اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة (29) للشيخ : أبوبكر الجزائري
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:67-70] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!
فلهذا القصص القرآني من آيات النبوة المحمدية، ولن يستطيع ذو عقل من العرب والعجم أن يرد هذه الحقيقة.
وهذا الحدث الجلل مضى عليه آلاف السنين، فكيف يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفصل هذا التفصيل، وأهل الكتاب -وبخاصة اليهود وهم معنيون- يسمعون هذا بآذانهم، ويشهدون أنه الواقع الذي وقع في أمتهم؟!
والله يقول لرسوله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] وفي هذا القصص فائدة جلية وعظمى أن الله يثبت بذلك رسوله كيف وقد رفع صوته في الأرض كلها يشهد أن لا إله إلا الله، والعالم كله ضده؟ فلهذا يجد في هذا القصص ما يقوي عزيمته، ويشد ساعديه، ويقويه في دعوته.
ثم هذا القصص جاء في عرض أحداث كانت لبني إسرائيل، وهذه الأحداث العظيمة كلها تشهد بانحراف اليهود وضلالهم، وبعدهم عن الحق، وتشهد أيضاً بعنادهم، ومكابرتهم، وحسدهم، وذلك من أول ما قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا ... وإلى الموضع الذي نحن فيه وما زال القصص مستمراً.
ومن بين ذلك القصص أو تلك الأحداث هذه الحادثة العظيمة؛ إذ يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: اذكر وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة:67] أو اذكروا أنتم يا بني إسرائيل المعاصرين للنبي في المدينة! اذكروا وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67].
وهذه الآيات تضمنت قصصاً، قيل: هي عبارة عن قصتين. ولا مانع أن تكون قصتين؛ إذ الأحداث لا حد لها، ولكن كونها قصة تقدم ما ينبغي أن يتأخر، وتؤخر منها ما ينبغي أن يتقدم؛ لأن القرآن ليس كتاب قصص، بل هو كتاب هداية، وتعليم، وإصلاح، وتربية للبشرية.
وما دامت الأحداث الأولى أشد قساوة على اليهود فقد بدأ بها.
وسبحان الله! هذه الحادثة وقع لها نظير في قريتي التي نشأت فيها وتربيت: كان هناك رجل صعلوك كبير عنده ابن أخ، وهو عمه، فذبحه وألقاه تحت نخلة، وجاء يصرخ في القرية ويبكي: ابن أخي ذبح! واستمر البحث من قبل السلطة الفرنسية في ذلك الوقت، فما هي إلا جولة حتى اعترف بأنه هو الذي ذبح ابن أخيه، مع أن هذا الابن كان من تلاميذنا، بل من أحسنهم، فذبحه لأجل أن يرث المال الذي عنده، وحتى لا يقاسمه النخل الذي كان بينه وبين أخيه.
هذا حدث في الإسلام أم لا؟ والله في الإسلام، وكما تسمعون! فلا عجب أن يحدث هذا في بني إسرائيل، وكانوا في تلك الأيام يعيشون على الجهل والضعف العقلي؛ لأني -والله أعلم- بحثت كثيراً فما وجدت من أهل العلم من ذكر هذه الحادثة أين وقعت، وكونها وقعت في التيه؛ في صحراء سيناء لا يعقل، فلا مال ولا توارث. أليس طعامهم المن والسلوى، وتظللهم السحب والغمام؟!
وهذا فيما يظهر لي وقع في مصر أيام كان بنو إسرائيل هناك، فهذه الحادثة تمت في مصر قبل خروجهم من الديار المصرية، ومن عثر على هذا من أبنائنا من أهل العلم فليبشرنا، لأني أريد أن أعرف أين وقعت هذه الأحداث؟ أما أنها وقعت في سيناء فلا! فبعد سيناء مات موسى عليه السلام، وتولى أمرهم يوشع بن نون ، ولكن القصة تمت على عهد موسى وهو بطلها.
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لم؟ لما قتل الجماعة ابن الشيخ الكبير ليرثوه أخذوه ورموه في قرية بعيدة عن قريتهم، وجاءوا يصرخون إلى موسى: ابننا قتل، أو أبونا قتل، أو عمنا، يقولون ما شاءوا، من قتل؟ وأصبحوا يطالبون بالدية من القرية التي وجد فيها الرجل مذبوحاً أو مقتولاً.
فأوحى الله تعالى إلى موسى أن يقول لهم: اذبحوا بقرة، واضربوا الميت بجزء منها، سواء بعظمها أو بلسانها أو بأي جزء اضربوه به ينطق بإذن الله! ويقول: قتلني فلان أو فلان. ولا عجب! فعيسى عليه السلام أحيا الله على يده الموتى، وهذه من معجزات الأنبياء.
وهل هذه الكلمة يقولها مؤمن لرسول؟! يقولها صحابي لمحمد صلى الله عليه وسلم؟!
نعم قال الصحابة بدون علم: راعنا يا رسول الله! وهذه الكلمة فيها معنى الرعونة، وهي بالعبرية كلمة سخرية واستهزاء، فاستغلها اليهود والمنافقون فكانوا يقولون: راعنا يا رسول الله! ويضحكون في قلوبهم، فأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] استبدلوا كلمة راعنا بانظرنا .. أمهلنا حتى نسمع عنك أو نفهم وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104]. والذي يستهزئ بالرسول كفر، والإمام مالك يرى إعدامه، وغيره من الأئمة يرون توبته ثلاثة أيام، فالإمام مالك يقول: ساب الرسول لا يستتاب، ويجب أن يعدم، وعنده شاهد قوي في العجوز التي كان لها عبد يسب النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، فما كان منها إلا أن جاءت وقتلته، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فسره ذلك وهنأها.
والشاهد عندنا: أن سب الرسول والاستهزاء والسخرية به كفر بواح، فانظر موقف هؤلاء اليهود: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] أتسخر منا وتستهزئ وتقول: اذبحوا بقرة؟! كيف يحيا بالبقرة إذا ضربناه بلحمها؟!
ولا لوم ولا عتاب، والله يقول: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ [البقرة:67] أي: قال موسى لأولئك المستهزئين: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] أتحصن بجناب الله وألوذ بحمى الله أن أصبح جاهلاً كالجاهلين.
وهنا عدنا من حيث بدأنا، قبنو إسرائيل عاشوا شبه رقيق .. شبه عبيد، مستذلين مسخرين للفراعنة، فما درسوا، ولا تعلموا، ولا قرءوا دهراً طويلاً، فجاء موسى عليه السلام وأخوه هارون أيضاً لا يستطيعون أن يعلموا أمة موزعة هنا وهناك في القرى. فهذه مظاهر الجهل.
وهنا نذكر قصة أبي ذر لما قال لـبلال : يا ابن السوداء! فشكاه بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) قلَّت أو كثرت، أي: ظلام الجهل، فما كان من أبي ذر إلا أن وضع وجهه على الأرض وقال لـبلال : والله لتطأن على عنقي!
هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكل الذي نشكوه في أنفسنا، وفي غيرنا، وفي العالم مرده إلى ظلمات الجهل، والذين ما تهذبوا وما تربوا في حجور الصالحين لا يسلم حالهم أبداً، ولا تطمئن إليهم النفس. كيف يستقيمون في ألفاظهم .. كلماتهم .. حركاتهم سكناتهم .. أعمالهم؟ من هذبهم؟! فلهذا احمدوا الله على ما نحن عليه!
قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]؛ لأن الجاهل هو الذي يسخر .. هو الذي يستهزئ .. هو الذي يقول ما ليس يعلم .. هو الذي يفعل بدون إرادة وعلم
فهذا الجاهل يتخبط.
فموسى يقول: كيف آمركم بشيء لم يأمرني الله تعالى به؟! ولولا علمي بأنكم إن ضربتم هذا الميت بقطعة من هذه البقرة حيي، وأجابكم، وأفصح عمن قتله ما قلت لكم.
هذه من مظاهر الجهل. والمؤمن يستحي أن يقول مثل هذا الكلام، ورسول الله موسى بين أيديهم، وأنقذهم الله به، وشاهدوا تسع آيات تخر الجبال من هولها، وعند رؤيتها.
ولهذا لا تبك يا رسول الله! لا تتمزق يا عمر من اليهود، فهذه حالهم منذ آلاف السنين وإلى اليوم، وإن درسوا في مدارس الدنيا، لكن ما زالت هذه الطباع مغروسة في غرائزهم، فلا تزول ولا تتبدل.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] لم هذا التقعر؟ لم هذا التنطع؟! قال: بقرة، خذوها من الشارع .. أخرجوها من البستان، لفظ مطلق: بقرة! لكن لكونهم شاكين غير مؤمنين بصدق هذه القضية، وأنهم إذا ضربوا به الميت لا يحيا، فهذه عوامل الشك ظاهرة فيهم، أو يتملصون من هذه القضية لأنهم هم الذين ولغوا في الجريمة! وهم الذين قتلوا ونسبوا القتل للقبيلة الفلانية، حتى لا يفضحوا؛ لأنها فضيحة عظيمة؛ كيف يقتلون قريبهم ثم يتهمون قبيلة أخرى بالقتل؟! فمن هنا يتلوون ويتبرمون.
قال: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] ما هذه البقرة؟! قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ [البقرة:68] مسنة: كبيرة، فرضت أسنانها وقطعتها وَلا بِكْرٌ [البقرة:68] ولكنها عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] وسط؛ ليست صغيرة ولا كبيرة، عوان بين الكبر والصغر، والفارض هي التي فرضت، فرض الشيء قطعه، ومنه الفرض القطع، قطعت أسنانها لكبر سنها، فلا هي فارض، ولا بكر ما أنجبت ولا ولدت.
فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] بينتها لكم أم لا؟ قلتم: ما هي؟ قلنا: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] ابحثوا في السوق .. في المزارع .. في محلات الأبقار، والتي تجدونها ليست مسنة ولا صغيرة خذوها واذبحوها.
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] فإذا نظر إليها المرء تعجبه وتفرحه، وتدخل السرور عليه لجمالها.
وأين يجدون هذه؟!
تقول الروايات: إن شيخاً كبيراً من بني إسرائيل كان عنده طفل صغير، فخاف إذا مات من يتولاه، وعنده عِجْلَة، فمر بمزرعة ذات أشجار ونباتات فرمى بالعِجْلَة هناك وقال: رب! استودعتك هذه العِجْلَة لولدي! تكبر عندك حتى تصبح بقرة، ويصبح ولدي عاقلاً ويأخذها. وتمضي الأيام ويكبر الطفل، ويصبح يقود البقرة بعد أن كانت عِجْلَة، وكانت صفراء فاقع لونها تسر الناظرين؛ فلهذا رآها القوم أعجبتهم وقالوا: هذه هي. فالولد ببركة دعوة أبيه قال: لن تذبح بقرتي على الخمسين ديناراً والألف دينار، لن أسمح إلا بملء جلدها ذهباً، فصاحوا وقاموا وقعدوا، لكن قد تعينت الآن فأين المهرب؟ فجمعوا حلي نسائهم وأموالهم وما عندهم واشتروا البقرة.
قالت العلماء: وهذا فيه بركة دعوة الأب لولده، فلما دعا الأب الله عز وجل، واستغاثه، وسأله، واستودعه هذه البقرة ليعيش عليها ولده استجاب الله، وأصبح من أغنى بني إسرائيل! فجلد البقرة مملوء كاملاً بالذهب .. ميزانية دولة.
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] هذه الكلمة من أين جاءت؟ من الله، وما هم أهل لها. قالت العلماء: لولا أنهم قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ لما وصلوا إليها، ولما وجدوها ولا عرفوها، وفي هذا بركة الاستثناء، وقد حرمه رجالنا ونساؤنا، فلو كان كل واحد منا إذا حلف يقول: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله؛ لم يحنث، ولم يتلطخ قلبه بظلمة المعصية، ولكن مع الأسف قلَّ من يقول: إن شاء الله.
وعندنا حادثة بعينها ذكرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن سليمان عليه السلام لما كان يغزو ويفتح ويوسع الامبراطورية الإسلامية التي يحلم بها الآن اليهود متى يعيدونها؛ قال في ليلة من الليالي: ( لأطأن الليلة مائة جارية تلد كل واحدة ولداً يصبح رجلاً يقاتل في سبيل الله )، فأراد أن يكوِّن جيشاً أو فيلقاً من جماع ليلة! ونسي أن يقول: إن شاء الله. فعاقبه الله تعالى تأديباً له، فوالله ما ولدت واحدة، إلا واحدة جاءت بطفل نصفه مشلول، شبيه بالشلل النصفي الذي عرفناه في هذه الأيام؛ فوضعوه على السرير وجاء أبوه: هذا هو ولدك.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( لو قال: إن شاء الله لولدت كل واحدة ولداً ولقاتل في سبيل الله ). وقال تعالى: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] الآية.
فلما قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] هداهم الله، فاشتروا البقرة التي كانت عِجْلَة بمتنها ذهباً!
مُسَلَّمَةٌ ما فيها عيب أبداً لا في قرن ولا في رجل، ولا شِيَةَ فِيهَا أي: لا صفة ولا علامة، فما فيها نقطة سوداء أو بيضاء أو كذا، لون واحد، حتى قرونها صفراء، وحوافرها صفر أيضاً، وما فيها علامة أخرى؛ ولهذا تاهوا في طلبها، فساقهم الله إلى بقرة هذا اليتيم.
قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] ذبحوها بمعنى: اشتروها بمسكها ذهباً، وذبحوها طاعة لله ولرسوله.
وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فلولا أن الله ألهمهم بكلمة إن شاء الله لما انتهوا إلى هذا، وهذا يدل على أنهم كانوا يتهربون، فهم خائفون أن يفضح أمرهم؛ لأن الذين طالبوا بقتل القاتل هم القاتلون! وما كادوا يفعلون.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هذا الشيخ الكبار الذي قتل ليورث، أو الابن الصغير هو الذي قتل حتى يورث عمه.
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ما كانوا قد عرفوا القاتل أم لا؟ عرفوه فهو منهم، وكانوا يغطون، ويسترون، ويتهمون الآخرين، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ وقد أخرجه عما قريب.
آمنت بالله. أخذوا جزءاً من البقرة سواء رجلها أو يدها أو قرنها أو لسانها بسم الله! وإذا بالغلام يتدفق دماً كما ذبحوه وهو ينطق: قتلني فلان وفلان، ووضعوني في مكان فلان وفلان. فهذه آيات الله الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته، وتحقيق نصرته لأوليائه.
قال تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73] كهذا الإحياء يحيي الله الموتى، أليس هذا الرجل ميتاً؟ ميت، وبعد فترة من الزمن أحياه أم لا؟ أحياه. وهكذا في الموتى يوم القيامة! ويحيي الموتى في كل زمان ومكان متى شاء ذلك.
قال: وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] وهنا العقل شيء، والعلم شيء آخر، فالعلم أفضل، ولكن العقل إذا كان راجحاً سليماً -حتى ولو كان صاحبه جاهلاً- يستطيع أن يميز بين الحق والباطل .. بين الخير والشر .. بين القبيح والسيئ، لكن إذا فُقِد العقل فقد كل شيء! وإذا فَقد العالم عقله أصبح كالجاهل يخبط ويخلط.
فقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] فتعرفون موقفكم وما أنتم عليه من هذا التهرب والتفصي من الحق، وهذا البعد من الآداب.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ شرح الكلمات: البقرة ] ما معنى البقرة؟ قال: [ واحدة البقر، والذكر ثور، والأنثى بقرة ] والعوام إذا سبوا شخصاً بالجهالة يقولون: يا ثور! اسكت يا ثور! وللمرأة: اسكتي يا بقرة! يجوز هذا؟ والله لا يجوز، حرام، سوء أدب!
وكلمة راعنا -وهي عربية بمعنى: انظرنا- ما رضيها الله لرسوله.
قال: [ والذبح: قطع الودجين والمارن ]. الودجان: عرقان يكتنفان العنق، والمارن: هذا الذي يمشي فيه الماء والطعام، يجمعها ويذبحها، المارئ والمريء، فلهذا الذي يذبح شاة ولا يذبحها على هذه الطريقة لا تؤكل إلا بكراهة. وكذلك إذا قلصمها؛ فجعل هذه الحنجرة وتركها مع الرقبة، هذا كذلك تؤكل مع كراهة، فالذبح الحقيقي الشرعي أن يجمع بين الودجين والمارن، ويقطعهما قطعة واحدة.
قال: [ والهزؤ: السخرية واللعب ]. أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] تلعب وتسخر بنا.
قال: [ الجاهل ] من هو الجاهل؟ قال: [ الذي يقول أو يفعل ما لا ينبغي قوله ولا فعله ] اضبطوا هذه: من هو الجاهل؟ هو الذي يقول ويفعل ما لا ينبغي قوله ولا فعله؛ حتى ولو كان يحفظ كتاب الله والتوراة! فالجاهل: الذي يقول ما لا ينبغي أن يقال، أو يفعل ما لا ينبغي أن يفعل. والذي يقول ما ينبغي أن يقال، ويفعل ما ينبغي أن يفعل هذا هو العاقل! فعقله عصمه وحفظه من التخبط والضلال.
قال: [ الفارض ] ما هي هذه البقرة؟ قال: [ الفارض: المسنة. والبكر: الصغيرة التي لم تلد بعد. والعوان: النّصفُ، وسط بين المسنة والصغيرة ] العوان هي الوسط أو النصف في عمرها.
قال: [ وفاقع: يقال: أصفر فاقع شديد الصفرة، كأحمر قان، وأبيض ناصع ] شديد البياض.
قال: [الذلول: المريّضة التي زالت صعوبتها فأصبحت سهلة منقادة ] فذللوها بالعمل، وأصبحت سهلة الانقياد.
قال: [تثير الأرض: تقلبها بالمحراث فتثير غبارها، بمعنى: أنها لم تستعمل في الحرث ولا في سقاية الزرع، أي: لم يُسنَ عليها؛ وذلك لصغرها ] أو لاحترام أهلها لها، فأبوا أن يتعبوها.
قال: [ مسلّمة: بمعنى سليمة من العيوب كالعور والعرج] وما إلى ذلك.
قال: [لا شية فيها: الشية: العلامة، أي: لا يوجد فيها لون غير لونها من سواد أو بياض ] أو حمرة مثلاً.
هذه هي المفردات.
قال: [ واذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود عيباً آخر من عيوب أسلافهم الذين يعتزون بهم ]. فهم يريدون ألا يفارقوا ملتهم، ولا ما كان عليه أباؤهم وأجدادهم، انظروا إلى حال أجدادكم. فلو صح لكان العرب يعتزون بـأبي جهل والعاص بن وائل .
قال: [ وهو سوء سلوكهم مع أنبيائهم؛ فيكون هذا توبيخاً لهم لعلهم يرجعون عن غيهم، فيؤمنوا بك وبما جئت به من الهدى ودين الحق. اذكر لهم قصة الرجل الذي قتله ابن أخيه استعجالاً لإرثه، ثم ألقاه تعمية في حي غير الحي الذي هو منه، ولما اختلفوا في القاتل قالوا: نذهب إلى موسى يدعو لنا ربه ليبين لنا من هو القاتل. فجاءوه فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] من أجل أن يضربوا القتيل بجزء منها؛ فينطق مبيناً من قتله. فلما قال لهم ذلك قالوا: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] فوصفوا نبي الله بالسخرية واللعب، وهذا ذنب قبيح، وما زالوا يسألونه عن البقرة ويتشددون حتى شدد الله تعالى عليهم الأمر الذي كادوا معه لا يذبحون، مع أنهم لو تناولوا بقرة من عرض الشارع وذبحوها لكفتهم ].
ولهذا نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشديد، وكم وقع منا في هذه الفتنة، ففي الوضوء يدخل يغتسل ساعتين، وكلما غسل عضواً يقول: ما غسلت الثاني. من الوسوسة. وإذا جاء ووقف يصلي هكذا! وهو يضبط النية كي تقارن: الله أكبر! فنهينا عن التشديد: ( إن هذا الدين يسر، وما شاد الدين أحد إلا غلبه )، ( ويسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) فهذه تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف شدد الله عليهم لما شددوا.
قال: [ ولكن شددوا فشدد الله عليهم، فعثروا على البقرة المطلوبة بعد جهد جهيد، وغالى فيها صاحبها فباعها منهم بملء جلدها ذهباً ].
قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق؛ ليتجنب مثلها المسلمون ]. عرفتم الفائدة؟ لم شرح لنا حال بني إسرائيل، وأظهر قبائحهم في سلوكهم؟ من أجل ألا نقع فيما وقعوا فيه، ومن أجل ألا نتورط كما تورطوا. والآن النبي ليس موجوداً، ولو كان موجوداً -والله- لسمعتم العجب أكثر من بني إسرائيل.
وعندنا دليل قطعي: العالم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ أليس خليفته يبلغ عنه؟! وها هم يسخرون من العلماء ويستهزئون أكثر من سخرية بني إسرائيل! لعلي واهم؟ والله العظيم لَيُسخر من العلماء، ويستهزأ بهم، ويتهكم بهم، ويقال فيهم قبائح السلوك، وما هو واحد ولا عشرة ولا مليون؛ لأننا ما درسنا هذا الكتاب!
أتلومنا يا شيخ! ونحن جهلة؟!
أسألكم بالله كونوا على علم: أين الذين جلسوا في حجور الصالحين وتربوا عليهم؟ أشيروا إليهم.
نحن الآن تلاميذ الفيديو والدش والشريط، وفي المدارس كما تعلمون الأساتذة من أمثالي همهم الراتب، والتلاميذ همهم متى يتخرجون، وهكذا .. فلا وجود لله عز وجل في أعمالنا، كيف يتخرج أبناؤنا؟ وأصعب من هذا البنات، يهون الأمر مع الذكور، أما مع الإناث فالآن مسابقة عظيمة: أية بنت تتخرج لتصبح موظفة! اللهم استر علينا.
المهم من هداية هذه الآية الكريمة: [ بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق ليتجنب مثلها المسلمون ] قلتم: لا يستطيعون أن يتجنبوها .. ما عرفوها، هل اجتمعوا على هذا الكتاب ودرسوه؟ المقررات في العالم الإسلامي باستثناء المملكة -وليغضب من شاء أن يغضب- المقررات نتف وجزئيات بسيطة في التعليم لا وزن لها، فكيف يتخرج أبناء المسلمين عالمين بالكتاب والسنة؟! والمقررات عندنا إسلامية، ومع هذا والله يغمسون أنوفهم في الباطل، وتجد عجائب في المقررات لا يتفطن لها إلا ذوو الألباب!
قال: [ ثانياً: حرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب تسليم أمره أو نهيه، ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وعلتهما ]. أقول: من هداية الآية: يحرم علينا أن نعترض على الشارع - على الله أو على رسوله .. على الكتاب أو السنة- ووجوب تسليم أمر الله وأمر الرسول ونهيه، وإن لم نعرف الفائدة كذلك، فليس شرطاً أن نعرف العلة، وما دام قد أمر الله أمر، ونهى رسول الله نهى، عرفنا العلة أو لم نعرف، إذ لا بد من التسليم؛ لم؟ لأن الشارع حكيم، وهو أستاذ الحكمة ومعلمها، فكيف إذن تظن في أمر أو نهي أنه خارج عن دائرة الفائدة والمصلحة! هذا مستحيل!
إذاً: يحرم الاعتراض على الشارع، ويجب التسليم لأمره أو نهيه، ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وما هي علته، المهم أن يصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [ ثالثاً: الندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهة التشدد في الأمور ]. هل هذا عرفه المسلمون؟ فالذي تيسر من طعامك .. من شرابك فاحمد الله وكل واشرب. والذي تيسر من نعلك أو من ثوبك لم تتشدد وتطلب ما هو أعظم وما هو أعلى، وما هو أشقى؟!
وهذا أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع يقول له ربه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، فكانت هذه السورة أحب إليه، والله إنه ليقرأ بها في اليوم مرتين أحياناً؛ لم؟ لما فيها من كلمة: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، فقالت أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله عنها: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما )، أنت تجد ثيباً تتزوجها بخمسة آلاف ريال فلم تتزوج بمائة ألف ريال يا عبد الله؟! أنا جاءني أحدهم يشتكي ويبكي، قلت: كيف تعطيه مائة ألف؟ أنت اشتريت هذه أمة؟! أنت تستحل فرجها بالمهر الذي هو مائة ألف ريال. يكفي خمسة آلاف .. لم تعطه مائة ألف؟! والعجب أنهم فقراء، ولو كانوا تجاراً .. أغنياء .. أمراء نقول: لا بأس، والله فقير يقول لك: مائة ألف! ماذا نصنع الآن؟ نطلق أم لا نطلق؟
فخذ ما تيسر، ليس في المركب فقط، ولا في المسكن، ولا في الملبس، ولا في المأكل، بل في كل شيء، الذي يسره الله اقتنع وخذه.
قال: [رابعاً: بيان فائدة الاستثناء بقول: إن شاء الله ] أما عرفتم هذا؟ الله أدب سليمان أم لا؟ وأدب المصطفى أم لا إذ قال له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] وقد جاءت أسئلة من اليهود جاءوا بها إلى مكة للمكر والخديعة، وسألوا الرسول عنها فقال: أجيبكم غداً. فعاتبه الله بانقطاع الوحي خمسة عشر يوماً، حتى أن امرأة أبي جهل في الشوارع تغني تقول: تركه .. قلاه. ونزلت سورة الضحى، وخففت عن آلام المصطفى وسرَّت عنه، وأقسم الله له أنه ما تركه أبداً: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3]، ونزلت: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
وبلغنا في بلاد العرب والإسلام أنك إذا قلت: إن شاء الله، يقول: لا تقل: إن شاء الله، لا أصدقك، قل: نفعل كذا، فمنعوهم كلمة: إن شاء الله!
قال: [ بيان فائدة الاستثناء بقول: إن شاء الله، إذ لو لم يقل اليهود: إن شاء الله لما اهتدوا أبداً، وما كانوا يهتدون إلى معرفة البقرة المطلوبة.
خامساً: ينبغي تحاشي الكلمات التي قد يفهم منها انتقاص الأنبياء مثل قولهم: الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] ] إذاً: قبلُ ما كان يأتي بالحق، فهذه دلالة خفية.
قال: [ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] إذ مفهومه: أنه ما جاءهم بالحق إلا في هذه المرة من عدة مرات سبقت ].
معاشر المستمعين! إياي وإياكم والجهل، أزيلوا الجهل بدراسة الكتاب والسنة في بيوت الرب، والله يتولاكم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة (29) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net