اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 105 للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد:
هيا بنا نقضي ساعة مع الحبيب صلى الله عليه وسلم في تبوك، وسبحان الله! نستطيع أن ننتقل الآن إلى تبوك حيث الرسول وأصحابه وكأننا معهم نسمع كلامهم.
قال: [حدث هام] من أحداث غزوة تبوك.
قال المؤلف غفر الله لنا وله ورحمنا وإياه: [لا شك أن أحداثاً كثيرة وقعت في ذهاب الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وفي مجيئه منها، وقد ذكرنا طرفاً منها للعظة والاعتبار]، من أجل أن نتعظ وأن نعتبر، فنجتاز المحن والمشاق وكلنا صبر وذكر لله عز وجل.
[وهذا حدث هام وقع في طريق العودة] من تبوك إلى المدينة [إنها مؤامرة دنية قام بها أدنياء سفلة منافقون] أما المؤمنون فلا يقع منهم هذا ولا يكون [إنهم اثنا عشر منافقاً من شر المنافقين] وأقبحهم وأسوئهم. وقد كشف القرآن النقاب عن المنافقين وعن خطاياهم ومساويهم، وفضحهم في كثير من السور والآيات.
قال: [تواطئوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم] اثنا عشر منافقاً يدعي الإيمان وهو يبطن الكفر تواطئوا وقالوا: الفرصة سانحة! فلننهي هذه المشكلة بقتله ونسترح [وذلك بأن يضايقوه في عقبة في طريق] أي: يحاصروه في عقبة من عقبات الطريق [حتى يسقط عن راحلته فيهلك] لأنهم سيرمونه بسهام أو يطعنونه برماح، ولكن لن يصلوا إلى هذا، والشيطان هو الذي يزين لهم هذا ويحسنه ويدعوهم إليه، فهم أولياؤه.
[وفعلاً لما وصل إلى العقبة وكان حذيفة بن اليمان آخذاً بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم] يقودها [و عمار بن ياسر يسوقها] كان من ورائه يسوق الناقة [وإذا باثني عشر راكباً قد اعترضوا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حذيفة رضي الله عنه: فأنبهتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: نبهته [فصرخ فيهم] صلى الله عليه وسلم [فولوا مدبرين] هاربين [وفيهم نزل قول الله تعالى من سورة التوبة: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74]] والهم هو القصد.
[ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم] ولا ترد دعوته، لاسيما وهو مظلوم، فدعوة المظلوم لا ترد من نبي ولا غيره، لأنه ليس بينها وبين الله حجاب، ولهذا علينا أن نحذر من ظلم مؤمن أو مؤمنة فيدعو علينا [فأصابتهم الدبيلة] أو الدبلة، والدبلة الآن عند إخواننا المصريين خاتم من فضة يجعل في أصبع العروسين، بدعوى أن لا يقع فراق ولا خلاف ولا شقاق أبداً، وهذا ورث عن النصارى، وقد سميناه من سنين الزبلة، وقلنا: لا يحل لك يا ولي الله! أن تلبس هذه الدبلة؛ لأن فيها نوعاً من الشرك وتعلق القلب بغير الرب سبحانه وتعالى، فالله هو الحفيظ العليم، أتترك دعاءه والضراعة له وتعوّل على حديدة في أصبعك؟!
قال: [وهي خُرَّاج يخرج في الظهر، فيظهر على القلب فيهلك صاحبه ولا ينجو أبداً] خُرّاج يبدأ من الظهر ويخرج إلى القلب فلا ينجو صاحبه، فأصابتهم تلك الدبيلة فهلكوا عن آخرهم.
[إن صاحب هذه الأمنية الغالية هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] وعبد الله بن مسعود الهذلي كان قصير الذات، رقيق الساقين، أحد أهل الجنة، ونحفظ له ما قاله الحبيب صلى الله عليه وسلم له: ( يا ابن أم عبد -وهذه كنية لطيفة- اقرأ علي شيئاً من القرآن، فتعجب عبد الله وقال: أعليك أقرأ وعليك أنزل يا رسول الله؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري ). وإلى الآن لم يبلغنا أن أحداً من إخواننا يجلس في ظل شجرة أو تحت جدار أو سارية من سواري المسجد ويقول لمن يمر بين يديه: تعال من فضلك أسمعني شيئاً من القرآن!! ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن يرغب أن يسمعه من غيره.
إذاً: لم نصل بعد إلى هذا المستوى، فما زلنا هابطين؛ لأن القرآن الكريم منذ قرابة تسعمائة سنة وهو يقرأ على الموتى فقط، فلا يُدرّس ولا يُبين ما فيه ولا يعلم منه هدى الله أبداً إلا في ليالي الموت فقط، فوا أسفاه!!
قال: ( فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42]، وإذا بعيني رسول الله تذرفان الدموع، وهو يقول: حسبك الآن ) أي: لا تزد يكفي.
وقد حدث لنا مرة كنا فيها مع الشيخ الطيب العقبي رحمة الله عليه خريج المسجد النبوي الشريف، مؤسس جريدة القبلة، ثم أم القرى؛ الذي نشر كلمة التوحيد في الديار الجزائرية عبر دروسه الأسبوعية، وذكر هذه الحادثة ونحن في الصحراء، فكان أحد الإخوان -وقد توفي رحمة الله عليه الأخ عبد الرحمن الموحد - وهو لا يعرف لا ألف ولا الباء يأتي ثم يجلس ويتربع ويقول: اقرأ علي القرآن، ويطأطئ رأسه وأنا أقرأ عليه، ثم يقول: حسبك. وكنت أنا يومها طفلاً أحفظ القرآن. فأخذها من الشيخ كما أخذها الشيخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طبقها.
إذاً: إذا جلسنا في مجالس علينا أن نقول: من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ وحينئذ من في جيبه سيجارة يرميها بعيداً، ومن أراد أن يلغو ويلهو ويقول الباطل فلن يجد مجالاً، فهذا كلام الله يتلى وأنواره تلوح، وهذه هي مجالس الطيبين الطاهرين الصالحين؛ الذين يتهيئون لأن يخترقوا السبع الطباق وينزلوا منازل الأبرار في الدار السلام.
قال: [وصاحب الحفرة هو عبد الله ذو البجادين ] والبجاد ثوب منقط أو ملون مزركش [ذلك المؤمن الذي كان ينازع في إيمانه، ويأبى عليه قومه الإسلام حتى اضطروه إلى أن يهاجر ويترك أهله وقومه في بجاد -وهو ثوب غليظ كالكساء- ولما وصل المدينة وقارب أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم بجاده قسمين فقيل له: ذو البجادين] لما جاء من بلاده مهاجراً هارباً بدينه؛ لأن قومه ما قبلوه وآذوه، وأراد أن يرى الرسول استحى فشق بجاده شقين، فاتزر بنصفه وارتدى بنصفه الآخر، ولهذا سمي بـذي البجادين أي: صاحب البجادين.
[قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قمت من جوف الليل] في تبوك [وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار ناحية المعسكر] معسكر المجاهدين وقائدهم هو محمد صلى الله عليه وسلم.
[فاتبعتها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: (أَدنيا إلي أخاكما)] أي: قربا إلي أخاكما؛ ليضعه في قبره، وهذه شهادة لصاحب البجادين، الذي هاجر هارباً بدينه، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك، وكتب الله له هذه الوفاة السعيدة في الليل المظلم، وقد علم به رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابيان أبو بكر وعمر ، وتولوا وحدهم دفنه، فشاهد ابن مسعود ناراً تتأجج جهة المعسكر فأتاها فوجد الحادثة.
قال: [فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: ( اللهم إني أمسيت راضياً عنه فارض عنه)] وهذا هو السبب الذي جعل عبد الله بن مسعود يتمنى أن يكون هو صاحب هذه الحفرة [قال عبد الله بن مسعود فقلت: يا ليتني كنت صاحب الحفرة!!] لأن هذه الدعوة أفضل من قصور الدنيا كلها.
إذاً: أذكياء هؤلاء، شياطين ..! ما درسوا السياسة ولا عرفوها، لكن إبليس ليس هناك سياسي أكبر منه، مستحيل! فهو الذي يملي ويعلّم ويقرّر.
[مسجد الضرار: عبارة عن وكر مؤامرات] والوكر كوكر الحمامة [أقيم لمناوأة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالمدينة، بناه اثنا عشر رجلاً من كبار المنافقين] العدد الأول كان أصحاب الدبلة، وكانوا اثنا عشر رجلاً، وهؤلاء أيضاً اثنا عشر؛ لأن إبليس لا يحب الفرد والتوحيد أبداً.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله وتر يحب الوتر ) فإذا أكلت التمر كل سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة، وإذا قمت الليل فاختم صلاتك بوتر، وهكذا ..؛ لأن الله وتر يحب الوتر، أما الشيطان فلا يحب الوتر؛ لأنه لا يحب محاب الرحمن أبداً.
[ولما فرغوا منه] أي: من بنائه [أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز لغزوة تبوك] كان يعد العدة وقد أعلن التعبئة العامة في تلك الساعة [وطلبوا منه أن يأتيهم ويصلي لهم فيه] وهذا هو كيد المنافقين، قالوا: بنينا يا رسول الله مسجداً لنصلي فيه، فتعال صلّ لنا فيه، يعني: افتتحه؛ ولأنه لو صلى لهم فيه لاضطر الناس إلى أن يصلوا فيه ويأتونه، ومن ثم يعرفون هم ما يفعلون بالناس، أو على الأقل لا يرحلون من المنطقة فيبقون معهم، مادام عندهم مسجد صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: [ليأخذ الصبغة الشرعية -وإنهم لكاذبون- إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتذر لهم] لما قالوا: تعال صل لنا في مسجدنا، اعتذر لهم [بقوله: (إني على جناح سفر، وحال شغل)] يعني: لا أتمكن من ذلك فاسمحوا لي، وحقاً هو في ساعة إعداده للخروج إلى بلاد الروم لقتالهم [أو كما قال: (ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه )] فوعدهم بأنه إذا قدم من سفره هذا صلى لهم فيه.
قال: [ولما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك وعاد ووصل إلى ذي أوان ونزل بها] وذو أوان مكان قريب من المدينة [وهي على ساعة من المدينة] إذا كنت على الإبل [أتاه خبر المسجد، إذ نزل فيه قرآن عظيم، وهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:107]]، وتمام الآية: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة:107-108] خير من هذا المسجد، وهذا اللفظ شاهد لمسجد قباء ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلاهما أسس على التقوى من أول يوم.
والآن ينهى فقهاء الإسلام عن أهل الحي أو القرية أن يعددوا المساجد، فلا حاجة إلى ذلك، فمسجد في القرية يجمع الناس خير من عدة مساجد يتفرقون فيها، وفي الأحياء مسجد في الحي يكفي، فلماذا تتعدد؟ لأن هذا فيه مظهر من مظاهر التفرقة، فإذا كان المسلمون كلهم في جامع واحد ووعظوا يتعظون كلهم، وإذا تعلموا تعلموا كلهم، وإذا طلب منهم خير أو مدد يمدونه مجتمعين غير متفرقين. ويوجد من قد يبني مسجداً بجوار مسجد وإن لم يكن منافقاً، لمرض أو لوسواس شيطان، فلنحذر هذا.
قال: [فدعا صلى الله عليه وسلم اثنين من أصحابه، هما: مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي أخو بني العجلان] دعا رجلين عظيمين [فقال: ( انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه )] هو واعدهم إذا عاد إلى المدينة أن يأتيهم ويصلي لهم في مسجدهم، ولما قارب نزول المدينة وبقي ساعة من الطريق نزل عليه قرآن بخبر هذا المسجد، فأمر اثنين من رجاله أن يأتيا ذلك المسجد فيدمرانه ويهدمانه ويحرقان أخشابه وعيدانه، وبالفعل هدماه وأحرقاه، وهذا تغيير لمنكر.
[ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عائداً من تبوك، خرج أهل المدينة لاستقباله، والجواري ينشدن:
طلع البدر علينامن ثنيات الوداع
وجب الشكر عليناما دعا لله داع] إلى يوم القيامة، والآن ما بقي من يدعو إلى الله إلا القليل.
كيف تدعو إلى لله؟ هل تقول: تعالوا: إلى الرز واللحم وضعه الله لكم؟ لا، تقول: تعالوا إلى ذكر ربكم لكي تتعرفوا إليه وإلى محابه ومكارهه؛ لتسعدوا وتكملوا بزكاة أنفسكم وطهارة أرواحكم.
والدعوة إلى الله لا تنقطع إلى يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال من أمتي ) فريق أو طائفة إلى يوم القيامة، تقوم بها الحجة لله على الخلق وعلى البشرية ( منصورة إلى يوم القيامة ).
[هنا قال صلى الله عليه وسلم] لما أنشدن الجواري الأناشيد [( إن بالمدينة رجالاً، ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر )] أي: المرض، أو الضعف، أو قلة الزاد، فلا طعام ولا بعير ولا فرس، فقد تخلفوا يبكون الليل والنهار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ) أي: ما قطعتم شبراً أو ألف متر ( ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم )، أي: شاركوكم في الأجر، فهم معكم بقلوبهم -مثلما نحن الآن معهم بقلوبنا- [( قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: نعم وهم بالمدينة )] ولكن حبسهم العذر.
[ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة -وذلك في رمضان-] من السنة التاسعة [وأعلام النصر عالية خفاقة] فقد كانت لهم أعلام، كل فريق له علم يتبعه ويمشي وراءه [وسُرَّ] أي: فرح [المؤمنون والمؤمنات بعودة الحبيب سالماً منتصراً ظافراً] وهل بينهم من لا يُسر ولا يفرح إلا كافر أو منافق؟! [أتى المسجد فصلى ركعتين] وهذه هي السنة.
يا من سافرت وعدت من سفرك، ابدأ بالمسجد -مسجد حيك أو قريتك أو بلادك- فصلَّ فيه ركعتين، أو مسجد نبيك إذا كنت من أهل المدينة النبوية.
قال: [وجاء المخلفون من المنافقين يحلفون ويعتذرون طالبين الصفح والعفو فعفا عنهم وصفح، لكن الله عز وجل لم يعذرهم] جاء الرهط الذين هم من المنافقين وقد تخلفوا يحلفون ما تخلفنا إلا لكذا ويعتذرون: فهذا زوجته كانت حاملاً وهذا ابنه كان مريضاً.. إلى غير ذلك، طالبين الصفح والعفو فعفا عنهم وصفح، وهو أهل لذلك صلى الله عليه وسلم.
[لكن الله عز وجل لم يعذرهم، وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم إذ لا عذر لهم ولم يقعد بهم إلا نفاقهم وسوء ظنهم، وفيهم نزل قول الله تعالى من سورة التوبة: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ [التوبة:94]] أي: لن نصدقكم [ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ [التوبة:94]، وقوله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]] ملأ الله قلوب المؤمنين وقلب نبيه ببغضهم وعداوتهم؛ لأنهم منافقون، أما كونه عفا عنهم وصفح فهذا من كرمه، فلم يؤاخذهم ولم يسجنهم ولم يقتلهم.
أو كان في أهل حي شخص يسمع الأغاني ويشاهد العربدة -مثلاً- في بيته، فيقول إمام الجماعة ومربيهم: يا معشر الأبناء! من استمر على هذا الباطل ورفض دعوة الله ورسوله إلى الخير والصلاح فلا تكلموه. هل يستطيع أن يصبر عن كلام الناس ولا يتوب؟!
قال: [حتى ينزل الله حكمه فيهم بتعذيبه أو بالتوبة عليهم، وفيهم نزل قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:106]] ودامت مدة الهجران خمسين يوماً، كانت المرأة المؤمنة تقدم صحفة الطعام لزوجها ولا تنظر إليه ولا تكلمه، ويمشي أحدهم في السوق حتى يصل المسجد لا ينظر إليه أحد ولا يكلمه، حتى كادت أرواحهم تفيض، فصدقوا الله وتاب الله عليهم.
وإذا لم يكن عندنا قدرة على فعل ذلك في القرية أو الحي، فلنفعله داخل بيتنا، قل: يا أهل البيت! هذا الابن أصر على هذه المعصية فلا تكلموه، فتهجره أمه وامرأته وأخوه وأخته حتى يتوب إلى الله ويرجع، وهذا الهجران له قيمته، أما أن يهجره خمسة ويكلمه عشرون، فما الفائدة؟ لهذا نقول: الهجران الجزئي لا ينفع، كلمه وادعه إلى الله خير من أن تهجره، فالهجران الذي ينفع الهجران العام، الذي لا يستطيع معه الإنسان أن يعيش أبداً، فإما أن يرحل أو يتوب إلى الله عز وجل.
[ودامت مقاطعتهم وهجر الناس لهم مدة خمسين يوماً، ثم تاب الله عليهم، وأنزل في توبتهم قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:117-118]] وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك ، مرارة بن الربيع ، هلال بن أمية رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
أولاً: مشروعية إعلان التعبئة العامة والنفير التام، ولا يحل يومئذ لأحد التخلف إلا أن يكون من أهل الأعذار، أو يتخلف بإذن الإمام الخاص] فإذا أعلن إمام المسلمين التعبئة العامة والنفير العام فلا يحل لمؤمن أن يتخلف، إلا أن يكون ذا عذر كمرض ونحوه، أو يستأذن إمام المسلمين فيأذن له، هذا إذا كانت التعبئة عامة.
وإمام المسلمين هو الحاكم العام الذي يحكم المنطقة أو البلاد، الملك أو السلطان، فإذا أراد أن يقاتل الكفار وأعلن التعبئة العامة وجب على كل رجل أن يخرج إلا صاحب عذر، وأخذنا هذا من القرآن الكريم، قال تعالى: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38].
[ثانياً: مشروعية افتتاح اكتتابات عامة لجمع المال للجهاد في سبيل الله تعالى] فالرسول فتح المكاتب وأخذ الناس يجمعون الأموال.
[ثالثاً: قد يقصر المجتهد، ويتأخر المتقدم، كما قيل: لكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة] السيف ينبو عن المقتول فلا يصيبه، والجواد كذلك يصاب بكبوة. فقد يقصر المجتهد، وهؤلاء الثلاثة قصروا وهم من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[رابعاً: بيان رفع الحرج على ذي الأعذار، كالعمى والعرج والمرض والعجز المالي] فلا يكلفون، ولكن يتأخرون يبكون، ويدعون ربهم طوال الليل والنهار، لا فرحين يزغردون ويغنون يقولون: استرحنا من القتال!
[خامساً: من آيات الإيمان ومظاهره لدى المؤمنين: البكاء الصادق عند العجز عن السير] فإذا رأيت الرجل يبكي ما استطاع أن يخرج مع المؤمنين للجهاد فاعلم أنه مؤمن صادق الإيمان، فآيات الإيمان ظاهرة في بكائه وحزنه، أما الذي يتخلف يفرفش ويقول: استرحنا! فوالله ما هو بمؤمن.
[سادساً: بيان أن المثبطين عن الجهاد والمرجفين بين صفوف المؤمنين لم يكونوا مؤمنين] وأخشى أن يكون بيننا من ضعاف العقول الذين يقولون: هيا نجاهد الآن!!
والله الذي لا إله غيره، لا يحل جهاد إلا بإمامة وقائد هادٍ في الأمة، فهو الذي يعلن الجهاد ويخرج معه الناس، أما أن يركب كل إنسان رأسه ويقول: أنا مجاهد! ثم يُكوّن له مجموعة من اللصوص والجهال ويقولون: نجاهد! فهذا -والله- لا وجود له في دين الله، ولا يحل في الإسلام أبداً، ومن أراد أن يعرف الحقيقة يأتينا ويسأل، فلا جهاد إلا إذا رفعت راية لا إله إلا الله وكان إمام المسلمين يقودهم.
وأعطيكم آية أوضح من الشمس: لما جاهدنا مع الأفغان وأخرجنا الروس وحطمناهم وأذللناهم، هل انتصرنا وأقمنا دولة يعبد الله وحده فيها؟ لا، ما السبب؟ هل هو سحر اليهود؟ إن السحر -فقط- الذي أحبط هذا: هو أنهم لم يبايعوا إماماً يتنازلون له ويمشون وراءه، بل قاتلوا جماعات وطوائف.
فلا يحل جهاد في سبيل الله إلا بقيادة إمام للمسلمين لأمرين:
الأول: أن يغزو دار الكفر ليدخلهم في رحمة الله والإسلام، فعندما ترسوا سفننا أو تنزل خيولنا على شواطئهم، تجري سفارة رسمية لا يحل قتال بدونها، هذه السفارة تقول لأهل تلك البلاد: هل تدخلون في الإسلام لتنقذوا أنفسكم من الخبث والشر والفساد والظلم والقبح، وتستريحوا من أتعاب الدنيا وتسعدوا في الآخرة؟ فإن قالوا: لا، ديننا قبل كل شيء، نقول: إذاً ندخل لنعلم العوام والنساء والأطفال والرجال وننقذهم من النار والعذاب، فإن قالوا: لا نقبل دخولكم عندها تكون الحرب، فنقاتلهم ويقول القائد: بسم الله، لا تقتلوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً، ولا من انقطع إلى عبادة في صومعة أو في كذا.. هذا هو الجهاد.
أما أن تُنسف عمارة بكاملها بالنساء والأطفال والرجال ونقول: جاهدنا! فوالله إن هذا لإجرام من أعظم أنواع الإجرام، وقد قلت لكم: لا يحل -أحلف بالله على علم- أن تفجر في موسكو في عمارة فيها نساء وأطفال ورجال، فتتحطم تلك العمارة بمن فيها، والله ما يجوز في موسكو ولا في تل أبيب ولا في لندن ولا في باريس، فكيف يجوز إذاً في بلاد المسلمين؟! هذه محن الجهل والغفلة والعمى والضلال، وهذا شأننا فنحن مبعدون عن نور الله وهدايته.
[سابعاً: بيان فضيلة أبي خيثمة ، وأبي ذر ، وذي البجادين ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
ثامناً: بيان خمس آيات للنبوة المحمدية وأعلام لها.
تاسعاً: حرمة الضحك وعدم البكاء -أو التباكي- عند المرور بديار المعذبين] كمدائن صالح.
[عاشراً: مشروعية قصر الصلاة في السفر، وجواز الجمع فيه] بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
[الحادي عشر: مشروعية عقد الإمام الصلح مع المشركين إذا دعت الضرورة إلى ذلك] كما صالح الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث طوائف أو دول.
[الثاني عشر: بيان بطولة خالد بن الوليد وشدة بأسه في الحرب] فقد جاء بـأكيدر السلطان أسيراً إلى المدينة.
[الثالث عشر: بيان فضيلة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 105 للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net