اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المؤمنون (17) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المؤمنون المكية فهيا بنا مع تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى.
قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:101-111].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [المؤمنون:101]، أذكركم بأن السور المكية -كما علمتم- تقرر التوحيد والنبوة والبعث الآخر، أي: والحياة الثانية في الدار الآخرة، وتأملوا في هذا السياق تجدوه أنه يقرر هذا، فأولاً: أن لا إله إلا الله، وثانياً: أن محمداً رسول الله، وثالثاً: أن البعث الآخر والدار الآخرة حق.
قوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [المؤمنون:101]، والصور هو البوق الذي ينفخ فيه، والذي ينفخ فيه ملك عظيم اسمه إسرافيل، والنفخات ثلاث أو أربع، فالنفخة الأولى: نفخة الفناء، إذ يتحلل كل شيء ويذوب، ولا يبقى إنس ولا جن ولا شمس ولا قمر ولا أرض ولا سماء، بل كل ذلك يذوب وينتهي، قال تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5]، وقال تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:1-6].
والنفخة التي هنا في هذه الآية هي النفخة الثانية، أي: نفخة البعث والخروج من القبور والتجمع للحساب والجزاء، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [المؤمنون:101]، أي: النفخة الثانية، فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، أي: لا يسأل أحد عن آخر، لا أم عن ابنها، ولا ابن عن أبيه، ولا ولد عن والده أبداً، ولا هذا ابن فلان ولا هذا من القبيلة الفلانية كما كانوا في الدنيا، بل كل مشغول بنفسه هل ينجو من عذاب النار ويدخل الجنة أو يخلد في النار والعذاب والعياذ بالله؟
فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، أي: لا يسأل بعضهم بعضاً، وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها عندما سألته فقالت له رضي الله عنها: هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما في ثلاثة مواطن فلا، الموطن الأول: إذا تطايرت الصحف )، أي: إذا أخذت الملائكة توزع كتب الأعمال على من في أرض المحشر، ففي هذه الحال كل مشغول بنفسه لعله يعطى كتابه بيمينه فيسعد، أو يأخذ كتابه بشماله فيهلك والعياذ بالله، وعند ذلك لا يسأل أحد عن أحد، ( وأما الموطن الثاني: إذا وضع الميزان لوزن الأعمال )، قال الله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [المؤمنون:102-103]، وفي هذا الموطن أيضاً لا يذكر أحد أحداً، لا أب ولا أم ولا زوجة ولا زوج، ( وأما الموطن الثالث: إذا نصب الصراط على جهنم ليجتازوه إلى الجنة أو ليسقطوا في جهنم ).
إذاً: فهذه الثلاث المواطن التي لا يذكر رجل زوجته، ولا المرأة زوجها، ولا الابن أباه، ولا الأب ابنه، فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].
مرة أخرى: إذا وضع الميزان وأخذت أعمال العباد توزن فالذي ظلم غيره من عباد الله يؤخذ من حسناته ويعطى للذين ظلمهم مقابل ظلمهم، وذلك كأن أكل أموالهم أو فجر بنسائهم أو سبهم أو شتمهم، فيؤخذ من حسناته وتعطى للذين ظلمهم، فإن بقيت له حسنة يضاعفها الله ويدخل الجنة، وإن لم يبقى له شيء فإنه يؤخذ من سيئات الذين ظلمهم وتضاف إلى سيئاته ويستوجب النار فيدخلها بإذن الله تعالى.
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102]، لا غيرهم، والمفلحون بمعنى: الفائزون الناجون من النار والداخلين الجنة دار الأبرار، فهذا هو الفوز وهذا هو الفلاح.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:103]، أي: ما ثقلت، ما عنده حسنات، أو عنده حسنات لكنها ضاعت وأخذت منه، وذلك كأن ردت إلى أصحابها الذين ظلموا بها.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، فهذا حكم الله تعالى على هؤلاء الذين خسروا أنفسهم وأضاعوها، إذ ما بقي لهم قيمة ولا وجود إلا في جهنم والعياذ بالله.
فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، و(جهنم) علم على دركة من دركات النار، إذ النار سبع دركات لا درجات، وهي دركة تحت دركة، وجهنم واحدة منها، وهي لمن أشد النار حرارة والعياذ بالله، خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، أبداً لا يخرجون منها، مع العلم أنه قد جاء في السنة المبينة: أن من كانت له حسنات ودخل النار بذنوبه فإن الله عز وجل يعذبه ما شاء من العذاب، ثم يخرجه من النار إلى الجنة، وذلك بشرط أن يكون مؤمناً موحداً، لكن إن دخل جهنم بذنوب عظاماً فهل يخرج من النار أو يخلد فيها؟ لا يخلد فيها إلا المشركون الكافرون الملاحدة.
أما أصحاب التوحيد وأهل لا إله إلا الله محمد رسول الله بحق، والذين ما عبدوا غير الله تعالى، ولكن ظلموا وأساءوا وارتكبوا ذنوباً، وماتوا بدون توبة يدخلون النار ويبقون فيها ما شاء الله، ثم يخرجهم الله عز وجل بإيمانهم، ولذلك يخرج الله من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان كما جاء في صحيح مسلم وغيره.
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي [المؤمنون:105]، أي: القرآنية، تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]؟ فتقولون: خرافة، رجعية، تأخر، تخلف، ضلال، جنون كما يقول المشركون والكافرون، فَكُنتُمْ بِهَا [المؤمنون:105]، أي: بتلك الآيات القرآنية التي يتلوها رسول الله والمؤمنون في كل زمان ومكان، فتتلى وتقرأ عليكم فكنتم بها تكذبون، أي: غير مؤمنين بها ولا مصدقين بأنها كلام الله تعالى ووحيه أوحاه إلى رسوله، وكتابه أنزله عليه، وهذا شأن الملاحدة والعلمانيين والبلاشفة الحمر والمكذبين والعياذ بالله، بل إلى الآن وإلى يوم القيامة، وإن نزلت هذه الآيات في مكة في أبي جهل وأبي لهب، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن القرآن كتاب هداية لا كتاب ساعة أو حكاية، وإنما هو كتاب هداية للخلق إلى يوم القيامة. أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]؟ فماذا يقولون؟
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:110] أي: تهزئون وتسخرون منهم، حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي [المؤمنون:110]، فما أصبحتم تعرفون ولا تسألوا عني، وإنما شغلكم الباطل واللهو والعبث والسخرية، وما انتفعتم بكتاب الله الذي يتلوه رسولنا وأصحابه.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:110]، وفي قراءة: (سُخرياً)، أي: تحملونهم ما لا يطيقونه، وتكلفونهم بأعمال كثيرة، فتنكلون بهم وتشددون عليهم؛ لأنهم كيف يؤمنون بمحمد وبما جاء به؟!
حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:110]، وإلى الآن فالملاحدة والعلمانيين المصابين بالإلحاد والكفر يسخرون من المؤمنين ويضحكون من صلاتهم وصيامهم، بل ومن لحاهم ولباسهم ومن كل حالهم، والله العظيم! إذ هم البشر والشيطان ملكهم فعبدوه وسخروه لأنفسهم وسخرهم لنفسه والعياذ بالله.
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا [المؤمنون:111]، جزاهم بماذا؟ برضاه عنهم وإدخالهم جنته دار النعيم المقيم، أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111]، وفي قراءة: (إنهم هم الفائزون)، والكل صحيح، والفائزون جمع: فائز، يقال: فاز فلان في الكرة، وفاز فلان في تجارته، أي: نجح، ولذا فالفائز الحق هو الذي ينجو من النار فلا يدخلها ويدخل الجنة دار النعيم ويعيش فيها، فهذا والله هو الفوز العظيم، لا ربحك شاة أو بعيراً أو زوجة أو ولداً.
وتذكرون حكم الله في هذه القضية، إذ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، أفلح من؟ من زكى نفسه وطيبها وطهرها، فأصبحت مشرقة طيبة يحبها الله ويقبلها في جواره، فبم زكاها؟ بالماء والصابون؟ لا، إنما زكاها بالإيمان وصالح الأعمال، وأبعدها عما يخبثها ويدسيها ويعفنها من الشرك والكفر والذنوب والآثام، وعكسه المشرك الكافر الفاسق الفاجر الذي خاب وخسر دنياه وأخراه، والذي صب على نفسه أطنان الذنوب والآثام فأصبحت عفنة منتنة لا يحبها الله ولا يرضى أن تكون في جواره، وبالتالي فمصيرها جهنم، وصاحبها هو الخاسر، وهذا هو الخسران المبين.
معاشر المستمعين! إن كلام الله سبحانه واضح وبين، لكن حرمونا من الاجتماع عليه ومن دراسته، حتى قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ! والله كتبوها في كتبهم، وخطؤه كفر! وبالتالي فمن يتكلم حينئذ؟ ومن يقول: قال الله؟ من يقول: قال الله يكفر! هكذا وضعوا لنا ذلك حتى أصبحنا لا نجتمع على القرآن إلا في ليلة الميت فقط، وذلك خلال ليال سبع أو ثلاث! أما أن نجتمع هكذا لنتلو كتاب الله ونتدارسه فممنوع، لماذا؟ لأن هذا العمل كفر، ونحن على هذه الحال قرابة ألف سنة وزيادة، والمسلمون للأسف محرومون من هذا، وإلا فكيف هبطوا؟ كيف نزلوا من علياء السماء؟ كيف أصبحوا أذلاء؟ كيف أصبحوا تابعين؟ كيف استغلوا واستعمروا وأذلوا؟ الجواب: بذنوبهم، فمن أين تأتي الذنوب؟ إعراضهم عن كتاب الله وهدي رسوله، وهذه سنة الله التي لا تتبدل! وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ [طه:124-127]، والعياذ بالله.
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102]، أي: الفائزون بالنجاة من النار وبدخول الجنة دار الأبرار وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، أي: خسروا أنفسهم فضاعت وهلكت فأصبحت في جهنم والعياذ بالله. تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، وقد عرفتم هذا بشاعة وقبح هذا المنظر، إذ تحرق وجوههم وتلفحها النار فترتفع الشفاه السفلى إلى فوق ويبقى الفم والأسنان، فتكون أبشع صورة والعياذ بالله ينظر إليها! تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، والعياذ بالله.
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [المؤمنون:105]؟ إذا قالوا: لماذا نعذب؟ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105]؟ إي نعم، وهذا هو الواقع، إذ لو آمنوا بآيات الله لأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحرموا ما حرم الله تعالى، لكن ما آمنوا بالله، وإنما كذبوا بآيات الله، أي: بالقرآن وبما يدعو إليه ي
ويهدي إليه.
قَالُوا [المؤمنون:106]، أي: معتذرين، وهل ينفع العذر الآن؟ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [المؤمنون:106]، أي: هذا الذي قضيته وقدرته علينا، وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106-107]، فهل يقبل هذا العذر؟ لا قيمة له أبداً، وإنما قصه الله كما هو واقع، ووالله ليقولون هذا، أبيضهم كأسودهم، أولهم كآخرهم، بل أهل النار كلهم!
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [المؤمنون:107]، أي: من النار، فَإِنْ عُدْنَا [المؤمنون:107]، أي: إلى الشرك والكفر والظلم والفسق والفجور، فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، نستوجب العذاب، فهل الله يعيدهم مرة أخرى إلى الدنيا؟ والله لو أعادهم لفسقوا وفجروا وكذبوا أكثر من الأول، وقد أخبر تعالى بهذا عن نفسه في كتابه إذ يقول: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، وهذا مجرب، فكم من إنسان يصاب بالفقر فيبكي ويصيح، فلما يغتني يفرح وينسى كل ذلك؟ أو يصاب بالمرض فيصيح ويبكي، وما إن يشفى حتى يعود إلى الخمر يشربها، والبرنيطة على رأسه يتلذذ بها! وقد نددنا بهذا وصرخنا وبكينا، ولكننا مقهورون مغلوبون، فالشياطين قوية، أتسمعون؟ بلغني أن البرنيطة الآن توزع منها مجاناً عشرات الآلاف، إنهم يريدون أن يمسخونا مسخاً كاملاً، فأبناؤنا وشبابنا بالبرانيط على رءوسهم! غني يا إسرائيل! زغردي يا إسرائيل! فقد تحقق مرادك وهدفك، وأصبح أهل السنة والجماعة يلبسون البرانيط ويتلذذون بها، بل وتقدم لهم هدايا وتوزع عليهم! لو نبكي حتى نموت؟! فأي ضلال أعظم من هذا؟ وأي عمى أشد من هذا العمى؟!
يعتذرون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، فماذا يقول لهم الرب تعالى نفسه أو ملكه؟ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، أي: اُبعدوا في جهنم أذلاء مهانين مكسورين محطمين، اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، لماذا يا ربنا؟!
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي [المؤمنون:109]، اللهم اجعلنا منهم! يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:109]، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وارحمنا وأنت خير الراحمين! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وارحمنا وأنت خير الراحمين!
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:110]، والله ليسخرون من كلامنا، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي [المؤمنون:110]، أي: شغلوكم عن ذكر الله تعالى، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا [المؤمنون:110-111]، اللهم ارزقنا الصبر والثبات حتى نلقاك يا رب العالمين! أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111]، فقط، أي: الناجون من النار الداخلون الجنة دار الأبرار.
أسألكم بالله! هل هذا الكلام واضح؟ إن كلام الله أوضح من كلامنا فيما بيننا، لكن للأسف منعونا من الاجتماع عليه ومن دراسته ومدارسته، وذلك لنبقى عمياً وصماً وبكماً حتى يستغلونا ويفعلوا بنا ما فعلوا، فوا أسفاه! وا حسرتاه!
أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء من خلال عرض أحداثها في هذه الآيات ]. تقرير عقيدة البعث والجزاء من خلال هذا السؤال والجواب الذي دار في الآيات، وهذا كله في الآخرة.
[ ثانياً: تقرير أن وزن الأعمال يوم القيامة حق وإنكاره بدعة مكفرة ]. تقرير أن وزن الأعمال يوم القيامة والله حق، ووالله لتوزن الأعمال، والذي أنكر هذا وقال: كيف هذا؟ والله لمبتدع وضال، وقد كذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
[ ثالثاً: تقرير أن إسرافيل ينفخ في الصور ]. والصور كالبوق، وذلك كالذي يستعمله الناس في الأسواق [ وإنكار ذلك وتأويله بلفظ الصُوَر كما فعل المراغي في تفسيره هذه الآية مع الأسف بدعة من البدع المنكرة، ولذا نبهت عليها هنا حتى لا يغتر بها المؤمنون]، أي: وقد أنكر هذا المؤلف والمفسر المراغي، إذ إنه أول الصور بالصُوَر، وهذا تأويل باطل، وقد رد عليه أهل العلم خطأه هذا.
[ رابعاً: الاعتذار بالقدر لا ينفع صاحبه ]. هل نفعهم ما اعتذروا؟ لا، مع أنهم قد اعتذروا بين يدي الله وقالوا: هذا الذي كتبته وقدرته علينا، ولذا فالاعتذار بالقضاء والقدر باطل، ولذلك إذا زنيت فتبت، أو سرقت رد المال إلى صاحبه، وهكذا، ولا تقول: قضاء الله وقدره، ولا تعول على القضاء والقدر، بل ولا تفكر فيه أبداً، إلا أنك إذا أصبت فقل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقدر الله، وذلك حتى تهدأ نفسك من الكرب والهم، أما أن تحتج بالقضاء والقدر فتقول: قد كتب الله علي هذا، فلا، والله ما يستجيب لهذا أبداً، ولا يقبل هذا العذر أبداً.
قال: [ الاعتذار بالقدر لا ينفع صاحبه، إذ القدر مستور فلا ينظر إليه، والعبد مأمور فليأتمر بأمر الله ورسوله، ولينته بنهيهما ما دام العبد قادراً على ذلك، فإن عجز فهو معذور ]، نحن مأمورون بأن نطيع الله ورسوله في حدود طاقتنا، أما أن نقول: كتب الله علينا هذا وقدره، ونستمر على معصية الله والرسول فهذا باطل، إذ نحن مأمورون بأن نطيع الله ورسوله في حدود طاقتنا، ونلقى الجزاء في الدنيا والأخرى على تلك الطاعة، أما أن نتكبر أو نعرض أو نعبد الهوى والشهوات والشياطين ونقول: هذا قد كتبه الله وقدره، فهذا الاعتذار باطل، ولا يصح من مؤمن أبداً.
[ خامساً: بيان مدى حسرة أهل النار لما يجابون بكلمة: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] ]، بيان مدى حسرة أهل النار لما يقال لهم: اخْسَئُوا [المؤمنون:108]، كيف تكون حسرتهم؟ من يقدرها؟
[ سادساً: فضيلة التضرع إلى الله تعالى ودعائه والتوسل إليه بالإيمان وصالح الأعمال ]. بيان فضيلة دعاء الله وسؤاله والاستغفار والتوبة والتقوى، وكل هذه نعم أنعم الله بها على المؤمنين والمؤمنات فلا ننساها، ومن ذلك الصبر على تقوى الله عز وجل، وأما الوسيلة في الدعاء فلأنهم قالوا: رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا [المؤمنون:109]، فقد توسلوا إلى الله بإيمانهم، وهنا حقيقة: يا أبناء الإسلام! يا نساء المؤمنات! التوسل بحق فلان وجاه فلان والتمسك بالجدار واستقبال القبر، كل هذه والله أباطيل وترهات وضلالات، إذ التوسل الحق أن تصلي لله ركعتين وترفع يديك إلى ربك، أو أن تخرج ريالاً من جيبك وتضعه في يد فقير مسلم وتقول: يا رب! فعلت كذا فأعطني كذا، أو أن تدعو الله عز وجل وتستقبل القبلة فتقول: رب! دعوتك فاستجب لي، فهذا هو التوسل الحق، أي: بالإيمان والعمل الصالح، أو رب! بإيماني بك وبرسولك، وبإيماني بلقائك فرج ما بي وكفر عني ذنبي.
أما التوسل الشيطاني للإيقاع بالمسلم في الشرك والباطل فلا، وذلك كأن يقول أحدهم: بحق فلان وجاه فلان، فوالله ما هو إلا منكر وباطل، ولذا فالتوسل الحق كأن تتوسل فتقول: رب! قد صمت لك، وقبل أن تفطر ترفع يديك: رب! أنا محتاج كذا وكذا، وقد صمت لوجهك، فأسألك بصيامي هذا أن تفرج ما بي، أو قم في ظلام الليل واركع واسجد واسأل ربك، أما أعطني بحق فلان وأسألك بجاه فلان فكل هذا من وضع الزنادقة والمضللين والعياذ بالله تعالى.
[ سابعاً: حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به والضحك منه ]. الحرمة الشديدة العظيمة. أي: الاستهزاء بالمؤمن والسخرية منه والتهكم به والضحك عليه، إذ إن هذا من الذنوب البشعة العظيمة، وحسبها أن الله قد ذكرها، فلا يحل لمؤمن أبداً أن يسخر بمؤمن أو يستهزئ به أو يضحك منه، بل يجب احترامه وحبه وموالاته ومساعدته والوقوف إلى جنبه إذا احتاج إليه، لا أن يقف ضده كما فعل المشركون مع بلال وعمار وصهيب.
[ ثامناً: فضيلة الصبر؛ ولذا ورد أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد ]، منزلة الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا أخذت رأسك هل يبقى للجسد قيمة؟ لا قيمة له، وبالتالي إذا ما صبرت فلا قيمة للإيمان، والصبر هو حبس النفس وهي تصرخ كارهة على طاعة الله ورسوله، فلا تعصي الله ولا تترك الطاعة، والصبر هو حبس النفس على المكاره من أجل الله عز وجل أو من أجل لقائه وحبه، اللهم اجعلنا من الصابرين! اللهم اجعلنا من الصابرين القانتين المقيمين للصلاة الموفون بعهدك يا رب العالمين! وتوفنا وأنت راض عنا وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المؤمنون (17) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net