اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 81 للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. اللهم آمين.
أذكركم بمحتوى النداء الذي سمعناه أمس من موالانا عز وجل: إنه يحمل تربية ربانية إسلامية، وهي: أننا إذا كنا في مجلس علم كهذا وجاء من يرغب في العلم ويطلبه، وهو من مكان بعيد فإذا قال المربي: تفسحوا لأخيكم أو لإخوانكم؛ ليجلسوا معكم لطلب الحكمة والكتاب وجب أن نتفسح، وإذا قال المربي: ليقم فلان وفلان، وليجلس فلان وفلان؛ للحاجة إلى جلوسهما، ولعدمها من فلان وفلان وجب أن نطيع المربي، وأن نقوم، ويجلس من أراد المربي جلوسه؛ لأنه لا يأمر إلا بما هو في صالح الدعوة.
وهذا النداء هو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا [المجادلة:11]. والجزاء من الله: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. هذه هي التربية الربانية، وقد حرمها المؤمنون والمسلمون لما أعرضوا عن كتاب الله، وعن الاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله، واستبدلوا بذلك الأهواء والمقاهي والملاعب والأباطيل، فحرموا هذا النور، فهم في الظلام، إلا من شاء الله إنقاذه.
هذا هو النداء السابق.
قبل هذا النداء نداء آخر، فيه من الآداب الرفيعة والأخلاق السامية ما لا يوجد عند غيرنا، وهي: أنك إذا أردت أن تتناجى مع أخ لك فاذهب بعيداً، ولا تتناجى معه إذا كان أخوكم الثالث يسمع، ولا يدري ماذا تقولان فيما بينكما؛ إذ هذه الحال من شأنها أن توجد حزناً وهماً وكرباً في نفس هذا المؤمن، وكذلك هو ولي الله، ولا يرضى الله أن يؤذى وليه، وقد قال الله تعالى: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).
وهذه المناجاة يدفع إليها إبليس العدو؛ ليحزن الذين آمنوا، وقد قال تعالى في هذا النداء الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:9-10]. وهذا معناه المحافظة على المجتمع الإسلامي، ومراعاة حقوق الأخوة الإيمانية. وهذا معناه: أنه لا أذى بين المؤمنين، حتى في حال كهذه، فلا يتناجى اثنان دون الثالث، ولا ثلاثة دون الرابع، ولا خمسة دون السادس؛ لأنكم إن تحدثتم سراً بينكم وهو لا يدري ما تقولون فإن هذا يحزنه ويكربه ويؤلمه، ولا يجوز والله أن تؤذي مؤمناً، ولا أن تدخل عليه الحزن والأذى.
واليوم انتشر الأذى بين المؤمنين، وهم يصبونه على إخوانهم صباً، وانتشر السب والشتم والتعيير والتقبيح والطعن والنقد، بل وإراقة الدماء وكسر العظام، وليس هذا هو الإيمان، وليس هؤلاء هم المؤمنون،. فلنعد إلى الاجتماع على الكتاب والسنة في بيوت الرب بنسائنا وأطفالنا ورجالنا طول العام وعلى مدى الحياة؛ ليرحل الجهل وظلمته، ويحل العلم ونوره، ونعود إلى ما كنا عليه، لا فسق ولا فجور، ولا خيانة ولا خداع، ولا كذب ولا باطل.
وقد ضاع المسلمون من يوم أن حولهم العدو عن دراسة الكتاب والحكمة، وعن قراءة القرآن على الموتى، ومن يوم أن هجرنا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبحنا ندرسها للبركة، ونكتفي بالمصنف الفلاني وما كتبه فلان. وهذه هي آلام المؤمنين التي ضيعتهم اليوم.
ونداءات الرحمن هذه تسعون نداء، وأقسم بالله لو دقت ساعة دعوتنا وإقبالنا على الله؛ لنعرف ونعلم ونكمل ونسعد لكان هذا الكتاب قد أخذ، وترجم في خلال أربع وعشرين ساعة، ووزع في العالم الإسلامي، واجتمع النساء والأطفال عليه، وعلى رأسهم المسئولون في المدينة والقرية؛ ليتعلم الكل كيف يعرف الله، ويعرف ما يحب وما يكره؛ ليمتثل الأمر ويجتنب النهي، ولكن مادامت الساعة لم تدق فنحن نصرخ من قبل ثلاثة أشهر أو أربعة ولم نحصل على شيء، ولم نسمع عالماً يدعو إلى قراءة هذا الكتاب، أو يرغب فيه، أو يحمل الناس عليه، فضلاً أن يأخذ أو يجمع أهل القرية في قريتهم ليتعلموا الهدى، وليسموا ويعلوا، ويطهروا ويكملوا. وتفسير هذه الظاهرة يا علماء النفس! أنه ما زال مكتوباً علينا البقاء على الخلاف والتناطح والأذى والحسد والبغضاء، ولا يسلم منا إلا من سلمه الله، وقليل ما هم، فأولئك هم السالمون الناجون.
وهيا نتغنى بالنداء السابع والسبعين، وليس بأغاني فريد الأطرش وأم كلثوم وفلان وفلانة، فهذه لا تجوز، وذاك لا بأس به، وهذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يقول: ( من لم يتغن بالقرآن فليس منا )، أي: من لم يحسن صوته بالقرآن فليس منا؛ لأن القرآن كلام الله الرحمن الرحيم، وهو يحمل الهدى والنور، فالتغني به وتكرار ذلك يورث حبه، ويساعد على فهمه والإقبال عليه.
قال: [ الآيتان (12 ، 13) من سورة المجادلة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:12-13] ] وإذا جلس أهل المسجد في الحي أو القرية وأهل البيت في البيت ربع ساعة أو نصف ساعة يتغنون بهاتين الآيتين فإنهم يحفظونهما، وإذا حفظتا أصبحتا نوراً في القلب، فإذا شرحتا لهم فهموهما، وعرفوا مراد الله منهما، وكانوا أهلاً لأن يعملوا بأمر الله، ولكننا حرمنا من هذا.
ولا تقولوا: يا شيخ! هذه مبالغة، وإياكم أن تفهموا أننا نكذب ونضلل الناس في مجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي في قلبه هذا المرض يخرج من المسجد، فهذا ليس محط الكذب والتضليل، بل هذا محط النور المحمدي.
وهذه الصديقة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر حب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وتلك والله حجرتها، وفيها رسول الله وأبوها وعمر رضي الله عنهما- دخل عليها رسول الله في ساعة حق لها، وإذا بخرقة من قماش لها منسوجة من صوف، فيها صورة إنسان، وكما تعرفون كانت النساء ينسجن بأيديهن، ويرسمن الصور، ولم يكن لهذه الصور ملامح ولا تقاطيع؛ لأنها في القماش، وسترت بها سهوة في الجدار وراء بعض أمتعتها، ولم يكن عندها صندوقاً ولا خزانة ولا دولاباً كما عندنا، ( فلما دخل الحجرة وشاهد الصورة غضب وتمعر وجهه، وظهر الغضب على وجهه، فإذا بها تقول: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا فعلت يا رسول الله؟! فيقول: أزيلي عني قرامك يا عائشة ! ) . أي: أبعديه عني؛ ( فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ). وإذا رحلت الملائكة وجبريل وميكائيل من بيتك يا عبد الله المسلم! حل محلهم الشياطين، وإذا حلت الشياطين في البيت دعوا إلى إثارة الغرائز والشهوات والأطماع والتكالب على الدنيا، هذا الذي يدعون إليه، فيصبح راتبك والله لا يكفيك، فتأخذ الرشوة وتكذب وتسرق؛ لأنك بحاجة إلى توفير حاجاتك، وراتبك لا يكفيك؛ لأن الشيطان يزين لك أنواع الطعام والشراب، واللباس واللهو والباطل. وإذا حلت الشياطين محل الملائكة فلابد من أن تظهر رائحة العهر والكذب والإسراف، ويتحول البيت إلى بؤرة من بؤر الشياطين. وهذا واقع من 95% من المسلمين. ونحن نريد أن يسموا ويكملوا ويرتفعوا، وأن لا يظهر فيهم خيانة ولا خداع، ولا كذب ولا ربا، ولا زنا ولا فجور، ولن يتم هذا والشياطين هي التي تؤانسهم وتجالسهم وتضحك معهم. فطهروا بيوتكم أيها الفحول! ولا تقولوا: لا نستطيع أن نفعل هذا، أو أن هذا رجعية وتخلف، مع أنكم تعلمون ما ينشره ويبثه الصحن الهوائي، حتى أصبح أهل البيت ينزو بعضهم على بعض كالحيوانات، ويتعلمون ذلك مما تبثه هذه الصحون. واليهود يخططون ويرسمون، ونحن كالبهائم نجري وراءهم، والشياطين تقودنا؛ لأننا أعرضنا عن كتاب الله، والله يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]. والذي يحشر أعمى لن يدخل الجنة والله، ولن يشم رائحتها، ولن يصل إليها وهو أعمى، بل يسقط في جهنم.
ونحن نبكي ونبكيكم؛ رجاء أن يعفو الله عنا وعنكم. فهيا نغير وضع حياتنا، فنحن لسنا يهوداً ولا نصارى، ولا بوذيين ولا مجوساً، ولا مشركين. بل نحن والحمد لله مؤمنون مسلمون، ونور الله بين أيدينا، فلا نضل ونعمى.
وألفت أنظار السامعين والسامعات إلى أن حكم تقديم الصدقة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12] منسوخ؛ لأنه كان أيام حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم قال لهم تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ [المجادلة:13]، أي: خفتم من الصدقة؟ وتقرأ ( آشفقتم)؟ ثم قال تعالى: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]. ويكفي. فإذا أردت أن تتكلم مع الرسول فتكلم، ولكن ارحم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو لا يستطيع أن يخلو بكل واحد. فنسخ عز وجل هذا الحكم.
وتقول الأخبار السليمة والصحيحة: أنه لم يحقق هذا ويعمل به قبل النسخ إلا علي رضي الله عنه؛ لأنه اضطر إلى أن يتكلم مع الرسول في مسألة سياسية لابد منها، فقد كان جنرال حرب، فدفع الصدقة ودخل على الرسول وتكلم، ووقف الآخرون، ثم مر يوم واحد أو يومان ونسخ الله هذا الحكم بعد أن عرفوا سببه، وهو إذا لم يكن لك أمر ضروري فلا تكلف الرسول هذا، وليس كلما أردت أن تقول للرسول كلمة تخلو به؛ لأنه لا يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحمل هذا؛ إذ له أزواجه وسياسته وآدابه والوحي الذي يتلقاه، فلذلك لا يستطيع.
وينبغي أن يكون هذا مع المربين، مثل مربي القرية وشيخهم ومهذبهم ومعلمهم أيضاً، فهو لا يستطيع أن يخلو بكل واحد، ولا يتسع لهذا. والذي أدبنا هذه الآداب هو الله ربنا، فقد قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] لنفوسكم. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا [المجادلة:12] ما تتصدقون به. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ [المجادلة:12-13]؟ فقالوا: نعم، فقال: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13] وعرفتم أنكم تؤذون رسول الله بالمناجاة في كل لحظة وكل ساعة فالبديل: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:13]. فإنكم تسمون وترتفعون وتسعدون وتكملون.
فعلى هذا القارئ الكريم أن يعلم [ أن هذا النداء الإلهي كان يحمل حكماً شرعياً، وهو أن من أراد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلو بالرسول صلى الله عليه وسلم ليناجيه سراً دون غيره ] من الناس [ وجب عليه أن يتصدق بصدقة على فقير، ثم يتفضل فيناجي الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها ] وهذا حكم الله [ إلا أنهم لظروف الحرب والاحتياج الشديد ما أقدموا على هذا المطلوب، كما شعروا أن هذا كان من باب تأديبهم وتربيتهم؛ إذ رغبة كل واحد ] منهم [ في مناجاة الرسول ] صلى الله عليه وسلم [ تحقيقها أمر صعب، وأصعب منه ما يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم من تعب ومضايقة ] إذ الحرب والجهاد والدولة والقضاء والإفتاء وغير ذلك كلها مرتبطة به، ولن يستطيع القيام بكل هذا، ولولا الله لما قدر على شيء، فارحموه يا عباد الله!
والرسول علمنا كيف ندخل المرحاض، وهو: أن نستعيذ بالله من الخبث والخبائث والرجس النجس، وهو الشيطان الرجيم، ثم نقدم رجلنا اليسرى لا اليمنى، ثم إذا جلسنا لا نرفع ثيابنا حتى نجلس على الكرسي، وإذا جلسنا وتبولنا وتغوطنا فإننا نستنجي بالماء، أو بما هو منجٍ ومطهر. وهذه الآداب لن نجدها في قانون في فرنسا ولا إيطاليا، فهم والله لا يعرفونها.
وعندما نعود إلى بيوت الله كهذه العودة ونتعلم الكتاب والحكمة فإننا نتخرج ربانيين؛ نساء وأطفالاً ورجالاً، ولن يكون هناك خبث ولا ظلم، ولا شر ولا فساد، ولكن العدو غللنا وكبلنا، وقيدنا بأنواع من الشيطنة العجيبة، ومنعنا من دخول المساجد، وحرمنا من الاجتماع على الكتاب والسنة، ونحن مددنا أعناقنا إليه.
قال: [ فلما كفوا عن طلب الخلوة بالرسول صلى الله عليه وسلم نسخ الله هذا الحكم، وأذن لهم في المناجاة عند الحاجة إليها، وبدون تقديم صدقة بين يدي المناجاة ].
وهذه الخصال الثلاث هي: الأولى: [ تزويجه فاطمة ] رضي الله عنه وعنها، والثانية: [ وإعطاؤه الراية يوم خيبر ] ليقود الجيش الإسلامي. وخيبر على بعد مائة وخمسين كيلو من المدينة. وخلاصة هذه المعركة: أن خيبر كانت دار يهود، وكانت التجارة والفلاحة كلها بيد اليهود، وكان اليهود قد هاجروا من أرض القدس إلى المدينة؛ لأن نبأ بعثة محمد موجود في التوراة والإنجيل، وكانوا يقولون: لقد لاح في الآفاق تباشير ظهور النبي الخاتم، فسنهاجر إلى هناك حتى نؤمن به ونمشي وراءه، ونسترد أمجادنا ومملكة بني إسرائيل، كما أنهم تألموا من الاضطهاد الذي كان يصب عليهم من أعدائهم الصليبيين والنصارى، فهاجروا إلى الحجاز، ونزلوا في المدينة، فقد كانوا يعرفون أن مهاجر الرسول مدينة ذات سبخة، ولا ندخل الآن في هذه التفصيلات، بل الذي يهمنا: أنه لما غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة بعد حادثة الخندق كانت لهم حصون عجيبة، وقد حاول الرسول والمسلمون فتحها ولم يستطيعوا، وتأملوا وتألموا، وفي ليلة من الليالي بعد صلاة العشاء بشرهم صلى الله عليه وسلم وقال: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ). وأعلن هذا البيان الرسمي في الليل بعد صلاة العشاء في المعسكر - عسكر المجاهدين- ونحن اليوم نسمي هؤلاء الذين يقتل بعضهم بعضاً، والذين يسفكون دماء بعضهم بعضاً مجاهدين، مع أنه لا توجد راية الجهاد ولا أهله، و( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا المقاتل فما ذنب المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل أخيه ). فالجهاد من أجل أن نرفع راية لا إله إلا الله، ولكن اليوم لا توجد الأمة التي تريد أن ترفع راية الحق، ولنوجد هذه الأمة أولاً.
فبات أصحاب رسول الله كل يتمنى على الله أن يعطاها؛ إذ ما حدد الرسول من سيعطاها، وكل ما في الأمر أنه قال: ( رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ). وكان والله كل واحد منهم يود أن يكون هو، ولا تسأل عن عمر وأصحاب الهمم العالية، فإنهم لم يناموا، وباتوا يدوكون ليلتهم من يعطاها غداً، وهذا ليس من أجل أنه أعطي راية، وإنما من أجل الإعلان عن حب الله ورسوله له، وأنه يفتح الله على يديه، وطلع النهار وصلوا الصبح، وجلس الأمير صلى الله عليه وسلم وهم ينتظرون، قال عمر : كنت أرفع نفسي حتى يشاهدني، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أين ابن أبي طالب ؟ قالوا: مريض يا رسول الله! ). فقد كان مريضاً بالرمد في عيينيه. قال: ( جيئوا به ). فجاءوا به يقاد بين اثنين، وعلى وجهه خمار أسود، وقد كنا نستعمل هذا أيام الرمد، فالغطاء الأسود يقي من الشمس، فوقع بين يديه، فنفث في عينيه، فوالله ما مرض بهما حتى مات، وزال الرمد وتلك الحمرة والتآكل نهائياً؛ بسبب ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبول الرسول شفى الله تعالى به أم أيمن ، فقد قامت في الليل ظمأى تبحث عن الماء، ولم يكن في بيت الرسول كهرباء ولا غاز، فتلمست أم أيمن خادمة الرسول في الظلام، فوجدت قدحاً مملوءاً فشربته، وحمدت الله ونامت، ولما قام الرسول صلى الله عليه وسلم ليخرج البول من تحت سريره لم يجد البول، فسأل أم أيمن عن القدح الذي فيه البول، فقالت: شربته يا رسول الله! فقال: ( صحة يا أم أيمن ! ). ووالله ما مرضت ببطنها حتى ماتت. وليس هذا فقط، بل ما نفث أو بصق أو تنخم أو تمخط رسول الله بين رجاله إلا لم تقع النخامة أو البصاق على الأرض أبداً، بل كانوا يتلقونه بأيديهم، ويمسحون به أجسادهم، فتصبح أطيب الطيب وأذكاه. هذا رسول الله ومصطفاه.
فأعطى الراية علياً وقال: ( امض ولا تلتفت ). فلم يستطع أن يلتفت إلى الرسول، فتأخر إلى الوراء يمشي برجليه؛ امتثالاً لأمره، وسأل الرسول: ( علام أقاتلهم يا رسول الله؟! قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، أو يعطوا الجزية وهم صاغرون ). وهذا هو ما تمناه عبد الله بن عمر . هذه الثانية.
والثالثة: [ وآية النجوى ] وهي هذه الآية. وقد قلت لكم: ما طبقها إلا علي ، فهو الذي وضع في يد فقير صدقة ودخل على الرسول، ولم يمر إلا يوم واحد أو يومان ونسخها الله.
فهذه ثلاث خصال لـعلي ، وابن عمر على جلالته يقول: لو كانت لي واحدة فقط لكانت أحب إلي من حُمر النعم، وهي: أفضل المال وأزكاه وأطيبه، وهذه الثلاث هي: الأولى: زواجه بـفاطمة ، والثانية: راية خيبر، والثالثة: آية النجوى.
وقوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] أي: تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لكم؛ حيث تعود الصدقة على الفقراء إخوانكم، وأطهر لنفوسكم؛ لأن النفس تزكو وتطهر بالعمل الصالح ].
وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا [المجادلة:12] أي: ما تقدمونه صدقة قبل المناجاة فناجوه صلى الله عليه وسلم، ولا حرج عليكم؛ وذلك لعدم وجود ما تتصدقون به. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [المجادلة:12] لكم، رَحِيمٌ [المجادلة:12] بكم ].
قال: [ وقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ [المجادلة:13]؟ أي: خفتم الفاقة والفقر على أنفسكم إن أنتم أُلزمتم بالصدقة بين يدي كل مناجاة، وعليه فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13] برفع هذا الواجب ونسخه، والرجوع بكم إلى عهد ما قبل وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [المجادلة:13]، أي: بأدائها، مستوفاة الشروط والأركان والسنن والواجبات ] والآداب [ وفي بيوت الله مع جماعات المسلمين. وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13] الواجبة في أموالكم، وما فيه زكاة أنفسكم وطهارتها من سائر العبادات المزكية للنفس المطهرة للروح. هذا أولاً.
وثانياً: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:13] صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي، مادام الأمر للوجوب والنهي للتحريم. فيكفيكم أداء هذه الواجبات عن الصدقة بين يدي المناجاة التي نسخها الله تعالى تخفيفاً عليكم أيها المؤمنون! ورحمة بكم؛ لأنكم أولياؤه، وهو وليكم ومولاكم.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة:13]. وعليه فراقبوه، فلا تفرطوا في طاعته وطاعة رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ فإنكم تفلحون بالفوز بالجنة والنجاة من النار ].
قال: [ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله ] أي: مثل هذا الكلام أيضاً [ وقال للمذكر ] الواعظ الذي يتخبط: [ هلكتَ وأهلكتَ ] الناس معك، فاسكت أو اخرج.
قال: [ فلنذكر هذا، ولنحمد الله ولنصلي ونسلم على رسوله وآله وصحابته أجمعين ] ومن والاه [ وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ] وصلى الله على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نداءات الرحمن لأهل الإيمان 81 للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net