إسلام ويب

العبادة هي الحكمة من خلقنا وخلق الجن، والعبادة لها شرطان:

الأول: الإخلاص لله تبارك وتعالى الذي هو أساس قبول الأعمال؛ فإن المخلص هو الذي تقبل أعماله، أما المشرك الذي يعمل لغير الله فهذا عمله مردود عليه؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك.

والشرط الثاني: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أعماله عدا الخاصة به، فإذا لم يوجد هذان الشرطان لم يقبل الله العمل.

الحكمة من خلق الجن والإنس

إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأستهديه، وأستغفره وأتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بعبادته، وألزمنا بإخلاص العمل له، والوقوف عند سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، ورسول رب العالمين أرسله الله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً؛ فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.

أما بعــد :

أيها الإخوة في الله: إنه لمن نعم الله عز وجل علينا أن تتاح في هذه الليلة المباركة، وفي هذا المكان المبارك، في بيتٍ من بيوت الله جل وعلا أن نلتقي في هذه الأمسية على ذكر الله جل وعلا، وعلى التذكير بموضوعين مهمين خطيرين لهما مكانتهما المرموقة، ولهما شأنهما في هذا الدين، إنه اجتماعٌ طيبٌ مبارك في هذا البيت المبارك لتحقيق التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، نسأل الله جل وعلا أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، كما نسأله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وحزبه المفلحين إنه جوادٌ كريم .

أيها الإخوة في الله: لا ريب أن الله سبحانه وتعالى إنما خلقنا في هذه الحياة للقيام بعبادته جل وعلا، يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ويقول جل من قائل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء:36] ويقول سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] ويقول جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ويقول سبحانه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] ويقول جل وعلا: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:1-2].

فالآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، التي تبين حكمة خلق الله جل وعلا لخلقه: جنهم وإنسهم، فعلى العباد أن يقوموا بهذه المهمة في هذه الحياة؛ لأن الله جل وعلا خلقنا في هذه الحياة للقيام بهذه الرسالة العظيمة، هو الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7].

فالعبرة في هذه الحياة بحسن العمل، لا بكثرته ووفرته، العبرة بحسن العمل وكونه خالصاً لله جل وعلا، لا تشوبه شائبة من شوائب الشرك بالله جل وعلا، وكذلك العبرة بحسن العمل من جهة متابعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالإنسان في هذه الحياة عليه أن يعبد الله جل وعلا على نهج الكتاب والسنة، فلا بد في هذا العمل الذي يعمله كل عبد من شرطين أساسيين، وركنين مهمين هما موضوع هذه الكلمة في هذه الليلة.

أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم بما نسمع، وأن يكون كلامنا حجة لنا لا علينا، وأن يكون منطلقاً للعلم النافع والعمل الصالح.

الإخلاص لله عز وجل

أيها الإخوة الكرام: إن الإخلاص لله جل وعلا أمره مهمٌ في هذا الدين؛ فلا يُقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لله جل وعلا.

فما هو الإخلاص؟ وما صوره؟ وما سبله؟ وما الآيات الدالة عليه؟ وما الأحاديث الشريفة عن رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تبين عظم مكانته وسمو مكانة أهله؟ وما هي ثمرات الإخلاص في الدنيا والآخرة؟ وما أقوال سلف هذه الأمة عن هذا الموضوع المهم؟ وما هي العواقب الوخيمة والسلبيات الكثيرة التي يجرها التساهل في هذا الأمر على الأفراد والأمم والمجتمعات؟

تعريف الإخلاص

الإخلاص لله عز وجل يراد به: أن يبتغي الإنسان بعمله وقوله وجه الله عز وجل، فلا ينظر إلى المخلوقين؛ وإنما يبتغي بعمله وجه الله جل وعلا، وهذا يقتضي ترك الرياء والبعد عنه، والإقبال بالكلية على الله عز وجل، فيُقصد بالإخلاص إفراد الحق جل وعلا بالقصد والطاعة.

ويراد به: نسيان رؤية المخلوقين بدوام رؤية الخالق جل وعلا وما يقرب إليه.

ويراد به: العمل لله عز وجل دون شائبة، ودون رياء وسمعة، ودون طلب لثناء الناس ومحمدتهم، وإطرائهم.

فالإخلاص لله عز وجل إذا كان بهذه المثابة فإنه شاقٌ على النفوس، وعظيمٌ على القلوب، ولا يقوم به إلا نفرٌ قليلٌ من الأمة؛ لأن الشيطان أعاذنا الله منه يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويزين له الأمور التي تناقض شرع الله، ويبين للإنسان حسن عمله عند الناس، وأنه يعمل العمل ليبحث عن الشهرة أو ليبحث عن الثناء، أو لتتردد أصداء أعماله وأقواله في مجالس الناس، فهذا يقتضي أن يكون العبد على حذرٍ من عدو الله وعدوه، بأن يروض نفسه على الإخلاص لوجه الله جل وعلا، ابتغاءً لثواب الله، وطلباً لمرضاة الله، وبحثاً عن رضى الله جل وعلا وما يقرب إلى جنته، وبعداً عن زواجره سبحانه، وما يقرب من ناره أعاذنا الله وإياكم منها.

الآيات الدالة على الإخلاص

لقد زخر كتاب الله جل وعلا بالنصوص الشريفة التي تبين مكانة الإخلاص وتحث عليه، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا ما توفر فيه هذا الشرط العظيم، يقول سبحانه : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] ويقول سبحانه وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3] ويقول سبحانه لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:11-12]، وقال: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:14-15].

ويقول سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ [الملك:2] ويقول جل وعلا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] ويقول سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

يقول الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ [الملك:2] أي: أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا علي ! ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: الخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، وتلا قوله جل وعلا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].

فقوله سبحانه: فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِح اً [الكهف:110] هو المتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله: وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] هذا هو الإخلاص لله جل وعلا.

ولهذا قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]قال رحمه الله: هذان ركنا العمل المتقبل، أن يكون خالصاً لله، وأن يكون صواباً على سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] وأسلم وجهه لله: بالإخلاص لله جل وعلا، وهو محسن: باتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهذان الأمران العظيمان، وهذان الركنان المهمان، من الأمور التي ينبغي الانتباه لها، وما أحسن كلمة الفضيل بن عياض رحمه الله ؛ فإنها كلمة عظيمة، وكلمة جامعة مستقاة من نصوص كتاب الله جل وعلا، فينبغي على العباد أن يخلصوا أعمالهم لله جل وعلا وأن يتبعوا ما جاء في سنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلهذين الأمرين العظيمين مكانتهما في هذا الدين، ولهذين الأمرين المهمين مجالٌ للشيطان أعاذنا الله منه، أن يتسلل إلى قلوب العباد من جهتها، فما أكثر الذين يعانون من عدم تحقيق هذين الأمرين جميعاً أو أحدهما.

فالإخلاص لله: يقتضي توحيده وعبادته والبعد عن الإشراك به، وأكبر مناقضٍ للإخلاص الشرك في عبادة الله جل وعلا، فمن أشرك مع الله غيره أو من عبد غير الله، أو من التجأ إلى غير الله سبحانه في طلب نفع أو دفع ضر؛فقد ناقض هذا الأصل العظيم، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في التنبيه على خطورة الشرك وبيان عظم التوحيد لله عز وجل : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء:36] ، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151].

فالشرك بالله: هو الذنب الأكبر والجرم الذي لا يُغفر عافانا الله وإياكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً [النساء:48] ويقول تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72] ويقول أيضاً: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] فعلى العباد أن يحذروا من الشرك بالله، ويعلموا أنه أكبر ناقضٍ لهذا التوحيد وأكبر جرمٍ عصي الله عز وجل به، فعليهم أن يفوضوا أمورهم لله، ولا يشركوا به، لا ملك

الأحاديث الدالة على عظم الإخلاص ومكانة أهله

أيها الإخوة الكرام: جاءت سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ببيان شأن الإخلاص، وأنه القاعدة لهذا الدين، وأن الأمور إنما تؤخذ وتناط بمقاصدها، ففي الحديث الصحيح حديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه }.

ولما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن: {الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } وفي ذلك إشارة إلى شأن الإخلاص، وأن على الإنسان في عمله، وفي عقيدته، وصلاته، وزكاته، وفي صومه وحجة، وفي جهاده ودعوته إلى الله، وفي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفي صلته لرحمه، وفي بره لوالديه، في كل أمرٍ من أموره، ينبغي أن يخلص فيها لله جل وعلا، وأن من انقدح فيه غير ذلك من العمل للناس، أو لمرآتهم أو للتسميع، أو لثناء الناس ومحمدتهم، فهو للذي أشرك والله بريء منه .

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة المشهور عن الثلاثة النفر الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، مَنْ هؤلاء؟ إنهم الذين آثروا حب الدنيا على العمل للآخرة، إنهم الذين لم يخلصوا لله عز وجل في أعمالهم، مع أن أعمالهم أعمال خير: جهاد وقراءة قرآن وتعلم للعلم، ففي هذا الحديث العظيم: {يؤتى بالعالم فيقال له: ماذا عملت؟ فيقول: تعلمت فيك العلم، وعلمته فيقال له: كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار }.

العواقب الوخيمة للتساهل في الإخلاص

الأمر خطير -يا إخوتي في الله- كم منا من يعمل الأعمال الصالحة ولكن شوائب المراءاة، وطلب حب الظهور والشهرة، وكلام الناس وأقوالهم؛ تؤثر عليه بل قد يقرأ القرآن؛ ليري الناس حسن صوته، ويفتي ويعلم؛ ليقال فيه: عالم، وليقال فيه: ما شاء الله اطلاعه واسع، ومعرفته بالعلم عميقة، ومعرفته بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيدة، وما إلى ذلك من الأمور، أو يتعلم العلم لأجل الدنيا، يتعلمه ليكون طريقاً إلى المال والمنصب والجاه والشهرة، يتعلمه لينال به شهادة عالية، ليقال: هذا فلان بن فلان يحمل شهادة كذا، ويعمل كذا وفي منصب كذا ويتقاضى مرتب كذا! وما إلى ذلك من الأمور، فهذا على خطر إن لم يخلص أعماله لله.

فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وعلينا أن نخلص أعمالنا لوجه الله عز وجل، ما أكثر الذين يصلون؛ فإذا رآهم الناس حسنوا صلاتهم، يطمئنوا في ركوعهم وسجودهم، وكأنهم خاشعون لله بينما هم لأجل نظر فلان وبصر فلان.

ما أكثر الذين يتعلمون العلم ويطلبونه للدنيا والشهادة، والوصول إلى المنصب والجاه والشهرة، وليس معنى ذلك -يا إخوتي في الله- أن الإنسان لا يتعلم العلم ولا يحسن صلاته ولا يقوم بالعبادة الشرعية على وجهها المطلوب، ولكن عليه أن يكون كذلك دائماً وأبداً، وأن يخلص لله، فلا يغير من سلوكه إذا رآه الناس، ولا يحسن من صلاته إذا جالت أنظار الناس حوله، فلا مانع أن يأخذ الإنسان الشهادات العليا، ولا مانع أن يتعلم الإنسان ليصل إلى الوظيفة؛ ليستغلها في نفع نفسه ورعاية أسرته والتأثير في مجتمعه، ولكن حذاري أن يتسلل الشيطان إلى عملك الصالح فيفسده بمراءاة الناس وطلب سماعهم وثنائهم.

ما أكثر الذين يقومون بالمشروعات الخيرية، من بناء المساجد وتأمين السبل، والجهاد والنفقة في سبيل الله عز وجل، ولكن يطلب ثناء الناس، لتكتب أسماؤهم ولترى أفعالهم، ولتخرج أسماؤهم في الصحف والمجلات، ولتتردد أفعالهم في مجالس الناس، فإذا قصد المسلم بعمله ذلك، فهي خسارة له، وعمله لا خير فيه، بينما إذا عمل الإنسان هذه الأعمال الطيبة، وأنفق في سبيل الله، وقدم لنفسه خيراً من المشروعات الخيرية، ولكنه قصد ما عند الله، والناس يقولون ما يشاءون، ويفعلون ما يشاءون، فإذا أثنى الناس عليه مع إخلاصه لله، فتلك عاجل بشرى المؤمن، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن حذاري أن تعمل العمل لأجل الناس، أو تطلب ثناء الناس، بحيث إن لم يثنوا عليك ولم يمدحوك أعرضت عن طرق الخير؛ فهذا قدحٌ في الإخلاص عافانا الله وإياكم!

فالإخلاص يكون في العقيدة: بإخلاص العبادة لله عز وجل دون شائبة من شوائب الشرك، وصرف العمل لغير لله عز وجل.

وكذلك يكون في العبادات: في تحسين الصلاة، باتباع السنة فيها وتحسينها لكن ذلك لأجل أنظار الناس، ويكون كذلك في مظهر الإنسان وشكله، فيتزين ويتجمل ويتنظف لا لأن الدين أمره بذلك؛ ولكن ليلبس لباس الشهرة وليخرج للناس ليتحدث الناس في هندامه ومظهره، كذلك الإخلاص في العبادات المالية، فإن الشيطان كثيراً ما يدخل على الناس فيها، فالذين ينفقون في سبيل الله لكنهم ينفقون ليقول الناس: أنفق فلانٌ مليوناً، أو أنفق فلان أكثر من فلان، ثم يأتي المنفق الأول فيزيد ليقول الناس: زاد، كل ذلك وأصحابه على خطرٍ عظيم.

فعلينا أن نحذر -يا إخوتي في الله- مغبة الرياء والعمل لقصد ثناء الناس ومحمدتهم، وليلح المسلم على ربه دائماً وأبداً، أن يرزقه الإخلاص، فحريٌ بمن رزق الإخلاص أن يُوفق لخيري الدنيا والآخرة، وحريٌ بمن فقد الإخلاص أن يصاب بخسارة الدارين، عافانا الله وإياكم والمسلمين من ذلك!

متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم

أما الجانب الآخر المتعلق بهذا الموضوع المهم، فهو جانب المتابعة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد سمعتم في الآيات الكريمة التي تليت آنفاً اشتراط هذا الشرط العظيم، الذي هو المتابعة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالعبرة بحسن العمل وإخلاصه وصوابه، لا بكثرته على الجهل والضلال، ماذا يقول الله عز وجل فيمن هذه حاله؟ يقول سبحانه وتعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:1-3] لكن ما هي النتيجة؟ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:4] نعوذ بالله! عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] تجتهد في العمل، وتتعب وتنصب؛ لكن على غير هدى، على ضلالٍ مبين، على بدعٍ ومخالفاتٍ لهذا الدين، على بعدٍ عن سنة سيد الأولين والآخرين، نبينا وقدوتنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

العبادات في دين الله توقيفية

العبادات في هذا الدين توقيفية، يجب أن يأخذها المسلم من مصدريها كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فلا يزيد في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا يأتي بشيء جديدٍ في هذا الدين، فالله سبحانه يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فالدين كامل، والإسلام تام، فما علينا إلا أن نعمل بما في ديننا ونحذر من الزيادة عليه وما أكثر الزيادة التي وقع فيها كثيرٌ من المسلمين، هدانا الله وإياهم، فبضعف العقيدة، وقلة الولاء والمتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقليد أعداء الإسلام، والتشبه بهم، حصل في المسلمين مجاوزة، عن الحد المرسوم لهم، الذي يجب عليهم الوقوف عنده، امتثالاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، وهو حديثٌ عظيمٌ من قواعد هذا الدين، يقول فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } وفي رواية مسلم : {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } فكل عمل ليس عليه سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنة خلفائه الراشدين فهو مردود على صاحبه كائناً من كان.

فليسع الناس المصدر الأساسي كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أمرٍ من أمورهم، في عقيدتهم يُخلصوا لله ويتابعوا سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القولية والعملية، في عباداتهم يتبعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو القائل عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري وغيره: {صلوا كما رأيتموني أصلي } وهو القائل: {خذوا عني مناسككم }.

فالعبادات كيفيتها ومنهجها وعمل المسلم فيها يجب أن تكون على وفق السنة، فلا زيادة، ولا تشدد، ولا غلو، ولا تساهل، يجب على العباد أن يكونوا وقافين عند كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعليهم أن يسألوا ويتعلموا ويبحثوا عن هذا الأمر ليصلوا إليه.

يسألوا ما هي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام في الصلاة وما هي سنته في الحج، وما طريقته ومنهجه في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الجهاد في سبيل الله وفي غير ذلك من الأمور.

عاقبة ترك متابعة الرسول

فالمتابعة في العقيدة، والمتابعة في العبادة وفي الأخلاق والآداب والمنهج والسلوك، يجب أن تتحقق واقعاً عملياً في سلوك ومنهاج كل مسلم منا.

وإذا حصل للأمة التقصير في هذين الأمرين، فهذا والله أمارة الخسارة والدمار، وفساد العاجل، والتعرض لسخط الله عز وجل عاجلاً وآجلاً، فماذا يكون حال الأمة، وحال الأفراد والمجتمعات إذا غاب الإخلاص لله عز وجل؟! يعيش الناس على النفاق والمجاملات ، وعلى المداهنات والمراءاة، وعلى تتبع رضى الناس ومحمدتهم، وفي الحديث: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عليه وأرضى عنه الناس }.

فالإنسان بإخلاصه لله عز وجل ومتابعته لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون صلاح أمره.

وماذا تكون حال الأمة إذا عطلت سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنخرت فيها البدع والضلالات والمحدثات والانحرافات العقدية، والمخالفة لمنهج رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيزيد في هذا الدين ما ليس منه؟ وهذه خيانة للأمانة، ونسبة التقصير إلى المبلغ عن الله شرعه، نبينا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يقول الإمام مالك رحمه الله: [[ من أحدث في هذا الدين حدثاً يرى أنه حسناً فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] ]].

فالرسول عليه الصلاة والسلام؛ ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، يقول أبو ذر رضي الله عنه: [[ما مات رسول الله عليه الصلاة والسلام وطائرٌ يطير بجناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً ]] وفي الحديث الآخر: { علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل شيء حتى الخراءة } حتى ما يحتاجه الإنسان في شأن طهارته وآداب الخلاء، كل ذلك جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يزعم المحدثون في دين الله أن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يبلغ عن الله شرعه؟! أو أن هناك بدعة حسنة وما إلى ذلك من الأقاويل الأفاكة، التي لا مستند لها من كتاب الله ولا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا عمل القرون الثلاثة الخيرة، التي شهد لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح حديث عبادة : {خيركم قرني ثم الذي يلونهم ثم الذين يلونهم }.

فهذه القرون الخيرة التي سارت على نهج الكتاب والسنة، ولم تغير ولم تبدل، حتى زين الشيطان للأمة من بعدهم، واجتهد أعداء الإسلام في بث سمومهم على المسلمين، وأصبح كلٌ ينتحل منهجاً، وكل يدعو إلى فرقة، وكل يدعو إلى بدعة، وكل يدعو إلى منهج، والمنهج واحدٌ، هو منهج كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما سار عليه سلف هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم ورحمهم.

فلا يقول قائلٌ: إن هذه الأمور قد لا تكون موجودة في البيئة التي أعيش فيها، فإن المسلم مطالبٌ أن يعي واقعه الذي يعيشه، ويعلم كل ما يناقض من هذين الأمرين العظيمين: الإخلاص والمتابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن يكون على حذرٍ وفطنة.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المخلصين المتابعين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن رغب عن ذلك أكثر الناس.

نسأل الله تعالى الثبات على هذا الدين، وأن يجعلنا وإياكم من المخلصين، المتبعين للسنة، إنه جواد كريم، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

.

الدعوة إلى الله عز وجل بالأشياء المباحة

السؤال: هل من المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة الناس بالمسرحيات الإسلامية والأناشيد الإسلامية والرياضة؟

الجواب: لا ريب أنه ينبغي على المسلمين أن يهتموا كثيراً في شأن الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام في كل أمرٍ من أمورهم، والحقيقة أن هذا الموضوع موضوع خطير، وموضوعٌ مهم، وموضوعٌ لا يستغني عنه مسلمٌ أبداً، لأنه يعايش الإنسان في كل دقيقة من دقائقه، وفي كل كلمة يقولها، وفي كل عملٍ يعمله، بل في كل خطوة يخطوها، ولهذا يقول بعض السلف : "طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لله عز وجل"، أي: ما أكثر الخطوات في سبيل الشيطان، وما أكثر الخطوات التي يُظَن أنها لله وهي لغيره. عافانا الله وإياكم!

ويقول بعضهم: لا يزال الرجل بخيرٍ إذا قال؛ قال لله، وإذا عمل؛ عمل لله؛ ولهذا كان السلف رضي الله عنهم ورحمهم شديدي المحاسبة لنفوسهم في هذين الأمرين الخطيرين ؛ ولهذا يعاتب كل واحدٍ منهم نفسه: "يا نفس أخلصي وتخلصي". فينبغي علينا جميعاً ونحن نعمل الأعمال الطيبة ونعمل الأعمال الخيرة أن نخلص فيها لله عز وجل.

ما أكثر الناس اليوم الذين يعملون الخير، ويطلبون العلم، ويدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأمون بيوت الله، ويقدمون للمسلمين خيراً؛ لكن العبرة -والله- بالإخلاص وحسن العمل، فينبغي إذا استطاع المسلم ألا تخرج أموره عن سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حسناً، ولا سيما في شأن العلم والعمل والدعوة إلى الله عز وجل، وعلى الدعاة إلى الله أن يأخذوا من منهج محمد بن عبد الله عليهم الصلاة والسلام الطريق الأمثل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

لكن هناك أمور هي من الوسائل المباحة التي إن أخلص العباد فيها أعمالهم لله عز وجل أثيبوا عليها، فلم يأت في هذا الدين منعٌ منها، ولا تحذير، فهي أمورٌ مباحة إن استخدمت في الخير كانت وسيلة للدعوة إلى الله، وإن استخدمت في الشر كانت وسيلة لإبعاد الناس عن هذا الدين، وإبعاد الشباب وغيرهم عن منهج الإسلام.

فالرياضة إذا كان يقصد منها تقوية البدن، والترويح عن النفس في إطارٍ إسلامي ومحافظة فلا مانع منها، أما إذا كانت وسيلة لغير ذلك من الأمور أو تكون مدعاة لترك الصلوات، أو كشف العورات، أو ضياع الأوقات، أو ما إلى ذلك فلا خير فيها.

كذلك العمل في الدعوة إلى الله عز وجل، عن طريق نشر الكتب الإسلامية والأشرطة الإسلامية، التي فيها تعليم للعلم وفيها خطبٌ ومحاضرات وندوات ودروس، بأقوال وجهود علماء موثوقين مشهورين، فهي من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل ولا ريب، فعلى المسلمين أن يقفوا ما استطاعوا حيثما وقف عنده محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.

أما الأمور التي لم يأت في الدين تحريمها، فلا ينبغي التضييق فيها ولا كثرة الخلاف حولها، إلا إذا شغلت عن أمرٍ واجب أو كانت طريقاً إلى محرم، فينبغي البعد عنها واجتنابها.

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للزوم الكتاب والسنة في كل أمرٍ من أمورنا، في علمنا، وتعليمنا ودعوتنا وجهادنا وفي كل تحركاتنا وفي تصرفاتنا، فينبغي حتى في كل التحركات، حتى الأمور العادية ينبغي أن نخلص فيها لله، يقول بعض السلف : إني لأحسن قصدي في كل شيء، أو إني لأرجو أن يكون لي نية حسنة حتى في أكلي وشربي ونومي.

فهكذا ينبغي ألا يضيع الإنسان أي فرصة وأي خطوة ينبغي أن تكون لله، قبل أن تضع رجلاً على الأرض وترفع الأخرى يجب أن تنظر في خطواتك وحركاتك، ينبغي أن تضع هذا المؤشر وهو مؤشر الإخلاص أمام عينيك، لتعمل به، وكذلك سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ولو أن المسلمين وقفوا عند الكتاب والسنة في كل أمورهم، لكان في ذلك الخير لهم، وما جاءنا التساهل شيئاً فشيئاً عن هذا الدين إلا لما ابتعدنا عن هذا المنهج وأخذنا الوسائل التي جرتنا إلى المحرم، وكانت سبباً في إبعاد كثيرٍ من الشباب والناس عن المنهج السليم في الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولكن على الداعية إلى الله، وعلى طالب العلم أن يبذل جهده ووسعه في تحقيق الدعوة ونشرها عن أي طريق، ففي كل أمرٍ من أموره المباحة، وأموره الشرعية، ينبغي أن يستغلها في الدعوة إلى الله وعليه ألا يستقل جهده، وأن يبذل الغالي والنفيس والرخيص وكل شيء في أمر الدعوة إلى الله تعالى ما لم يكن ثمَّ محرم ومخالفة لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمور التي ذكرها الأخ لا أرى أن فيها خلافاً للسنة، فالمتابعة إنما تكون في الأمور العبادية والأمور التوقيفية.

أما الأمور التي فيها سعة فأرجو ألا حرج فيها ما لم تكن طريقاً ووسيلة إلى أمرٍ غير محمودٍ شرعاً والله أعلم.

حكم ترك العمل خوفاً من الرياء.. وعلاج الرياء

السؤال: أنا شابٌ أعمل أعمالاً صالحة ولله الحمد، وأخلص فيها لله، ولكني أخاف، ويدخل الشك في نفسي هل يقبل مني هذا العمل أم لا؟ لدرجة أني أحياناً أفكر ألا أعمل هذه الأعمال خشية أن يدخل في نيتي شيء غير الله، فماذا أعمل؟ وما هو العلاج للرياء؟

الجواب: هذا سؤال مهم والحديث فيه إشارات إلى هذا الأمر، لكني ألفت النظر -يا إخوتي في الله- إلى إن أمر الإخلاص أمرٌ دقيقٌ وخطير، وهو مدخلٌ من مداخل الشيطان على العبد، فالإنسان يريد أن يخلص لله جل وعلا، لكن يأتيه الشيطان، فمثلاً: يريد أن يصلي على وفق سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن يأتيه الشيطان فيقول له: إنك تعمل هذا العمل للناس، وإن هذا العمل قد يكون رياء وما إلى ذلك.

على الإنسان أن يعمل العمل الصالح، ولا يجعل للشيطان طريقاً إلى نفسه، عليه أن يعمل بما جاء به كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد جاء فيهما عِظم شأن الصلاة، وجاء في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيفية الصلاة، فأنت إذا أديت الصلاة على وفق السنة، فلا مجال للرياء هنا، واحذر من أن يدخل الشيطان إليك، فتترك السنة خشية أن يراك الناس، ولهذا قال الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله كلمة قيمة يقول: " ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك ".

ترك العمل لأجل الناس: أنت لا تريد أن تصلي صلاة على وفق السنة؛ لأجل أن يراك الناس فتترك السنة هذا هو الرياء بعينه.

والعمل لأجل الناس: أنك تصلي لأجل أن يراك الناس، أو يحمدوك على حسن صلاتك ، هذا هو الشرك الأصغر الذي هو الرياء، عافانا الله وإياكم، وقد يكون أكبر بحسب مراد الإنسان ومقتضيات الحال، فمثلاً حين يعمل الإنسان لغير الله عز وجل، ويعمل لأجل الناس، يعمل لأجل صاحب القبر، أو للميت أو للولي أو للنبي أو للملك أو للجان أو للسحرة أو لغيرهم، فإنه والعياذ بالله يقع في الشرك الأكبر، لأن الشرك هو صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، إذاً العمل لأجل الناس هو الشرك بالله، وترك العمل الصالح لأجل الناس رياء.

فالإنسان عليه أن يكون دقيقاً في نظراته وليجمع بين متابعة السنة والإخلاص لله عز وجل والحذر من دخول الشيطان، فإن هذا طريقٌ من طرق الشيطان ومدخلٌ من مداخله، فهكذا الإنسان عليه أن يروض نفسه على الإخلاص، وأن يجاهد نفسه في البعد عن الرياء.

والطرق التي تضمن بتوفيق الله عز وجل البعد من الرياء أولاً: الإقبال على الله، فإن العمل لأجل الله ترويض النفوس على العمل لله، فما أكثر الذين يعملون لغير الله، وما أكثر الذين يعملون للدنيا، وما أكثر الذين يعملون لمصالحهم ولشخصياتهم، ويدعون لأنفسهم ولأحزابهم وجماعتهم وما إلى ذلك، يجب أن نعمل لله، ويجب أن تكون كل أعمالنا لله عز وجل، ومحبتنا يجب أن تكون لله: {ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليهما مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله } لا تحب فلاناً لأجل منصبه، أو لأجل ثرائه، أو لأجل وجاهته، أو لأجل دنياه، أو لأجل نسبه ومكانته وشرفه، لا. بل تحبه لله، لأنه عبدٌ صالح؛ ولأنه مستقيم يعمل الطاعات ويبتعد عن المعاصي.

ثانياً: البعد عن ثناء الناس ومحمدتهم، ولتجعل ثناء الناس وسيلة، تبعاً لا أصلاً، فإذا جمعت بين الإخلاص لله وجاءك من الناس مدحٌ وثناء، فهذا من عاجل بشرى المؤمن التي يبشر بها، فأنتم شهداء الله في أرضه، ولكن لا يؤثر هذا على إخلاصك إن لم يمدحك الناس فلن تخطب ولن تقول أو تتكلم أو تنفق أو تعمل أو تتعلم أو تدعو إلى الله، لا. فالميزان دقيق.

كذلك الحذر الحذر من مصائد الشيطان، والإلحاح على الله بالدعاء أن يرزق الجميع الإخلاص، والبعد عن الشيطان ومداخله، لا بد أن ننتبه لهذه الأمور، الأخذ بعوامل الثبات على هذا الدين وتقوية الإيمان بالله عز وجل، والعمل للآخرة، ماذا يقول الله عز وجل عن المؤمنين الأوائل، الذين يطعمون الطعام: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9] الله أكبر! هذا هو منهج المؤمنين المخلصين، يعملون لله، ويعملون للآخرة.

المرائي الذي وقع في الرياء، لو استشعر عظم شأن الرياء وخطورته، وأنه قد يحبط العمل والعياذ بالله، ما موقفه؟ لو قرأ حديث أبي هريرة في الثلاثة النفر الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، ما تأثير ذلك على قلوبنا يا إخوتي في الله؟!

إذاً: يجب أن تكون العلاجات للرياء منبثقة من الكتاب والسنة، بالإخلاص لله وترويض النفس على ذلك، بالبعد عن الشيطان، بالإقبال على الله والإلحاح عليه بالدعاء، والنظر في عواقب الأمور، والتبصر في الآخرة وما أمام الإنسان، والنظر في عواقب الرياء الوخيمة التي جاء بها الكتاب والسنة، والنظر في ثمرات الإخلاص اليانعة في الدنيا وفي الآخرة، نسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم الإخلاص والمتابعة، وأن يعيذنا من الرياء والسمعة والمخالفة لسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه على كل شيء قدير.

أنواع الجهاد وأحكامه

السؤال: هذان سؤالان في موضوع واحد، الأول منهما: هل الجهاد في أفغانستان بالنفس واجب علينا؟

الثاني: هل يصح أن يقوم المسلم بالصدقات على الفقراء ومساعدة إخوانه المجاهدين في أفغانستان بمالٍ قد استلفه من شخصٍ آخر، لأن ماله قد نفد ولأنه يقوم بصرفه على أهله وعلى الفقراء والمجاهدين، لذلك يقوم بالاستلاف، وحيث أنه يطمع بالخير، بأن يساعد إخوانه المجاهدين لحاجتهم الماسة للمال، وهو يستطيع أن يسدد هذا المال من راتبه أو من رزق الله، هل تقبل صدقاته ومساعداته؟

الجواب: أما الجهاد فلا ريب أنه ذروة سنام الإسلام وعلى المسلمين جميعاً أن يبذلوا في باب الجهاد في سبيل الله ؛ ولكن ولله الحمد والمنة الجهاد بابه واسع، ونطاقه شاسع، الجهاد يشمل الجهاد بالنفس وبالمال وبالقول وباللسان وباليد وبالبيان وبالكلمة الطيبة، وبالخطبة المؤثرة، وبتعليم العلم، وبالدعوة إلى الله، وبتربية الأبناء، كل ذلك لون من ألوان الجهاد، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: إن الجهاد من حيث هو فرض عينٍ على كل مسلم. أي: ينبغي أن يقدم كل مسلم لنفسه نوعاً من أنواع الجهاد، أن يجاهد نفسه أو يجاهد بالمال، أو باليد أو باللسان أو بالنفس، على حسب استطاعته، ونحن ولله الحمد والمنة تتاح لنا كل فرص الجهاد، لكن أين الذين يجاهدون اليوم بأموالهم؟! أين الذين يتبرعون لإخوانهم المجاهدين في أفغانستان وفي غيرها من بلاد المسلمين؟! هم ولله الحمد موجودون ولكنهم قلة.

وهذا لا ينافي الإقبال ولله الحمد والمنة، أين الذي يجاهدون الآن بالدعوة إلى الله عز وجل؟! لا يخافون في الله لومة لائم، يبينون العقيدة، ويبينون العبادة والأخلاق ، ويدعون الناس إلى هذا الدين ويحذرونهم من المنكرات والمعاصي، لا يكلّون ولا يملون ولا يسأمون، بل مخلصون محتسبون صابرون، أين هم؟ أين الذين يتعلمون العلم لله؟ وهو جهاد في سبيل الله، ويبذلونه للمسلمين، أين الذين يقومون بتربية أبنائهم، وهذا لونٌ من ألوان الجهاد في سبيل الله، فإذاً علينا أن يقدم كل واحدٍ منا ما يستطيعه من ألوان الجهاد، أما الجهاد بالنفس في أفغانستان فالعلماء رحمهم الله إنما يذكرون أن الجهاد في سبيل الله إنما يكون فرض عينٍ في حالات منها: إذا استنفر إمام المسلمين المسلمين للجهاد في سبيل الله، فهنا يجب على المسلمين جميعاً أن يذهبوا إلى ساحة الجهاد والقتال.

الحال الثاني: إذا داهم العدو أرضاً من أراضي المسلمين فيجب على أصحاب هذه الأرض والبقعة أن يجاهدوا بأنفسهم، فالجهاد في سبيل الله في أفغانستان اليوم بالنفس سبقني إليه علماؤنا الأفاضل حفظهم الله ووفقنا وإياهم إلى أنه ليس فرض عين، وإنما هو فرض كفاية، ولكن الجهاد بالمال والجهاد بالدعوات الصادقة تكاد تكون فرض عين، بل هي فرض عين، وكل واحدٍ منا يقدم للجهاد في أفغانستان وفي غيره ما استطاع، لا سيما في هذا الزمن في هذه الأيام، بل في هذه الساعات، وهذه اللحظات، وصلتني تقارير وأخبار عن الوضع هناك، الوضع مأساوي جداً أعداء الإسلام من الملاحدة الشيوعيين الذين يريدون أن يستأصلوا عقيدة إخواننا، قد حشدوا جنودهم وبذلوا كافة إمكاناتهم للوقيعة بإخواننا، لا سيما وهذه الأيام تمر عليهم مناسبة مرور ثمانية أعوام، ودخول العام التاسع مما يجعل الأعداء يعدون لهذا اليوم عدته، ولكن ولله الحمد والمنة إخوانكم هناك صامدون صابرون محتسبون، لكن أين أنتم؟!

وهم كما أخذت منهم، ليسوا بحاجة إلى الجهاد بالنفس، هم بحاجة إلى دعواتكم الصادقة، ووالله إن لها أكبر الأثر في نصرتهم وتقدمهم، أن يشعر الإنسان بشعور إخوانه المسلمين في هذه الأيام، لا سيما وفصل الشتاء عندهم هذه اللحظات، خمسة عشرة درجة تحت الصفر، ويحتاجون إلى البطانيات ليلتحفوا، وكم أناسٍ أصبحوا قوالب ثلجية، وأخبرت بأخبارٍ من ثقات، أن بيوتاً بأكملها تموت أسرها متجمدة ليس عندها ما يسد عورتها أو ما يساهم في رد شدة البرد عنها.

أين الجهاد بالأموال؟! هم يريدون الآن ولو بطانيات، لكن ماذا قدم المسلمون؟

وبهذه المناسبة أدعو الجميع إلى مساعدة إخوانهم فإنهم بحاجة والله اليوم إلى أقل القليل، فلا يحقر كل واحد منكم ما يقدم ومن كان عنده رغبة في شراء بطانيات لإخوانه المسلمين فليجمعها في هذا المسجد، وليتصل الإخوة المسئولون في هذا المسجد بمكتب رابطة العالم الإسلامي في هذه المدينة والرقم موجود ليأخذوها وليحملوها ليسارعوا لإعطائها إخواننا هناك، خمسة عشر درجة تحت الصفر، نحن اليوم درجة الحرارة عشرين ومع هذا تجد كل واحد منا يلبس ما شاء الله من الثياب، فكيف بحال إخوانكم الذين هناك؟! لا يجدون ما يستر عوراتهم في فصل الشتاء البارد، ونحن نتقلب على البطانيات الوفيرة والفرش، حقيقة الحال يبكي، وهذا الاستطراد بسبب ما أثاره الأخ جزاه الله خيراً عن موضوع الجهاد، ولكن ينبغي الإخلاص، من يُنفق ينفق لله، لا ليقال منفق، وليس معنى هذا أن الإنسان يأتيه الشيطان فيقول: لا تنفق لأجل أن يراك الناس، فكما قلنا: ترك العمل لأجل الناس رياء، فاعمل الصالحات ولكن أخلص لله عز وجل، وأنفق يابن آدم يُنفق عليك؛ ولكن أنفق لله عز وجل.

حقيقة أنا أدعو إلى الوقوف يداً واحدة لا سيما هذه الأيام، الوضع خطير لا يسكت عليه، ولا يمكن أن يكون هناك إنسان يتحرك فيه شعور الإيمان، تتحرك فيه الغيرة ورابطة الأخوة في الله، ينام، يتذكر كل واحد منكم إذا وضع البطانية على وجهه وجسده.

نسأل الله عز وجل أن يقوم بنصرة إخواننا هناك إنه على كل شيء قدير.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإخلاص والمتابعة للشيخ : عبد الرحمن السديس

https://audio.islamweb.net