اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأعراف (29) للشيخ : أبوبكر الجزائري
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية، بل هي أولى المكيات، هذه السورة العظيمة تعالج العقيدة؛ إذ العقيدة السليمة الصحيحة بمثابة الروح للإنسان، صاحبها حي وفاقدها ميت، ومن كانت له ولكنها مهزوزة ضعيفة، فيها الدخيل، فيها الزيادة والنقص؛ فهو بمثابة المريض، وهذا ظاهر العالم الإسلامي إلا من سلم الله، يقوى على أن يترك منكراً وما يقوى على آخر، يقوم بواجب ولا يقوم بالثاني، ما سبب هذا؟ ضعف عقيدته، ما سلمت ولا نقت ولا أصبحت كتلة من نور تدفعه كالطاقة النورانية.
أعيد فأقول: العقيدة الإسلامية بمثابة وبمنزلة الروح سواء بسواء، هل إذا فقد الإنسان روحه يبقى حياً؟ فكذلك الإنسان -أبيض أو أصفر- إذا رزق هذه العقيدة كما أرادها الله من عباده وأنزل بها كتابه وبينها رسوله فهو حي يقدر على أن يسمع ويجيب، يأخذ ويعطي، يجاهد ويصوم، يتجنب الباطل والشر والسوء وهو قادر على ذلك، لكمال حياته، فإن ضعفت العقيدة أو داخلها زيغ أو غموض أو شك أو ارتياب فهو كالمريض، المريض يقدر أحياناً على أن يمشي وأحياناً لا يقدر، يستطيع أن يتكلم وأحياناً لا يتكلم.
هذه العقيدة أركانها ستة يحفظها عندنا النساء والأطفال، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، على شرط أن يكون عالماً بما يعتقد ويقول.
ومن أين جاءتك هذه الشهادة؟ لأنك عرفت أنه لا يوجد خالق سوى الله، وهل سواه خالق يخلق ريشة في طائر؟ أو أصبعاً في إنسان؟ لا خالق إلا الله، إذاً: فلا إله إلا الله، أنا أشهد هذا، الذي ما خلق ولا دبر الكون ولا أوجد الحياة كيف نركع له ونسجد؟ كيف ندعوه ونستغيث به؟ فالأمر الأول: التوحيد: لا إله إلا الله.
ثانياً: محمد رسول الله، قامت الأدلة والبراهين القاطعة على أنه أرسله رب العالمين للعالمين لهدايتهم وإصلاحهم، ولا تطلب الأدلة، عندك الأدلة، فلهذا تشهد أن محمداً رسول الله، لأنك تعرف أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وعاش أربعين سنة ما قال كلمة ولا ادعى شيئاً، ثم اصطفاه الله وأوحى إليه ورفعه إليه، وكلمه كفاحاً، وأنزل عليه وعلى أمته هذه الصلوات الخمس، أليس هذا دليلاً قطعياً؟
وأقطع منه وأعظم برهاناً هذا الكتاب في مائة وأربع عشرة سورة، لو تجتمع البشرية كلها والجن معها على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب ما استطاعوا، تحداهم الله فعجزوا، هذا الكتاب حوى علوم الأولين والآخرين، من الذرة إلى المجرة، كل الكائنات حواها هذا الكتاب، عالم الآخرة كعالم الدنيا، فهل هذا يصدر عن أمي؟ مستحيل.
والسورة الواحدة تحدى الله بها العرب أرباب البيان والفصاحة، فطأطئوا رءوسهم وانهزموا وما قدروا، فكيف لا نشهد أنه رسول الله؟ أي دليل أو برهان أقوى من هذا؟
أما آدابه، أما أخلاقه، أما كمالاته فلا تسأل عنها، فوق مستوى البشر، دل ذلك على أن الله اصطفاه واختاره واجتباه لهداية خلقه.
ثالثاً: التقنين والتشريع حق الله؛ لأن الذي يقنن ويشرع لأجل إصلاح البشرية وهدايتها وإسعادها يجب أن يكون عليماً بالماضي والحاضر والمستقبل، عليماً بما يضر وما ينفع، هو خالق الضر والنفع، أما الذي لا يملك شيئاً من هذا فكيف يشرع يقول: هذا حلال وهذا حرام؟ من أين له؟ قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]. وهكذا هذه الحقيقة، اعتقد اعتقاداً جازماً أنه ليس من حق أحد سوى الله أن يقنن لعباده ويشرع، العقائد، والآداب، والعبادات، والقضاء والأحكام، السياسة في الحرب والسلم.. كل ذلك الله مولاه، وهو موجود في كتابه ومبين بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: عقيدة البعث الآخر والحياة الثانية، إذا انتهت هذه الحياة ننتقل إلى حياة أخرى، هذه موقوتة، محدودة الزمن بالدقائق واللحظات منذ أن بدأت إلى نهايتها، وأما تلك فهي حياة الخلد والبقاء.
والأخرى ما سرها؟ ما علة وجودها؟ إنه -والله- الجزاء على العمل في هذه الدنيا، هذه دار عمل وتلك دار جزاء، إما في النعيم المقيم في الملكوت الأعلى، وإما في العذاب المهين في الملكوت الأسفل، ولا وراء ذلك شيء.
هل عرفت البشرية هذه الحقيقة؟ هل تطمئن إليها النفوس؟ من تدبر وتفكر والله لا يعجزه أن يؤمن بهذا أبداً، والواقع كله يشهد بهذا.
فالجواب: المؤمن الموحد إذا رأيته يبني منزلاً فهو لله، لماذا؟ ليكن فيه نفسه وامرأته وأولاده من الحر والبرد، أو من الحيوانات واللصوص، إذاً: هذا العمل لله، رأيت آخر يهدم في بيت: لم تهدم؟ لله عز وجل؛ خشيت أن يسقط علينا هذا البيت. جاءك يشكي فقال: طلقت امرأتي، قل له: لم طلقت؟ قال: طلقتها لوجه الله؛ لأنها اشتكت وتألمت عامين أو ثلاثة ما صلحت معي، فما أحببت أن تبقى شقية معي، طلقتها لوجه الله، وهذا تزوج الليلة، لماذا تزوج؟ لله، إما أنه خاف على نفسه وغريزته، وإما أنه أراد أن ينجب البنين والبنات ليعبدوا الله، أو وجد مؤمنة فقيرة أو مريضة أراد أن يؤويها لله، فتزوجها، فزواجه كله لله، ومن هنا يتحقق معنى أننا ما خلقنا إلا للعبادة، وها نحن عابدون.
فالسور المكية تعالج أمهات العقائد وهي هذه الأربع: التوحيد، النبوة، التشريع، البعث الآخر والحياة الثانية.
يجب على كل مستمع ومستمعة أن يعي هذا ويتحدث به ليستقر في نفسه، كيف تحصل على العلم إذا لم تقبله؟ هذه عقائد إن تبحث في الشرق والغرب فلن تجدها ولن تظفر بها إلا في كتاب الله عز وجل.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:101-103].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا [الأعراف:101] الله يخاطب من بهذا الكلام؟ يخاطب رسول الله، هذه آية نبوته، هذه علامة وجود الله، لو كان الله غير موجود فكيف يكلم وهو غير موجود؟ لو كان محمد غير رسول فكيف يكلمه الله؟
إذاً: فكل آية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، عند أولي النهى والعقول والبصائر، ها هو تعالى يقول لرسوله يعزيه، يسليه، يصبره، يحمله على الثبات؛ لأنه يعاني من طغاة الكافرين والمشركين، هذا يسب وهذا يشتم، وهذا يعير، هذا ينسبه إلى الباطل، هذا يحاربه وهذا يريد أن يقتله، وهو يريد هدايتهم، إصلاحهم، إسعادهم وحده، فكيف يطيق هذا ويقدر عليه؟ فيسليه ربه ويصبره ويحمله على ذلك، فيقول له: تِلْكَ الْقُرَى [الأعراف:101] المدن والحواضر، والمراد أهلها، وهي قرى أمة نوح، أمة هود، أمة صالح، أمة شعيب، قص علينا ذلك ودرسناه في هذه السورة، فأشار إليه بقوله تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ [الأعراف:101] والقص هو تتبع الأخبار والأحداث خطوة خطوة، لماذا نقصها عليكم؟ من أجل أن تصبروا يا أولياء الله وتتحملوا، ومن أجل أن يزداد إيمانكم ونوركم فتقدروا على العمل والطاعة، ما تقص للهو واللعب.
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا [الأعراف:101] أي: من أخبارها العظيمة، قالت العلماء: النبأ أعظم من الخبر. فأنباؤها قصها عليهم كما سمعتم.
الوجه الأول: بما كذبوا من قبل أن تأتيهم الرسل، أما كانوا مشركين ضالين؟ فما آمنوا لما جاءتهم رسل الله بما كذبوا من قبل ولم يعترفوا به، هذا وجه.
والوجه الثاني -ولعله أكثر إشراقاً-: هو أنهم كذبوا بما كتبه الله أزلاً وقدره قضاءً وقدراً وأنهم لا يؤمنون.
وهنا -معاشر المستمعين والمستمعات- تأملوا: قبل أن يخلق الله عز وجل الخلق علم ما يخلق قبل أن يخلقه، ثم كتب ذلك في كتاب المقادير، في اللوح المحفوظ عنده، فمن كتب شقاوته فهو شقي، ولهذا لا يؤمن ولا يتبع الرسل ولا يستقيم ويصر على الإلحاد والكفر والفسق والضلال والظلام حتى يموت كافراً؛ ليتحقق ما كتبه الله عليه، ومن علم الله أنه يعبده ويستقيم على منهجه ويطيعه كتب ذلك عليه.
وهنا -والله أسأل أن ينفعنا بهذا التقريب للمعاني لأذهان الأبناء، وكلنا شبه عوام- أقول: لما مسح الله ظهر آدم واستخرج ذريته عرف الذي يطيع من الذي لا يطيع، فكتب للمطيع أنه سيعمل كذا وكذا ليدخل دار السلام، والذي عرف أنه ما يطيعه فيحارب الدعوة ويقف في وجهها كتب عليه الشقاء.
مثاله: الفلاح عندنا يحمل البذر في كفه، يحمل بذر الحنظل وهو مر غاية المرارة، وبذر الحبحب أو البطيخ وهو حلو غاية الحلاوة، قبل أن يبذر في الأرض وقبل أن ينبت النبات، وقبل أن يوجد الحنظل أو الحبحب هو عالم بما يكون.
فالله عز وجل لما خلق الأرواح وأوجدها نظر إليها فعرف من هي التي تقبل عليه وتؤمن به، والتي ترفض وتنكر، وكتب حينئذ الشقاوة والسعادة.
وهذا النظام لا يقدر عليه إلا الله، ولهذا يقف الرسول في أمة ألف سنة إلا خمسين عاماً ولم يؤمن به ولم يتابعه ولم يمش وراءه سوى نيف وثمانين نسمة، هذا نوح عليه السلام، والله! ألف سنة إلا خمسين عاماً وهم يسخرون ويستهزئون ويضحكون ويعبثون، والآيات كالشمس تلوح ومع هذا ما آمنوا، ولا أسلموا؛ لأنهم هكذا فطروا، فقولوا: آمنا بالله، إذاً: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الأعراف:101].
فالوجه الثاني: أنه تعالى لما كتب في كتاب المقادير كتب أنهم لا يؤمنون، علم أنهم لا يؤمنون، فكتب الشقاوة عليهم، فلهذا يصرخ النبي بالأدلة، والبراهين، والحجج، فمن أراد الله سعادته وكتبها أزلاً يقبل على ذلك ويحب ويرغب، ويهرب من بلاد الكفر كما هرب فلان وفلان إلى المدينة؛ لأن الله كتب سعادته، والآخر كعم الرسول الذي كان يحجب عنه، ويعطف عليه، ويحميه من ظلم الظالمين في مكة، عمه أبو طالب مات كافراً إلى جهنم، ومن عجيب ما صح أنه لما مرض مرضه الذي مات فيه زاره النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر، فوجد حوله أبا جهل وفلاناً وفلاناً يزورونه فهو أخوهم في عقيدتهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـأبي طالب : ( قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) أي: أطالب بحقك بها، ما هذه الكلمة؟ لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، هذه حسنة عظيمة إذا قالها العبد في صدق تبدد كل الذنوب والآثام، تفجر تلك الجبال من الذنوب والمعاصي، قل: لا إله إلا الله، فيريد أن يقول، فيقول له أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فقال: هو على ملة عبد المطلب ، وفاضت روحه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه في النار في ضحضاح من نار إلى كعبيه فقط يغلي منه دماغه.
ما دام الجبار الحكيم العليم قد قضى عليك ولك أزلاً فيجب أن تطرح بين يديه تبكي طول حياتك أن ينقذك وأن ينجيك، هذا معنى قوله تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الأعراف:101].
أولاً: الإسلام: أن تسلم قلبك ووجهك لله، كما يقال: أسلم النقود، أي: أعطاها، ومنه السلم، تعطي قلبك فلا يتقلب طول حياتك إلا في طلب رضاه، ووجهك فلا تقبل أبداً في صدق إلا على الله، وبعد ذلك تبحث: ماذا يحب الرب، وما الذي يكره ربي؟ فتجد في الإسلام أنواع محابه تعالى من كلمة لا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى من الطريق، سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) طريق من؟ طريق المسلمين حتى لا يؤذوا بشوكها يعطلهم عن حياتهم، فإذا عرف المحاب عرف المكاره أيضاً وجاهد نفسه وهواه ودنياه والشيطان، هذه أربعة أعداء: الهوى، والدنيا، والنفس، والشيطان.
جهاد مستمر ليلاً ونهاراً، إلا أنه إذا انتصر انهزموا أمامه، تتحول عقليته وحياته إلى الهدوء والسكينة والاستقرار والاطمئنان، والنفس إذا طابت طابت، والهوى إذا استقام جرى مع ما يحب الله ورسول الله، وبذلك تصبح نفسك مطمئنة، تلك التي يناديها ملك الموت عند قبضها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
ومعنى هذا -يا معشر المؤمنين، واسمحوا لي إن أكثرت عليكم- معنى هذا أن العبد إذا صدق في إسلامه فقال: لك ربي قلبي ووجهي لا أرى غيرك ولا أعرف سواك؛ فلا بد أن يسأل عما يحب الله وعما يكره الله، لو قيل له: إن الله يكره شيئاً ولا يعرفه أحد إلا في الجزائر فوالله إنه ليسافرن إليه، لا أن يكون في المسجد ثم لا يمشي إليه.
فإذا عرف محاب الله ومكارهه دخل في المعركة الجديدة مع الهوى والنفس والشيطان والدنيا، فيأخذ في الجهاد يغيظهم، يؤلمهم، ما إن ينزغ الشيطان حتى يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيرحل عنه وله ضراط، والنفس تقول كذا فيعاكسها، الهوى يهوى فيعكسه، وفي عام أو عامين أو سنين يستقيم، واقرءوا قول الله تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53] لماذا يا يوسف الصديق؟ قال: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] فهل صدق يوسف عليه السلام أم لا؟
ثانياً: قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2]، تنتقل من الأمارة بالسوء إلى اللوامة بعد عراك وصراع جديد، تصبح تلومه إذا قصر في معروف أو فعل منكراً، أولاً: يحمله الشيطان فيريد أن يفعل ثم تلومه، فيمشي معها فترة يجاهدها حتى تطمئن، فيصبح العبد لا يسعد ولا يستريح إلا على ذكر الله، لا تطمئن نفسه ولا ترتاح إلا إذا كان مع الله، أما أن يجلس مجالس سوء، أو أن ينظر مناظر باطل، أن يسمع باطلاً، أن يأكل أو يشرب محرماً فلا يقوى، ما تقدم نفسه على ذلك أبداً؛ لأنها طابت وطهرت، هذه التي يقول لها ملك الموت وأعوانه: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
ما العهد هذا؟ ستأتي الآية من السورة في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] مسح الله ظهر آدم في عرفات لما نزل من الجنة، واستخرج ذريته كما قدمنا، وأخذ عليهم العهد ألا يكفروا بالله ولا يشركوا به، فهذا هو العهد.
قال تعالى: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [الأعراف:102] نقضوا ذلك العهد، وهو كذلك، ما من فاسق، ولا مجرم، ولا ظالم، ولا كافر، ولا مشرك إلا أعطى لله عهده أنه يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، وبعد ذلك نكث.
أعيد الآية الكريمة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]، هذا حجاج يقع يوم القيامة.
هذا هو القرآن، أسألكم بالله: أهذا القرآن يُهجر كما هجره المؤمنون؟ لا تجد أبداً في مئات البلاد جماعة تتلو كتاب الله وتدرسه، هذا القرآن يقرأ على الموتى، يحول إلى الموتى ويقرأ عليهم، من مكر بنا هذه المكرة؟ الثالوث: المجوس واليهود والنصارى، فلم نستجيب لهم والرسول يبشر: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة )، قف وانظر هل تجد فوضى بيننا أهل هذه الحلقة، هل تجد سباً أو شتماً؟ لو كنا في مقهى فهل سيكون هكذا السكون؟ من أنزل هذا السكون؟ الله.
( وغشيتهم الرحمة ) الآن الرحمة كلها في قلوب السامعين والسامعات، والملائكة -والله- تحف بنا فرحاً بنا وتسمع كلامنا، وفوق ذلك يذكرنا الله بين ملائكته: انظروا إلى عبيدي في بيتي.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الأعراف (29) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net