اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [18] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [18] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل
وبعد:
فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
[ ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية، أو توحيد أحدهما، للعبد فيه ثلاث مقامات:
أحدها: مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات ].
من خلال هذه العبارات ساير الشيخ رحمه الله المتصوفة؛ من أجل أن يجذب هؤلاء إلى المفاهيم الشرعية بمصطلحاتهم هم، وإن كان هو في منهجه الخاص وفي تقريره لنهج أهل السنة والجماعة لا يسلك هذا المسلك، يعني: لا يقرر العقيدة على هذا النحو حينما يعبر عن منهج أهل السنة والجماعة، منهج أهل الحديث، منهج السلف الصالح؛ لكن نظراً لأنه الآن يخاطب واحداً من كبار القوم، ويريد أن يجره إلى الحق جراً رفيقاً من خلال استعمال مصطلحات القوم، وتحويلها قدر الإمكان إلى معان شرعية، تبعدهم عن المعاني البدعية الضالة، التي أوقعتهم في وحدة الوجود والاتحاد والحلول.
فقوله: (مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات) يعني: التفريق بين الخلق المتمثل بتوحيد الربوبية وبالقدر، وبين الأمر المتمثل بتوحيد الإلهية والشرع، فمقام الفرق هذا مقام صحيح إذا استعمل على وجه صحيح، بل هو المقام الذي ينبغي أن يكون، بمعنى أن على المسلم أن يعبد ربه وهو يفرق بين الأمور القدرية المتمثلة بتوحيد الربوبية -والتي هي أمور فطرية الإنسان محكوم بها شاء أم أبى- وبين مقام الأمر المتمثل بأوامر الله ونواهيه.
فالمسلم عندما يفرق بين هذين الأمرين، فإنه يكون على المنهج الصحيح السليم، ويجب على المسلم أن يعبد الله على هذا الأساس.
قال رحمه الله تعالى: [ والثاني: مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه؛ فهذا فناء عن إدراك السوى، وهو فناء القاصرين ].
هذا النوع مذموم، والشيخ إنما أراد أن ينقدهم من خلال مصطلحاتهم؛ لأن مقام الجمع والفناء يرجع إلى نزعة فلسفية عند عبَّاد الأمم الضالة، يزعمون أن الإنسان بالعبادة والتحنث يلغي الماديات، ولم يعد يشعر إلا بالوجود الواحد، بحيث يغيب العابد عندهم عن شعوره بانفراد الخالق عز وجل، وهذا خطأ فادح قد يؤدي إلى الشرك والحلول والاتحاد.
أو كذلك يغيب بمشهوده وهو عبادة الرب عز وجل وتوجهه إلى الله، عن شهوده وهو هذا الخلق الذي بين يديه، فكأنه من إمعانه في العبادة لم يشعر بوجود الخلق من حوله، ويزعمون أنه بذلك يتحد العابد عندهم بربه، فلم يعد يفرق بين الخالق والمخلوق، وبمعبوده وهو الله عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وهذه كلها معان فلسفية صوفية تحمل غالباً معاني باطلة.
وقد يستعملها بعض العباد الجهلة وبعض شيوخ الصوفية الذين ليس عندهم ضلال خالص في وحدة الوجود والاتحاد، لكن عندهم نزعة، قد يستعملونها على وجه صحيح فيه تكلف، بمعنى أن العابد من قوة ولايته لله عز وجل قد لا يشعر بما حوله، فيستغني بمعبوده عن الخلق، أو بمشهوده وهو الله عز وجل عن شهود من حوله.. وهكذا.
وقوله: (وهو فناء القاصرين) يعني: أن الذين يسلكون هذا المسلك فيهم جهل، وقد يؤدي بهم هذا الجهل إلى القول بالحلول والاتحاد والفناء، وهذا حصل من كثير منهم، فتستهوي هذا الصنف هذه العبادة على الجهل، ويستشعر الفناء بالقدر وبالربوبية، فيضعف عنده الميل إلى العمل بالشرع، وربما ينعدم كما هو عند غلاتهم الذين أعلنوا الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
قال رحمه الله تعالى: [ وأما الفناء الكامل المحمدي: فهو الفناء عن عبادة السوى، والاستعانة بالسوى، وإرادة وجه السوى ].
هذه العبارات استعملها الشيخ في التعبير عن الحق استعمالاً فيه لبس وإشكال، لكن كما قلت: هو يخاطب أحد كبار الشيوخ الذين ابتلوا بهذه المصطلحات، فهو يخاطبه ليجره إلى الحق.
ويقصد بالفناء الكامل المحمدي: عبادة الله عز وجل، فقوله: (فهو الفناء عن عبادة السوى) يعني: ألا يعبد إلا الله، لكن استعمال كلمة الفناء عن عبادة السوى فيها لبس، والشيخ لم يستعملها في تقرير الحق على منهج أهل الحق، إنما استعملها لجرِّ القوم إلى المفاهيم الصحيحة، كما فعل ابن القيم في مدارج السالكين.
إذاً: المقصود أن الفناء الكامل هو ألا يعبد الإنسان إلا الله عز وجل، ولا يستعين إلا بالله، ولا يريد إلا وجه الله، هذا معنى قوله: (فهو الفناء عن عبادة السوى) وقوله: (والاستعانة بالسوى) وقوله: (وإرادة وجه السوى) ولذلك أرى أنه يجب على طالب العلم ألا يستعمل هذه العبارات في التعبير عن الحق، لكن قد يحتاج إليها عندما يريد أن يصحح للقوم مذاهبهم، ويجرهم إلى المفاهيم الشرعية بمصطلحاتهم هم، وعلى ما في ذلك من اللبس، فإنه إذا كان وسيلة تقرب هؤلاء القوم إلى الحق فهي وسيلة مؤقتة لا ينبغي أن يستقر عليها منهج طالب العلم والمسلم.
قال رحمه الله تعالى: [ وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته.
ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره، ولا نافع ولا ضار، ولا معطي ولا مانع، ولا حافظ، ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضاً فعل المأمورات مع كثرتها، وترك الشبهات مع كثرتها لله وحده لا شريك له.
وبقوله: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45].
وبقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]؛ ولهذا ترجم البخاري عليه: باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد.
وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، فجمع في الملل الأربع من آمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحاً، وذلك قبل النسخ والتبديل ].
استدل الأئمة العلماء بهذه الآية على أن الصابئين من الأمم الكتابية، أو أن عندهم شبهة كتاب، فبالتالي يعاملون معاملة اليهود والنصارى في أحكام الذمة، ويلحقون بأهل الكتاب، وهم ذكروا على أن منهم طوائف صالحة، وهم الذين آمنوا يعني: المسلمين، (إن الذين هادوا والنصارى والصابئين) فهنا ذكر الصابئين على أن منهم من آمن، وأنهم يؤجرون على هذا الإيمان، ففيه دلالة غير مباشرة على أن أصل دين الصابئة قبل التحريف كان على التوحيد، وقد أشار بعض الباحثين على أن الصابئة مرت بمراحل: مرحلة ما قبل إبراهيم عليه السلام، كانت الصابئة على الشرك الخالص، وهم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، ثم إنهم بعد ذلك آمن منهم أناس برسالة إبراهيم، وبقي وصفهم على أنهم صابئة وهم على التوحيد، ثم حرفت ديانتهم بعد ذلك، وهم من أشار إليهم القرآن هنا من المؤمنين من الصابئة الذين بقوا على دين إبراهيم فهؤلاء لهم أجرهم، حتى دخل التحريف هذه الديانة.
هذه كلها ليس عليها أدلة قاطعة، إلا أن هناك إشارة إلى أن هذه الديانة كان فيها من هم على استقامة، وهي إشارة واضحة لا تحتاج إلى تكلف، لكن هل الصابئة على أكثر من معنى: صابئة موحدة، وصابئة مشركة، الله أعلم، هذا أمر يحتاج إلى تحقيق.
والفناء المحمدي هو المقام الثالث.
قال رحمه الله تعالى: [ وخص في أول الآية المؤمنين، وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] والشرعة: هي الشريعة، والمنهاج: هو الطريقة، والدين الجامع: هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية: هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين ].
بعض الباحثين يتشدد في مسألة استعمال المنهج في الجمع: المناهج، ويرى أنه لا يجوز في مذاهب السلف أن نسميها: مناهج؛ لأنها ليست متعددة، والحقيقة أن هذه أمور ترجع إلى المقصود وإلى الاصطلاح، فالصحيح أنه يجوز استعمال المنهج على مناهج، وإن كان المقصود به التعبير عن مذهب السلف أهل السنة والجماعة؛ لأننا إن عبرنا عن مذهب أهل السنة والجماعة مذهب السلف الصالح في الجملة فلا بد أن نفرده ونقول: منهج، ولا نقول: مناهج، لكن إذا قصدنا بالمناهج طرائق السلف في تقرير الدين والدفاع عنه، والأمور التي تتعلق بالبيان وعرض الدين، فلا مانع من أن تسمى مناهج، ويقال: مناهج السلف، أي: طرائقهم واجتهاداتهم الفردية في بيان الدين وتقريره، والأمر في ذلك واسع؛ لأنه جاء في قوله عز وجل: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] إشارة واضحة إلى أن مجموع ما أرسل الله به النبيين من الكتب المنزلة والشرائع يسمى شرائع، ويسمى مناهج؛ لأن نسبة الشرعة والمنهاج في الأمة الواحدة تقابلها نسبة الشرائع والمناهج لمجموع الأمة، هذا أمر لا حرج فيه، ولا ينبغي أن يبغي أحد على آخر، أقول هذا لأني رأيت لبعض الباحثين تشدداً في هذا الأمر، وأحياناً يبني على مخالفة رأيه تضليلاً وتبديعاً وربما براء، وهذا في الحقيقة فيه شيء من العنت والتشديد على الناس، وهناك أشياء كثيرة من هذا الصنف، مثل: مسألة: العذر بالجهل، ومسألة: جمع المناهج كما أسلفت، ومسالة: وسائل الدعوة وأساليب الدعوة هل هي اجتهادية أو غير اجتهادية؟ فهذه مسائل في الحقيقة يسع فيها الخلاف بتفاصيلها، وإن كان الأصل أن نتفق على أصولها، لكن في تفاصيلها في التعبير عنها هذه أمور يسع فيها الخلاف، ولا ينبغي لأحد أن يتشنج ويضلل المخالف المجتهد من طلاب العلم الموثوقين، الذين لا يتهمون بالابتداع، أو بلزوم المناهج الباطلة.
قال رحمه الله تعالى: [ فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وبها أنزلت السور المدنية؛ إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع وسنت السنن، ونزلت الأحكام والفرائض والحدود.
فهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين، لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجد بلا تمييز ].
هذا المسلك عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الحقيقة من المسالك المحيرة، وقد تكررت لـشيخ الإسلام في مواضع كثيرة في هذا الكتاب وفي غيره، وهي مسألة الاعتذار لأناس وقعوا في الخلط في العقيدة، وحصلت منهم دواه تدل على نزعة إلحاد، سواء كان عن قصد أو عن غير قصد، بل تدل على أن القوم ورثوا مذاهب باطلة عن الأمم السالفة الفلسفية، والأمم والديانات الوضعية.. وغيرها؛ لأن مثل هذه الأمور في الحقيقة خطيرة جداً، مثل: أبي يزيد البسطامي ، أو التستري ، أو ابن أبي الحواري .. أو نحوهم ممن أثرت عنهم عبارات هي إلحادية لا تقبل النقاش في ظاهرها، فأن يخاطب الإنسان نفسه أمام الناس علناً ويجهر ويقول: سبحاني، هذا الأمر يقشعر منه جلد المؤمن من هوله ومن خطره، وكذلك كلمة (ما في الجبة إلا الله) هذه كلمة إلحادية خطيرة جداً لا ينبغي الاعتذار لأهلها، لكن مع إنكار شيخ الإسلام لهذه العبارات، فهو يرى أنها عبارات كفرية إلحادية، ومع ذلك يلتمس للقوم أعذاراً، وهذا أمر محير، وإن كان الشيخ فسره بقوله: إن هؤلاء من شدة عبادتهم وسلوكهم مسالك غير شرعية في التعبد مثل: الجوع والعطش والسهر حصل عندهم مثل هذا الخلط، الذي ربما يكون من كلام الشيطان على ألسنتهم، أو من إيحاءات عقائد موروثة في باطنهم، الله أعلم بأحوالهم، والغالب أنها عقائد موروثة يتلقونها سراً، وعندما يختلط الإنسان ويهستر يتلفظ بها وهو لا يشعر، وإلا فمن أين هذا الكلام المنظم؟ هذا ليس إلحاداً ساذجاً، هذا إلحاد منظم، إلحاد الفلاسفة، إلحاد الباطنية، إلحاد الديانات الضالة، ليس مجرد كلمة عابرة، لا سيما أنهم أثرت عنهم أشياء كثيرة من هذا النوع، مثل: لا أعبدك خوفاً من نارك، ولا رجاء جنتك.
ومثل: لماذا تخافون من النار، ما هو إلا أن أنصب خيمتي فوقها فتنطفئ.
ومثل: أن يمر أحدهم بمقابر اليهود ويضرب صدره ويقول: هؤلاء في ذمتي، فيضمن لهم الجنة. هذا ما هو مجرد خلط، بل هذا هو الإلحاد بعينه، والجرأة على الله عز وجل، والمصادمة للدين مصادمة عنيفة، لكن كأن الشيخ يظن أن هؤلاء يعتريهم خلل في المخ وخلل في العقول؛ بسبب سلوكهم مسلك التعبد القاسي، بترك الطعام والشراب وكثرة السهر، حتى إن الواحد منهم يهذي بما لا يدري، هذا سبب اعتذار شيخ الإسلام لهم.
ولذلك قال: (وكلمات السكران) السكر هنا يقصد به الهذيان الذي يكون من هذا الإنسان، كما يحصل من الذي يسكر بالخمر، والشيخ يميل إلى أن الإنسان كما يسكر بالخمر يسكر أيضاً بالمبالغة في التعبد والتحنث، وهذا فعلاً يحصل الآن عند عباد الصوفية، وقد لاحظنا منهم من يحصل له ذلك، وذكرت لكم في الدرس الماضي أن كثيراً من عباد الصوفية يحصل عندهم نشوة عندما يتعبدون بالأوراد البدعية، حتى إن الواحد منهم يبدأ يتصرف بتصرفات غير معقولة، لكن ما دام أن هذا الأمر غير مشروع ونتيجته غير مشروعة، فإن الاعتذار لهؤلاء القوم في الحقيقة فيه نظر، على الأقل ينبغي أن يحكم على هذه الكلمات بالحكم الظاهر منها، وأنها كلمات كفرية إلحادية خطيرة، ولا داعي للتكلف في الاعتذار عنهم، ومع ذلك فإن شيخ الإسلام له وجهة نظر، يقول: إن هؤلاء لهم أحوال في العبادة، إذا كانوا في حال الصحو لهم أحوال في العبادة عظيمة جداً تذكر وتشكر، وهذا لعله يكون مبرراً لشيخ الإسلام ابن تيمية ؛ لأننا لو تتبعنا بالمقابل الكلمات التي صدرت عن البسطامي وابن أبي الحواري والتستري .. وغيرهم، الكلمات التي قالوها في تقرير التوحيد وفي الدفاع عن الحق وفي كشف مناهج الباطل فإنها كلمات مليئة بالحكمة وهي درر في تقرير التوحيد.
والشيخ رحمه الله يعتذر عن أوائل الصوفية الذين حصلت منهم هذه الشطحات قبل أن تكون هناك مناهج في الدين، أما من بعدهم فالشيخ يقول عنهم: هؤلاء نهجوا مسالك الضلالة في الدين، ووضعوا مناهج باطلة ضاهوا بها السنة، وأخرجوا بها الناس عن الحق. هذا بالنسبة لمن جاءوا فيما بعد.
إذاً: فالشيخ يعتذر عن الأوائل مع أنه لا يقرهم على هذه العبارات الكفرية، لكن هذه الكفريات مقننة، ولها صياغة لا تعرف إلا من خلال أهل الإلحاد والكفر الذين عرفوا بذلك.
وهذه مسألة أخرى تفيدنا أن هذه المناهج مناهج موروثة، فإذا نظرنا إلى الكلمات التي تفوه بها هؤلاء وجدنا أنها ترجع إلى الديانات التي كانت في بيئاتهم.
فهذيان هؤلاء القوم الذين كانوا في الشرق الإسلامي كان تعبيراً عن مذاهب الديانات البدعية في الهند وما حولها، والذين كانوا في الشام أو في مصر أو غيرها، كان أكثر كلامهم تعبيراً عن الديانات الباطلة في بلادهم، عن ديانات النصرانية واليهودية، والذين كانوا في العراق وما حولها كثيراً ما يعبرون عن ديانات الفرس والصابئة، وهذه تتبعتها من خلال استقراء ناقص يحتاج إلى استكمال، وسأذكره في ضمن سلسلة الأهواء التي وصلنا فيها الآن إلى الحلقة السابعة في الكلام عن الصوفية، وتبين لي فعلاً أن مناهج القوم الباطلة التي منها هذه الكلمات ترجع إلى ديانات موروثة، ولذلك كل واحد منهم ينبئ عن العقائد التي كانت في بيئته من الديانات، سواء الديانات التي انقضت، أو بقيت آثارها في أناس لا يزالون على دياناتهم، وبقوا بين المسلمين باسم أهل الذمة، أو نافقوا ودخلوا الإسلام ظاهراً وبقوا يدعون إلى عقائدهم، وهذه مسألة عارضة، لكن من باب تفسير كلام شيخ الإسلام لعلها تفيدنا في هذا المقام.
وفي مثل هذا الحال، غلط من غلط بدعوى الاتحاد والحلول العيني، في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في علي وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر.. أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي ].
قوله: (وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي) الاتحاد النوعي الحكمي هو القرب المعنوي بين العبد وربه، ويسمى هذا اتحاداً نوعياً، فقرب العبد الصالح المسلم كالأنبياء والصالحين وأتباعهم.. هؤلاء لهم قرب مع ربهم، يتمثل بالمحبة والولاية، محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده الصالح، وكذلك ولاية الله للمؤمنين وولاية المؤمنين لله، هذا هو الاتحاد النوعي الحكمي، ليس مادياً كما يزعم أهل الاتحاد الذين خلطوا هذا النوع بالنوع الثاني: وهو الاتحاد العيني الذاتي، الذين زعموا الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والأمر، مع أن الفرق بين الأمرين واضح جداً، فالاتحاد الحكمي هو عين التوحيد، وهو أن يكون الإنسان ولياً لله عز وجل، هذا هو عين التوحيد المطلوب، بينما الاتحاد العيني كفر وضلال؛ لأنه يؤدي إلى دعوى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وعدم الفرق بين العبد وربه وبين الخالق والمخلوق، وهذا هو قمة الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله تعالى: [ فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده؟ عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي).
ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أنه جوع عبده ومحبوبه؛ لقوله: (لوجدت ذلك عندي)، ولم يقل: لوجدتني قد أكلته، ولقوله: (لوجدتني عنده) ولم يقل: لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضى أحدهما بما يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى عما ينهى عنه.
وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولهذا قال تعالى فيه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:10].
وقال: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة:62].
وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].
وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة، إن صح أن المسيح عليه السلام قالها فهذا معناها، كقوله: أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي.. ونحو ذلك، وبها ضلت النصارى؛ حيث اتبعوا المتشابه، كما ذكر الله عنهم في القرآن لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه في المسيح ].
قول عيسى عليه السلام: أنا وأبي واحد هذا قد سبق التعليق عليه؛ لكن نظراً لأنه في هذا المقام أوضح في تفسير المقصود أحب أن أعيد ما سبق أن قلته: وهو أن مسألة تعبير النصارى عن الرب بالأب هذا راجع إلى عدة عوامل:
العامل الأول: أن الذين أفسدوا دين النصارى اليونان، والأمم التي دخلت دين النصارى فيما بعد، فهؤلاء لما شرعوا في تحريف دين النصارى دخلوا من خلال هذه المعاني ذات الألفاظ المشتبهة، ففسروا كلمة الرب بالأب؛ من أجل أن تبقى عندهم نزعة التثليث، ولذلك الله عز وجل لما ذكر هذه العقيدة عن النصارى، قال: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التوبة:30]، من هم الذين كفروا من قبل؟ هم اليونان والرومان الذين عندهم مسألة تعدد الآلهة ضمن ديانتهم الوثنية التثنية والتثليث.. وغيرها، فالنصارى ضاهئوهم بمعنى قلدوهم في مسألة تنزيل العبارات الشرعية على معان بدعية.
فإذاً: الذين حرفوا الديانة النصرانية أخذوا المعاني المشتبهة وقلبوها إلى المعنى الباطل.
العامل الثاني: أنه مع كثرة الترجمات تعرض الإنجيل إلى ترجمة سريعة؛ لأنه لما رفع عيسى عليه السلام إليه ضيق اليهود والسلاطين على أتباع عيسى حتى لم يستطيعوا أن ينشروا الدين بشكل بين واضح، فانتشروا في بقاع الأرض، فلما انتشروا انتشروا إلى أقوام يحتاجون إلى ترجمات للكتاب وهو الإنجيل، فترجم ترجمات سريعة، وهذه الترجمات كلها حولت إلى معان تتفق مع عقائد الأمم، فهذه الترجمة السريعة كانت السبب في وجود التحريف، فالذين نظروا إلى المعاني اللغوية وجدوا كلمة (الرب) بمعنى المربي، والمربي هو الأب، ففسروا الرب بالأب، وحملوا هذا التفسير على ما عندهم من عقائد، وهذا من مداخل الشيطان على بني آدم، وهذا مما جعل السلف يحذرون من التأويل، ومن تركيب مصطلحات الشرعية واللغوية على غير منهج سليم بلا استدلال؛ لأن من أراد أن يسلك هذا المسلك في تفسير النصوص يستطيع أن يستدل على أي باطل من خلال هذا المنهج، واستطاع الملاحدة الباطنية أن يحرفوا الإنجيل، وهؤلاء الباطنية إلى الآن يستدلون على باطلهم بآيات القرآن، فتجدهم يحملون الألفاظ معاني مقلوبة مغلوطة بدلاً عن المعاني الصحيحة الظاهرة، التي تقتضيها العقول والفطر السليمة، وتتناسب مع تفسير النصوص بعضها ببعض، فهم أخذوا المعاني المشتبهة أو المعاني المتعارضة المتضادة فحملوا ألفاظ الشرع على أسوأ تلك المعاني؛ ليدخلوا باطلهم من خلال تلك المعاني المشتبهة.
قال رحمه الله تعالى: [ وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)، فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه.
وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل، وأن قرب الفرائض أن يكون هو إياه، فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فهذا القرب يجمع الفرائض والنوافل، فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية أتباع الأنبياء والمرسلين ].
قوله: (فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه) أي: محبة القرب والولاية والرضا، والحديث فسره النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: آخر الحديث فسر أوله.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [18] للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل
https://audio.islamweb.net