اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة (14) للشيخ : أبوبكر الجزائري
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء. وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:30-33].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
وهاهنا تتجلى مظاهر الربوبية والألوهية الإلهية، وتتجلى مقتضيات عبادته؛ وهي القدرة التي لا يعجزها شيء، والعلم الذي أحاط بكل شيء، والحكمة التي لا يخلو منها شيء، والرحمة التي تتجلى في كل المخلوقات، فهذا الذي يستحق أن يعبد، وهذا الذي ينبغي أن يحب، وأن يبجل، ويرجى، ويعظم، أما من عداه من تلك الآلهة المزعومة المدعاة فعبادتها باطلة، وأهلها مبطلون.
وها هي ذي آيات الله تبين لنا عظمة ربنا عز وجل، وعلمه، وقدرته، ورحمته، وحكمته، وتقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله، فلولا أنه غير رسول الله فمن أين له أن يأتي بهذه العلوم والمعارف؟ وكيف تأتيه؟! فهي علوم لا تتلقى إلا من طريق السماء، وليست هي علوم كونية في الأرض أو في السماء، هذه علوم إلهية، ولولا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء بهذا العلم الإلهي.
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ جل جلاله وعظم سلطانه، (ربك) أي: خالقك، ورازقك، ومدبر أمرك، والموحي إليك، والذي نبأك وأرسلك، وفي هذا تشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلاء لمكانته، إذ يتكلم عن الله بما علمه الله.
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ وقد عرفنا من هم الملائكة؟ هم عالم مادة خلقه وتركيبه النور، وهذا العالم لا يحصي عدد أفراده إلا الله، وحسبنا ما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر أو موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد )،وقد عرفنا أن كل آدمي معه عشرة ملائكة.
هذا العالم الأطهر الله عز وجل يقول لهم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً يريد أن يعلمنا أسلوب السؤال والجواب، إذ هما طريقتا العلم والحصول عليه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يورد الأسئلة على أصحابه ثم يجيبهم، فطريق السؤال والجواب للحصول على علم طريقة رحمانية ربانية.
إذاً: هذه الأرض هي المقصودة بقول ربنا تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ المعروفة المعهودة لهم.
خَلِيفَةً خليفة يخلف من؟ لأهل العلم طريقان نسلكهما معاً، ولا منافاة؛ لأن القرآن حمال وجوه.
الطريقة الأولى: هي أن الجن سكنوا هذه الأرض قبل بني آدم، امتحنهم الله فأسكنهم هذه الأرض، فلما سكنوها ما كان منهم إلا الحروب والفتن، وسفك الدماء، والجرائم المتنوعة المتعددة، وهذا يشهد له قوله تعالى: يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، قالوا هذا لعلمهم السابق بما حصل من عالم الجن وأنهم أفسدوا في الأرض بالمعاصي، وارتكاب المحرمات، وإضاعة الواجبات، كما هو الفساد المعروف، وبسفك الدماء بقتال بعضهم بعضاً، وهذا ورد، وأن الله أرسل مع إبليس قبل أن يبلس جيشاً من الملائكة قاتلوا معه، وأجلاهم من الأرض.
فلما علمت الملائكة هذا وسألهم الله مختبراً لهم ومستشيراً، وليس في حاجة إلى أن يستشير، ولكن من باب التعليم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30] أي: بارتكاب المعاصي. وعرفنا الفساد في الأرض بم يكون؟ بالكذب، بالخيانة، بالغش، بالخداع، بالفجور، بأكل الربا، بسفك الدماء، هذا هو الفساد في الأرض دائماً وأبداً.
فقالوا هذا لما علموا مما وقع من ذلك العالم عالم الجن بامتحان من الله وتدبير.
هذه طريقة، ولا بأس بها، وهي مروية عن الصحابة أيضاً.
والطريقة الثانية: أنهم تفرسوا، والعلم يكون أيضاً علم فراسة، شاهدوا هذا المخلوق وهو طينة، ونظروا إليه، وعرفوا أن هذا النوع ينتج عنه الفساد وسفك الدماء، وهذا من باب الفراسة.
ومن الجائز أن يكون الله تعالى أعلمهم، ثم لما علموا ما أعلمهم جاء دور الامتحان والسؤال والجواب، قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] فكان رد الله تبارك وتعالى عليهم أن قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]. فما دمت أعلم وما تعلمون فأنا فاعل وخالق ما أريد، وأنتم لا علم لكم، بحسب ما عندكم قلتم كلمتكم، وأنا أعلم ما لا تعلمون.
أولاً: خليفة لأن الجن الذين سكنوا في الأرض أجلوا منها وهلكوا، فإذا نزل آدم إلى الأرض مع ذريته أصبح خليفة لمن سبق، وهذا معقول ومقبول، خليفة لمن سبق أن نزل الأرض، وحصل الذي حصل، وأجلوا منها إلى الجزر.
ثانياً: خليفة عن الله في إجراء أحكامه بين خلقه، فالله شرع قطع يد السارق، ورجم الزاني، وقتل القاتل، ومن ينفذ هذا؟ لابد من خليفة، يخلف في ذلك، ولا حرج أبداً.
وهنا مما ينبغي أن يعلم أنه لابد للبشرية من خليفة، فهذا فرض، أما نحن المسلمين فالإجماع على أنه لابد من خليفة يحكم المسلمين بشرع الله، ولا يحل أبداً أن يعيش المسلمون على الفوضى، بل لابد من خليفة، وتجب طاعته، وهو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، إلا أن هذا الخليفة لابد وأن يكون من مستويات عالية، فلا يكون صعلوكاً من صعاليك الناس، ولا مجهول النسب، ولا أمياً وجاهلاً، ولا فاسقاً ولا فاجراًً، ولا كافراً ولا ساحراً، وهذا أمر مفروغ منه؛ بل يكون خلاصة ما عندنا من الصلحاء، والأطهار، والأصفياء.
فإذا أراد أهل إقليم مبايعة حاكم لابد وأن تكون فيه صفات الكمال؛ لأنها أمانة لا توضع إلا في يد من هو أهل لها، وهذا أمر معلوم بالضرورة.
ومتى كان الحاكم شريف النسب، معروف الأصل والحسب، ذا حياء وعلم ومعرفة، ييسر الله له الأمر، ويسود المسلمين بالهدى والخير.
ودل على هذا: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فلا يحل للمسلمين أن يعيشوا بلا إمام يقودهم، ولا حاكم يحكمهم.
وكونهم يختارون نعم. إلا إذا حاكم قهرهم وغلبهم وحكم، فبمجرد ما يستتب له الأمر وجبت طاعته والإذعان لأمره والمشي وراءه وجوباً؛ لأن الإسلام لا يسمح أن تراق دماء المسلمين، وأن تسلب أموالهم وتنتهك أعراضهم في الفوضى، لابد من حاكم، والآية صريحة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .
إما لما لاحظوه من علم سابق أعلمهم الله، وإما لما علموا من أهل الأرض الذين سكنوها وسفكوا الدماء وأفسدوا فيها. فهذا هو جوابهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ؟ فرد الله تعالى بقوله: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].
وهنا يا معشر المستمعين والمستمعات! من سئل عما لا يعلم فليقل: الله أعلم. ما أبردها على الكبد كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فإذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم، وذلك خير لك. إذ قال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فرضوا بتدبير الله وحكمه وقضائه، وسكتوا، وفوضوا الأمر لله العليم الخبير.
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: نقول: سبحان الله وبحمده، والملائكة طول الدهر وهم يسبحون بهذا التسبيح. ليل نهار.
وقوله: وَنُقَدِّسُ لَكَ الأصل: ونقدسك، والتقديس: التنزيه والتطهير عما لا يليق، وزيدت اللام لتقوية الكلام، إذ زيادة المبنى تزيد في المعنى في لسان هذه الأمة؛ اللسان العربي.
وسبحه: نزهه عما لا يليق به من الشرك، وقدسه في ذاته بحيث تبعد عنه كل ما يعرف بنقص، فالتسبيح كالتقديس، إلا أن التقديس يتعلق بذات الله عز وجل، والتسبيح يتعلق بصفاته وما له من حقوق، وهي عبادته وحده.
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ بمعنى: ما هناك حاجة إلى خلق هذا المخلوق وإنزاله في الأرض من أجل أن يعبدك، فنحن نسبح لك ونقدس، فهذا رأيهم، وهذا منتهى علمهم، فلا علم لهم، فقالوا قولتهم هذه، ولو فوضوا الأمر إلى الله لكان خيراً، ولكن هذا اجتهادهم، لما استشارهم سألهم: إني جاعل كذا، ليسمع منهم ما يرون وما يقولون، فلما أعلمهم قالوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فأسكتهم. وسوف يبين لهم أيضاً مراده من خلق هذا المخلوق.
أما الآن فأصبح الذي يشك في هذا أو يرتاب ويضطرب لا عقل له.
أولاً: أليس قد كتب الله في كتاب المقادير كل ما هو كائن من اسم وذات وصفة؟ كل ما كان ويكون إلى يوم القيامة قد جرى به القلم، وهو محفوظ ومعروف. فعلم آدم الأسماء، وعرفه ذوات المسميات حتى شاهد الذوات وعرف الأسماء.
الآن التلفاز يعرض لك فتشاهد الأسماء والمسميات، هذا اسمه إبراهيم، وهذه اسمها النخلة. أسماء الأجناس كلها!
وكونه تعالى قديراً، عليماً، حكيماً على أن يلهم عبده آدم في ذلك العالم أن يحفظ كل ما عرض عليه هذا أمر سهل على الله، الآدمي في هذه الظروف يحفظ آلاف الكلمات بل ملايين!
إذاً: فعلم آدم الأسماء كلها من الماء إلى الطين .. إلى اللبن .. إلى النخلة .. إلى الإنسان كما هو في كتاب المقادير.
ثُمَّ عَرَضَهُمْ [البقرة:31] أي: الأسماء والمسميات بها عرضهم على الملائكة كأنها شاشة تلفاز، وأمرهم أن يبينوا أسماء تلك المسميات.
فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31] في علمكم ومعرفتكم.
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [البقرة:31] ما قال: فعرضها؛ لأن فيها الأنبياء والرسل والبشر وذوي العقول، وليست كلها لا عقل لها.
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ عجزوا، وما استطاعوا الجواب، ولم يستطيعوا أن يقولوا شيئاً
ولم يسعهم إلا أن يقولوا: الله أعلم!
فسلمت الملائكة لله: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا لو علمتنا كما علمت آدم لقلنا: هذا فلان وهذا فلان، وهذا اسمه كذا وهذا كذا.
وعظمة الله وربوبيته وإلهيته تتجلى في كون آدم الذي خلقه من طين، ونفخ فيه من روحه، وأصبح ذا منطق وذا سمع وذا بصر، علمه في زمن لا ندري مقداره، في ساعة، في دقيقة، في لحظة، لكن نعلم أن الله يقول للشيء: كن فيكون، فعلمه الأسماء كلها، أسماء الأجناس كلها باللغة التي أراد الله؛ ولأن تكون العربية أولى؛ لأنها لغة أهل الجنة، هذا اسمه كذا وهذا كذا، وانظر إلى الملائكة مع طهارتهم، وصفائهم، ووجودهم قبل آدم -ممكن بملايين السنين- ما استطاعوا أن يقولوا كلمة، فسلموا الأمر لله، ونزهوا الله وقدسوه: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا وأكدوا ذلك بقولهم: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ العليم بكل شيء، الحكيم في كل شيء، فلا عبث، ولا لهو، ولا باطل، ولا..، وإنما العلم والحكمة مع بعضهما البعض.
وإن قلت: الأجواء والأهواء تؤثر؟ هذا شيء عارض فقط، لكن الأصل أن بني آدم كما هم أمامنا، وآدم مأخوذ من الأدمة التي هي بين الحمرة والبياض.
إذاً: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ أي: بأسماء هذا العرض من المخلوقات، أسماء ومسميات، فأخذ يقول: هذا فلان، هذا فلان، هذا كذا، هذا كذا، هذا كذا!
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة:33]، قال تعالى لهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33]، وهذا التقرير الذي تم أمام الملائكة باق، وهو لنا أن نعلم علم يقين أن الله يعلم غيب السماوات والأرض، وهو ما غاب عن العيون، وبَعُدَ عن الحواس، وعجز الآدمي أو الجني أو حتى الملك عن معرفته، فهذا الغيب يعلمه الله عز وجل، سواء كان في السماوات أو كان في الأرض، فهذا الذي يستحق أن يعبد، وأما مخلوق؛ مصنوع في حاجة إلى وجوده وبقاء حياته فلا؛ إذ الآيات تقرير عبودية لله عز وجل، فلا يستحقها مخلوق ولا كائن من الكائنات؛ لأن الله أبطل الشرك والكفر، وندد بذلك، وقاد البشرية إلى أن تعرف الذي يستحق أن يعبد، وهو الله عز وجل.
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، كيف يتم هذا لولا أن الله الذي علمه؟ وهل يوجد الآن من يستطيع أن يتكلم بلغات العالم، ويعرفها كلها؟ هل يوجد من يعرف الذرات الموجودة في الأرض وبأسمائها؟ هذا لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وهو الذي ينبغي أن يعبد، وأن يحب، وأن يعظم، أما المخلوقات كيف تعبد مع الله؟!
العلم والقدرة والحكمة والرحمة هي مقتضيات أن يعبد الله عز وجل؛ فلهذا بطل أن يعبد غير الله؛ ولهذا عامة الرسل أول كلمة تقولها لأقوامها: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً.
وقد علمنا وعرفنا أن هذه العبادة ليس الله في حاجة إليها، ولا كماله، ولا ربوبيته، ولا ألوهيته مفتقرة إليها، هذه العبادة فقط من أجل أن يكمل عليها العابدون ويسعدوا!
ولا ننسى قول الله تعالى من سورة الأنعام في الحِجاج الذي دار بين إبراهيم وبين قومه: قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ [الأنعام:80-81] أنا أم أنتم؟ من يعبد الله، أم من يعبد غير الله؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم، وكيف يخلط الإيمان بالظلم؟ أي: بأن يعبد مع الله غيره، وبأن يشرك في عبادة الله، سواء عبادة القلب أو اللسان أو الجوارح، بأن يعبد مع الله غيره.
وهذه الآية لما تلاها الأصحاب رضوان الله عليهم اضطربوا، وقالوا: من ينجو منا إذن؟! إذا كان لا نجاة .. لا يتحقق الأمن من عذاب الله وسخطه إلا من آمن ولم يخلط إيمانه بظلم فمن ينجو؟! كلنا يظلم، وظنوا أنها معاصي كسبة، أو شتمة، أو غيبة، أو نميمة، أو ذنب من الذنوب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ( ألم تسمعوا قول العبد الصالح إذ قال لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ) ظلم عظيم، فالظلم يتفاوت فيه الصغير والكبير، نعم، هل شتمك فلاناً في الشارع كشتمك أباك؟! إذاً: الظلم يتفاوت، وأعظمه أن تسلب حق الله، وتعطيه لغير الله، إذ الظلم حقيقته -يا معشر المستمعين والمستمعات- وضع الشيء في غير موضعه.
وقد مثلنا أمثلة: هل يجوز لأحدكم الآن أن يدفع الجالسين يميناً وشمالاً وينام؟! هل هذا مكان نوم؟!
هل يجوز لأحدنا أن يعرض بضاعته الآن في المسجد يبيعها؟! هذا ظلم، فقد وضع الشيء في غير موضعه.
هل يجوز لعاقل أن يجلس أمام باب المسجد ويرفع ثيابه ويتبول؟! هذا ظلم، ووضع الشيء في غير موضعه هو الظلم.
والظلم حرام بالإجماع، ومنذ أن هبط آدم إلى الأرض لم يقر الظلم ذو عقل بحال من الأحوال.
وأي أنواع الظلم أفظع وأبشع؟
أن يخلقك الله ويرزقك، ويربيك وينميك، ويجعلك عبده؛ فتغمض عينيك عنه وتلتفت إلى غيره! وبدل أن تحلف به تعظيماً له وتمجيداً تحلف بسواه؛ إغاظة له.
وبدل أن ترفع كفيك إليه ضارعاً سائلاً: يا رب! تلتفت إلى غيره وتسأله.
وبدل أن تركع ساجداً معلناً عن ذُلِّك وافتقارك وحاجتك إليه تفعل ذلك أمام كائن من الكائنات، ومخلوق من المخلوقات.
فهل تصورتم أن أفظع أنواع الظلم هو الشرك، والعياذ بالله؟!
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:33] قال العلماء: من هو الذي كان يكتم بينهم شيئاً؟ قالوا: إبليس قبل أن يبلس، وقبل أن ييأس، فما إن شاهد آدم وهو في طينته وعرف بالفراسة أن لهذا المخلوق شأناً، تعهد بأن لا يطيع، وكتم هذا في نفسه، فأعلمهم الله أنه يعلم ما يكتمون.
أولاً: لم استحق الله تعالى العبادة دون من سواه؟ لعلمه الذي أحاط بكل شيء، فالذي لا يعلم الغيب كيف يعبد؟!
ثانياً: لقدرته التي تجلت في خلق السماوات والأرض .. في خلق الملائكة .. في خلق أبينا آدم.
القدرة التي لا يعجزها شيء، فالذي لا قدرة له أو له قدرة محدودة، وطاقة محدودة لا تتجاوز فكيف يستحق أن يعبد؟! كيف يشرك مع الله في عبادته كما يفعل المشركون؟
والحكمة ما خلا منها شيء، فافهم يا عبد الله أنه لا يوجد كائن مخلوق إلا لحكمة! لا عبث، ولا لهو، ولا باطل، ولا سدى
ولكن كل شيء لحكمة.
ومن يرقى إلى هذا المستوى حتى يعبد مع الله بأي نوع من أنواع العبادة؟! هذا أولاً.
فالدعوة إلى الفوضى محرمة ولا تحل، ومن هنا حرم النبي صلى الله عليه وسلم تحريماً قطعياً الخروج على الحاكم، ولم يأذن فيه إلا في صورة واحدة، فعليكم بالسمع والطاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أمر الحاكم بمعروف يجب أن يطاع، نهى عن منكر يجب أن يطاع، أمر بمباح أو نهى عن مباح يجب أن يطاع.
والحمد لله! هذه الحكومات التي تحكم العالم الإسلامي ما ظهر إلا مرة، حكم شيوعيون في جنوب اليمن حقيقة أمروا بالمنكر، وقلنا: لا طاعة، أما من عداهم ما هناك من أمر المسلمين بأن يعبدوا غير الله! فما هناك من أمرهم بأن لا يصوموا، ولا أن لا يصلوا، ولا أن لا يزكوا، ولا أن لا يأمروا بالمعروف ولا أن لا ينهوا عن منكر، لكن فقط جهل المسلمين هو الذي وقف بهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالسمع والطاعة إلا أن تروا كفراً بواحاً ) صراحاً واضحاً، لا يختلف فيه اثنان إذا ناقشوه، أو أرادوا أن يفهموه: ( عندكم فيه من الله برهان ).
هنا ماذا يصنعون؟ لو كانوا على المستوى المطلوب منهم بوصفهم مسلمين أنه الحاكم إذا أعلن عن كفره وردته، وقال: لا أؤمن بهذا الدين، ولا بهذه الشريعة، حينئذ يجب أن يخلعوه ويبعدوه، وينصبوا غيره.
وهل هذا يتم لأمة مختلفة متفرقة؛ أحزاباً، وجماعات؟ لا يتم لهم.
إذاً: محنتنا أننا فقدنا الأخوة الإيمانية .. الأخوة الإسلامية، فالمسلمون في أي بلد ما هم بمتآخين، ولا متحابين ولا متعاونين، فكيف يستطيعون أن يخلعوا حاكماً ارتد،وكفر بالله وخرج عن الإسلام؟!
فلابد إذاً من وجود أمة حية تسمع وتبصر، تعطي وتمنع، تستطيع أن تخلع وتنصب، أما أمة ممزقة، مفرقة، مختلفة كيف تخلع حاكماً وتنصب غيره؟! أنى لها ذلك، وكيف يتم؟
إذاً: فكل من يدعو إلى الفرقة والصراع والنزاع وسفك الدماء خرج عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن نذعن للحاكم ونستسلم وننقاد، لكن في حدود ما هو مأذون له فيه، أن يقول الحاكم: اشرب المحرم، أو البس الحرام أو قل الحرام، فلا يطاع، والله عز وجل ما يسلط على المؤمنين حاكماً يكفرهم أو يحملهم على الفسق والفجور إذا كانوا قد حققوا ولاية الله عز وجل، ولكن إذا وجدوا أنفسهم تائهين في صحاري الحياة لا معرفة، ولا بصيرة، ولا استقامة؛ قد يسلط الله تعالى عليهم عدوهم.
ما هي ولاية الله؟
ولاية الله أن نحقق إيماننا، ذاك الإيمان المطلوب، الذي إذا عرضناه على الكتاب والسنة، وعلى أهل العلم والبصيرة وافقوا عليه وقالوا: هذا هو الإيمان!
أولاً: الإيمان، وثانياً: تقوى الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه.
الإيمان والتقوى بهما تتحقق ولاية العبد للرب تعالى، وولاية الرب للعبد.
أما إذا فجرنا وفسقنا، وخرجنا عن طاعة ربنا وطاعة رسولنا وانتهت الولاية؛ ماذا نريد من الله سوى أنه يسلط علينا من يسومنا الخسف والعذاب، ولو أن المؤمنين استفاقوا وأفاقوا حقيقة لأقبلوا على الله بنسائهم وأطفالهم ورجالهم يحققون أولاً ولايتهم لله تعالى، إيمان وتقوى، وهذا يا معاشر المستمعين والمستمعات! يتطلب منا العلم، وها نحن في هذه الآيات سنعرف كيف شرف الله آدم، ورفع قدره بالعلم، والذين جهلوا من الملائكة أصبحوا دون مستوى آدم عليه السلام.
العلم كيف نطلبه، وكيف نحصل عليه؟ كما علمنا وقدمنا، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه؟
يجمعهم بين يديه في مسجده ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فإذا أراد المسلمون في الشرق والغرب أن يحققوا ولاية الرب تعالى لهم عليهم أن يحققوا إيمانهم، فيؤمنون إيماناً كإيمان نبيهم وأصحابه، ويعبدون الله عبادة عبده بها نبيه وأصحابه، إذ هذه الفرقة الناجية، هم الذين يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عقيدة وعبادة وسلوكاً وآداباً.
معاشر المستمعين! تحقيق الولاية أن نقبل على الله في صدق ونطلب منه أن يعلمنا، فنقرأ كتابه وسنة نبيه في بيته، فلا نتخرج بعد العام والعامين إلا علماء وأولياء لله، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أما مع التمرد والعصيان على الله فأنى لنا أن نكون أولياء لله، لا خوف علينا ولا حزن في دنيانا وأخرانا؟
فإليكموها كما هي.
يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].
الخليفة: من يخلف غيره، والمراد به هنا: آدم عليه السلام.
يفسد فيها: الإفساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي.
يسفك: يسيل الدماء بالقتل والجرح.
نسبح بحمدك: نقول: سبحان الله وبحمده، والتسبيح: التنزيه عما لا يليق بالله تعالى.
ونقدس لك: فننزهك عما لا يليق بك، والتقديس: التطهير والبعد عما لا ينبغي، واللام في (لك) زائدة لتقوية المعنى، إذ فعل قدس يتعدى بنفسه، يقال: قدسه]
وإن قلت: قدس له كان زيادة في المعنى.
[ ثانياً: عدم انتهار السائل، وإجابته أو صرفه بلطف ]، من سئل يجب أن لا ينتهر السائل، فيحمر عينيه فيه، كما تقول العامة، بل يجب أن يتلطف في إجابته، إن كان يعلم علم، لا يعلم يقول: يا بني! الله أعلم.
[ ثالثاً: معرفة بدء الخلق ]، ما عرفنا بدء الخلق؟ لما قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، هذه بداية الخلق عندنا.
[ رابعاً: شرف آدم وفضله ]. وكيف وقد أسجد له الملائكة كما سيأتي.
آدم: نبي الله أبو البشر عليه السلام.
الأسماء: أسماء الأجناس كلها كالماء والنبات والحيوان والإنسان.
عرضهم: عرض المسميات أمامهم، ولما كان بينهم العقلاء غلب جانبهم؛ وإلا لقال: عرضها]، قال: (عرضهم)؛ لأن فيهم العقلاء.
قال: [أنبئوني: أخبروني.
هؤلاء: المعروضين عليهم من سائر المخلوقات.
سبحانك: تنزيهاً لك وتقديساً.
غيب السماوات: ما غاب عن الأنظار في السماوات والأرض.
تبدون: أي: تظهرون من قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30].
تكتمون: تبطنون وتخفون، يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى، وعدم طاعته] في قضية آدم [الحكيم: الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه
ولا يفعل ولا يترك إلا لحكمة].
ثانياً: شرف العلم وفضل العالم على الجاهل.
ثالثاً: فضيلة الاعتراف بالعجز والقصور.
رابعاً: جواز العتاب على من ادعى دعوى وهو غير متأهل لها ].
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة (14) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net