإخوة الفضلاء: هذه محاضرة: "مفتاح التميز" أردت أن أقدم نماذج من أعلام الإسلام بأسلوبٍ أدبي؛ علَّها أن تنفث في القلوب همةً وعزيمةً ومضاءة.

وقفة مع أبي بكر الصديق

أبو بكر الصديق رضي الله عنه: عتيقٌ في الجاهلية، صديقٌ في الإسلام، حاضرٌ في المغارم، غائب في المغانم، أحب صاحب الدعوة فقاسمه الخوف والعناء والمشقة، وشاطره الهم والمعاناة واللوعة، مناقبه خصائص تمنع الاشتراك، وخصائصه أكاليل لا تقبل غيره، ضاقت به الدنيا فدخل الغار مع صاحبه، والله يقول: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16] خشي على صاحبه من العقرب فسد الثقب بإصبعه، لدغ فما أنَّ، فقال له صاحبه: تأنَ، خاف على المختار في الغار من الكفار فصاح من شدة العناء: أفديك أنا، فنودي: لا تحزن إن الله معنا.

هو مثل الخليل إبراهيم، وَحد الرحمن، وحطم الأوثان، وأكرم الضيفان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]

أبو بكر هو الأول في الإسلام وفي الهجرة والجهاد، إلى الله سبق، وبشرعه نطق، وفي القول صدق، فلا تركبن في سريته طبقاً عن طبق، زوج ابنته الإمام، واشترى المؤذن، وبنى المسجد، فنال جائزة: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21]

مع الصديق إداوة يسقي بها الصاحب، وسيفٌ ينافح به عنه، ولسانٌ يدعو إليه، وقلبٌ يحبه، وعينٌ تبكي لحديثه، وجفنةٌ تطعم ضيوفه.

أبو بكر قيل له: نُبئ صاحبك، قال: صدق، قالوا: ونزل عليه جبريل، قال: صدق، قالوا: وأخبرنا أنه أسري به، قال: صدق، قالوا: وذكر أنه عرج به، قال: صدق، فقيل له: أنت الصديق حياً وميتاً، لقبٌ يبقى لك مجرداً ومضافاً، نكرةً ومعرفة، مفرداً وجمعاً.

آمنت بالذي جعل الصديق في الإيمان آية للسائرين، إن حانت الصلاة؛ فهو في الصف الأول من القانتين، وإن تلا غلبه البكاء، وابيضت عيناه من الحزن خشية لرب العالمين، وإذا ادلهم الخطب عرض روحه للمنايا، وقدم رأسه لسيوف المقاتلين، لا يكفه أن يدعى للجنة من باب بل من الأبواب الثمانية، ولم يسعه أن يعتنق الإسلام في مكة سراً بل علانية، دخل مع الصاحب في الغار، وخرج معه للهجرة، وبات معه في بدر، ولزمه في حنين، وسافر معه إلى تبوك، وحج معه، وناب عنه في الإمامة، وقام مكانه في الخلافة.

لما مات الصاحب سال دمعه سريعاً ساخناً صادقاً، فلما ارتد بعضهم عن الإسلام جف دمعه، وصلب عوده، واشتد ساعده، ولعلع سيفه، وزمجر صوته، فرد من شرد، وأقام من قعد، وأدخل بالسيف في قلوب الناكثين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فكان لسان الحال في الأزمات يحييه، اثبت أحد.

قال المارقون: لا ندفع مالاً، فأقسم: [[والله لو منعوني عقالاً...]] فسل سيف الحق.

ارتد مسيلمة الكذاب، فقال الصديق: يا ذباب! يأتيك الجواب فألبس خالداً العمامة، قال: هيا إلى اليمامة، فاهتز سيف الله المسلول، فصبح المرتدين وهم في ذهول، فحطَّم الجماجم، وأذل الباطل وهو راغم، أبو بكر ما أشده! هو رجل الشدة، وبطل يوم الردة، الأسود تَسود، والمثالب للثعالب.

أبو بكر ثلاث ليالٍ، وثلاثة أيام، وثلاث ساعات، ليلة الغار، وليلة بدر الأبرار، وليلة الدار، أبو بكر يوم أعلن إسلامه، ويوم ارتحل مع صاحبه مرةً خلفه، ومرةً أمامه، ويوم جهز جيش أسامة، وأبو بكر ساعة سمع سورة اقرأ، وساعة صدَّق المعصوم في الإسراء، وساعة مات الحبيب وأظلمت الغبراء.

أبو بكر أعلن الحرية؛ لأنه أول من استقبل عبداً، وأول من ودع عبداً، استقبل بلالاً أيام البلاء، يوم كانت قريشاً ثائرةً على السود، هائمة في السيادة، ضالعةً في الاستعباد، وودع أسامة الأسود يركب على الفرس بسواده، والصديق يطأ الثرى ببياضه، ليقول للناس: لا ألوان، لا أنساب، لا ألقاب، عندنا رسالة ويقين، وطهر ضمائر، وسمو همم، هو مع خليله وإمامه وحبيبه وأسوته، في الصلاة خلفه، في الحرب أمامه، في الطلب لديه، في المهمات عنده.

أبو بكر قلبٌ نبيل، وجسمٌ نحيل، وشاب الإرادة، وشيخ التجارب، أحيا قلبه بالإيمان فلم يمت أبدا، وأمات نفسه عن الشهوات فلم تعش أبداً، هاج الناس يوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم فسكن أبو بكر، تلعثموا فتكلم، أراد أن يخبرهم بالمصاب فأتى بالعجب العجاب: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت]].

أبو بكر نحيفٌ أسيفٌ شريف، نحيف لم يثخن من موائد اللاهين وبعض الرعية في أسراب الجائعين، وأسيفٌ بكى من التنزيل، ودمعت عيناه من خوف الجليل، ووجل ليوم الرحيل، وشريف سمت روحه عن الشهوات، وعظم قلبه أن تناله الشبهات، ونظفت يده أن هاء وهات، عنده صحة فطرة، سقاها معين التوحيد، ونضحها نسيم الهجرة، وأنضجتها شمس الجهاد.

عقيدته توقد من شجرةٍ مباركة لا شرقية ولا غربية، بل ربانية سُنية سلفية، نورٌ على نور، شاب رأسه من تلك الأيام، يوم رأى إمامه وقدوته يؤذى في الطواف، ويوم شاهد السيوف تلف الغار، ويوم أبصر الحبيب يودع الحياة، صفقته رابحة، وكِفته راجحة، وعطاياه غاديةً رائحة، أنطق بحجته ألسنة النبلاء، فشهدت أن لا إله إلا الله، وأسكت بدولته أفواه البغاة يوم قالت: لا إله، أرسل لواءه الأبيض على الأسود العنسي فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]

وأرسل طلحة على طليحة فصغر الاسم، ومحا الرسم، ولا يغلب اسم الله اسم، جمع له المرتدون الخيول المرسلات؛ فسلط عليهم السيوف النازعات، منعوا زكاة المال؛ فأخذ منهم زكاة الرجال، قطعوا الحبال فارين؛ فجرهم في العمائم مقيدين.

مات المعلم يوم الإثنين، ومات التلميذ يوم الإثنين؛ لأنه ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] وتنتهي بهما في دار المقام، ويذهب الحزن كله، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34].

وقفة مع عمر بن الخطاب

عمر بن الخطاب: أسلم قوياً، وهاجر قوياً، وقتل قوياً، شمر قميصه في اليقظة؛ فجره في المنام، أراد صلى الله عليه وسلم أن يدخل قصره في الجنة فذكر غيرته فلم يدخل، انتقل من عميرٍ إلى عمر، إلى الفاروق، إلى أمير المؤمنين، إلى جنات النعيم.

إسلامه فتحٌ هز مكة، ووقف النصر على بوابة مدينة الإسلام منادياً: ادخلوها بسلامٍ آمنين، وهجرته نصرٌ؛ لأنه هاجر متحدياً شامخاً ظاهراً، وخلافته رحمة؛ لأنه أول الجائعين والمساكين والزاهدين.

وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فعز الإسلام، وارتفعت الأعلام، وانهزمت الأصنام، واندك الباطل، وسحق الزيف، وقمع الضلال، وغربت شمس الزور.

ووضع يده في يمين أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، فساد الأمن، وتوطدت الخلافة، وحسمت الفتنة. كسر بسيف الشرع ظهر كسرى، وقصَّر بالحق آمال قيصر، وأرهق بكتائب الله هرقل.

إذا سمع الباطل أزبد وأرعد وتهدد وقام وقعد وأنجز ما توعد، وإذا سمع القرآن بكى وشكا وتململ وتزلزل.

كان عمر في جبين الدهر دُرة؛ لأنه قرع الظلم بالدرة، فلله دره، خاف منه الشيطان، وارتعد لرؤيته الهرمزان، وانتهت به دولة آل ساسان.

درته لله درها، وما أدراك ما هي؟! درة عمر؛ لخبط رءوس الضلال، وضرب أكتاف الظلمة الجهال، وتأديب العمال.

قميص عمر مرقع، تغير لونه بدم عمر يوم طعن، فصاح لسان حال عمر: اذهبوا بقميصي وائتوني بكفنٍ فقد مللت الحياة.

طاش عقل صبيغ بن عَسْلٍ بالترهات وفاش، فأحضر عمر الدرة، وخفقه حتى فقد وعيه ثم أيقظه وقال: كيف تجدك؟ فصاح: أصبحنا وأصبح الملك لله.

طعن في الصلاة، ومات في المحراب، ودفن في الروضة.

هُدِّمت به قصور فارس؛ لأن بيته من طين، وكسرت به سيوف رستم؛ لأن بيده درة، وخلعت به تيجان آل كسرى؛ لأن قميصه مرقع.

له ثلاث وقفات، وثلاث رؤى، وثلاث كلمات، وطعن بثلاث طعنات، وقفة يوم أسلم، ويوم هاجر، ويوم بايع الصديق، ورؤي القميص يجره في المنام، ورؤي قصره في الجنة، وطعنة الشهادة والبطولة والانتصار.

تعرض للموت في كل مكان فما وجده إلا في المحراب، دوخ ملوك العالم؛ فقتله عبد، قتل ساجداً لأن قاتله لم يسجد لله أبداً، وخرج اللبن الذي شربه يوم طعن؛ لأنه اكتفى بفضل ما شربه من اللبن الذي شربه الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول وهو يتنهد: [[يا ليتني كنت شجرةً تعضد]] فنال الشهادة في المسجد.

وافق الوحي، وخالف الهوى، وتابع المعصوم، وتلا الصديق، وسبق الملوك، وصحب العدل، وجدَّ في الأمر، وعزم عن رشد، في الصلاة باكياً، في المعركة غاضباً، من الدنيا واجماً، إلى الآخرة ضاحكاً، إلى الرعية قريباً.

عمر كالطائر الحذر، لا يصاد بالشباك، ولا يقع في الأشراك، ولا يهبط على الأشواك، لماحٌ يقظ نبيه، جاءته كنوز فارس والروم فوزعها على القوم، رفض الديباج لأنه على منهاج، لا يرى لبس الحرير ولا الجلوس على السرير ولا أكل الطرير؛ لأنه تلميذٌُ البشير النذير، إن وجد ضالاً نصحه، وإن عاند مكابر بطحه، وإن انتشر ضلالٌ فضحه.

سمع الوحي فقال: الله أكبر، وقرقر بطنه من الجوع فقال: [[قرقر أو لا تقرقر]] فبقر في سبيل الله بالخنجر.

طالت همته؛ فقصر أمله، كبرت نيته؛ فصغرت نفسه، اتسع فهمه؛ فضاق وهمه، كان للظلم بالمرصاد، فكم من ظالمٌ قد صاد، ظنه يقين؛ لأنه صحب الأمين، وردد وراءه آمين.

قيل له: الروم بالجيوش رموك، فقال: الموعد اليرموك، أطلق كسرى الرصاص، فكتب عليه القصاص، وأرسل له سعد بن أبي وقاص.

جاع يوم الرمادة حتى شبعت الرعية، ولبس المرقع حتى توشح الناس بالأقبية، وقتل حتى تحيا الملة، فلا تموت أبدا.

هو بابٌ دون الفتنة كسر، فدخلت منه الطوائف، كلما دخلت أمة فاقت في الشر أختها، أراد أهل الضلال العبث في الكتاب فضرب بينهم بسورٍ له باب.

خرج من الدنيا فأطلت برأسها الخوارج، ورفض العيش فأقبلت الرافضة، ولقي قدره فعشعشت القدرية، افترس فارس بـسعد الفوارس، ورمى الروم بـخالد فطاش راميها، وبغثر سجستان بـالنعمان، وأرغم هرقل وأنو شروان، وجبا خزائنهما يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.

قتل عمر ولكنه عاش، ارتحل لكنه أقام، هو فينا، وفي ضمائرنا، وعروقنا، ودمائنا، وقلوبنا، وعيوننا.. في الأبطال، والرجال، والأطفال.

عمر الحزم عند ورود القلق، والعزم مع طائف التردد، واقتناص الفرصة قبل أن تدبر، قويٌ حتى تضعف صولة الباطل، شديدٌ حتى تلين قناة الزور، همه تحقيق العدل، ورسوخ المساواة، وحفظ الحقوق، وكسر أنف الأنفة، وقمع جولة الجبروت، عنده حكمةٌ للقلوب، ودرة للأكتاف، وسيفٌ للرقاب.

طبت يا عمر حياً وطبت ميتاً، لبست جديداً، وعشت حميداً، ومت شهيداً.

وقفة مع عثمان بن عفان

عثمان بن عفان: تستحي منه الملائكة، يحبه المؤمنون، يكرهه المارقون.

عثمان يساوي البر والإحسان، والصدقة والقرآن، والصبر والإيمان.

بذل ماله بلا مِنَّة، جمع القرآن والسنة، فصحب الحبيب في الجنة.

زحف الخطر فجهز جيش العسرة، وأقبل الظمأ فشرى بئر رومة، وتقدم الجوع فأطعم الناس، ودهمه السهر فقام بالقرآن.

سموحٌ صفوح، لا يطالب بالثأر، فجرح بسيف الثوار.

زوجه صلى الله عليه وسلم ابنتين، واشترى نفسه مرتين، وبايع لخليفتين، فاستحق لقب ذي النورين.

غاب عن بدر؛ فناب عنه المسلمون، ذهب يوم العقبة في المهمة فناب عنه الإمام الأعظم، إن غاب حضرت أعماله، إن شهد حسنت خلاله، جهز جيش العسرة، فسمع المعلم الأطهر يقول على المنبر: {اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راضِ} تكفل بمؤونه القوم فكوفئ بـ: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.

قتل فمزق مصحفه؛ لأن المضاف له حكم المضاف إليه، آخر أيامه كان صائماً، وآخر لياليه بات قائماً، قتل وهو يتلو القرآن فدخل من باب الريان، تسحر في المدينة، وصلى العصر في الروضة، وأفطر في الجنة.

حسن عمله فطال عمره، وطاب مخبره فصح مظهره، أحسن الرفادة فكوفئ بالشهادة.

عثمان أخذ من الإسلام السماحة، ومن الحق الوضوح، ومن الشمائل الحياء، ومن القيم البذل، المال عنده: نفعٌ في الملمات، والجود عنده: كشفٌ للكربات، والحياء لديه: نكوصٌ عن العثرات.

كان يئن بالآيات في الهجيع، فرافقه القرآن إلى البقيع، فلله دره من ضجيع.

هنيئاً لـعثمان يوم اشترى الجنة بأغلى الأثمان، ذهب عثمان بصيامه وجهاده وتلاوته وحيائه وبره وإحسانه، وبقي ذكره والثناء عليه والدعاء له، وحبه يداً بيد، مثلاً بمثل، سواء بسواء، هاء وهاء.

قتل من غير ذنب، وذبح من غير جرم، لكن منزلته السامية ومكانه الرفيع، لا يوصل إليه إلا بدم، ولا ينال إلا بشهادة، أما آن لـعثمان أن يلقى الرحمن؟ أما آن للمجاهد أن يرتاح، وللصائم أن يفطر، وللمتهجد أن ينام؟

وقفة مع علي بن أبي طالب

علي بن أبي طالب: سر هذا الإنسان أنه يحب الرحمن ويحبه الرحمن.

هذا الرجل شجاعٌ يجيد فن قطع الرءوس الوثنية على الطريقة الإسلامية، إذا ضرب بالسيف هزه هزاً؛ لأن في الرءوس مسامير اللات والعزى.

أسلم طفلاً، وحضر بدراً شاباً، وتولى الإمامة كهلاً، وقتل شيخاً، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.

هو صاحب تلك الكلمات، وأستاذ تلك العبارات، ومدبج تلك الجمل النيرات، لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، لا يخرج عليه إلا باغٍ، لا يسبه إلا فاجر.

خطف رأس الوليد في بدر، وسلب جمجمة عمرو في الخندق، ونحر العاص بن وائل في يوم الفرقان، وكسر لواء الباطل يوم أحد، ودك الحصن يوم خيبر.

علي مرفوع بين الرفض والنصب، الرافضة جاوزوا فيه العدل، وقالوا فيه بالجهل، وقد أغناه الله عن قيلهم، وتزكيته خيرٌ من تعديلهم، وأهل النصب نسبوا إليه المساوئ ودفنوا محاسنه ولم يرووها كما هي، فرفض أهل السنة فريضة الرافضة، ونصبوا نصاب العدل في وجوه النواصب، فـعليٌ عند أهل الحق لاحت نجومه، وارتفعت سهومه.

نهشته الحراب في المحراب، فسجد سجدة طويلةً لله لم يرفع رأسه بعدها أبداً، فصيحٌ لَسن، كل ما فيه حسن، ليعش أبو الحسن.

ماذا نقول وهو ابن عم الرسول، وسيفه المسلول، وزوج ابنته البتول.. أبناؤه سادة الأبناء، وعمه سيد الشهداء؟

حطم جماجم المشركين، ومزق جلود اليهود، وكمم أفواه البغاة، وأخرج بالسيف أدواء الخوارج.

شتت شمل الفتنة في الجماعة، وجمع شمل الأمة في الفتنة، جبر قناة الدين، وكسر رمح المعتدين، له في عالم البطولات فنون، وله في عنق الأمة ديون، وهو من الحبيب بمنزلة هارون.

أعطى الدين كل همه، فنام في فراش ابن عمه، من أحب محمداً أحب علياً، ومن أحب علياً أحب محمداً.

حطم درعه فتزوج به فاطمة، وكسر سيفه فعوض بذي الفقار، ومزق قميصه فألبس تاج: ويحبه الله ورسوله.

طلب الشهادة في بدر؛ قيل له في أحد، فبحث عنها هناك؛ فنودي: لعلها في حنين، فهب إليها قالوا: ربما تكون في خيبر، فلما وصلها قالوا: تأخر الموعد، قال: ما أحسن القتلة في المسجد! قتلوه قتلهم الله، ألا سألوه عن العلم، فإنما شفاء العي السؤال.

بديهته أسرع من الضوء، وأعجل من البشرى، وأنصع من الفجر، عالمٌ إن لجلج في الأعماق غاص، وإن طلب الحجة حضرت بلا مناص؛ لأنه من الخواص، جبنت نفسه عن طلب الدنيا فالأثاث حصيرٌ وركوة وملحفٌ وجفنة، وتاقت نفسه للجنة، فالزاد إيمانٌ وهجرةٌ وجهادٌ وشهادة، ما فر في معركة قط وما ضرب بسيفه في الكفار إلا قط.

الناس فيه طرفان ووسط، ما بين غلوٍ وشطط، مادحٌ غلا حتى ادعى في عصاميته العصمة، وقادحٌ جفا حتى شك في صحة صحبته، وهو لا هذا ولا ذاك؛ بل هو ابن عم النبي الأمي المنير، وهو عالمٌ مجتهدٌ نحرير، للمؤمنين أمير، وبكل فضلٍ جدير.

علي أشجع ما يكون إذا لقي، أرهب ما يكون إذا بكى، أصدق ما يكون إذا نطق، آنس ما يكون إذا ضحك.

من مفاخر الشجاعة أن علياً وحيدها، ومن تفاهة الدنيا أن علياً لا يحبها، ومن مدائح المنابر أن علياً بطلها، ومن خصائص الشهادة أن علياً يخطبها.

ترخص عندنا الدنيا إذا ذكرنا علياً، نشتاق للشهادة إذا ذكرنا علياً، يغضب الباطل إن أحببناه، ويثور الحق إن أبغضناه.

علي طرازٌ آخر، وقصة أخرى، وشيءٌ ثان، إن تكلم فهي الكلمة الثائرة العابرة الصادقة، وإن ضرب فهي الضربة القاتلة القاضية، وإن بكى فهي الدمعة الحارة المعبرة الواعظة، وإن ضحك فهي البسمة الموحية الجاذبة الآسرة.

زهدٌ إذا أقبلت الكنوز، ثباتٌ إذا ادلهمت الخطوب، شجاعة إذا حضرت الجيوش، فصاحة إذا ازدحمت الجموع، علي للمواقف، أبو الحسن للمعضلات، أبو تراب للأزمات، أحبك يا علي، وأحب من يحبك، يا أبا الحسن! أحبك حباً كثيراً طيباً كما تحب أن يكون الحب، وافياً مثلما تريد أن يكون الوفاء، صادقاً كما تهوى أن يكون الصدق.

وقفة مع بلال بن رباح

بلال بن رباح: صاحب أنشودة الكفاح الأولى، سحبوه وهو يردد: (أحدٌ أحد)؛ لأن الرجل ذاق: (قل هو الله أحد) الحياة عنده أن يموت الباطل، الموت لديه أن يعيش الباطل، رماه الكفار بالحجارة فأخذه الإمام ورفعه علىالمنارة، وصل بصوته أهل الأرض بأهل السماء، وأهل الفناء بأهل البقاء، والضعفاء بالأقوياء، فهو صمود المستضعفين أمام الجبروت، وقلعة البائسين في وجه المستكبرين، بلال قصة الإسلام يوم ألغى الرق، وحرر الضمير، وأنهى الاستبداد، وأكرم الموالي، تمثل فيه السمو بلا نسب، والنبل بلا مال، والرفعة بلا جاه، والعزة بلا عشيرة، أذن بلال الأسود على الكعبة السوداء معلناً سيادة الحق.

بلال ثلاثة مشاهد: مشهد الحجارة السوداء تصلي جسمه، والأذان يتفجر من حنجرته، ونشيد:

غداً نلقى الأحبة>>>>>محمداً وحزبه

بلال برهانٌ على عظمة المبدأ، وانتصار القيم، ورسوخ الميثاق.

استعبده أمية فحرره أبو بكر، أرخصه الكفر؛ فأغلاه الإسلام، لفظته الأرض فاستقبلته السماء، ضربت قدماه بالسياط فسمع دفَّ نعليه على البساط، أزعج المشركين بنداء: (أحدٌ أحد) وأطرب المؤمنين بأذان: (أشهد أن لا إله إلا الله).

موهبة بلال يعبر الأثير في صرامة وحرارة، ولدته أفريقيا، وربته آسيا، وأنصتت لصوته أوروبا، الأهل في الحبشة، والشباب في مكة، والعمل في المدينة، والمنصب على المنارة، والوفاة بـالشام، والموعد الجنة.

الإمام قرشي، والمؤذن حبشي، ماء النسب عقيدة، وصلة القربى مبدأ، وعروة المحبة إيمان، فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر.

بلال حيث ينتصر الحق على الباطل، والحقيقة على الخيال، واليقين على الظن، والفقر الطاهر على الغنى الزائف.

ألا يكفي جلادي العالم عبرةً أن السياط لا تلغي القيم، وأن المشانق لا تقتل مبادئ، وأن التعذيب لا يميت الحق، والدليل سيرة بلال، فقد بقي صوته ينقل حياً على هواء القلوب، عبر أثير الصدق والصمود والإصرار والصلاح والصبر.

بلال: تحدى بطهره الحجارة، وبحنجرته الفضاء، وبحبشيته أمية بن خلف، وبالسواد البياض، وبالقلة الكثرة.

إن جاءت الإمامة بشارة، قال: يا بلال! أذن في الناس، وإن حزبه أمرٌ قال: {أرحنا بالصلاة يا بلال}.

في سيرة بلال: أن المجد لمن غلب، وأن النهاية لمن صبر، وأن العاقبة لمن افتقر، ركوة لشرب المعلم، وعصا بلال سترة للإمام، وعين بلال لمراقبة الفجر، وفم بلال لإعلان الميثاق.

ركب بلال المنارة منادياً إلى الصلاة، وركب الكعبة صارخاً بالحق، وركب فرسه منافحاً عن الملة، ثم ركب أكتاف الأبطال إلى الجنة، والآن يرقد بلال بعد أن أدى ما عليه، وسلم ما لديه، وقاتل بيديه، وسعى بقدميه، ويكفيه أنه في الجنة يسمع دف نعليه.

وقفات مع العلماء التابعين

وقفة مع أبي حنيفة

أبو حنيفة: الملة حنيفية، والفقه حنفي، والحلم أحنفي، ثبتت قدمه في النعيم؛ لأنه النعمان بن ثابت:

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره>>>>>كما المسك ما كررته يتضوعُ

أثبت بالبرهان أن الموالي يفقهون عن الوالي، أخبر العرب أن العجم يفهمون اللسان، ونقل للعجم أن العرب أهل إحسان وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3]

تحرر من الرق بجودة عقله، فقيد لرفضه القضاء وأهله، كان أبوه أجيراً فشرب هو من عين العلم ففجرها تفجيراً، بائع بزٍ لا يؤمن بابتزاز المال من غير حله، الناس عيالٌ في الفقه عليه، والفقهاء إذا أعضلوا عادوا إليه، أبحر في محيط الشريعة فما عاد إلا بدرر، أدلى عليه التوفيق دلوه ثم نادى يا بشرى هذا غلام، يحدث بالرأي يوم لا حديث، ويفتي بالحديث يوم لا رأي.

أصاب كثيراً فنسب أصحابه كل صواب إليه، وأخطأ قليلاً فألحق أعداؤه كل خطأ عليه، وهو رجل الصواب وليس بمعصوم، وقد يخطئ وليس بمذموم.

أتباعه يدعونه بالإمام الأعظم، والفقيه الملهم، والعجم ينادونه: (مولانا شيخ أكبر عالم فقيهان) وخصومه يصفونه بضحالة الدليل وفقر البرهان، إن أفتى قال أصحابه: لا مساس، حضره القياس، وصاح شانئوه ما لهذا من أساس؟

قلنا لمحبيه: شيخكم إمام من الأئمة فقالوا: لا يكفي هذا بل هو سراج الأمة، شابت ذوائبه فشب عقله، وذبلت نفسه فاتقد ذهنه، إن فقد دليله أنقذه بحيلة، الرجل عظيم والحق أعظم منه، تبطن الفقه فظهر على لسانه الاستنباط، وتوشح الفقه فاهتز منه النياط.

أحبه الهنود، وعجب منه الأفغان، وارتاح لرأيه الأتراك، وأنس به التركمان، ورضي مذهبه الأكراد، وشكره العرب، وإن لم تكن هذه العبقرية فلا ندري ما هي!

أبو حنيفة عند الأحناف آية محكمة.. عند المحدثين لا بأس به.. عند أهل المذاهب الضالة لا بد أن يُتثبت من أمره؛ لكن بائع البز يشرح كلامه في الحرمين، ويدرس رأيه في الأزهر، ويذكر قوله في الزيتونة، ويدعى له في الأندلس، أخذنا من سيرته أن السادة بلا فهمٍ بهم، وأن الموالي بالعلم في العوالي، إذا فتشوا كتاب الأثر فتح عليهم دماغه فأخرج الحجة بيضاء من غير سوء آية أخرى.

روى أحاديث فأشاد به الطحاوي والزيلعي، وتكلم بالرأي فأعجب به الزمخشري وعبد الجبار، وغاص في الفقه فهب إليه محمد بن الحسن وأبو يوسف.

ولد في الكوفة، وتلاميذه في بغداد، ومخطوطاته في القاهرة، ورسائله في قرطبة، نقده الخطيب فعاد بـالتأنيب، عجب من حجته مالك، وأشاد بفهمه الشافعي فاستشهدوا شاهدين من رجالكم.

إذا اشتهر الرجل وذاع فضله أصبح كالبحر يغرق سابحه، ويبتلع من ولجه، ويحمل من ركبه، وكذلك هو أبو حنيفة.

وقفة مع الإمام مالك

مالك بن أنس: دار مع الإمامة، وهجر الدنيا لأنه إمام دار الهجرة، أبدع في الأثر فثار عليه أهل البدع، العقل الغزير علمه أن الوقار ملك، وأن العلم نور، وأن الإمامة مطلب، أسرته يمانية، ونشأته حجازية، وخلافته عراقية، ومدرسته مغربية.

مالك بن أنس في خدمة العلم كـأنس بن مالك في خدمة المعلم، تشابهت قلوبهم، لبى نداء الواجب فما أبطأ، ونطق بالحكمة فما أخطأ، ثم قدم للأمة كتاب الموطأ >

خافه أعداء الملة وخصوم الشريعة، فنادوا: (يا مالك! ليقضِ علينا ربك) سكن الدار، وجاور الأنصار، ونشر الآثار.

أرسل إلى العالم الموطأ، فنشر في التمهيد، ورتب في الاستذكار ونثر في المدونة، وضبط في الموافقات، علومه باسقاتٌ لها طلعٌ نضيد، جادل أبا حنيفة، وعلم الشافعي، وورث علمه أحمد.

أما العقيدة: فالاستواء معلوم، والكيف مجهول،والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

وأما الحديث: فثقة الراوي، وعدالة الشيخ، وشهرة المتن، وأما الفقه: فموافقة الأصل، واطّراح الشواذِّ، واتباع المشهور.

وأما الزهد: فإظهار النعمة، واجتناب الحرام، ومخالفة الهوى، واطرّاح الدنايا.

مالك بن أنس: هو الإيجاز في بلاغة، والبساطة في عمق، والتواضع في هيبة، رأه أبو جعفر فكبر، وقال: وطئ لنا العلم فقال له: سهل لنا الحكم.

قال له القضاء: هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] وأتته الدنانير فصاح: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] وطلبه المنصب، فنادى: مَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ [النمل:36].

يحرص على رفعة الملة، فثوبه جميل، وطعامه لذيذ، وفراشه وثير قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ [الأعراف:32] وعلمه نور، وكلامه در، ورائحته مسك، يجالس الملوك في سمو، ويواكل المساكين في تواضع، ويصاحب العامة بأدب، ويعلم الطلاب بهيبة، جمد في السائل فأفتى بتحريم النبيذ، وسال في الجامد فتساهل في لحوم الحمر.

إن حضر خطف الأضواء، وإن غاب أضاء الأرجاء، غلطاته نوادر، وتبسمه في النادر.

لبس النفيس ليظهر للمترفين عزة الدين، أبوه في اليمن؛ لأن الحكمة يمانية، وهو من المدينة من الذين تبوءوا الدار والإيمان، أكثر أهل الأندلس مالكية إلا أهل الظاهر، وأكثر أهل المغرب مالكية إلا أهل الباطن، علمه في نيجيريا والنيجر، ورواندا وأوغندا، وداهوم والخرطوم، في السنغال والبرتغال، في الحجاز بلاد الآثار، في الأندلس سرجة الأبصار، في أفريقيا رحبة الأقفار.

إن تيقن النقل عظمه، وإن شك في الراوي طرحه، وإن ظهر له البرهان اقتفاه، وإن سمع الهذيان جفاه.

أريد مدحه لكن القوافي تزدحم في فيَّ، هاجرت روحه إلى دار الهجرة، ونصر الشريعة في أرض الأنصار، وفارقت أنفاسه في طيبة، وهو اليوم يرقد في صدق مقعد، في بقيع الغرقد.

أما القبور فإنهن أوانسٌ>>>>>بجوار قبرك والديار قبورُ

جلت مصيبته فعم مصابه >>>>>فالناس فيه كلهم مأجور ُ

يا مالك! أنت سلفنا ونحن بالأثر، وأنت عبرةٌ فهل من معتبر، هنيئاً لك الرضوان عند مليكٍ مقتدر.

وقفة مع الإمام الشافعي

الشافعي: إمام العباقرة، وعبقري الأئمة، له في العلم سبب، وفي البيت نسب، وفي المروءة حسب.

سالت قريحته فتفجرت أنهار الحكمة من على لسانه، وساقت رياح التوفيق سحب علمه فسالت أودية بقدرها، ذاكرته أصابها وابلٌ فآتت أكلها ضعفين.

الشافعي: أخذ من الأثر روحه، ومن الفقه خلاصته، ومن البيان ناصيته، ومن الشعر حلاوته، ومن المجد ذروته.

قعَّد للعلماء القواعد فغضب عليه أعداء الشريعة، لأنهم رضوا بأن يكونوا مع القواعد، فخرت به قريش، وتبجحت به العراق، وخرجت إليه مصر، حاور محمد بن الحسن فقطع أزراره، ورد على المريسي فأطفأ ناره، وجاور أحمد فشكر جواره.

الشافعي: لدنيا العلوم شمس، ولأبدان الأخيار عافية، ولليل المدلهمات قمر، للشرع شعره، للحق بذله، للآخرة طلبه، لله سعيه، لما خرج إلى البلاد لبست بغداد الحداد وأمست في سواد، الألفاظ سكر، والقصيد درٌ نضيد.

حفر لحداً للملاحدة، وعزل في زنزانة الإحباط المعتزلة، ورد الأباطيل في وجوه أهل التعطيل، إن سألناه عن أهل الكلام فبالجريد والنعال، وأهل السنة رواد الجنة، والفلاسفة أهل سفه، ومالك نجم الممالك، وأحمد بن حنبل زرع سنبل.

أتاه المال ففر منه إلى العلم، وأتته الدنيا فهرب إلى الآخرة، تعلم الفراسة في اليمن، فكشف أهل الزيغ والأفن، تدجج بالحجج فألجم الدجاجلة، وصال بالأصول على أعداء الرسول، درس الطب فمرض جسمه، وداوى الناس فزاد غنمه.

المروءة عنده: ولولا الشعر بالعلماء يزري

التواضع: أحب الصالحين ولست منهم

ميزة الشافعي التفرد، ومنقبته التجرد، تفرد في الفهم فعصر من زهر الذهن رحيقاً، وتجرد للحق فنسج من بز الشريعة ثوباً سابغاً، فاح طيب ذكره في الأنوف فيا فرحة من شم! وهزم الباطل فكأنه شم عطر منشم، الشافعي شهابٌ ثاقب، أحرقت به شياطين الإنس ولهم عذابٌ واصب، مسكينٌ من جادل الشافعي وناظره، مسكينٌ من عارضه وكابره، مسكينٌ من عرفه وما ذاكره.

درس محمد بن إدريس علوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم فترك علماً لا يغسله الماء، ولا تطفئه الريح، ولا يلفه الظلام، ولا ينسيه الدهر.

الرسوخ في يسر، العمق في سهولة، الأصالة في إشراق، البراعة في نصوع، أهل فارس يعرفونه، وأهل الصين يذكرونه، وأهل الأندلس يمدحونه، وأهل الباطل يبغضونه.

إذا مرجت الآراء بزغ رأي الشافعي كالنجم الثاقب، إن تكلم أسكت الخطباء، وإن أنشد صمت الأدباء، أحب الملة فأمهرها روحه، وعشق العلم فأعطاه عمره، وأخلص الرسالة ففاضت لها نفسه، فهو عاشق المثل، سامي المقاصد، رجل المروءات، ناشر السنة بين أهلها، وناصرها على أعدائها، وحافظها لمحبيها، وشارحها لناقليها.

إذا ارتحل بكى المحل، إذا انتقل شيّعته المقل، أنار بالوحي عقله، وجمع علم من قبله، وقال معاصروه: ما رأينا مثله.

وإن تفق الأنام وأنت منهم>>>>>فإن المسك بعض دمِ الغزال

ورث أنوار الرسالة فألف للأمة الرسالة، مات أبوه فكفلته الأم، فقدم للناس كتاب الأم، إذا نطق الشافعي فكأن السيل أقبل، والفجر بزغ، والنور سطع، صحة مخارج، حلاوة لفظ، قوة حجة، براعة دليل، سلامة إنشاء، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

في الفقه إمام، في النقل حجة، في النسك علم، في اللغة أستاذ، في الذكاء آية، سارت به أمه من غزة فسبحان الذي أسرى، وعاش في مكة لينفع أم القرى.

الشافعي لم يستند إلى النسب ولو أنه مُطَّلبي، وإن يتكل على الجاه فهو أبي، ولكنه أخذ بأسباب الخلود، وهجر أسباب الفناء، فأمات في حياته النفس الأمارة، وأحيا بوفاته النفس المطمئنة، فنوديت: ارجعي إلى ربك راضية مرضية.

إذا كانت الحياة في البساط والسياط والسلطة والسطوة، فأين أصحابها بعد موتهم هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [مريم:98]؟

عاصر الشافعي خمسة ملوك، عاشوا أغنياء وهو فقير، هم في حشمٍ وخدم وهو في غربة وعزلة، بقي وذهبوا، ذكر ونسوا، عاش وماتوا؛ لأنه أمات الدنيا في حياته، وأحيا الآخرة قبل وفاته، وهم أشربوا في قلوبهم عجل العاجلة، وأخروا في بطاقة أعمالهم الآخرة، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف.

عند الشافعي اتباع الأثر عبادة، الوقوف مع النقل عقل، توقير الصحابة عقيدة، رد الشبه جهاد، تعليم الناس ربانية، ترك المعاصي هجرة، أهل الحديث رءوس، المبتدعة سفلة، علم الكلام غي، المنصب ذل، الدنيا دنيئة.

بدا إلى البادية فهز شعر هذيل، احتسى علم مالك ومص فهم أبي حنيفة، وجمع بين النثر والشعر، والرواية والدراية، والعقل والنقل.

الشافعي عروبةٌ حجازية، وفصاحةٌ عراقية، ورقة مصرية، أعجب ما فيه روح التجديد في المذهب القديم، وقدم التأصيل في مذهبه الجديد.

سخر الشعر للشريعة، والنحو للوحي، والرأي للرواية، والتعليل للتأويل، حملته الهمة فأضناه الطلب، وخلع الدنيا فلبس تاج القبول، خاف الدنيا والدنايا، وجانب الشيطان والشر والشهوة والشبهة، إن خطب أطرب وأطنب، وأتى بكل أطيب، وإن أفتى شفى وكفى وأوفى.

فلج خصوم الإسلام، ونكّس رايات الأقزام، وأبقى ذكره للأيام، دمغ الضلال، واكتسح الجُهال، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.

انكسر به ظهر الجبرية، وثلم به قدر القدرية، وأخرجت حججه شبه الخوارج، واهتز بيده سنان السنة.

وقفة مع الإمام أحمد بن حنبل

أحمد بن حنبل: إمام السنة، وبطل المحنة، وعلم الزهاد، وصاحب الإسناد، أرادوا صرفه عن السنة فما انصرف؛ لأن أحمد ممنوع من الصرف

فأثبت في مستنقع الهول رجله>>>>>وقال لها من دون أخمصك الحشرُ

تردى ثياب الموت حمراً فما أتى>>>>>لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضرُ

رد الأغلاط فضربوه بالسياط، وأرسل على الجهمية شهباً، وأدخلوه الكير فخرج ذهباً، وأرادوا إسكاته فصاح الجمهور، وحبسوه فطارت دعوته، وقيدوه فانطلق علمه، وحاصروه فانتشرت مناقبه.

أحمد بن حنبل، وأحمد بن أبي دؤاد هذا في وادٍ وذاك في واد، وسوف يتجلى الأمر يوم التناد، أحمدنا سني المذهب، صافي المطلب، رفيع المنكب، سلفيٌ نجب، وأحمدهم نجم بدعة، وصاحب وقعة، بعيد رجعة.

الإمامة عند أحمد قولٌ وعمل، سنة وجماعة، مغالبةٌ للهوى، كسرٌ للنفس، اقتداءٌ بمن سلف، احترامٌ للنص، اضطراح للفضول، محافظةٌ على الفرائض، تزودٌ بالنوافل، ترقبٌ للأجل، تقصير للأمل.

أحمد بن حنبل، عملٌ في هدوء، إجهادٌ في سكون، لموعٌ في تواضع، أنفة في سكينة، إباء في رقة، جلد شفاف يكسر عصا المعتصم، قلبٌ لا يتوكل على المتوكل، همةٌ لا تثق بـالواثق.

فمٌ عفيفٌ يقول لا بقوة، نفس راضية ترفض بيع الضمير، بلوه بأنفسهم في بيته فأرق عيونهم في بيوتهم، اقتحموا منزله فهز منزلتهم، طاف به الحجاب فما أجاب، هددوه فما أجاب قط، ولسان الحال يقول: أوللبط تهددين بالشط.

أحمد بن حنبل ذوبوه بالنار فجمد، خوفوه بالسيف فصمد، يكفيه أنه اضطهد وجلد، أرادت أن تغيظه الدنيا فدانت له بالغلبة، أسكتته الحكمة فأنطقه العلم، بَعُدَ من الدنيا فدنا من الآخرة.

الحق حصانه، الحجة سلطانه، الصدق برهانه، السنة عنوانه، أفرح ما يكون إذا انتهى خبزه، أغيظ ما يكون إذا كثر كنزه، الدنيا عنده ثوبٌ وعمامة وحذاءٌ ورغيف، والآخرة سجدةٌ ودمعةٌ وفكرةٌ وعبرة، هدده المعتصم فاعتصم بالله، أوثقه الواثق وقال: وافق، فقال: معاذ الله، ناداه المتوكل إلى المآكل فقال: كلا.

سمن فهمه فهزل جسمه، عظم ثوابه فبليت ثيابه، رث منزله فحسنت منزلته.

العلم عنده نص، والمقصد الله، والأمنية رضاه، والقدوة محمد، والزاد زهد، دعها فإنها مأمورة، أبصر محاسن الزهد في دفتر الحسن، وقرأ سعادة الأولياء في لوح سعيد، ولقط ذرات التقشف من صحن أبي ذر، وأيس من الناس كـأويس، وثار على الجهمية كما فعل الثوري، وعبس في وجوه المبتدعة كمثل ابن عباس.

أحمد: من المحبرة إلى المقبرة، من المحنة إلى المنحة، من التعذيب إلى التهذيب.

أحمد: الصباح ورد، والضحى نافلة، والظهر تفكر، والعصر استغفار، والمغرب إنابة، والعشاء محاسبة، والليل بكاء، والفجر ابتهال.

حمل على رأسه الحطب فصعد منبر المسجد وخطب، حصد الزرع بالأجرة في اليمن فزرع سنابل القبول في قلوب أهل السنن، سال عرق جهده في العراق، وسمع جميل ذكره في الشام، وقرئ حديثه في القيروان، صنع تابوت الهمة في صنعاء عند عبد الرزاق، نهل الأثر من ذات المعين، فهو أوثق رجلٍ عند يحيى بن معين.

حماية ثغر الشريعة رباطه، دعاء السحر سياطه، جبهته في الليل بساطه، الصلاح حسامه، التبكير سهامه، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.

ناضل أحمد بقلم النقل في وجه شبهات العقل للمحافظة على سمة الإسلام من سموم الأقلام، كسرات الخبز أغنته عن كنوز كسرى.

أحمد: قلة لفظ، وقوة حفظ، وغزارة علم، وجودة فهم، وصحة عبادة، وجلالة زهادة، الوحي عنده هو المعيار، والسنة لديه هي المسار، وشيوخ البدعة هم مسجد الضرار، بناؤهم على شفا جرفٍ هار.

إن صحح حديثاً لم تصبه علة، وإن أعلّ رجلاً وافقه حفاظ الملة، انصدع به جدار الضلال، وأصاب الصداع الشيوخ الضلال، أزعجه ذكر الموت فما ضحك، وأذهله قرب الفراق فما فرح، إذا رأى الأولياء انبسط، وإذا شاهد المبتدعة انقبض، عبس للغنى وتبسم للفقر، إن حضر غاب الجهل وأصحابه، وإن غاب حضر الزيغ وأربابه، كنزه وقته، هيبته صمته، جدَّ في الآخرة فهزل بدنه، استراح من الدنيا فقوي قلبه، أجمل منظرٍ لديه المحابر السود، والعمائم البيض، عاد المجد للملة بـأحمد، فعاد النصر لحملتها والعَوَد أحمد، سكت في الرخاء فتكلم الجبناء، تكلم في الشدة فوجل منه العظماء، سر إصراره الرفض، وعظمة رفضه الإصرار، لغز إنجازه الإيجاز، وحل حيلته أكل الحلال، أصر على السنة ورفض المساومة، وأجاد المهادنة، وانتصر في المقاومة، ورفض الرشوة؛ فاستحق الوسام.

احتر بالغيرة فتمدد علمه، برد بالصبر فانكمش نهمه، هجر الشهرة فطار اسمه، خفق قلبه للآخرة فسطع نجمه، بشر بشراً بالشر، وتجهم في وجه جهم، وهز بالآيات ابن الزيات.

جلدوه فدعا لهم، أعطوه فاستعاذ منهم، حبسوه فسامحهم، ضحكوا له فبكى، سخروا منه فضحك، اقتربوا فابتعد، قاموا فقعد، دنا بالحكمة فشردوا بالبدعة، حبسوه حياً وحملوه على الأكتاف ميتاً:

لاطفوني هددتهم هددوني>>>>>بالمنايا لا طفت حتى أُحثَّا

أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني في الحق أركبت نفسا

قال: نعم ثلاثاً، وقال: لا ثلاثاً، قالوا له: الزم بيتك، قال: نعم قالوا: واعف عمن ظلمك قال: نعم. قالوا: وسامح من ضربك قال: نعم.

قالوا له: وافقهم فيما قالوا، قال: لا. قالوا: فاخرج عليهم قال: لا. قالوا: فاقبل أعطياتهم، قال: لا.

هو بدر التمام، وعلم الأعلام، والرجل الإمام، والسلام.

شيخ الإسلام ابن تيمية

شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، إمام الندى والبأس، جده قمر، وأبوه نجم، وهو شمس فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12].

ابن تيمية شيخ الحافظين لميراث الهادي الأمين، وعلم المجددين للدين، أرسل على المبتدعة التدمرية تدمر كل شيء بأمر ربها، وأنزل حمى الويل في الحموية على المعطلة، وبطح البطائحية بحججٍ كالقذائف

وكل بطاحٍ من الناس>>>>>له سهمٌ بطوحُ

انتصر على النصيرية، وكسر أنوفهم في جبل كسروان.

دخل على الأمة طيف الأشاعرة وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف:19] فاستيقظ أبو العباس لما نادته الملة، فقال: كلا والله، فدفع التأويل بالدليل، والشبهات بالآيات، والظن باليقين، وراغ عليهم ضرباً باليمين.

سطعت حجته، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، والناس في هذا الإمام مذاهب شتى، لم يتخذ زوجةً وما أنجب ولدا، ولم يضيع عمره سدى، بل أرسل شهبه على الضلال كلٌ يجد له شهاباً رصدا، فلم يغادر منهم أحدا، بل تركهم بدداً.

ابن تيمية: علمٌ معقود، وسرادق للعلم ممدود، والرجل محسود.

أعيذك يا فرد البطولات! بكلمات الله التامات، فاهجر خصومك، وانشر علومك.

ابن تيمية: أحاط بشرع الهادي المحيط، بحر البحور، ودر النحور، ركب منبر الجلالة، فنادى لسان التوفيق: طبت وطاب مسعاك، أبحرت سفينة التوفيق إلى ساحل القبول ونادى منادي الشريعة باسم الله مجراها ومرساها، فاستوت على جودي الحق، وقيل: الحمد لله رب العالمين.

ابن تيمية مجتهدٌ في التفسير كـمجاهد، وذو ملكة في الاستنباط كـمالك، وأحيا السنة في الأوطان كـيحيى القطان، ومسددٌ في الحديث كـمسدد، وأعطى من علمه كـعطاء، أمةٌ في رجل، جيلٌ في فرد.

دعا الظلمة إلى السياسة الشرعية، والمعطلة إلى الملة المحمدية، والأشاعرة إلى المحجة السلفية، سكن في غرفة فحلت في كل المهج، أبى المنصب فحظي بمنصب تذكارٍ في القلوب، سجن وهو حي فشيعه الناس وهو ميت، إذا تكلم فالسلام على المتكلمين، وإذا كتب أرضا الكرام الكاتبين، وإذا نطق صار بيت المنطق من طين.

ابن تيمية: عجيبٌ عند أهل الملل، غريبٌ عند أهل النحل، جريء عند أرباب الدول، نزل له القبول في القلوب وبالحق نزل، سل سيفه على الدهرية، وأغمده في صدور القبورية، وضرجه بدماء النصيرية، كالمطر إن هل عمَّ وإن سال طمَّ وكالأسد إن شك شمَّ وإن عدا رمَّ، وكالبدر إن سطع تمَّ وإذا ذهب التمَّ.

أمَّ في المحراب وعلم الكتاب، وسمع الجهاد فأجاب، ألغى الانحراف وكشف السراب، خرج بالبتار على التتار، فأذاق جند هولاكو الهلاك، جدد للدين ما اندرس، ودرس به من البغي ما تجدد، رفع للدين مناراً، وأوقد لأعدائه ناراً، فلم يُبقِ منهم دياراً.

الزهد عنده: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: اجتناب ما قد يضر، والخوف: ما حجزه عن المعاصي، والشجاعة: ما نصر به الحق، والوسطية: ما دل عليه الوحي، والحياة مبدأ، والرفعة سجدة، والذلة التلصص بالعلم، ملك أعداءه أسباب الدنيا فماتوا وهم أحياء، فلا ذكر ولا أثر، لو اطلعت على كتبهم لوليت منهم فراراً، ولملئت منهم رعباً، وملك هو أسباب الآخرة؛ فعاش وهو ميت بعلمه وسيرته، فلو قرأت كتبه لقلت الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.

ابن تيمية، في الكتاتيب مجتهد، وفي الكتائب مجاهد، للفضائل إمامها.. للحوادث حسامها.. للفتن زمامها.. للمعاني نظامها، للفتاوى يمنها وشامها.. للأدب بحتريها وتمامها.. للتقوى كعبتها ومقامها.

إذا سال من يراعه الـحِبر قلت: هذا هو الـحَبر الذي يشبه البحر؛ لأنه حرٌ حركته حرارة الحق لمدارج الحرية، فرق بـالفرقان شراذم الضالين، وأسكت بـالجواب الصحيح أتباع المسيح، وهاج على الرافضة بـالمنهاج، وذبح الشاتم بـالصارم، حل زمام أهل الحلول، واصطدم بحد صارمه أرباب الاتحاد، عرض المخالفون بضاعتهم المزجاة، وصاحوا بكم نقول، فأبطل بيعهم بـصحيح المنقول وصريح المعقول، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.

تيم ابن تيمية بنور الرسالة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ألقى عصا حجته على سحرة زمانه، فإذا هي تلقف ما يأفكون، فويلٌ لهم مما يصفون.

ما تزوج وقد قارب السبعين؛ لأنه خطب الحور العين، بتّ بعلي عزمه رأس الشهوات مرحباً، وخاض بجنود إيمانه شقحباً، يكسو بالنحو أقوال الكسائي، ويرد بأشعاره تأويلات الأشعري، ويفحم بردوده الماتريدي.

أعطى من البراهين ما قطع به شبهات واصل بن عطاء، وألهم عند الاحتجاج ما قطع به دابر الحلاج.

ابن تيمية: للملة ابن بار، يدور مع الدليل حيث دار، توقف الناس في مسائل العلم فتقدم، وتقدموا لأبواب الدنيا فتوقف، مقدمٌ على المروءات، محجمٌ عن المزريات.

إن طال الليل قصَّره بالقيام، وإن قصر النهار طوله بالصيام، يبرد حرارة الغيرة بالصبر، ويذيب قسوة القلب بالفكر، ويسيل جامد الدمع بالذكر، ترك القصور للمقصرين، ورمى الحطام للسفلة الطغام.

ابن تيمية: يوم كان يمرغ لربه أنفه في الطين كان أقرانه على أبواب السلاطين، يوم كان يرد على أعداء السنة كانوا يردون عليه، اشتغل بالله واشتغلوا به، ترك لهم الدنيا والدراهم والدنانير فحسدوه على العلم والفهم والحِكَم، جنته وبستانه في صدره، وطاعة مولاه في عسره ويسره.

طار ذكره من طنجة إلى البنجاب، فسجنه الحجاب، فضرب بينهم بسورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، سجنه خلوة، تعظم فيه حسناته، وتحفظ فيه أوقاته، وإخراجه من البلد سياحة، وإيقافه عن الوعظ راحة، وقتله شهادة؛ لأنه جهز زاده، وسمن جواده، وهيأ عتاده، له دفتر البطولات، يكتب فيه ما شاء، وله كتاب العبقرية يملؤه بذلك الإنشاء، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84].

يأيها الحساد! الرجل قد ساد، وأجاد وأفاد؛ لأنه طويل النجاد، باسط العماد، جاهز العتاد، طيب الزاد.

يأيها الأعداء: الإمام بلغ الجوزاء، وجاوز البلغاء، وخطب ود الخطباء، أنف أن يموت قبل أن يرغم الكاذبين، فرغم أنف التاريخ إن لم يكتبه في الصادقين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مفتاح التميز للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net