إسلام ويب

إن الحسنة لها نور في القلب، وضياء وإشراق في الوجه، وقبول في قلوب الخلق، والسيئة لها وحشة في القلب، وتورث صاحبها الذل، وتجعل الشيطان يتسلط على ابن آدم، وإن مما ينبغي أن يعيه المسلم التسليم الكامل لله تعالى، وأن يخضع عقله لشرع الله، سواء في مجال الأمور المادية، أو الحلال والحرام، أو الصفات والغيبيات.

خروج الخطايا من أعضاء المتوضئ

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا زلنا نتدارس الباب الثاني من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه رحمة رب العالمين، وعنوانه: باب ما جاء في فضل الطهور. وقد ساق الإمام الترمذي الحديث من طريق شيخيه: إسحاق بن موسى الأنصاري ، وقتيبة بن سعيد إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب)، قال أبو عيسى رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح.

وكنا نتدارس المسألة الثانية من المبحث الثاني الذي دار حول فقه الحديث وبيان معناه، وقلنا: في ذلك مسألتان:

المسألة الأولى: في تكفير الطاعات للسيئات. وفصلت الكلام على ذلك فيما تقدم.

والمسألة الثانية: في كيفية خروج الخطايا من أعضاء المتوضئ عندما يتوضأ.

وهذه المسألة الثانية في المبحث الثاني تدارسنا شيئاً منها وتحتاج إلى تكميل هذا الحديث لننتقل بعده إلى الباب الثالث بإذن الله جل وعلا.

تقدم معنا أن المعنى الحق لكيفية خروج الخطايا الذي دلت عليه الأدلة وشهدت له، أنه خروج حسي لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد يدركه أهل الأحوال وأرباب البصائر.

وقلنا: دل على هذا أمور كثيرة، فالمعاصي لها أثر في الظاهر وفي الباطن على الإنسان.

فأما أثرها في الباطن فقد صرح به نبينا عليه الصلاة والسلام، وذكرت الحديث الصحيح وبينت من خرجه: (إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء)، فهذا أثر حقيقي في الباطن (فإذا تاب واستغفر ونزع صقل قلبه، وإن زاد زادت النكتة حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )، فهذا السواد وهذه النكتة تغطي القلب بحيث يصبح القلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذاً: زادت هذه النكت في قلبه بحيث عمت قلبه وغطته.

وأما أثرها في الظاهر، فقد ذكرت أيضاً الحديث الصحيح المتعلق بالحجر الأسود، وأنه عندما نزل من السماء من الجنة كان أبيض من اللبن، وإنما سودته خطايا بنو آدم، وبينت من خرجه.

وهناك قولان آخران في بيان معنى الحديث ينبغي أن نحكم عليهما بالهجران والبطلان، ولا يجوز أن نعول عليهما أبداً.

أولهما: أن هذا من باب الكناية والإشارة إلى مغفرة الذنب دون خروج شيء محسوس من أعضاء المتوضئ؛ لأن الذنوب على هذا القول ليست حسية بحيث تدخل وتخرج وتعلق بالبدن وتزول عنه، فهي شيء معنوي، فهذا كناية عن المغفرة، وقلت: هذا قول باطل، يكفي أنه خلاف ظاهر الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

والقول الثاني: أن هذا الخروج حقيقة، لكن مع إثبات عالم الإنسان، فهذه الذنوب وهذه الأشياء المعنوية لها جرم وجسم وحجم وحيز وشكل، لكن في عالم الإنسان، وقلت: إثبات هذا العالم يحتاج إلى دليل، وناقشت هذين القولين وأبطلتهما.

وسأزيد القول الأول بشيء من التقرير، ثم ننتقل إلى المعالم الثلاثة المتعلقة بهذا البحث، ومن أجلها تكلمت على هذه القضية، من أجل أن نثبت هذه المعالم في مثل هذه الأمور، وما موقف العقل في هذه الأشياء وما يشبهها؟ وما هو مجال العقل؟ ومتى ينبغي أن يعزل العقل عن البحث؟

ظهور الآثار الحسية للطاعات وأدلة ذلك

إن القول: بأن هذه الذنوب لها آثار حسية على البدن وعلى القلب، على الظاهر والباطن، هذا القول هو الحق، وتقرره أدلة كثيرة وفيرة، وتقدم الإشارة إلى شيء منها في أول مدارستنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وفضل مدارسته، وذكرت أن أهل الحديث هم أشد الناس بهجةً وإشراقاً في وجوههم، فإذا نظرت إليهم تستأنس بسبب دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لهم، فالطاعات لها آثار حسنة ظاهرة على البدن، كما أن الذنوب لها آثار سيئة على البدن فضلاً عن الآثار على القلب التي هي آثار باطنة لا ترى.

الدليل الأول: حديث: (نضر الله امرأ سمع مقالة فوعاها...)

وتقدم معنا الحديث: (نضر الله امرأ سمع مقالة فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، ولا أريد أن ذكر تخريج هذا الحديث، فقد تقدم معنا مطولاً مفصلاً عند فوائد دراسة الحديث الثلاث، وبينت طرق من خرجه، وبينت أنه حسن في درجة المتواتر أعلى درجات الصحة.

إذاً: (نضر الله امرئً)، من النضرة والنضارة وهي الذهب، أي: كسا الله حامل هذا الحديث الشريف نضرةً وبهجةً وإشراقاً وسروراً وضياءً ونوراً في وجهه في الدنيا وفي الآخرة، وهذه المنقبة موجودة لأهل الحديث في الدنيا، وستكون لهم في الآخرة بإذن ربنا جل وعلا، فهم أولى الناس بقول الله جل وعلا: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، بأن يكون إمامهم المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، وإن لم يصحبوا نفسه، أنفاسه صحبوا.

الدليل الثاني: أثر: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)

الأثر المشهور الذي أريد أن أنبه عليه حيث معناه صحيح وليس من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، ولفظه: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.

إذاً: حسن حسي وإشراق، وهذا الكلام رفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام من قبل عدد من الأئمة الكرام، وهم واهمون في ذلك، وأئمتنا مثلوا بهذا الحديث في مبحث الحديث الموضوع، ويسمى حديثاً بناءً على زعم قائله، وليس هو بحديث من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، بل وضع دون قصد الواضع، وإنما أخطأ فيه وظنه حديثاً وليس بحديث، والقصة التي جرت حول هذا الحديث كانت لـشريك بن عبد الله النخعي رحمه الله.

وهذا الحديث رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الجزء الأول صفحة واحدة وأربعين وثلاثمائة، وفي الجزء الثالث عشر صفحة ست وعشرين ومائة، وروي في سنن ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب في قيام الليل، رقم الحديث: ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون، ورواه ابن حبان في كتاب المجروحين.

وإسناد الحديث: عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع الواسطي ، وهو صدوق أخرج حديثه أهل الكتب الستة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وبينما شريك يحدث دخل ثابت بن موسى الضبي المكنى بـأبي يزيد الكوفي ، توفي سنة تسع وعشرين ومائتين، أخرج حديثه ابن ماجه فقط دون من عداه من أهل الكتب الستة، وهو ضعيف في الحديث، لكنه صالح عابد قانت، أي: ضعيف في حفظه، لما دخل ثابت بن موسى الضبي على شريك وهو يحدث بهذا الحديث، نظر شريك إلى وجه ثابت فوجده كالقمر ليلة البدر، وقال: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا المتن هو لذلك الإسناد، فكان يحدث به عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، لكن شريكاً لم يقصد أن هذا الكلام من كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو قطعاً كان يحدث بحديث آخر عندما قال عن جابر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل ثابت بن موسى الضبي ووجهه يتلألأ نوراً من قيامه وقنوته وعبادته، فالتفت إليه شريك فقال هذه الجملة: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا الكلام هو متن ذلك الإسناد، وأنه من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا كما قلت: مثل به أئمتنا للحديث الموضوع من غير قصد، إنما معناه صحيح من كلام هذا العبد الصالح: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وليس المراد من الحسن تغير البشرة، يعني: من سواد إلى بياض، من سمرة إلى شقرة، لا؛ إنما ترى بهاء، ترى إشراقاً، ترى نوراً، بحيث إذا نظرت إلى الوجه تتفاءل، وتشرق نفسك، وتبتهج، وتستريح، وبعض الناس -نعوذ بالله منهم- يصبح خبيث النفس كسلان، إذا نظرت إليه لا سيما في الصباح تستعيذ بالله من هذا المنظر عندما تنظر إليه، مع أنه قد يكون في منتهى البياض والشقرة، فهنا تستأنس وهناك تنقبض، من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.

كما قلت: هذا من أنواع الموضوع الذي لم يقصد ومعناه صحيح، وأئمتنا نبهوا عليه عند بحث الحديث الموضوع، وبعض إخواننا من طلبة العلم ألح علي كثيراً إذا ذكرت شيئاً يتعلق بقواعد المصطلح، ومن نظم الألفية أن أذكر الأبيات المتعلقة بهذه القصة ليضبطها، وهو في الحقيقة يطلب شيئاً في محله؛ لأن الطباعة التي طبعت بها الألفية سواء بشرحها أو بدون شرحها هي شر الطبعات، وعندما يقرأ هذا الأخ الكريم يقول: أنا لا أستطيع أن أقرأ فيها، وأطرحها من يدي لسوء طباعتها؛ لأن الأبيات مكسرة فيها، وجمل متداخلة ببعضها فلا تضبط، والأبيات عندما تقال بطبيعتها لها حلاوة وعذوبة وترسخ في الذهن، وإذا كسرت وتلوعب فيها وحصل خطأ في ضبطها يكون للنفس نحوها نفور.

الإمام العراقي أشار إلى هذا النوع من الوضع عند مبحث الحديث الموضوع فقال عليه رحمة الله:

شر الضعيف الخبر الموضوعالكذب المختلق المصنوع

وكيف كان لم يجيزوا ذكرهلمن علم ما لم يبين أمره

يعني: لا يجوز أن تذكر الحديث الموضوع لا في الأحكام ولا العقائد ولا في الترغيب والترهيب، وإذا ذكرته فحذر الأمة منه، وبين لهم أن هذا موضوع وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

وأكثر الجامع فيه إذ خرجلمطلق الضعف على أبا الفرج

وأكثر الجامع، أي: الذي جمع في الأحاديث الموضوعة، وهو شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله، أكثر في كتابه الموضوعات الذي هو في ثلاث مجلدات من الأحاديث الموضوعة، وبعضها لا تصل إلى الوضع، إنما غاية ما تكون ضعيفة، بل فيها ما هو حسن، بل فيها ما هو صحيح في صحيح مسلم ، فوهم ابن الجوزي وحكم عليه بالوضع، توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة للهجرة، عليه رحمة الله.

وأكثر الجامع فيه إذ خرجلمطلق الضعف على

من على؟ هو ابن الصلاح ؛ لأننا قلنا كما تقدم معنا: ضمير الغيبة إذا جاء فيراد به ابن الصلاح ؛ لأن العراقي نظم مقدمة ابن الصلاح في ألفيته، يعني: قال ابن الصلاح : أكثر الإمام ابن الجوزي في موضوعاته من ذكر الموضوع بما كان ضعيفاً ولم يصل إلى الوضع، على، أي: على ابن الصلاح بهذا القول أبا الفرج ابن الجوزي عليهم جميعاً رحمة الله.

قال العراقي :

والواضعون للحديث أضربُأضرهم قوم لزهد نسبوا

(أضربُ) أي: جماعات وأقسام.

قد وضعوها حسبةً فقبلتمنهم ركوناً لهم ونقلت

يعني: شر الموضوع ما كان من قبل المشايخ الصالحين الزهاد الذين وضعوها حسبةً، أي: تقرباً إلى الله على زعمهم، زهد لكنه لم يبن على استقامة وعلى التزام.

وقبلت منهم ركوناً لهم ونقلت، أي: قبلت منهم؛ لأن الناس يركنون إليهم لزهدهم وعبادتهم وصلاحهم، ولم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، كما في مقدمة صحيح مسلم ، والكلام يحمل على: أمرين:

الأمر الأول: قد يكونون صالحين حقاً وصدقاً ولكنهم يكذب عليهم الكذاب فيروون كذبه بظنهم أنه صادق، وأن الإنسان لا يمكن أن يكذب، وهذا غفلة في هؤلاء الصالحين.

والأمر الثاني: أنهم زهاد وفيهم صلاح في الظاهر، ولكنهم يكذبون على خير البرية عليه الصلاة والسلام تعمداً بتأويل خاطئ؛ ليرغبوا الناس في الدين، لا ليشينوا الدين.

إذاً:

والواضعون للحديث أضربأضرهم قوم لزهد نسبوا

قد وضعوها حسبةً فقبلتمنهم ركوناً لهم ونقلت

فقيض الله لها نقادهافبينوا بنقدهم فسادها

نحو أبي عصمة ..

هذا من العباد الصالحين، وكان قاضي مرو، يقول أئمتنا: جمع كل شيء إلا الصدق.

نحو أبي عصمة إذ رأى الورىزعماً نأوا عن القران فافترى

لهم حديثاً في فضائل السورعن ابن عباس فبئسما ابتكر

نوح الجامع أبو عصمة وضع حديثاً في فضل كل سورة من القرآن من أولها إلى آخرها، من أول القرآن إلى آخره، من قرأ سورة الفاتحة فله كذا، ومن قرأ سورة البقرة فله كذا، ومن قرأ سورة آل عمران فله كذا، فقيل له: من أين لك هذا عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، والناس لا يروون هذا عن ابن عباس ؟

قال: عملته من نفسي لكي أرغب الناس في قراءة القرآن فقط.

ثم الحديث عن أبي اعترفراويه بالوضع فبئسما اقترف

وكل من أودعه كتابهكالواحدي مخطئ صوابه

ثم يقول العراقي بعد هذه الأبيات مباشرةً:

وجوز الوضع على الترغيبقوم ابن كرام وفي الترهيب

أتباع محمد بن كرام السجستاني الذي انتقى من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها كما قال أئمتنا، ولد سنة خمس وعشرين ومائتين للهجرة، وله أتباع يسمون بالكرامية، يرون التدين بوضع الأحاديث على خير البرية عليه الصلاة والسلام، لكن في ترغيب الناس في الإسلام لا في ذم الإسلام.

وجوز الوضع على الترغيبقوم ابن كرام وفي الترهيب

انتبه لمحل الشاهد:

والواضعون بعضهم قد صنعا.

يعني: صنع الكلام من نفسه واخترعه.

من عند نفسه وبعض وضعا

والواضعون بعضهم قد صنعامن عند نفسه وبعض وضعا

كلام بعض الحكماء في المسند...

يعني: جاء لجملة كلام من الحكمة فجعلها حديثاً، إما أن يضع هو من عنده شيئاً، وإما أن يأتي بحكمة يتناقلها الناس كقول طبيب العرب، ونسب بعد ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام وليس بحديث: المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء، فهذا من كلام الحارث بن كلدة ، وهي حكمة لكن نسبتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام لا تصح، فبعضهم وضع من عند نفسه، وبعضهم أتى لحكمة وركب لها إسناداً وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والواضعون بعضهم قد صنعامن عند نفسه وبعض وضعا

كلام بعض الحكماء في المسندومنه نوع وضعه لم يقصد

نحو حديث ثابت من كثرتصلاته الحديث وهلة سرت

إذاً:

ومنه نوع وضعه لم يقصد...، نحو حديث ثابت من كثرت...

أي: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقوله: الحديث، يعني: أكمل الحديث.

وقوله: وهلة سرت، يعني: غفلة من ثابت فظن هذا الكلام هو نفس ذلك الإسناد، فكان يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فسرت غفلة عليه وعلى من بعده وتناقلوه على أنه حديث وليس بحديث، إنما هو من كلام شريك بن عبد الله رحم الله أئمتنا أجمعين.

كما قلت: هذا ليس بحديث، وهذا الذي مال إليه وذكره وحققه أئمتنا الجهابذة النقاد كـابن عدي ، والدارقطني ، والعقيلي ، وابن حبان ، والحاكم ، وهكذا السخاوي وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله، وقد انفرد صاحب كتاب الشهاب وعمل له بعد ذلك مسند الشهاب، وأورد فيه ألفاً وأربعمائة وتسعةً وتسعين حديثاً، يعني ألف وخمسمائة إلا حديثاً، أوردها مجردة بدون إسناد، ثم ساق أسانيده لهذه المتون، وهو محمد بن سلامة -بفتح السين- ابن جعفر أبو عبد الله ، كان قاضياً في بلاد مصر، توفي سنة أربع وخمسين وأربعمائة للهجرة، وهو مشهور بالإمام القضاعي صاحب كتاب الشهاب، وهو متن مجرد دون إسناد، ومسند الشهاب أسانيد لهذه المتون.

يقول في هذا الكتاب -صفحة اثنتين وخمسين ومائتين- وذكر الأثر: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وساقه بأسانيد ثم تكلم كلاماً باطلاً مردوداً، يقول: وما طعن أحد منهم -يعني من المحدثين- في إسناده ولا في متنه، وقد أنكره بعض الحفاظ -انظر للتناقض، كيف تقول: ما طعن أحد في إسناده ولا في متنه ثم تقول: وقد أنكره بعض الحفاظ؟!- وقال: إنه من كلام شريك بن عبد الله ، ونسب الاشتباه فيه إلى ثابت بن موسى الضبي ، يعني: اشتبه عليه الأمر، فـثابت كان يرويه على أنه حديث وهو من كلام شريك ، ثم قال: وقد روي لنا هذا الحديث من طرق كثيرة وعن ثقات غير ثابت بن موسى ، وعن غير شريك .

ثم ساقه من طرق مسروقة من بعض الوضاعين سرقوها من طريق ثابت وركبوا لها أسانيد إلى غير جابر بهذا الإسناد إلى أنس وغيره، لكن كلها لا تصح ولا تثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.

فإن قيل: كيف قال الإمام القضاعي هذا؟

التمس أئمتنا له عذراً كما قال السخاوي في فتح المغيث في الجزء الأول صفحة سبع وأربعين ومائتين، يقول: ظن القضاعي صحة الحديث لكثرة طرقه وهو معذور؛ لأنه لم يكن من الأئمة الحفاظ، وليس من أهل هذا الفن بالاصطلاح الدقيق، فظن أن هذه الطرق إذا جاءت من طرق متعددة وفيها كذاب ووضاع وفيها من وهم بهذا الحديث دون قصد بوضعه، ظن أنها تتقوى، وفي الحقيقة لا تتقوى ولا تنجبر بحال.

قال السخاوي : هذا الكلام باطل -أي: كلام القضاعي : أنه ما طعن أحد من الحفاظ في إسناده ولا في متنه- هذا كلام باطل، ولا اعتداد بما يخالف هذا، ثم قال: نعم يعرف معنى هذا الأثر أيضاً من كلام الحسن البصري ، يعني: هو ثابت عن شريك ، وثابت عن الحسن البصري أنه قيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بربهم فألبسهم من نوره، والأثر رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.

خلاصة الكلام: إن الطاعة لها أثر ظاهر وباطن على الإنسان، فيتنور ظاهره، ويصبح له بهجة وإشراق ونور وضياء، ويتنور قلبه، ولذلك قال العبد الصالح سليمان التيمي الذي توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة للهجرة، وهو من رجال الكتب الستة، وكان شيخ الإسلام في زمنه، كما نعته الذهبي ، وهو القائل: إذا رأيت الرجل يتهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه، ومن الطرائف الطريفة اللطيفة أنني ذكرت هذا الأثر من قريب في بعض المواعظ ولعله في خطبة الجمعة، فكان بعض الحاضرين يستمع هذا الكلام فاشتبه عليه المعنى، ففي اليوم الثاني جاء بعض الإخوة وقد تأخر عن صلاة الفجر، وما أدرك تكبيرة الإحرام، فجاء ليصافحه فصافحه وذهب وغسل يديه، قال: لأنه سمع الشيخ يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه. وليس كما فهم، بل يعني: لا تشد يدك به ولا تعول عليه، أي: أنه متساهل لا يعول عليه، فظن أن المراد غسل اليدين إذا صافحت من لم يدرك تكبيرة الإحرام.

سليمان التيمي كما في حلية الأولياء، في الجزء الثالث صفحة ثلاثين، ونقله شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم -عليهم جميعاً رحمة الله- وردداه بكثرة، كان يقول: الحسنة نور في القلب وقوة في العمل، والسيئة ظلمة في القلب وضعف في العمل.

إذاً: هنا قوة ونور، وهناك ظلمة وفتور، وكان يقول كما في سير أعلام النبلاء، والأثر في الحلية وغيره أيضاً: إن العبد ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته. إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:152]، وهي لكل مبتدع إلى يوم القيامة: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]، فكل مفتر كذاب، وكل مبتدع ضال عليه أثر الذل، وعليه أثر الظلمة في حياته وبعد مماته.

ظهور الآثار الحسية للسيئات والمعاصي وأدلة ذلك

إذاً: الحسنة لها أثر في البدن وفي القلب، في الظاهر وفي الباطن.

وهكذا السيئة، فهناك آثار حسية قلنا: يدركها أهل البصائر وأرباب الأحوال، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]. وهناك آثار بعد ذلك باطنية خفية على القلب على الظاهر وعلى الباطن.

وقد ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن الترمذي فهو في الصحيحين والسنن الثلاثة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم)، والقافية هي مؤخرة الرأس، (على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على مكان كل عقدة فيقول: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها -انتبه- فأصبح نشيطاً طيب النفس).

إذاً: حصَّل الخيرين: النشاط في الظاهر والبدن، وطيب النفس ونور القلب، وإن نام حتى طلع عليه الفجر -ليس طلعت الشمس- وما استيقظ، يعني نام كالجيفة إلى أن أدركه الفجر، (وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).

إذاً: في نفسه هذا الضنك وهذا القذر، وفي بدنه هذا الفتور وهذا الإعياء وهذا التعب، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فآثار حسية، وآثار معنوية للطاعة والمعصية، (أصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).

وقد بوب عليه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التهجد ليشير به إلى قيام الليل، وقال: باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل، فإن قيل: إن الشيطان سيعقد إذا صليت وإذا لم تصل؟ نقول: مقصود الإمام البخاري بهذا: أنك إذا صليت بالليل أزلت العقد التي عقدت على قافيتك، وإذا لم تصل فهذه العقد تبقى، ويعني بأن هذه العقد على كل نائم، لكن إن صليت تزول وإلا تبقى.

قال الحافظ في الفتح: وقد أخرج محمد بن نصر -في كتاب قيام الليل- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه من قوله، والأثر له حكم الرفع، قال: حسب الإنسان من الخيبة والشر أن ينام حتى يصبح -يعني: يدخل الصباح بطلوع الفجر- وقد بال الشيطان في أذنيه.

وهذا الأثر الذي له حكم الرفع روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام مرفوعاً بأصح إسناد وفي أثبت الكتب بعد كتاب الله، رواه الشيخان في الصحيحين، والنسائي في السنن، وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح -طلع عليه الفجر وهو نائم- فقال: ذاك إنسان بال الشيطان في أذنه -وفي رواية-: في أذنيه)، بالإفراد والتثنية.

ورواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بالإفراد: (ذاك إنسان، ذاك رجل بال الشيطان في أذنه).

إذاً: هنا حصل أيضاً عقد، وحصل بول في أذن من لم يستيقظ حتى طلع الفجر، وبوب عليه الإمام البخاري باباً في كتاب التهجد فقال: باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه.

وقد أخرج سعيد بن منصور بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال -وهو موقوف عليه من قوله-: ما أصبح رجل على غير وتر إلا أصبح على رأسه جرير طوله سبعون ذراعاً.

جرير، أي: حبل طويل يعقده الشيطان عليه طوله سبعون ذراعاً.

وهذا كله -كما سيأتينا- الضابط له ولأمثاله: أن نؤمن به ونثبته على حقيقته دون البحث في كيفيته، ولذلك عندما ذكر أئمتنا: (بال الشيطان في أذنيه في أذنه)، قال الإمام أبو العباس القرطبي في المفهم في شرح صحيح مسلم : هذا البول محمول على الحقيقة ولا مانع منه، ولا إحالة فيه، وإذا ثبت أكل الشيطان وشربه فما المانع أن يبول؟ نام حتى الفجر جاء الشيطان وبال في أذنيه، لم لم يقل: في عينيه؟

لأن الأذن هي التي يتعلق بها السمع والاستيقاظ، فأنت إذا سمعت تستيقظ والعينان تتفتح، وإذا كنت خاملاً كسولاً فالعينان تتبعان الأذنين، فلذلك بال في أذنه، وهل هذا على الحقيقة؟

هذا كقوله هنا: خرجت خطاياه من وجهه ومن يديه على الحقيقة، بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، أما الذين قالوا: الحقيقة ليست مرادة، فانظر للتخبط الذي ذكروه، فبعضهم قال: هذا كناية عن سد الأذنين بالنوم، وثقل الإنسان إذا نام.

وبعضهم يقول: هذا كناية عن أن الشيطان ملأ مسامع الإنسان بالباطل وشغله عن الحق.

وبعضهم يقول: هذا كناية عن ازدراء الشيطان للإنسان واحتقاره له كأنه بال به.

وبعضهم يقول: استولى عليه واستخف به وجعله كالكنيف الذي يقضى فيه الحاجة.

وبعضهم يقول وهو خامس الأقوال: هذا مثلٌ للغافل، أي: من كان غافلاً يضرب به المثل؛ لأنه وقع عليه بول والشيطان بال عليه، حسناً: ما الدليل على هذا؟ ولماذا التشتت والخلاف؟ ولم كل هذه الأقوال؟ ولا داعي لهذا، بال الشيطان في أذنيه: البول معروف، وبال: معناها معروف، والأذن: معروف معناها وانتهى الكلام، وأي مانع من حمل الكلام على حقيقته؟! هل نحن بعد ذلك بحاجة حتى نأتي بهذا الفضول المردود؟!

وقوله: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم)، عقد في مؤخر الرأس على الحقيقة كما قال أئمتنا، وأما ما قيل: إنه مجاز عن التصديق فكلام باطل.

وما قيل: إن المراد من العقد وسوسة الشيطان للإنسان لكثرة الأكل والشرب والنوم، هذه العقد الثلاث، يأكل كثيراً، يشرب كثيراً حتى ينام كثيراً؛ لئلا يستيقظ، ولئلا يتوضأ، ولئلا يصلي، هذا كله كلام باطل، والأحاديث ينبغي أن تحمل على ظاهرها.

خلاصة الكلام: ما تقدم من قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (خرجت خطاياه من وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، خرجت خطاياه من يديه مع الماء أو مع آخر قطر الماء)، محمول على الحقيقة، ولا داعي للقول: بأن هذا مجاز عن المغفرة، ولا داعي للقول: بأن هذا حقيقة وهناك عالم آخر للإنسان... إلخ.

دور العقل في الأمور المادية والبحثية

بعد هذا عندنا ثلاثة معالم ينبغي أن ننتبه لها غاية الانتباه في مثل هذه المباحث، وفي وظيفة العقل في هذه الحياة.

المعلم الأول: إن هذا العقل وظيفته ومجاله أن يبحث في الأمور المادية ليقرر ما يتوصل إليه من نتائج، كما يكون في علم الطب والجيولوجيا والهندسة والرياضيات وما شاكل هذا من الأمور التي تبحث فيها بعقلك وتصل إلى نتائج، عندما تبحث في هذا الكون وأنت مأمور بالبحث، لكن هذا البحث تفتتحه باسم الله، وعندما تبحث تستعين بذلك على تقوية الإيمان، ثم إن هذه الأبحاث لابد أن تحصلها بطريقة شرعية، فما كان كذلك لا حرج فيه، بل أنت مأمور به في هذه الأمور المادية، فكلما أمكنك أن تبحث وأن تتوصل إلى نتائج فهذا أحسن لك، وهذا هو وظيفة عقلك، والعقل يكدح في هذه الأمور ويتوقف.

لكن كما قلت: غاية ما يصل إليه العقل كيف تعمل الأشياء دون إدراك حقيقتها، فلا يعلم حقيقة الأشياء إلا رب الأرض والسماء، فأنت غاية ما عندك أن تبحث وتثبت أن اللسان فيه كذا حليمة ذوقية لتمييز الطعوم من بعضها، وأن هذا اللسان اختص بهذه الحليمات، هذا مجال بحثك، أما كيف يعمل اللسان؟ وكيف يذوق؟ فحقائق هذه الحليمات الذوقية التي جعلها الله في هذا العضو هذا مما استأثر الله بعلمه.

والجاذبية الموجودة في هذا العالم علويه وسفليه، والتي بها انتظم هذا الكون، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41]، بإمكانك أن تقرر الجاذبية وأن تصل إليها، وأنها موجودة، وأن الكون يسير بدقة وانتظام لوجود هذا النظام فيه، وعرفت كيف تعمل، ووصلت إلى آثارها، لكن ما هي الجاذبية؟

أنت وغيرك عاجزون عن إدراكها، فالجاذبية في الحقيقة هي العبودية لرب البرية، عبودية المخلوقات العلوية والسفلية بأسرها لمن خلقها، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، هذه عبودية جعلها الله نظاماً في هذا الكون، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، فحقيقة هذه الجاذبية مما يقف عنده العقل البشري عاجزاً، ويقول: لهذا الخلق خالق استأثر بإدراك سر هذه الأشياء والإحاطة بها، وهو الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

فأنت غاية ما عندك أن تثبت مشاهدات، وأن تعرف كيف يعمل خلق الله الذي خلقه وأوجده في هذا الكون، لكن إدراك حقيقته وكنهه لا تستطيعه، وبإمكانك أن تبحث في عمل الروح في البدن، ومتعلقات الروح بالبدن في حال اليقظة، وفي حال النوم، وفي حال وجود الروح، وفي الجنين إذا كان في بطن أمه، كل هذا ممكن أن تبحث فيه وأن تصل إليه، أما كيف تتصل الروح بالبدن؟ وما حقيقة الروح؟ وما ماهية ذلك الاتصال؟

هذا كله أنت خارج عنه، غاية ما قلنا: تثبت مشاهدات لهذا المخلوق ولهذا الشيء، لكن إدراكه بحقيقته وكنهه من جميع الوجوه هذا ليس في وسعك ولا في وسع أحد من خلق الله جل وعلا.

وأنت عندما تتوصل إلى ما تتوصل إليه من نتائج، وقد تكون هذه النتائج قاصرة، ويأتي من بعدك ويكمل هذا، عندما يبحث الآن علماء الفيزياء في تركيب الأشياء والإلكترونات التي فيها يحار عقل الإنسان؛ يحار ليسلم بعجزه إلى الرحمن جل وعلا، لا ليتعالى بعد ذلك على الله ويهذي هذيان المجانين، ويقول: هذا الكون كيف وكيف.

حقيقةً: إن تأمل الإنسان لهذا الكون وما فيه من دقة وإحكام، مما أوجبه ربنا الرحمن، ثم إن الإنسان يحار، وهو عن إدراك -كما قلت- الكنه عاجز، فالواجب عليه أن يثبت المشاهدات، ويتوصل إلى النتائج التي أداه إليها عقله بواسطة ما قام به من تجارب.

دور العقل في مجال الحلال والحرام

المعلم الثاني: إن مجال الحلال والحرام، والفضيلة والرذيلة، والحق والباطل، وسلوك الإنسان من خير أو شر، وأفعاله التي ينبغي أن تضبط من حسن أو قبيح، هذا كله لا مجال للعقل فيها، إنما الذي يأتي بها هو الشرع المطهر كما تقدم معنا تقرير هذا في المواعظ العامة، وقلت: لا بد من ضابط لسلوك الإنسان، ولا بد من ميزان ومقياس، ولا بد من قاعدة نرتكز إليها في هذه الحياة، وهذه القاعدة والضابط والميزان ينبغي أن تكون مأمونة لا تخطئ، ولا يتصور وجود خطأ فيها، وليس هذا إلا في الوحي الذي نزل على أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

إذاً: إن هذه الأمور التي ترتبط بالخير المطلق والشر المطلق، والعقل عن إدراكها عاجز، لو تركت هذه الأمور لعقول البشر لكنا نخوض فيها بالظن والوهم، وسوف نختلف بعد ذلك اختلافاً لا نهاية له، ولتعددت الأحكام على الأشياء خيراً وشراً، رذيلةً وفضيلةً بمقدار تعدد العالم، ولذلك من رحمة الله بعباده أنه ما وكلهم إلى عقولهم في هذه القضية، وهذا هو تحقيق قول الله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، عليه صلوات الله وسلامه.

حقيقةً: لو سلمنا للوحي، والتزمنا بالشرع، ما خبطنا بالظن والوهم في حياتنا، ثم بعد ذلك ما اختلفنا فيما بيننا، وأما إذا لم نرجع في هذا الأمر إلى الوحي فإننا سنقع في خبط وظن واختلاف لا نهاية له، فمثلاً: الزنا لو تركته لعقول البشر، فهذا يقول: مباح، وهذا يقول: أنت تفعل فضيلةً إذا عملته، وعندما تزني بامرأة وتعطيها دريهمات أنت أحسنت إليها وتصدقت عليها من جهتين: من جهة قضت شهوتها، ومن جهة ساعدتها، وواحد من الناس يقول: رذيلة وحرام تنتشر بسببها الأمراض، هذه هي عقول البشر، وهذا هو الموجود في زماننا عندما انحرف الناس عن الوحي، ولعله بالمائة ليس تسعين، بل يكون خمسة وتسعون من عداد البشرية يرون -الآن- أن الزنا لا منقصة فيها، وأنه إذا وقع عن طريق التراضي فلا حرج، وإنما الحرج إذا وقع باغتصاب حرية الإنسان، وهذا الذي عليه الناس في البلاد الكافرة من شرقية وغربية، هذا الذي هو منقصة ومذمة، والله يقول عنه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، جاءت العقول البشرية في هذه الأيام فاستحسنت ليس الزنا فقط، بل اللواط الذي هو أشنع المعاصي والموبقات، وكثير من قوانين الدول المتحضرة تبيحه، بل تبيح ما هو أشنع منه، ألا وهو التزاوج بين الذكور، وهذا في قوانين وضعية يعقد برجل على رجل آخر في محكمة شرعية، ولا شريعة فيها إلا شريعة الغاب.

إذاً: لو تركت هذه الأمور للعقول اختلفت وتباينت، ولذلك عندما أراد علماء النقص علماء النحس علماء النذل أن يدخلوا عقولهم في مجال الخير والشر والفضيلة والرذيلة، وأن يضبطوا سلوك الإنسان بقواعدهم، اختلفوا اختلافاً لا نهاية له، وكل واحد ينقض ما يقرره من قبله أو من بعده، وهم ما بين لاعن وملعون، كل واحد يرد على الآخر، هؤلاء لو رجعوا إلى الوحي لخرجوا من كل هذه الاضطرابات؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو حكم واحد، وهو صواب وقد تولاه رب العباد، وضمن لنا فيه ألا نضل في هذه الحياة، وألا نشقى بعد الممات.

إذاً: ما يتعلق بالحلال والحرام في سلوكك وتصرفاتك، كل هذا مرده إلى شرع الرحمن، فما أحله وأباحه لنا فعلناه، وما حرمه ونهى عنه تركناه، سواء كان فيه مصلحة لنا أو لا، فإننا لا نبحث في الأمر من جهة المصلحة، ولا من جهة العقل والرأي، ولا من جهة العرف والعادة، ولا من جهة طاعة المسؤول أو غيره، إنما بحثنا فيه أنه ما أمر الله به فهو على العين والرأس، وما نهى عنه فهو تحت الرجل، وافق العقل والمصلحة أو لا، وافق الأمير والعرف أو لا، كل هذا لا يرد في بحثنا، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62]، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

موقف إبراهيم عليه السلام في إخضاع العقل للشرع

ولذلك عندما رسخ هذا المعنى عند عباد الرحمن في كل زمان من متقدمين ومتأخرين هان عليهم كل شيء، فصار أحدهم لا يتصرف في حق نفسه فضلاً عن غيرها مع غيره إلا على حسب شرع ربه، والله جل وعلا عندما يأمر خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بذبح ولده في المنام، وهي أضعف مراتب الوحي، والوحي يأتي في المنام، و( رؤيا الأنبياء وحي )، وما نزل في المنام شيء من القرآن على نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو أضعف مراتب الوحي، يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، وليس مقصود (مَاذَا تَرَى) أن لولده الخيار، لا، فإنه يذبحه ويذبح أهل الأرض ولا خيار لأحد في ذلك، ولكن يريد منه أن يستجيب طائعاً لينال الابن والأب أجر طاعة الله والانقياد له، فيرد الولد: هذا أمر من الله فكيف تستشيرني؟! يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].

وورد في الآثار أن إسماعيل عليه صلوات الله وسلامه عندما أخذه والده إبراهيم ليذبحه جاءه الشيطان -هذا من أخبار أهل الكتاب ونقل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وهو مما رخص لنا أن نحكيه عنهم- جاء الشيطان أول ما جاء إلى الولد الذي هو المقصود بهذه الحالة والفعلة والعملة وقال: إذا ما استطعت أن أوسوس لهم في هذا الوقت لا أستطيع أن أوسوس لهم في وقت آخر -هذه فرصة الشيطان- جاء إلى الولد وقال: أتدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: أين يذهب بي؟ قال: يأخذك ليذبحك خارج مكة في منى، قال: وعلام؟ وهل يذبح الوالد ولده؟ قال: يزعم أن الله أمره، قال: إن كان الله أمره فيجب عليه أن يطيعه، أنا أسألك: لم يذبح الوالد ابنه؟ فالوالد لا يذبح ولده، قال: يزعم أن الله أمره، قال: ينبغي أن يطيعه سمعاً وطاعة، فذهب إلى الأم هاجر وقال: أتعلمين أين يذهب إبراهيم بابنك إسماعيل وهو ولده البكر الوحيد؟ قالت: أين يذهب به؟ يذهب به لحاجة، قال: لا إنما أخذه ليذبحه، قالت: وعلام يذبحه؟ هل يذبح الوالد ولده؟ قال: يزعم أن الله أمره، قالت: ينبغي أن يطيع أمر الله، إذا أمره الله ما لنا خيار، فجاء إلى الوالد مباشرةً وقال: أتدري أين تأخذ ولدك؟ قال: آخذه لحاجة لي، ماذا تريد؟ قال: أنت تأخذه لتذبحه، قال: وهل يذبح الوالد ولده، لم سأذبحه؟ قال: لأنك تزعم أن الله أمرك، قال: فيجب علي أن أطيع الله، ثم أخذه.

لا تظن أن الأمر تمثيلية: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] هو إضجاع حقيقة، وألقاه على جبينه وللإنسان جبينان وبينهما الجبهة، أي: أماله على صفحته من أجل أن يذبحه على جبينه من أجل أن يحصل الذبح، هذا جبين وهذا جبين وهذه جبهة، أماله على أحد شقيه ليذبحه، فلما أضجعه ليذبحه قال هذا الولد المبارك: يا أبت! اشدد رباطي حتى لا أضطرب، اربطني رباطاً محكماً حتى لا يحصل مني اضطراب وتفلت، يعني: بداخلي الغريزة الإنسانية، لا أن هذا تمرد على طاعة رب البرية، واقصر عليك ثيابك -أي: اجمعها وارفعها ولا تتركها نازلة، عندما تريد أن تذبحني- وشدها عليك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أمي فتحزن، يعني: استسلام كامل، لكن نأخذ الاحتياط حتى إذا حصل عليّ ما حصل فلا تدري أمي فإنها لو علمت سوف تحزن، والأمر يمشي بهدوء وسهولة، فلما أضجعه ووضع السكين على رقبته بدأ يحز فتنقلب السكين، يحز فتنقلب السكين، قال: يا أبت! اذبح، يعني الله أمرك، قال: إن السكين تنقلب، قال: اطعن بها طعناً، يعني: إذا كنت تضعها فتنقلب فاضرب برأسها، فأخذ ليطعن بها فإذا بها تتفلت، فعلم أن الأمر من الله جل وعلا، وجاء الفرج: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104-105]، وفداه الله بذبح عظيم سبحانه وتعالى.

انظر لهذا الامتثال، (رؤيا الأنبياء وحي)، والأثر ثبت عن ابن عباس موقوفاً وله حكم الرفع بإسناد صحيح على شرط الشيخين، أخرج ذلك الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني، صفحة واحدة وثلاثين وأربعمائة، وأقره عليه الذهبي ، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام: (رؤيا الأنبياء وحي).

وروي عن عدة من التابعين، رواه عبد الرزاق وعبد بن حميد ، والطبري في تفسيره، وابن المنذر في تفسيره، والطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبيد بن عمير ، وهو من أئمة التابعين، ورواه عبد بن منذر عن قتادة ، ولفظ قتادة : (رؤيا الأنبياء وحي، رؤيا الأنبياء حق، إذا رأوا شيئاً فعلوه).

هذا هو الامتثال في الحلال والحرام، على حسب ما شرع ذو الجلال والإكرام، فلا بد أن يكون سلوكك مضبوطاً بهذا.

كان بعض الزنادقة ممن يدرس علم النفس لأولاد المسلمين وفي بلاد المسلمين، وفي جامعة كما يقولون: عريقة، لكن في أي شيء عريقة؟ -نسأل الله اللطف- قيل له: أيها الأستاذ! هو أستاذ في علم النفس وعلى تعبير الناس دكتور، لكن هل هو دكتور أو دب؟! العلم عند الله جل وعلا- قيل له: أنت اسمك إبراهيم، فلم سموك إبراهيم؟ ولا نرى لك صلة بالالتزام بالدين، قال: أهلي سموني باسم المجنون إبراهيم الذي أراد أن يذبح ولده لرؤيا رآها في نومه! هذا قاله في محاضرة أمام الطلاب في فصل في بلاد إسلامية، -نسأل الله اللطف والعافية- ولما حصل بعد ذلك الضجيج والاعتراض رفع الأمر إلى العميد، وهل هو عميد أو عبيط؟ العلم عند الله، وقالوا: هذا يقول في المحاضرة: خليل الرحمن إبراهيم مجنون، وهو أكمل الخليقة عقلاً وحلماً ورزانةً بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، وأفضل خلق الله الأنبياء، وأفضلهم المرسلون، وأفضلهم أولو العزم، وأفضلهم الخليلان، وأفضلهما نبينا عليه الصلاة والسلام، هذا الخليل الذي جعل قلبه لله بنص القرآن: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84]، قلبه للرحمن، ولده للقربان، بدنه للنيران، ماله للضيفان، أهذا مجنون؟! فمن العاقل أيها المغبون المفتون؟

فلما ذهبوا لهذا العبيط قال: لا نريد ضوضاء ولا مشاكل، هذه أمور نحن نعالجها برفق، وفي نهاية السنة نلغي عقده وينصرف، يعني لا نريد ضوضاء ومشاكل في البلد، دعوه ونصبر حتى نهاية السنة.

لو أن إنساناً تكلم على مسؤول في بلد من البلدان لما نام الليلة في بيته، هل صارت قيمة المسؤول أعلى من قيمة الله خالق الوجود بأسره، ومن قيمة أنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه؟! يقول هذا في بلد يدعي الإسلام، وفي محاضرة علنية أمام الطلاب وليس سراً بينه وبين أحد حتى يقال: ثبت أو ما ثبت، يقول: سماني أهلي إبراهيم باسم المجنون الذي أراد أن يذبح ولده لرؤيا رآها في منامه، ثم يترك؟!

سبحان الله! كيف رق الدين عند المسلمين، ونسأل الله أن يفرج كروبنا، وأن يلطف بأمة نبيه عليه الصلاة والسلام إنه خير مسؤول.

من مواقف الصحابة في إخضاع العقل لأمر الشرع

إذاً: حلال وحرام يضبط بشريعة الرحمن، سلوك الإنسان يضبط بشريعة الرحمن، ولذلك لما نزل قول الله في سورة النساء: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66]، قال صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه كما في تفسير ابن أبي حاتم : والله يا رسول الله لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، مرني، فهذا يفعله الخيار الذين هم عبيد لله حقاً وصدقاً، لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، قال: ( صدقت يا أبا بكر ).

وثبت في تفسير الطبري وابن أبي حاتم عن السدي قال: افتخر ثابت بن قيس بن شماس مع يهودي، فقال اليهودي: كتب الله علينا القتل عندما عبدنا العجل فقتلنا أنفسنا وتبنا إلى ربنا، وأنتم لو كتب عليكم القتل لما قتلتم أنفسكم، فقال ثابت بن قيس بن شماس : لو كتب الله علينا القتل لقتلنا أنفسنا، لكن رحمنا الله وما كتب علينا ذلك، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66]، إنما يفعله الخيار الأبرار.

وثبت في تفسير ابن أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما نزلت هذه الآية: (عبد الله بن رواحة منهم، لو كتب على هذه الأمة أن يقتلوا أنفسهم لقتل نفسه).

وثبت في تفسير ابن أبي حاتم وتفسير ابن المنذر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ابن أم عبد منهم)، وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وثبت في تفسير ابن المنذر أن الأنصار قالوا: لو كتب الله علينا القتل لقتلنا أنفسنا، فنزلت الآية.

وثبت في تفسير ابن أبي حاتم أن الصحابة كلهم قالوا ذلك، وواقع الأمر أن الصحابة كلهم يستجيبون لهذا.

فإن قيل: كيف قال: إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66]؟ نقول: قليل في هذه الأمة، وليس في حق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، إن الصحابة من مهاجرين وأنصار، من أبي بكر ومن عبد الله بن رواحة وابن مسعود وثابت بن قيس ، وهكذا كلهم يستجيبون لو كتب عليهم ذلك، هذا هو حال الإنسان في سلوكه عندما يحكم شرع ربه جل وعلا.

موقف العقل من نصوص الوحي والشرع

إن الحلال والحرام بينهما لنا ربنا على وجه التمام بالوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فواجب العقل في هذا الشأن أن يفهم نصوص الشرع، وأن يمتثلها، وينبغي أن يحذر من أمرين: من ردها، أو من تأويلها بما يشبه ردها كما تقدم معنا، ولذلك قال أئمتنا: الوحي للعقل كالشمس للعين، فعين لا ترى بدون شمس، وعقل لا يهتدي بدون وحي، سنتخبط في الظن، ونختلف فيما بيننا اختلافاً كبيراً. فالحمد الله الذي ضمن لنا الهداية في هذه الحياة؛ والسعادة بعد الممات، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].

والعقل مع النقل كقائد السفينة مع السفينة، قال الإمام مالك عليه رحمة الله: السنة سفينة نوح من دخلها نجا، ومن ابتعد عنها هلك.

أنت في هذه السفينة والأمواج من كل جهة، ما دمت على الشرع فأنت في سفينة، لكن هذا الشرع يحتاج إلى فهم، وأنت في السفينة تحتاج إلى توضيح فقط، وهذا الشرع تستضيء بنوره، أما أن يأتي قائد السفينة وربانها ليكسر السفينة ويقول: أنا لا حاجة لي بها، أو أن يحرقها، فإنه سيَغرق وسيُغرق من معه، فأنت حالك مع شرع ربك كحال قائد السفينة مع السفينة، يوجهها، ينظر من أين جاءت الرياح فيحول الشراع، وهنا كذلك فنصوص الشرع إذا تعارضت في الظاهر فإنك تجمع بينها بأن تفهمها على حسب لغة العرب، فالعقل لا بد من أن يبذل جهده في إدراك ما يريده الله جل وعلا، لكن بشرط ألا تحطم هذه السفينة ولا تقعد عنها، ولا تخرج منها، متى ما خرجت هلكت، لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:43].

إن الحلال والحرام، الفضيلة والرذيلة، الحق والباطل، الخير والشر، الهدى والردى، لا طريق إليهما إلا من شرع ربنا فقط، وكل ما عدا هذا: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32]، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وما أكثر الطواغيت في هذه الحياة من طاغوت العرف والعادة، من طاغوت المسؤولية، من طاغوت العقل، من طاغوت الهوى، من.. من.. إلخ.

إذاً: الحلال والحرام واجب العقل ومجاله نحوهما أن يفهم، وأن يمتثل، فلا يرد، ولا يعترض، ولا يؤول بما يخرج هذا النص عن ظاهره.

موقف العقل من الغيبيات

المعلم الثالث من المعالم اللازمة لنا في مبحثنا: أو كما قلت: سأذكره لنبني عليه بعد ذلك فيما يأتي من كل ما يشبه هذا؛ ولئلا نسترسل في الأبحاث.

والمعلم الثالث: إذا كان الحلال والحرام ينبغي أن نلجأ فيهما إلى شرع الرحمن، وما ينبغي أن نحكم في ذلك عقولنا، فمن باب أولى المغيبات التي لا تدركها عقول المخلوقات، لا يجوز أن ندخل فيها بآرائنا متوهمين ولا ضالين، وإنما ما ورد عن رب العالمين آمنا به، مع إثبات أصل المعنى، وتفويض العلم بحقيقة المعنى في ذلك المغيب إلى المخبر عنه والقائل به فقط، أي: إلى الله جل وعلا، فالله جل وعلا عندما أخبرنا بما له من صفات سبحانه وتعالى، فإننا ندرك أصل المعنى، فنعلم أن الصفة هذه معناها كذا، لكن حقيقة المعنى وكيفيته لا يعلمه إلا الذي قاله، كصفة الرحمة، وصفة الغضب، وصفة الاستواء، وصفة اليدين، وغيرها، فنقول: اليدان معروفتان، والكيف مجهول، والإيمان بهما واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، وكل ما يتعلق بالحقائق التي تكون في الآخرة، كل هذا غيب، نثبت اللفظ وأصل المعنى، وأن الفاكهة معناها معروف، والرمان معناها معروف، وما شاكل هذا، دون أن ندخل عقولنا في إدراك الكنه والكيفية والحقيقة ( فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ).

وسيأتينا أثر ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أثر صحيح رواه البيهقي والضياء المقدسي وغيرهما أنه قال: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، أي: الأسماء فقط تتفق والحقائق تختلف، حق المعنى أدركناه، وحقيقة المعنى لا يعلمها إلا الذي قاله سبحانه وتعالى.

كذلك الإيمان بالملائكة، والإيمان بالجن، كل هذا نثبت ما ورد فيه دون أن ندخل العقول، بل نقف عند حدنا، ونقول: هذا يتعلق بغيب، آمنا به، فأصل المعنى مدرك لنا، وحقيقته وكيفيته نقف عنها.

فإن قيل: لم لم يخبرنا الله بألفاظ تدل على حقائق هذه الأشياء كما هي؟

نقول: ليس في وسع لغة العرب ولا لغة العالم بأسرها أن تخبر عن هذه المغيبات على حسب حقيقتها وكنهها، فلا يوجد لفظ يدل على حقيقة يدي الرب، ووجه الرب، وغضب الرب، وضحك الرب، لا يوجد، إنما يوجد لفظ يدل على أصل المعنى، وأن الضحك ليس الغضب، وأن الضحك ليس النزول، وأن الضحك ليس اليدين، لكن ضحك كلٍ بحسبه، والصفة يختلف معناها باعتبار موصوفها، وإذا كان هذا موجوداً في المخلوقات فهو موجود بين الخالق والمخلوقات، أي: التباين والاختلاف من باب أولى، فالصرصور له عينان وأنت لك عينان، ولا مشابهة بين عينيك وعيني الصرصور، والبعوضة لها رأس وأنت لك رأس، والجمل له رأس، والجبل له رأس، ولا مشابهة بين هذه الرءوس، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فكل صفة تناسب الموصوف أدركنا أصل المعنى دون الوقوف على الكنه والحقيقة.

عقيدة أهل السنة في باب الصفات والغيبيات

المغيبات التي لا تقع تحت حواسنا الظاهرة يجب أن نؤمن بها كما وردت، وأن نرد العلم بكنهها وكيفيتها وحقيقتها إلى الله جل وعلا، فغاية ما ندركه منها -كما قلت- أصل المعنى دون حقيقته، ولذلك قال أئمتنا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإدخال العقل في ذلك من عمل أهل البدع، وذلك مذموم مردود.

وقد تتابع أهل السنة الكرام على هذه المقولة في صفات ذي الجلال والإكرام: أمروها كما جاءت بلا كيف، قال هذا الإمام الأوزاعي ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والليث بن سعد ، وقاله جم غفير عليهم جميعاً رحمة الله، قوله: كما جاءت، أي: لا تتلاعبوا بها ولا تنكروها، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، الاستواء معلوم، أي معناه في اللغة: علو وارتفاع وصعود واستقرار، هذا معناه في اللغة، وكيفية استواء الرب لا يعلمه إلا الله، ولذلك أئمتنا كانوا لا يرون تفسيراً لهذه الأشياء التي تدخل في عالم الغيب، إلا الإيمان بالنص كما ورد.

إن أبا عبيد القاسم بن سلام من أئمة الإسلام ومن أئمة الاجتهاد، كان رأساً في اللغة، قال إسحاق بن راهويه شيخ المسلمين في زمنه: الله يحب الإنصاف، أبو عبيد أعلم مني ومن الشافعي ومن أحمد بن حنبل ، ألف أبو عبيد كتاباً في غريب الحديث في أربعة مجلدات ما أدخل شيئاً من هذه التي قلنا: تدخل في نطاق الغيب، ما أدخل شيئاً يحتاج إلى شرح، فصفة الغضب وصفة الضحك وصفة اليدين التي وردت بالأحاديث هذه ما أدخل شيئاً منها ضمن الغريب ليشرحها؛ لأنه ليس معناها إلا هذا النص الذي يثبتها دون أن تقف على حقيقة المعنى، فلا تفسير لذلك عنده غير موضع الخطاب العربي، والذين دخلوا بعقولهم في عالم الغيب تخبطوا وضلوا.

نماذج من التأويلات العصرانية للدجال والغيبيات

إخوتي الكرام! سأذكر نماذج من تخبط الضالين عندما أدخلوا عقولهم فيما لا يقع تحت حواسهم، الدجال مخلوق من عالم الغيب، أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، ما رأيناه ولكن نؤمن به، وأنه سيخرج ومكتوب على جبينه كافر، ولا يسخر له من المراكب والدواب إلا الحمار فهو رجس على رجس، وعنده كذا وكذا، هذا المخلوق الذي وصف لنا مغيب، وما وقع تحت حواسنا نؤمن بأنه سيكون بهذه الصورة، والذي سيدركه سيرى هذه الأمور فيه، وعندما جاء من جاء ليدخل عقله في هذا الأمر الذي يدخل -كما قلت- في دائرة الإيمان بالغيب، فنقول: هذه الصفات ثابتة في هذا المخلوق، وإذا خرج ونحن أحياء -وأسأل الله أن يسلمنا من شره ومن رؤية ظلمة وجهه- لعلنا إذا رأينا ذلك نكون على بصيرة إن شاء الله، ونزداد بصيرةً ويقيناً بما أخبر به نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد آمنا بما ذكره لنا نبينا عليه الصلاة والسلام، وأما الذين أدخلوا عقولهم في هذا المغيب فانظر للتخبط الذي هم فيه.

تقدم معنا كلام الضال وتلميذه محمد عبده ورشيد رضا في تفسير الدجال ، وأنه رمز للدجل والخرافات التي كانت قبل بعثة خير البريات عليه الصلاة والسلام وزالت، أي: زال الدجل ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام وانتهى، أما مخلوق عينه طافية كأنها حبة عنبة، مكتوب على جبينه كافر ويركب الحمار، هذا كله هوس وخرافة لا حقيقة لها، هذا تأويل أول.

وتأويل ثان: يقول ضال آخر يسمى بـمصطفى محمود لعلكم تسمعون عنه، حيث تسخر له وسائل الإعلام؛ لأنه وراءه الماسونية الخفية التي تدير العالم في هذا الزمن وهذه الأيام، مصطفى محمود صاحب الضلال في هذا الوقت، له كتاب، وكتابه حقيقةً عنوانه يغري الإنسان: رحلة من الشك إلى الإيمان، وحقيقته: رحلة من الشك إلى الفسق، وكفراً بالرحمن، ينتقل من ظلمة إلى ظلمة، انظر لهذا التأويل الذي يقوله عن الدجال ، وانظر هوس العقل، أريد أن أذكر نماذج من تأويله، حيث أول بعض الأشياء الغيبية لنرى كيف أن العقول تشرد وتختلف عندما لا نقف عند ما أخبر به الشارع وكفى.

المسيخ الدجال بالخاء المعجمة وبالحاء المهملة الضبطان صحيحان من المسخ؛ لأن الله مسخ خلقته وشوهها، فهو أعور ومكتوب على جبينه كافر يقرأ ذلك كل مؤمن سواء كان كاتباً أو غير كاتب، ولا يسخر له إلا الحمار، ويقال له: مسيح من مسح إحدى عينيه، وأنه يمسح الأرض ويطوفها في مدة قصيرة، تروي لنا الأجيال حكاية رجل يظهر في آخر الزمان في صفحة مائة وأربعة، ويأتي من الخوارق والمعجزات بما يسلم الناس من كافة أرجاء الأرض سيكونون خلفه وقد اعتقدوا أنه إله، وتصفه الروايات بأنه أعور، وأنه يملك من القوة الخارقة ما يجعله يرى بهذه العين الواحدة ما يجري في أقصى الأرض، كما يسمع بأذنه ما يتهامس به الناس عبر البحار، كما يسقط الأمطار بمشيئته فينبت الزرع ويكشف عن الكنوز المخبوءة ويشفي المرضى، ويحيي الموتى، ويميت الأحياء، ويطير بسرعة الريح، فيفتتن به كل من يراه ويسجد له على أنه الله، بينما يراه المؤمنون على حقيقته ولا تخدعهم معجزاته، ويشهدون رسم الكفر على وجهه، ذلك هو المسيح الدجال إحدى علامات الساعة التي نقرأ عنها في كتب الدين، يعني: مجمل الوصف صحيح، ماذا أنت ستؤول هذه الصفات التي وردت عن هذا.

يقول: والمسيح الدجال قد ظهر بالفعل، كما يقول كاتب بولندي -ما شاء الله، ما شاء الله، كاتب بولندي، سنحتكم إليه الآن في قضايا الإسلام- يقول: وهذا المسخ الشائه بالعين الواحدة كما يقول الكاتب البولندي -يكرره مرتين- فهذا المسخ الذي في الدجال هو التقدم المادي، والقوة المادية، والترف المادي، معبودات هذا الزمان، مبنية العصر الذري العوراء العرجاء التي تتقدم في اتجاه واحد، وترى في اتجاه واحد هو الاتجاه المادي، بينما تفقد العين الثانية وهي الروح التي تبصر البعد الروحي للحياة، فهي قوة بلا محبة، وعلم بلا دين، وتكنولوجيا بلا أخلاق، وقد استطاع هذا المسيخ، أعني التكنولوجيا والصناعات الحديثة فعلاً عن طريق العلم أن يسمع ما يدور في أقصى الأرض باللاسلكي، إذاً: أن نقول: أن يسمع ما يدور في أقصى الأرض باللاسلكي، ويرى ما يجري في آخر الدنيا بالتلفزيون، وهو الآن يسقط المطر بوسائل صناعية، ويزرع الصحاري، ويشفي المرضى، وينقل قلوب الأموات إلى قلوب الأحياء، ويطير حول الأرض في صواريخ، وينشر الموت والدمار بالقنابل الذرية، ويكشف عن عروق الذهب في باطن الجبال، وقد افتتن الناس بهذا المسيخ فعبدوه.

وأمام هذا الاستعراض الباهر للتقدم العلمي الغربي فقدنا نحن الشرقيين ثقتنا بأنفسنا، ونظرنا باحتقار إلى تراثنا وديننا. إذاً: ما هو الدجال؟

تكنولوجيا وتقدم علمي، لكن أيها الدجال! أنت عندما تقول هذا، أين غفلت عن الصفات الأخرى التي في الدجال مثل: أنه لا يدخل الحرمين: مكة والمدينة؟ وهذه التكنولوجيا دخلت الحرمين أم لا؟ فلم تؤمن ببعض الأخبار وتكفر ببعض؟ لم لا تذكر تلك الأخبار؟ ماذا سيقول الآن في تأويل ذلك الخبر ما أعلم، لكن هو عنده المسخ في الدجال أنه تقدم دنيوي دون ارتباط بالدين، تكنولوجيا بلا خلق، علم بلا دين، وهكذا، هذا تأويل ثان.

نأتي لتأويل آخر، يذكره الجزائري في كتابين باطلين خبيثين منكرين، ألفهما حول هذه القضية وما يشبهها، الكتاب الأول: الأحاديث النبوية الشريفة في أعاجيز المخترعات الحديثة.

والكتاب الثاني: اللقطات لبعض ما ظهر للساعة من علامات، والجزائري يقلد في هذا الكلام إنساناً سرق منه هذا الكلام ونسبه إلى نفسه دون أن ينسب هذه السرقة وهذه القاذورة إلى من أتى بها ألا وهو أحمد بن محمد الصديق الغماري ، صاحب كتاب: مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية عليه صلوات الله وسلامه، وجاء بعد ذلك رئيس محكمة الجوف الشرعية اسمه الشيخ عبد العزيز بن خلف بن عبد الله آل خلف ، وكان أيضاً قاضياً في تيماء.

يقول هؤلاء الثلاثة: إن الحمار الذي سيركبه الدجال ويطوف به الأرض هو الطائرة؛ لأن شكل الحمار يشبه شكل الطائرة، ويستحيل أن يدور الحمار الأرض بكاملها بوقت قصير وعليه الدجال ؛ لأن الدجال مكثه أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا هذه، فكيف سيدور الدجال على الحمار في أربعين يوماً؟ إنما هذا إشارة إلى الطائرات التي اخترعت، والدجال سيركب هذه الطائرات ويجوب بها العالم يدعو إلى دجله وزوره وبهتانه، وعلماء الجيولوجيا يكونون معه فيأتون إلى الخنادق ويجدون ما فيها من ذهب بواسطة التحليلات والاكتشافات، والبترول وما شاكل هذا.

وفي هذه الكتب الثلاثة من هذه البلايا أيضاً شيء كثير، فهذا تأويل وذاك تأويل وذاك تأويل، أنا أريد أن أعلم أي هذه التأويلات سنأخذ به؟

كلها نضعها تحت أرجلنا، وأنا أعجب للإنسان كيف لا يحترم نفسه عندما يدخل عقله في عالم الغيب ليتكلم بعد ذلك في وصفه ليحدد له شيئاً معيناً حسب وهمه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الدجال لا يسخر له إلا الحمار، فهو رجس على رجس)، وأنت تأتي وتقول: الحمار الطائرة، ما هي المناسبة بين هذين المنصوصين؟ لا يوجد مناسبة في الشكل ولا في المعنى، وأن عقلك إذا استبعد هذا فليس عندك عقل تعقل به فما لنا ولك، وأي ظلم إذا كان عند هذا الإنسان هذا الأمر الخارق للعادة الذي جعله الله فتنةً فيه وله، وما خلق الله فتنةً منذ أن وجد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال، فلمَ التلاعب بعد ذلك بنصوص الشرع؟ وأنه إنسان، ومعه علماء جيولوجيا، ومعه طائرات ومعه.. ومعه.. لم التلاعب؟ الطائرات الآن أما تستطيع أن تدخل الحرمين؟ لم هذا التلاعب؟ فهذا يقول: تكنولوجيا، وهذا يقول: طائرات، وذاك يقول: دجل قبل الإسلام وزال، إذا أردنا أن ندخل عقولنا في عالم الغيب بظن ووهم وليس ثم ما نتفق عليه أيضاً حتى نقول: الأمة وقفت عند حد خط لا نهاية له وكل واحد يقول ما شاء أن يقول.

حسناً: ما الحكم في ذلك؟ هذه كلها أقوال باطلة ينبغي أن نردها.

يقول القاضي آل خلف: وأنا أعجب أنه قاضي، والقاضي في الأصل عنده جرأة وحزم وكرامة، وما عنده هذا التفلت والتسيب في الفهم، يقول: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، يقول: هذا عند التقدم التكنولوجي والصناعات الحديثة يخرجون من بيوتهم ليروا أعمالهم بما يشاهدونه على شاشات التلفاز والسينما؛ لأنه لو وقف إنسان أمام التلفاز فكل حركة صغيرة أو كبيرة تظهر للناس، وأخبار العالم الآن بأسرها كلها نشاهدها، هذا هو لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، لم هذا التلاعب؟

هذا كتاب دليل المستفيد على كل مستحدث جديد، جزأين في مجلد، وهذا كتاب مطابقات الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية عليه الصلاة والسلام، وكل واحد يخرف في عالم الغيب بما لا يمكن للعقل أن يدركه، وأن يحيط به.

إن أحاديث نزول عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما تقدم معنا متواترة، وهكذا أحاديث خروج الدجال ، وقد أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نستعيذ بالله من الدجال في كل صلاة من صلاتنا.

ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع قبل سلامه: أن يستعذ بالله من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ، ومن عذاب جهنم ومن عذاب القبر)، إذا تشهدت قبل أن تسلم فاستعذ بالله من هذه الأمور الأربعة.

وثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء وهو الاستعاذة بالله من هذه الأمور الأربعة كما يعلمهم السورة من القرآن)، ولذلك ذهب طاوس إلى أن الاستعاذة بالله من هذه الأمور الأربعة في آخر الصلاة قبل السلام واجبة، والدعاء واجب لو تركه بطلت صلاته، وهذا ثابت في صحيح مسلم، وقد قال لابنه: دعوت بهذا الدعاء؟ قال: لا، قال: أعد صلاتك. وهذا ما تبناه الإمام ابن حزم في المحلى في الجزء الثالث صفحة واحدة وسبعين ومائتين فقال: يلزمه فرضاً، أي: على سبيل التربية أن يدعو بهذا الدعاء إذا جلس للتشهد.

وعممه ابن حزم في التشهد الأول والتشهد والثاني، والحق أن الاستعاذة بذلك من السنن المردود إليها المرغب فيها، وليس ذلك من الواجبات وأركان الصلاة، ولكن كما قلت ينبغي على الإنسان أن يحرص على هذا وأن يأتي به.

إخوتي الكرام! هذا مثال لشيء لا تدركه الحواس دخلت العقول في توهمه وإدراكه فضلت وابتعدت، وسأذكر بعض الأمور المتعلقة بعالم الغيب في الموعظة الآتية كالميزان مثلاً، وذبح الموت إن شاء الله، وننتقل بعد ذلك إلى المبحث الثالث في تخريج الأحاديث، ثم بعد ذلك في بيان قول الترمذي: وفي الباب، وهو المبحث الرابع.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا ولا معنا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [9] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net