الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وكان النداء السالف يوم أمس هو قول ربنا تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184]. ففهمنا من هذا النداء الإلهي: أن الله تعالى فرض علينا بوصفنا مؤمنين وكوننا مؤمنين، فرض علينا الصيام، إذ قال: كُتِبَ [البقرة:183]، أي: فرض. عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]. وقد بين تعالى لنا شهر الصيام بنفسه، إذ قال في هذا السياق: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
علمنا أن الصيام هو الإمساك والامتناع وترك الأكل والشرب والجماع، وأن الظرف الذي نصوم فيه هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فقبل طلوع الفجر الأكل كالشرب كوقاع النساء مما أذن الله فيه وأباحه وأحله، إذ قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].
بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن نكون عليه حال صيامنا بصورة خاصة، وهو أننا لا نتكلم بسوء، ولا ننطق بأذى، وبخاصة السب والشتم والتعيير للمؤمن، والغيبة التي هي: أكل لحم المؤمن وهو غائب، والنميمة التي هي: إيقاد نار الفتن حتى تراق الدماء وتنتهك الحرمات، فالذي لا يمسك عن الغيبة والنميمة ليس لله حاجة في أن يترك طعامه وشرابه؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ). ومن ثم نغض أبصارنا عن النظر إلى ما حرم علينا من نساء المؤمنين، ونكف ألسنتنا فلا ننطق إلا بمعروف، وهذا في الحقيقة نظام حياتنا سواء كنا صائمين أو مفطرين، فالغيبة حرام، والنميمة حرام، ونهش عرض المسلم حرام، ولكن بصورة خاصة ونحن متلبسون بالعبادة، فالمؤمن إذا أحرم وقال: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة أصبحت حاله كحال من دخل في الصلاة، فالذي يقول: الله أكبر يصلي الظهر أو العصر لا يضحك، ولا يتكلم، ولا يمس شيئاً، ولا يمشي ولا يتأخر؛ لأنه في داخل الصلاة، وكذلك من أحرم وقال: لبيك اللهم لبيك امتنع عن كل ما هو ذنب وإثم، أو اختل عمله ولم ينتج له الطاقة المطلوبة، وهي الحسنات المطهرة للنفس البشرية والمزكية لها، وكذلك الحال إذا صمنا، وقد كان بعض الصالحين إذا دخل رمضان طوى فراشه، وكان بعضهم لا يدخل على أهله في النهار أبداً، بل من بستانه أو دكانه إلى المسجد، وهكذا كان الصيام معداً لنا لتقواه تعالى.
التقوى هي الخطوة الثانية في تحقيق الولاية الربانية، فالخطوة الأولى هي: الإيمان فآمنا، والخطوة الثانية: تقوى الله عز وجل بفعل ما أوجب فعله وترك ما حرم أو ما أوجب تركه، فهذه التقوى يعين عليها الصيام سواء في رمضان أو في غير رمضان؛ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. قال بعض أهل العلم: (لعل) هنا نسميها الإعدادية، أي: لتعدنا لتقوى الله عز وجل، فمن فاز بتقواه تحققت له هداية مولاه، وأصبح ولياً لله، فإذا سأله أن يزيل جبلاً لزال.
ونعيد تلاوة هذا النداء تذكيراً للناسين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184].
هذا الموقف تطلب بيان أشياء ذكرناها أمس، أولاها: النية، وهي شرط في صحة العبادة، ولو أن أحداً دخل البحر ثلاث ساعات يعوم ويغطس ويخرج بدون أن ينوي رفع الحدث الأكبر فما زال جنباً، فلا بد من النية، فكونه يمتنع عن الأكل والشرب والنكاح ولو أربعاً وعشرين ساعة، ولو أربعين يوماً بدون أن ينوي الصيام فلا صيام له.
وقد علمتم أن صيام رمضان يكفي فيه النية أول ليلة على أننا نصوم رمضان، ولا حاجة إلى تجديدها على سبيل الوجوب، وأما على سبيل الندب فنعم، فكل لحظة من اللحظات جدد فيها عهدك بربك، وعلمنا أن الحائض والنفساء والمسافر إذا أفطروا لهذا العذر وعادوا يصومون لا بد من إعادة النية وتأكيدها؛ لأن الصيام انقطع بالسفر أو بالمرض، فلا بد من تجديد النية، والنية: هي عزم القلب وتصميم النفس على الفعل أو الترك، وليست قول: أنني نويت كذا، فهذا من عمل العوام، وأما أهل العلم من أمثال السامعين والسامعات فلا يقولون: نويت، وإنما يصممون على أن يفعلوا ويفعلون.
[ النداء السادس ] من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وهو [ في وجوب قبول شرائع الإسلام كلها وحرمة اتباع الشيطان ].
حكم من رفض شيئاً من أحكام الشريعة
مضمون هذا النداء ومطلوبه ومفروضه: هو أن نلتزم بكل شرائع الإسلام، وليس لنا حق في التخير بالقيام والترك، بل يجب قبول كل ما في الشريعة حتى في قلم الأظافر، فلو أن شخصاً قال: أنا لا أقلم أظافري فقد كفر؛ لأنه رد شريعة الله، فقد كان الرسول يقلم أظافره ويعلم أصحابه ذلك، وهو يقول: أنا لا أقلم أظافري، فهذا ما بقي له إسلام، وسيأتي بيان هذا.
ولو أن شخصاً قال: أنا أقبل الإسلام وأدخله واغتسل وصام وصلى، إلا أنه قال: أنا لا أعترف أبداً بأن الإسلام أباح أكثر من امرأة، فإنه لا يبقى مسلماً، ويكفر؛ لأنع غطى حكم الله، وهذا هو الكفر.
ولو قال: أنا أؤمن بالإسلام وبكل شرائعه إلا أنني لا أعترف بقطع يد السارق، فإنه لا يبقى مسلماً، ويكفر بذلك.
ولو قال: أنا أعترف بالصيام وأصوم ثلاثة أشهر في الشتاء، وأما في منتصف الصيف فلا، فإنه لا يبقى مسلماً.
ولو قال: أنا أتوضأ ولكني لا أغسل وجهي أو قال: لا أمسح رأسي فإنه لم يدخل في الإسلام، وإن كان قد دخله فقد خرج منه.
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)
سبب نزول هذه الآية: أن
عبد الله بن سلام - وكان حبراً عظيماً من أحبار اليهود في المدينة، والحبر عندهم العالم النحرير، وكان أول من أسلم في المدينة من بني إسرائيل، وهو مبشر بالجنة أيضاً، فقد بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لرؤيا رآها- لما اشتاق أو حن فقط إلى ترك العمل يوم السبت وكان مفروضاً في الكتاب الأول وأراد أن يستريح يوم السبت مضافاً إلى يوم الجمعة نزلت فيه هذه الآية.
[ الآية (208) من سورة البقرة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] ].
كتاب الله تعالى دليل على وجوده سبحانه
هذا مصدره من الله رب العالمين .. من رب موسى وهارون .. من العلي القدير .. من ذي الجلال والإكرام، هذا هو القرآن العظيم والكريم، كتاب الله رغم أنف كل الشياطين، ولا يتصور وجود كتاب بدون كاتب، ولا وجود كلام بدون متكلم، وكيف يوجد كلام الإله العظيم والله غير موجود؟ فهذا سقم وسؤ فهم، ويكفينا دلالة على وجود ربنا كتابه، وزيدوا نبيه ورسوله، وزيدوا بيته، وزيدوا أنفسنا؛ إذ لولاه ما كنا، فهو الذي أوجدنا وعلمنا، ولن تجد أحداً يفعل ذلك سوى الله، فلهذا قولوا: لا إله إلا الله، فالله ربنا وحبيبنا وولينا وسيدنا ومولانا يشرفنا بندائه فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208]، أي: يا من آمنتم به رباً وإلهاً! وآمنتم بنبيه ورسوله وبالإسلام دينه تفضلوا، خذوا هذا العلم، فالحمد لله أن أهلنا الله لأن ينادينا، ونحن لسنا شيئاً، وهو جل جلاله وعظم سلطانه.
معنى قوله تعالى: (ادخلوا في السلم كافة)
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]. والمراد من السلم: الإسلام، فالإسلام سلم، فمن أسلم لا يحارِب ولا يحارَب، فمعنى أسلم يسلم إسلاماً: إذا اطرح وأعطى قلبه ووجهه وكل حياته لله، فمن دخل في الإسلام سلم ونجا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فالإسلام سلم وسلام.
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]. فلا يبقى جزء منك لا يدخل، بل ادخله بكلك وبقلبك وحواسك ومشاعرك.
الإسلام دين كامل لا يقبل الزيادة ولا النقصان
قال: [ الشرح: إن الإسلام دين كامل ومتكامل ] أي: يكمل بعضه بعضاً، فالصلاة لا تقبل حتى تسبقها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وشهادة أن محمداً رسول الله لا تنفع إذا لم تشهد قبلها أن لا إله إلا الله، والصيام لا يجزئ إن لم تتقدمه الزكاة، فهو دين كامل ومتكامل [ لذا هو لا يقبل الزيادة فيه، ولا يسمح بالنقص منه ] ولو يجتمع علماء الأمة كلهم على أن يزيدوا كلمة واحدة نعبد الله بها فوالله لن يستطيعوا ولن يقدروا ولن يقبل منهم، ولو اجتمعوا كلهم على أن ينقضوا فريضة واحدة فوالله لن يستطيعوا، ومن فعل هذا فليس بمسلم، فلننتبه، فدين الله لا يقبل الزيادة أبداً ولا النقص؛ لأنه كامل ومتكامل [ إذ الزيادة فيه تبطله ] لأننا ادعينا أننا أعلم من الله، وأعرف بخلقه وعبيده حتى شرعنا معه، وهذا ظلم واضح [ والنقص منه يفسده ] فلا ينتج الطاقة المطلوبة، ولا يكون أهلاً لأن يسعد البشرية، وينجيها من الشقاء والردى في الدنيا والأخرى، فلا يبقى هادياً ولا مصلحاً ولا مكملاً ولا مسعداً [ وأقرب مثال يوضح هذه الحقيقة صلاة المغرب ثلاث ركعات، فلو زيد فيها ركعة ] واحدة وأصبحت أربعاً [ أو سجدة ] فقط [ بطلت ] تماماً ولا تصح، ولو أن أهل المدينة قالوا: نحن في خير وعافية وأمن فهيا نصلي المغرب أربع ركعات فوالله لا تصح صلاتهم، بل تبطل، وهذه زيادة باختيار العبد، وبدعوى أنه مشتاق إلى الله، ولا يريد أن يقطع صلته به، بل يزيد ركعة، وصلاته باطلة [ كما أنه لو نقصت منها ركعة أو سجدة بطلت كذلك، بإجماع علماء الملة ] بلا خلاف. هذا مثال على أن الشريعة متكاملة، فمن أراد أن يزيد فيها شيئاً بطلت، ومن أراد أن يقصر وينقص منها شيئاً فسدت، فلا نقص ولا زيادة.
تعطيل الحدود وإنكار شيء منها يخرج بصاحبه من الإسلام
قال: [ لذا فلو أن فرداً من الناس قال: أنا أقبل الإسلام وأدخل فيه إلا أن ما حرمه من المطاعم والمشارب لا أحرمه ] كأن يقول بريطاني: الإسلام حسن، وأريد أن أدخل فيه على شرط أن آكل الخنزير وأشرب الخمر لا يقبل إسلامه [ أو قال آخر: أنا أدخل في الإسلام إلا أن الصيام لا أعترف به؛ لأنه يضعف من قوتي البدنية ] ويعطل أعمالي، فسأدخل في دينكم الإسلام ولكن قضية الصيام لا أقول بها لم يقبل إسلامه، ولو اعترف بعشرات ومئات الشرائع والقوانين والقواعد في الإسلام إلا هذه أراد إسقاطها سقط إسلامه بكامله [ أو قال آخر: أقبله ] أي: الإسلام [ إلا أني لا أعترف بما قرره الإسلام من أن المرأة لها نصف ما للذكر في الميراث ] لأنه لم يساو بينهما، فهذه مخلوقة وهذا مخلوق، وهذه لها أعمال وواجبات، وهذا له أعمال وواجبات، فلا نفرق بين المرأة والرجل، بل لكل منهما ما للثاني، فإنه والله لا يبقى مسلماً، ولا دخل في الإسلام؛ لأنه يعيب الله تعالى في تشريعه، ويطعن في شرع الله، وهذا معناه: أنه ينسب الله إلى العجز أو الضعف أو الجهل أو الحماقة أو عدم العلم والمعرفة، والذي يقول كلمة من هذه يريد أن يمزق تمزيقاً كاملاً، ولا يبق له حظ في الإسلام [ أو قال آخر: أنا أقر بالإسلام ] وأعترف به [ وأدخل فيه إلا أني لا أعترف بحكم قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن ] وإلى الآن تتغنى بهذا أوروبا وأمريكا وخاصة الصليبيين منهم ويتبجحون، وقلنا لهم: إن الأيدي التي تقطع في اليوم الواحد في الأحداث آلاف الأيدي، ويد سارق تقطع في العشرين سنة مرة، ويحفظ بها الله الأمن والمال مائة سنة، وهم لا يقبلون؛ لأنهم بهائم وحيوانات، وأعداء لله ورسوله والمؤمنين، ولا يريدون شيئاً اسمه إسلام أبداً، فهم يبحثون عما يعيبون به الإسلام، مثل لم يتزوج المسلم ثلاث أو أربع؟ والواحد منهم يتزوج خمسين، ويعيش كل ليلة مع زانية، ولا يذكرون هذا، وكلما لاحت له عاهرة تبعها وجرى وراءها، فهم مخدوعون ومغرر بهم ومفتونون، والشيطان هو الذي يضحك على أذقانهم، ويسخر منهم، فنقول لمن يقول هذا منهم: هذا ليس شأني ولا شأنك، بل نسألك أنت: أتؤمن بالله أم لا؟ فإن قال: أؤمن، قلنا له: الله هو الذي شرع قطع يد السارق، ورجم الزاني، وحرم التعدد بأكثر من أربع، فأنت تعيب عليه وليس علينا، فيسكت كأنما ألقم حجراً، فلسنا نحن الذين شرعنا حتى تعيبنا أنت، فنحن لا نشرع، بل شرع لنا مالكنا وخالقنا، وأكثر الناس لا يجيبون بهذا الجواب، وإنما يهرفون معهم، فأنت تعيب علينا التعدد ولسنا نحن الذين شرعنا هذا، فنحن لم ندع العلم والمعرفة ورأينا أن نشرع هذا، بل هذا شرع الله، فإما أن تؤمن به وإلا فأنت كافر، مع علمنا اليقيني النوراني أنه ما فرض الله فريضة إلا وهي في خدمة هذا الآدمي لإسعاده وإكماله، ولا حرم شيئاً منطوقاً أو مأكولاً أو أي شيء إلا وهو كالسم القاتل للآدمي، ويهبط به إلى الحضيض، ويفسد حياته؛ لأن الله عليم حكيم، وهو خالق العلم والحكمة وواهبهما [ فهل يقبل الإسلام من هؤلاء؟ والجواب: لا يقبل أبداً، وهم كافرون مخلدون في النار إن ماتوا على هذا الكفر.
ومثال آخر: لو أن مسلماً أباً أو جداً ] لك [ قال: أنا لا أعترف بأن المسلم إذا دعا الأولياء ] وناداهم وطلب حاجته منهم [ أو استغاث بهم أو تقرب إليهم بذبح أو نذر ] وأصر على ذلك [ فهو مشرك ] كافر [ لا يقبل منه إيمان ولا إسلام، ولو صلى وصام وحج واعتمر وجاهد ورابط ] بلا خلاف.
[ وهذا النداء الإلهي الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] هذا النداء هو الذي قرر حرمة النقص في الدين أو الزيادة فيه ].
جاء الإسلام ناسخاً لكل ما سبقه من الشرائع ومهيمناً عليها
هذا النداء قرر أن الزيادة في الدين كالنقص منه محرمان وصاحبهما هالك [ إذ هذه الآية الكريمة نزلت في عبد الله بن سلام رضي الله عنه ] وأرضاه [ وكان حبراً من أحبار اليهود في المدينة ] النبوية هذه [ ودخل في الإسلام عن علم وقناعة، وبشر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالجنة لرؤيا رآها. هذا العالم النحرير رأى في بداية إسلامه ] في الأيام الأولى من إسلامه أو الأشهر الأولى [ أن يبقى على تعظيم السبت ] لأن الله كتب عليهم السبت، وشرع هذا على لسان موسى، فلا مانع أن يبقى معظماً للسبت في نظره [ وأن يقرأ بشيء من التوراة ] مع القرآن [ بحجة أن السبت فرضه الله تعالى تعظيماً على اليهود، وأن التوراة كلام الله تعالى ] فقد قال: التوراة كتاب الله، وأنا أحفظ ما أحفظ منها، فلنقرأ بشيء من التوراة في الصلاة أيضاً، فهي كلام الله كالقرآن، فليس هناك مانع أن أقرأ بشيء في صلاتي من التوراة، وأراد أن يفعل بهذا الرأي الذي لاح له [ وقبل أن يفعل ] رضي الله عنه [ استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ] لما خطر هذا على باله وهم به، ورأى أنه لا مانع من أن يحيي ديانة الله التي هي من طريق موسى، فيعظم السبت ويقرأ بشيء من التوراة في النوافل اجتهاداً منه [ وقبل أن يفعل استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فنزلت هذه الآية تأمر المؤمن أن يدخل في الإسلام بكله، ولا يبقي شيئاً خارجاً عنه، حتى ولو كان تعظيم يوم السبت الذي كان تعظيمه شرعاً وعبادة ] يتقرب بها إلى الله عز وجل [ قبل الإسلام، أو تحريم لحوم الإبل وألبانها إذ كانت محرمة على اليهود ] ولا يحل لهم ذلك، فلو رضي يهودي بالإسلام وقال: أي مانع أن نترك أكل لحم الإبل وأن أترك شرب ألبانها وقد حرمها الله على المؤمنين السابقين فإنه يكفر ولا يدخل في الإسلام بهذا [ فرأى بعضهم ] أي: بعض اليهود [ ممن أسلموا أن يبقوا على ما كانوا عليه من تحريمها، فكانت هذه الآية الكريمة مانعة من كل ذلك، ولا يسع المؤمن الحق إلا الدخول في الاستسلام الكامل لله تعالى، وذلك بقبول ما شرع، وعدم التخير فيه بقبول بعض ورفض بعض ] كما علمتم .
النهي عن اتباع خطوات الشيطان
قال: [ وبعد أن أمر الله ] تعالى [ عباده المؤمنين بالانقياد الكامل والطاعة التامة لله ورسوله ] صلى الله عليه وسلم [ في كل ما حواه ] واشتمل عليه [ الإسلام من الشرائع والأحكام العامة والخاصة ] وقد قدمنا أنه لو أن شخصاً قال: أنا لا أعترف بقلم الأظافر أو لا أعترف بإعفاء اللحية فإنه يكفر بذلك، ولو قال: أنا معترف ومؤمن، ولكني ضعيف أو عجزت أو غير ذلك فهذا لا يقال فيه كافر أبداً، وإنما مذنب أو مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما أن يقول: لا أقبل، وهذا ليس بدين، فقد خرج من الإسلام [ نهى ] تعالى [ المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان ] لأن
عبد الله بن سلام الذي زين له أولاً أن يحترم السبت هو الشيطان، ولم ير في هذا مانعاً، فهذا اليوم محترم في شريعة موسى وواجب الاحترام فلنحترمه، وزين له أيضاً القراءة بآيات من التوراة، وهي كلام الله. وهي نعم كلام الله، ولكن نسخت، فلا يتعبد بها أبداً، فيجب أن تقبر وتدفن، فقد جاء الشرع العام وجاء الكتاب الهادي، ولم يبق هناك حاجة إلى التوراة، وإنما هو من تزيين الشيطان [ وهي ما يزينه ويحسنه للمرء بنوع من التحسين والتزيين حتى يقع فيه فيهلك كما هلك الشيطان بكبره وعجبه بنفسه ] وهذه الحقيقة معلومة لدى المؤمنين والمؤمنات، وهي: أن ما يغوي به الشيطان البشرية ويفسدها هو تزيين القبيح من المعتقد أو القول أو العمل، فيلقي عليه مسحة من الجمال والحسن، فيراها العبد من أحسن ما يكون ويفعلها، واقرءوا في ذلك قول الله تعالى عنه:
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]. فإذا كان المؤمن بصيراً واعياً عارفاً فبمجرد أن يرى الحرام أو الممنوع أصبح لذيذاً أو جذاباً أو ملائماً يعرف أنه من نزغة الشيطان، فيتبرأ منه ويلعنه، ولا يملك أكثر من هذا [ فقال تعالى:
وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]. وعلل لتحريم عدم اتباع خطواته بقوله:
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] ] فهو لكم أيها المؤمنون! عدو مبين [ أي: بيِّن العداوة ظاهرها ] ولا يشك عاقل في عداوة الشيطان، وعداوته بدأت يوم أن فتن آدم وحواء وأخرجهما من دار السلام، والذي حمله على هذه العداوة الكبر والعجب بالنفس، فقد امتنع من السجود لآدم، ولما أبلسه الله أي: أيأسه من رحمته وطرده منها قال: لأفعلن وأفعلن. أي: هذا الذي كان سبب إبلاسه وشقائه وطرده من رحمة ربه ليعملن على إفساده وإضلاله، وهكذا كل معصية، هو الذي يدعو إليها ويدفع إليها، وعداوته [ لا تخفى على أحد من ذوي العقول الراجحة والفهوم السليمة. وكيف لا وهو يزين اللواط والزنا؟ ] ولم تعرف البشرية فاحشة أفحش من اللواط أبداً، حتى أن
عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي خطب الناس على منبر دمشق وحلف: لولا أن الله تعالى أخبرنا بقوم لوط قال: ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر لا من الحيوان ولا من الإنسان.
وهذه الفاحشة لها أندية في أوروبا، ولا يعقل أن آدمياً يفعل هذا، فهذا من تزيين الشيطان إبليس، فهو الذي يزين اللواط والزنا، وأكثر السامعين يغفلون عن قبحه، وإذا أردت أن تعرف قبح الزنا فأخبرني لو وجدت فحلاً مع امرأتك كيف تكون حياتك ووجودك؟ إنك تذوب وتتمزق. فكيف تفعله مع امرأة مؤمن آخر؟ فهذا والله ما يتم أبداً لولا تزيين الشيطان ولا يعقل، لكن هو الذي يلقي تلك المسحة والزينة على الخبيث المنتن الموغل في الحرام، فيصبح في نظر طالبه زيناً وحسناً وجميلاً [ والربا ] وأكثر السامعين لا يعرفون شيئاً عن الربا، فالربا معناه: أن المسلم لا يقرض ولا يسلف المسلم أبداً، ولا يرحم أخاه المسلم، ولا يدفع عنه مكروهاً أبداً، ولا يثق في مسلم أبداً، ولا يشاركه لا في تجارة، ولا في صناعة، ولا في أي عمل. هذا هو الربا، والله لا يريد هذا للمسلمين، فالربا معناه: أنه لا ثقة في مسلم، وقبل الربا كان المسلم إذا كان عنده ألف أو عشرة ألاف يبحث عن مسلم ويقول له: اعمل بها والربح بيننا، ولا يتركها في جيبه أو في صندوقه، فقد كان المسلمون يبحثون عمن يستقرض منهم، ويقولون: ماذا نصنع بوضع الفلوس في البيت؟ فكان أحدهم يقرضها لأخيه المؤمن لينتفع بها ويردها، فلما احتالوا علينا وهبطونا أصبحنا لا نعرف لا قرض ولا سلفة ولا تجارة ولا تعاون، فتعطي الرجل مليوناً يشتغل به وبعد عام يقول: خسرنا كل شيء مع الأسف، أو تقرضه ولا ترى وجهه عاماً أو عامين، وهكذا الربا، فهو أعظم مصيبة أصابت المسلمين، ومسحت الرحمة والإخاء والمودة والتعاون منهم، وجعلتنا كل واحد يعيش لنفسه.
والذي وضع الربا في هذه الصورة وعرضه علينا بنو عمنا اليهود، فهم الذين أسسوا الربا على أسسه، وأشاعوا البنوك في العالم في الشرق والغرب على حد سواء؛ لعلمهم بأن هذا يقطع شيء اسمه تعاون أو تلاقي أو مودة أو إخاء وخاصة بين المؤمنين، الذين يريدون تمزيق شملهم وتفرقة كلمتهم وبلادهم، ونحن سائحون في الأرض ما عرفنا شيئاً [ وقتل النفس والحسد والكبر والعجب وعقوق الوالدين وأذية المسلمين، إلى غير هذا من كبائر الذنوب والفواحش ] والذي يزين هذا هو الشيطان، فترى المؤمن جالساً مع أخيه ثم فجأة وإذا به يتضارب معه والدم يسيل، والذي دفعه إلى هذا هو الشيطان. إذاً: فعداوته لنا بينة معروفة، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]. وقال في آية النور: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]. وبمجرد ما يجري العبد وراء العدو ويتبعه فجأة وإذا به شيطان رقم اثنين، فيأمر بالزنا، ويأمر بالجرائم، ويأمر بكل المفاسد؛ لأنه تلبس به الشيطان، فلهذا الحذر الحذر يا عبد الله! ويا أمة الله!
بيان الله لعباده طريق النجاة وطريق الهلاك
قال: [ اعلم أيها القارئ والمستمع! أن هذا النداء اشتمل على بيان طريق النجاة ] من النار ودخول الجنة [ وطريق الهلاك ] أيضاً [ فطريق النجاة هو الإسلام الكامل لله تعالى ] وذلك [ باعتقاد ما أمر باعتقاده، وقول ما أمر بقوله، وفعل ما أمر بفعله، واجتناب ما أمر باجتنابه، من ذلك كله اعتقاداً أو قولاً أو عملاً ] إذ الإسلام انقياد لله تعالى، والرسول فيما أمرا به من اعتقاد صحيح، وقول صالح، وعمل نافع، ونهيا عنه من اعتقاد باطل وقول فاسد وعمل سيء، والسر عندنا معلوم، وهو أن فعل المأمور هو أدوات تزكية للنفس وتطهير لها، واجتناب المنهيات هو الإبقاء على ذلك النور، وذلك الصبر، فإن هو صلى وزنى أو سرق وتصدق بطل ذلك ومسح؛ لأن أعمالنا هي التي تنتج لنا الدخان والعفن في النفوس، أو تنتج لنا الطهر والصفاء [ وطريق الهلاك ] للإنسان والجان [ هو اتباع خطوات الشيطان بتحسين القبيح وتقبيح الحسن ] فهو يقبح الشيء الحسن حتى تراه قبيحاً، ويحسن القبيح، وإلا فليس هناك أقبح من شرب الحشيشة، فترى الرجل يفقد عقله ويصبح كالحيوان، وليس هناك أقبح من هذا القبح، فهو يحسن القبيح ويقبح الحسن من أجل إيقاع ابن آدم في الفتنة حتى يصبح أخاً له، ويدخل جهنم معه.
قال: [ فإذا أصبح العبد يحب ما يحب الشيطان، ويكره ما يكره فقد التحق به، وأصبح من أوليائه، وخسر نفسه وأهله ] والشيطان لا يحب سماع القرآن، ووالله العظيم عندما يأخذ المؤذن يؤذن فإن الشيطان يهرب من هذا المسجد وله ضراط إلى آبار علي، أخبر بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو لا يطيق سماع الله أكبر، ولا حي على الصلاة، وحتى لا يسمع يهرب بصوت ضراطه حتى لا يسمع.
والذين يلذ لهم سماع أغاني العواهر والمخنثين ويكرهون سماع القرآن الكريم من المؤمنين فوالله لقد كسبهم الشيطان ونالهم، والذي يغضب من كلمة الحق ويسخطها وما يطيقها وإذا سمع كلمة الباطل ينشط ويتحرك فوالله إن الشيطان هو دافعه.
وللشيطان أولياء، فالناس صنفان: أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ولا ثالث لهما، فإما أن تكون ولياً لله، أو تكون ولياً لعدو الله الشيطان [ كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] ] بحق، واسمعوا هذا البيان [ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] ] فليس الخسران خسران الشاة والبعير، ولا الدينار والدرهم، ولا والوظيفة ولا المرأة ولا الولد، بل الخسران الحق هو يوم القيامة، وذلك بأن يجد العبد نفسه في عالم لا يجد أباً ولا أما ولا ابناً ولا أخاً ولا من يعرف، وإلى الأبد، هذا هو الخسران الذي قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: بلغه [ واذكر ما يحمله قول الله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209] من الوعيد الشديد لكل من زلت قدمه، فزاد في الإسلام، أو نقص منه، أو بدل فيه، وما أصاب المسلمين من خراب ودمار، وذل وصغار لما تركوا واجبات أوجبها الله، وارتكبوا محرمات حرمها الله، كاف في الدلالة على ما تحمله الآية من وعيد شديد.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المفلحين، وأن ينجينا من كل خسران في الدنيا والآخرة. إنه ولينا ورب العالمين!
معاشر المستمعين! غداً إن شاء الله نخرج إلى عمرة، وسيكون الدرس بعد غد إن شاء الله يوم الجمعة، ومن أراد أن يعتمر فليعتمر.