اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المائدة (11) للشيخ : أبوبكر الجزائري
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). فهنيئاً لكم معشر الدارسين والمستمعين.
ما زلنا مع سورة المائدة المباركة الميمونة، وألفت نظر المستمعين إلى أننا لا نرتل الآيات ترتيل أهل القرآن؛ من أجل أن نفهم معنى مراد الله عز وجل، هذا هو السر، وإلا فلو رتلنا فإن أكثر المستمعين لا يتفطنون لمعنى الآية.
يقول تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:12-13].
ثم المناسبة أيضاً في الآية: أنه تقدم لنا أن الله عز وجل طلب منا شكره على نجاة نبينا من قتل اليهود، وعرفنا كيف تآمر بنو النضير على قتله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل هموا وعزموا وأرادوا، ولكن الله سلم ونجى نبينا من غدرهم وخداعهم، فكانت نعمة على كل مؤمن ومؤمنة أن يذكرها ويشكر الله عليها، ولا عجب فها هم بنو إسرائيل أمامكم، واسمعوا ماذا يجري فيهم وما تم لهم، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:12]، ونقضوه مئات المرات.
ولما كان موسى يقودهم في الطريق ليقاتل العمالقة من كفار ومشركين ويخرجهم من أرض القدس بعث هؤلاء النقباء ليعرفوا قيمة قتال الكافرين، وقدرتهم على القتال، فأصيبوا بالخور والجبن والضعف، إلا رجلين منهم فقط، كما سيأتي بيانه في الآيات.
ومن عاش أيام حرب ألمانيا الأخيرة سمع من العجب أكثر من هذا، فانهرموا فقالوا: لن نقاتل، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].
وكتب الله عليهم التيه أربعين سنة: يرحلون وينزلون، ويرحلون وينزلون، وأمدهم باللحم والعسل في تلك الصحراء، آية من آيات الله، ومات موسى عليه السلام وقبله هارون عليه السلام، ثم قادهم يوشع بن نون ، بعدما مات الجيل المهزوم وجاء جيل جديد، بعد أربعين سنة، كل من كان عمره أكثر من عشرين سنة وأربعين مات، فغزا بهم ودخل بيت المقدس وطهرها.
والشاهد في قوله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12]، وهل قال الله لنا: إني معكم؟
الجواب: نعم. أما قال في عشرات الآيات: أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194]، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]؟ فهيا اعملوا جاهدوا فالله معكم، الخور والجبن والضعف لا يصح، وإلا فكيف يخبر الله بأنه مع المتقين ولا نتقيه، يخبر بأنه مع المحسنين ولا نحسن سلوكنا ولا أعمالنا؟
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ [المائدة:12]، أي: أعطيتم الزَّكَاةَ [المائدة:12] ثانياً، من كان عنده مال صامت أو ناطق، بين لنا رسولنا كيف نزكي الإبل والبقر والغنم، إذا حال الحول على غنمك أو بقرك أو شاة ضأنك فزك، هذا هو المال الناطق، والصامت كالغلال: البر والقمح والشعير والتمر والثمار، حصدت باسم الله فأخرج الزكاة، والصامت أيضاً: الدينار والدرهم، حال الحول على ما عندك وهو يساوي قيمة سبعين جرام ذهب فأخرج زكاته.
ثم ذكر الجزاء فقال: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [المائدة:12]، التي قارفتموها وارتكبتموها، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [المائدة:12]، الأنهار تجري من تحت الجنة، من تحت قصورها ومن تحت أشجارها وما فيها من نعيم، فالدنيا الزائلة فيها أنهار، فكيف بالدار الخالدة؟
وقد عرفنا الأنهار في الجنة في كتاب الله، نهر الماء غير الآسن، واللبن الذي لم يتغير طعمه والخمر التي هي لذة للشاربين والعسل المصفى.
قال تعالى: لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13]، تعرفون قساوة القلب: يذبح طفله، ويشرب دم أبيه وأمه ولا يبالي، وهذا معروف به اليهود، وانتقل إلى غيرهم، والشاهد عندنا: أن القلب القاسي ذاك الذي لا يرق ولا يعطف ولا يرحم، لا يرى إلا حاجته ومصلحته.
قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13]، نوع من بيان القساوة، يحرف كلام الله عن موضعه فيضع بدل هذه الكلمة كلمة أخرى؛ ليضلل الناس، فأي قساوة أعظم من هذه؟ لو كان قلبه يرق أو يخاف فلن يقدم على هذا، كلام الله يبدله للمصلحة أو الفائدة!
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] على ألسنة أنبيائهم ورسلهم، حظاً كبيراً. وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ [المائدة:13] يا رسولنا عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة:13]، (خَائِنَةٍ): طائفة خائنة أو خيانة بمعنى واحد، وإلى الآن لو كنا بصراء وسادة نكشف خفاياهم ونعرف خيانات رجالهم ونسائهم، هذا إلى يوم القيامة: وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة:13]، وهذا يذكر بحادثة بني النضير، أما انكشفت سوأتهم وظهرت خيانتهم؟ وبعدها بنو قريظة خانوا وانضموا إلى الأحزاب وأرادوا أن يقاتلوا معهم، وإلى الآن وإلى يوم القيامة، ومع هذا قال له: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة:13]، لا تؤاخذهم واصفح عنهم، أعرض عنهم أعطهم صفحة وجهك ولا تلتفت إليهم. فهل هذا منسوخ بالأمر بقتالهم؟ ذلك جائز، وجائز أن يكون كل من يحصلون هذا الفساد ونحن أقوياء وقادرون وحكام وعالمون أنه يصفح عنهم إمامنا وذلك لأن الله يحب المحسنين: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13]، هل قتل الرسول من بني النضير رجلاً واحداً؟ تآمروا على قتله بالفعل واعترفوا وطوقهم برجاله كذا يوماً، وأخيراً قال: اخرجوا، وأذن لهم أن يحملوا أموالهم معهم، حتى الأبواب في المنازل أخذوها، حتى الأخشاب التي لهم حاجة إليها حملوها، هذا امتثال أمر الله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13].
قال: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [المائدة:12]، وسيأتي بيان هذه الحادثة في الآيات الآتية إن شاء الله، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12]، وهو أيضاً معنا، إلا من يخون، أما إذا خنا العهد ونقضناه فهو بريء منا فلا ينصرنا ولا يؤيدنا وقد فعل، فهل نصر المسلمين على اليهود؟
ما نصرهم؛ لأنهم أبوا أن يكون الله معهم، ما أقاموا الصلاة ولا آتوا الزكاة، ولا أمروا بالمعروف ولا نهوا عن منكر، أشاعوا الربا والزنا والباطل والكذب والخيانة، والشرك والخرافة والضلال، هذا هو العالم الإسلامي، وجاء يريد أن يقاتل اليهود! كلما يتحركون تؤدبهم اليهود إلى اليوم، فكيف يتم هذا؟ لأن الله ليس مع المسلمين، ما سبب ذلك؟ أنهم نقضوا العهد، هل أقاموا الصلاة؟ هل جبوا الزكاة؟ هل أمروا بالمعروف؟ هل نهوا عن منكر؟ ما هي إلا هذه البقعة القليلة، وها نحن نهدم بيد فسقنا وفجورنا!
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المائدة:12] الجواب: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [المائدة:12]، وهذا عهد الله لنا أيضاً، ونحن خير منهم، والله لئن أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وآمنا برسل الله وعزرناهم ولو بعد موتهم، نعظمهم ونجلهم ونحبهم، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المائدة:12] في مشاريع الخير والهدى لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [المائدة:12]، ومعنى هذا: أنه خسر الدنيا والآخرة، طريق السعادة والكمال ضل عنه وما اهتدى إليه.
ثم قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13] يدل على قساوتها أنهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13]يحرفون كلام الله، يضعون آية موضع آية تبيح لهم ممنوعاً، أو تحرم عليهم مباحاً، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] هل المسلمون الآن ذاكرون لكتاب الله لأوامره ونواهيه؟ لقد نسوا حظاً كبيراً.
قال: وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة:13] وها نحن نشاهد هذا في ديار المسلمين، كل عام تظهر خيانة وفساد وباطل وشر، في كل مكان، وكان ذلك مع اليهود.
قال تعالى: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ [المائدة:14] كما أخذناه على اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا [المائدة:14]، الذي أخذنا عليهم العهد والميثاق أن يقوموا به ويعملوا به، ويؤدوه من العقيدة إلى العبادة إلى طاعة الله، نسوا حظاً كبيراً وأعرضوا عنه. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:14] إذاً: ذاك النسيان ورثهم العداوة والبغضاء، فاختلفوا فتباغضوا وتدابروا، كما أخبر تعالى عنهم فقال: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14].
واليهود -كما علمتم- حكموا على عيسى بالإعدام وأعدموا من شبهه الله لهم، ثم نزح بعيداً عن بيت المقدس إلى الشمال، وكون جماعة تعبد الله وتوحده، ورفع عيسى وبقيت الجماعة تعبد الله قرابة سبعين سنة فقط بعبادة شرعية كما هي في الإنجيل والتوراة، ثم احتال اليهود عليهم لما شاهدوا رئيس الحكومة الرومانية أسلم ودخل في المسيحية، وأصبحت الدولة تحمل راية التوحيد والإسلام، فـبولس عليه لعائن الله تنصر، وهو من كبار اليهود، وانضم إلى قسطنطين، وأخذ يفسد عليهم في المسيحية، فحولها إلى خرافات وضلالات، وهو الذي أفسدها عليهم، وأصبحت العداوة والبغضاء بينهم؛ لأنهم اختلفوا، هذا يقول كذا وهذا يقول كذا، كما قال تعالى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]، الإنجيل زادوا فيه ونقصوا منه، وتحول إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً! كل ذلك زيادات أضيفت إلى الإنجيل، وما هناك من يحفظه عن ظهر قلب، وأخيراً لما انفضحوا أمام العالم تجمعوا ووحدوا الإنجيل، وجعلوه خمسة أناجيل، فالعاجز كالقوي، والعليم كالجاهل يقول: كيف يصبح كتاب الله خمسة كتب؟! لا شك أن أربعة كلها كذب وخرافات وضلالات.
والشاهد عندنا: في مكر اليهود بهم، وفي أن النصارى نقضوا عهد الله عز وجل، أمروا أن يؤمنوا بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يلتفوا حوله، ويرفعوا راية الإسلام، فآثروا الدنيا على الآخرة، والباطل على الحق لشهواتهم وأهوائهم، ونسوا حظاً كبيراً وكثيراً مما ذكروا به في التوراة والإنجيل، وعلى لسان عيسى عليه السلام.
كذا يقول تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:14] أيضاً أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ [المائدة:14] كما أخذنا من اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:14]، وإذا نبأهم وأخبرهم بجرائمهم فمعنى ذاك: أنه يجزيهم عليها، وهل ينبئهم لا لشيء فقط؟! بل ينبئهم بجرائمهم وكفرهم وفسادهم ليجزيهم به ويؤاخذهم عليه: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:14].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان خبث اليهود وغدرهم، فقد أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقاتلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس، وبعث منهم اثني عشر نقيباً؛ هؤلاء قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم، وأنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية، فهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فقال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ [المائدة:13] أي: فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13] أي: أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسلام وجعلنا قلوبهم قاسية شديدة غليظة، لا ترق لموعظة، ولا تلين لقبول هدى، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13] فيقدمون ويؤخرون ويحذفون بعض الكلام، ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وذلك في التوراة، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13]، أي: وتركوا كثيراً مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها ناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها، فهل يستغرب -إذاً- ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة؟ وَلا تَزَالُ [المائدة:13] يا رسولنا تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة:13] أي: على طائفة خائنة منهم، كخيانة بني النضير، إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة:13] فإنهم لا يخونون، كـعبد الله بن سلام وغيره، وبناء على هذا فَاعْفُ عَنْهُمْ [المائدة:13] فلا تؤاخذهم بالقتل وَاصْفَحْ [المائدة:13] عنهم فلا تتعرض لمكروههم، فأحسن إليهم بذلك إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13]. هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الآية الثانية في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن النصارى وأن حالهم كحال اليهود، لا تختلف كثيراً عنهم، فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي، فتركوا متناسين كثيراً مما أخذ عليهم من العهد والميثاق فيه، فكان أن أغرينا بينهم العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق، فتعصبت كل طائفة لرأيها، فثارت بينهم الخصومات وكثر الجدل، فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء، وستستمر إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد، ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم، فإن ربك عزيز حكيم ].
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المائدة (11) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net