إسلام ويب

إن في حديث عائشة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: غفرانك عند خروجه من الخلاء، من الفقه الشيء الكثير، منها: استحباب قول: غفرانك، وطلب المغفرة من الله عز وجل، واستشعار ستر الله علينا، وحمد الله على أن يسر لنا إخراج الأذى، وغيرها من الفوائد، ويعتبر حديث عائشة أصح حديث في الباب.

فقه حديث عائشة أن النبي كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس الباب الخامس من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي ، عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، وعنوان هذا الباب (ما يقول إذا خرج من الخلاء) فقد روى الإمام الترمذي عليه رحمة الله في هذا الباب حديثاً عن شيخه سيد المحدثين وإمام المسلمين أبي عبد الله البخاري ، عن أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك)، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد انتهينا إخوتي الكرام! من الكلام على المبحث الأول المتعلق بإسناد هذا الحديث رجال إسناده، وتدارسنا ترجمة مطولة ومختصرة لأمنا المباركة، سيدتنا الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيبنا وحبيب ربنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تدارسنا -كما قلت- ترجمتها فيما يزيد على عشر محاضرات، وقد تكلمنا على أمور كثيرة في ترجمتها عسى الله جل وعلا أن ينفعنا بما تقدم ذكره إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين، ونشرع الآن إخوتي الكرام! في مدارسة الأمر الثاني في فقه الحديث ثم ننتقل بعد ذلك إلى درجته ومن خرجه، وهل ورد في ذلك أيضاً أدعية أخرى تقال عند الخروج من الخلاء؟

أما ما يتعلق إخوتي الكرام! بالعمل الثاني: وهو فقه الحديث، ففقه الحديث سيدور على أمرين اثنين:

استحباب قول: (غفرانك) عند الخروج من الخلاء

أولهما: استحباب قول هذا الدعاء عند الخروج من الخلاء، وقد اتفق على ذلك أئمتنا العلماء الأتقياء، أن تقول إذا خرجت من الخلاء: (غفرانك)، وهذا الذكر -كما قلت- مستحب بالاتفاق، وقد تقدم معنا ما يقول الإنسان إذا دخل، وهذا ذكر تقوله إذا خرجت، وتقدم معنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام شرع لنا أذكاراً وأدعية نقولها عند كثير من أمورنا التي نقوم بها في حياتنا بمقتض الجبلة الإنسانية والطبيعة البشرية لنحول العادات إلى عبادات.

معنى غفرانك

ومعنى (غفرانك): أطلب غفرانك أو أسألك غفرانك، وعليه غفرانك: مفعول به منصوب لفعل محذوف تقديره: أطلب غفرانك، أو أسألك غفرانك، ويصح أن يكون أيضاً غفرانك منصوباً على أنه مفعول مطلق بتقدير: اغفر غفرانك، أو أسألك غفرانك.

أسباب اختيار قوله: غفرانك

وفي تعقيب نبينا صلى الله عليه وسلم على خروجه من الخلاء بهذا الدعاء دون غيره، (إذا خرج يقول: غفرانك)، وجهان معتبران ذكرهما أئمتنا الكرام كشيخ الإسلام الإمام النووي في المجموع شرح المهذب في الجزء الأول صفحة ست وسبعين:

التعليل الأول والوجه الأول من التعليلين والوجهين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله مغفرته بعد الخروج من الخلاء؛ لأنه عندما كان في حال قضاء الحاجة كان ممنوعاً من الذكر، فما يتأتى منه الذكر ولا يستطيع أن يذكر الله في ذلك الوقت، فهو حال كشف عورته وقضاء حاجته، فلما منع من الذكر في ذلك الوقت كأن نبينا عليه الصلاة والسلام يرى نفسه أنه قد قصر في حق الله عز وجل، فذكر الله للإنسان كالماء للسمك، فنحن إذا تركنا الذكر كأننا هلكنا، كأننا قصرنا في حق ربنا، كما أن السمك إذا أخرجته من الماء يتأثر، وإذا طال الخروج يتلف ويموت، وهنا منع نبينا عليه الصلاة والسلام، ومنع الإنسان عند قضاء الحاجة من ذكر الله، والإنسان ينبغي أن يكثر لسانه من ذكر ربه، وينبغي دائماً أن يحرك هذا العضو؛ ليتصف بالنعت الذي ذكر الله عباده الأتقياء، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35].

وكلما قل الذكر كلما يبس القلب، وكلما أكثر الإنسان من ذكر الله كلما حيي قلبه، فنبينا عليه الصلاة والسلام يعلمنا أن الإنسان إذا قضى الحاجة سيتوقف عن قراءة القرآن وعن الأذكار الأخرى، فكأنه يرى هذا قصوراً وتقصيراً في حق الله جل وعلا، فإذا خرج يقول: (غفرانك)، فإن قيل: إن الإنسان ممنوع من الذكر في ذلك الوقت إجلالاً لربنا الجليل، فالله طيب ولا يذكر إلا في مكان طيب -كما تقدم معنا في المبحث الرابع- وأن من أراد دخول الخلاء يقول هذا قبل أن يدخل إلى الحمام ومكان قضاء الحاجة، كما تقدم معنا نقل هذا من أئمة التابعين، فإن قيل: إنما منعنا من الذكر في ذلك الوقت إجلالاً لربنا الجليل، فأي تقصير منا حصل؟ فنقول: لما كان قضاء الحاجة بسبب منا ألا وهو أكلنا فنسب التقصير إلينا، فالمنع ترتب على فعل منا فآل القصور إلينا.

ولذلك إخوتي الكرام! تقدم معنا في المبحث الرابع في المبحث المطول أن دار الآخرة هي دار الكمال، ولذلك هناك لا فضلات، والناس الموحدون يلهمون الذكر والتسبيح كما يلهمون النفس، فمع كل نفس ذكر لله وتسبيح له وثناء عليه هذا في الجنة، وأما هنا فالصالحون يكثرون من ذكر الله، قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبهم، لكن إذا دخل الخلاء فيمنع. وتقدم معنا أن كثيراً من الصالحين تمنى لو جعل الله رزقه في حصاة يمسها، يعني: حيث يستحي من دخول الحمام ويمنع من ذكر الله في ذلك الوقت، وعليه فإن هذا الذكر: (غفرانك) معناه: بما أنني منعت عن الحياة في هذا الوقت في حال قضاء الحاجة، فأنا أستغفرك مما حصل مني من تقصير، وحياتي لا تكون إلا بذكر الله العلي الكبير، وفي ذلك إشارة إلى أن من فتر عن ذكر الله في غير قضاء الحاجة حكمه كأنه يقضي حاجة، وعليه ينبغي أن يكثر من الاستغفار في جميع الأوقات آناء الليل وأطراف النهار، أنت خلقت لهذا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

وملائكة الله الأطهار يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فأولئك لا يأكلون ولا يشربون، إذاً ولا يقضون حاجة، فلا يفترون عن ذكر الله، فأنت في الوقت الذي منعت فيه لكن مع ذلك استشعر تقصيرك بقولك: غفرانك، وفي ذلك إعلام لك أنك ما ينبغي أن تفتر عن ذكر الله في غير هذا الوقت، بل في هذا الوقت الذي منعت فيه من ذكر الله تستغفر الله بعد الخروج، فكيف في الوقت الذي لم تمنع فيه ولم تذكر الله فيه؟!

إخوتي الكرام! هذه الحكمة لا بد من وعيها، هذه الحكمة الأولى، والعلة الأولى في اختيار هذا الذكر على غيره من الأدعية والأذكار بعد قضاء الحاجة، (غفرانك). حياتنا يا رب! ذكرك ولا حياة لنا بدون ذلك، وقد منعنا من الذكر حال قضاء الحاجة، فكأنه حصل عندنا شيء من الاختناق، شيء من التقصير، شيء من تغير الحال، فما لنا إلا أن نلجئ إلى ذي العزة والجلال غفرانك، هذا هو حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا هو تعليمه لأمته؛ ليستشعروا أنهم ينبغي أن يكثروا من ذكر الله في كل وقت، فالوقت الذي امتنعوا فيه عن الذكر من أجل منع الله لهم عن ذكره فيه يستغفرون الله جل وعلا مما حصل منهم من تقصير، فكيف في الوقت الذي أمروا فيه بذكر الله الجليل ولم يقوموا بذلك الأمر؟!

الحكمة الثانية، والعلة الثانية، والتنبيه الثاني في اختيار نبينا صلى الله عليه وسلم هذا الذكر بعد الخروج من الخلاء بقوله غفرانك: أن ما حصل للإنسان عند قضاء الحاجة حقيقة نعمة كبرى؛ لأن هذه النعمة سبقها أن الله جل وعلا يسر عليك هضم الطعام وطرده، ثم بعد ذلك سهل الله عليك خروجه، أكلته وأساغه الله في بطنك، وسهل عليك الهضم ويسر عليك الخروج، هذه نعمة عظيمة لو منعت من الطعام لمت، ولو احتبس الطعام في بطنك لقتلت، ولو منعت من الشراب لهلكت، ولوا احتبس الشراب في بطنك أيضاً لهلكت.

إذاً: لا بد من تعظيم الله على هذه النعمة، على أن يسر لك إدخال الطعام وإخراجه، ولا يمكن لإنسان أن يؤدي شكر الله كما يليق بالله. فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ربي أنعمت علينا بإدخال الطعام وبإخراجه ونحن مقصرون في حقك، مفرطون نسألك أن تغفر لنا، نعمك لا تحصى، وشكرنا مهما عظم لا يوفي نعمة من نعمك علينا. فحقيقة نعمة عظيمة؛ يأكل الإنسان ولا يشعر بهذه النعمة إلا إذا منع عنه الطعام، ثم بعد ذلك يخرج هذا الطعام والفضلات ولا يشعر بهذه النعمة إلا إذا احتبس البول أو الطعام في بطنه وبدأ يصيح ويستغيث.

وكنت أشرت إخوتي الكرام! سابقاً أن بعض أئمتنا محمد بن السماك عندما كان في مجلس هارون الرشيد وأحضر هارون الرشيد قلة فيها ماء مبرد، والخليفة في ذاك الوقت إن أراد أن يشرب ماء مبرداً يشربه بالقلة، وهي التي من الفخار، يعني ثلاجات توجد في هذه الأيام ويتمتع بها عموم الناس، وكانت لا توجد في ذلك الوقت إلا عند الخلفاء. وهارون الرشيد إذا أراد أن يذهب إلى الحج مع ما له من المكانة، وكان يقول للسحابة: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك، مع هذا عندما يذهب إلى الحج فتلفحه حرارة الشمس والرياح شاء أم أبى، فلا يوجد سيارات مكيفة من باب أولى، ولا يوجد طائرات بعد ذلك نفاثة أو غيرها.

هارون الرشيد لما دعا بقلة ماء ليشربها قال له محمد بن السماك: لا تشرب يا أمير المؤمنين! ثم قال له: إن منعت هذا الكوز من الماء في يوم حار شديد الحر كم تدفع ثمناً له؟ قال: أدفع نصف ملكي، يقول ذلك لأنه ما جرب العطش ولو جرب العطش لدفع ملكه كله؛ ثمناً لكوز الماء، قال: اشرب، وبعد أن شرب قال: يا أمير المؤمنين! إذا احتبس الماء في بطنك وما استعطت أن تخرجه وبدأت تتلوى على الأرض كما تتلوى الحية وتصيح وتستغيث وتطلب إخراج هذا الماء كم تدفع ثمناً لإخراجه؟ قال: أدفع نصف ملكي الآخر، قال: إن ملكاً لا يسوى بولة ما ينبغي أن يتنافس فيه الناس، فأنت تشهد على نفسك أنه ما يسوى بولة، شربة ماء أدخلتها ثم أخرجتها وخرجت عن ملكك من أوله لآخره.

وحقيقة عند مثل هذه القصص يستحضر الإنسان قول الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، طعام تأكله وتستسيغه، ويسهل الله جريانه وهضمه في داخلك دون شعور منك، والأجهزة تعمل بنفسها وأنت نائم، وإذا أكلت العشاء عند العشاء الأجهزة الهضمية تعمل وأنت نائم بمجرد أن تستيقظ تذهب إلى الحمام، فأنت ما عملت شيئاً، بأوامر ربانية تعمل، ثم بعد ذلك سهل عليك إخراجه، هذه نعمة عظيمة، إدخال الطعام وإخراجه من أجل المحافظة على حياتك، هل أديت شكر هذه النعمة؟ حقيقة لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يقول: أديت شكرها، فضلاً عن النعم الأخرى، فإذا كان كذلك فينبغي أن تسأل الله مغفرته، فكأنك تقول: يا رب! إنني قصرت في جميع الأحوال فأسألك أن تغفر لي، غفرانك نعمة عظيمة دخل الطعام وخرج لكن هذا كله دون اعتبار مني، دون استحضار لعظمتك، غفرانك.

إخوتي الكرام! والعملية أحياناً التي يخرج الإنسان بها الطعام في المستشفيات إذا احتاج إلى ذلك تكلفه الكثير من المال، وقد يموت من جرائها بعد ذلك، وبعد إجراء العملية له وشق البطن يبقى فترة طويلة في تعب وإرهاق لا يعلمه إلا الله، فأنت كل هذا تفعله دون كلفة أما نحتاج أن نشكر الله عليه؟ بلى. هل قمنا بشكر الله كما يليق به؟ لا والله، فما لنا إلا أن نصبح مستغفرين وأن نمسي مستغفرين، وأن نطلب من الله المغفرة في كل حين، ومن ذلك إذا خرجت من الخلاء قل: غفرانك.

معنى المغفرة

إخوتي الكرام! عندما تطلب المغفرة من الله والله غفور وغفار سبحانه وتعالى، والغفور يدل على دلالتين:

الأولى: الستر، والثانية: الوقاية، دلالتان في لفظ الغفر المغفرة والغفور، والغفار، ستار واقي.

أما الستر: فيسترك ولا يفضحك على رؤوس الأشهاد ولا في هذه الحياة، سبحانه ما أكرمه! وما أحلمه! لو أظهر ما في قلوبنا للناس لبصقوا علينا ورمونا بالحجارة، هذا هو الحليم الستير الذي ينعم علينا بالحياء والستر، ونسأله برحمته كما سترنا في الدنيا أن يسترنا في الآخرة، إنه أرحم الراحمين وهو أكرم الأكرمين، وقاك عاقبة الخطايا والذنوب، ومنه قيل: مغفر وهو الذي يستر الرأس ويقيه من ضربات السيوف والسهام والرماح عندما تأتي إليك، وهي التي يلبسها المقاتل يقال لها مغفر، والله جل وعلا غفور يستر ويقي، فأنت عندما تقول: غفرانك تقول: ربي استرني وقني عذابك، استرني أمام خلقك في الحياة وبعد الممات، وقني عذابك أنت أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، يقول علماء اللغة: يقال: أسبغ ثوبك، وأسبغ ثوبك من باب قطع يقطع اقطع، ومن باب مكر يمكر امكر، أسبغ ثوبك، أُصبغ ثوبك، فهو أغفر للوسخ، ما معنى فهو أغفر للوسخ يعني: إذا كان الثوب أبيض يظهر عليه الوسخ، أسبغ ثوبك فهو أغفر وأستر للوسخ، والله غفور غفار سبحانه وتعالى، غفرانك استرنا وقنا عذابك يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين.

آثار الدعاء بقول: غفرانك

إخوتي الكرام! أما ما يتعلق بحكم الحديث: فيستحب لنا أن نقول هذا الدعاء -عند خروجنا من الخلاء- غفرانك، وفي آثار هذا الدعاء على غيره معنيان:

المعنى الأول: أننا نسأل الله المغفرة من عدم ذكرنا له في ذلك الوقت، وإن منعنا من قبل ربنا لكن السبب من أنفسنا بسبب طعامنا وشرابنا.

المعنى الثاني: أن هذه نعمة عظيمة جليلة، العباد بأسرهم مقصرون نحو شكر ربهم، فعليهم إذاً إذا خرجوا من الخلاء أن يستغفروا الله من تقصيرهم فيقولوا: غفرانك، هذا فيما يتعلق بالأمر الأول في فقه الحديث.

ما يستفاد من دعاء (غفرانك)

الأمر الثاني: في فقه الحديث مما ينبغي أن تستفيده من هذا الدعاء وهي حظ الإنسان واعتباره من هذا الدعاء الذي يقوله بعد خروجه من الخلاء أمران أيضا:

الأمر الأول: إذا كان ما يخرج منك تتقذره وهو نجاسة حقيقة وأنت تتقذره ونفسك تعافه، وتضع أحياناً يدك على أنفك من نتن الريحة التي تخرج مما يخرج من بني آدم، فإذا عافت نفسك هذه النجاسة الحسية -وهي نجاسة مغلظة- فينبغي أن تعاف نفسك ما يجري منك من نجاسات معنوية، فهي أشنع في القبح والكراهة من هذه النجاسة الحسية، وهي الشهوات المحرمة، والشبهات المذمومة التي يقع فيها الناس، هذه شهوة، هذه نجاسة حسية تتأذى منها وقتاً يسيراً عند قضائك لها ثم تغسل بعد ذلك مقعدك ويدك، وتتطيب وتخرج وقد زالت، أما تلك لو غسلتها ببحار الدنيا لا تزول إلا بتوبة نصوح لله جل وعلا، نظر حرام، وغناء حرام، واستماع لحرام، ومشي إلى حرام، هذا كله نجاسات أشنع من النجاسات المحسوسة للمخلوقات، فإذا استقذرت هذه النجاسة الحسية فينبغي أن تستقذر النجاسة المعنوية التي دافعها -كما قلت- شهوة محرمة، أو شبهة محرمة فانتبه لهذا، واستقذر ذلك من نفسك كما تستقذر هذا، وتب إلى الله جل وعلا من مرض الشبهات، ومن مرض الشهوات.

الأمر الثاني: أنت عندما تخرج من الخلاء وتقول: غفرانك، فكما طلبت من الله جل وعلا المغفرة، وتوسلت إليه بأن يغفر ذنوبك، وتوسلت إليه باسمه الغفور، فكأنك تقول: ربي كما سترتني في حال قضاء الحاجة، فيخرج مني شيء أنا أكره أن أراه، فكيف لو جعلت غيري يراه، يعني لو جعلت قضاء الحاجة لا يمكن أن يخرج إلا أمام الناس، لا يخرج من ذلك المكان الخفي التي سترتنا فيه لكانت فضيحة في الدنيا، فسبحانك ربي أنت سترتنا وجعلت ذلك الماء والغائط يخرج بحيث لا يرانا أحد، فكما سترتنا نسألك أن تستر أيضاً ذنوبنا، وعيوبنا، وأن تغفر لنا إنك أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.

الله جل وعلا يقول: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] .

ويستحب للإنسان أن يدعو الله باسم من أسمائه يناسب حاله، فإذا كنت في ضعف تقول: يا قوي! وإذا كنت في فقر تقول: يا غني! وهكذا عندما تستنصر الله أن ينصرك على أعدائك، كل اسم تتعلق به حسب حالك، فكأنك تقول: ربي أنا أذكرك بفضلك علي أنت سترتنا بما يخرج منا من أذى سترته عن غيرنا ولا يراه أحد، لا قريب -كما يقال- ولا بعيد، فكما سترت هذا الأذى وهذا كله من جراء مغفرتك، من جراء سترك، من جراء وقايتك لنا، وجعلته في ذلك المكان الذي لا يطلع عليه أحد، نتوسل إليك بمغفرتك التي سبقت وجودنا، وسبقت تقصيرنا، وسبقت عملنا، والإحسان منك هو البداية، نسألك أيضاً أن تستر البلايا والرزايا الأخرى التي تصدر عنا، وإذا كان الأمر كذلك فكما أنك تطلب من الله أن يستر ذنوبك، وأن يقيك العقوبة عليها فهلا تطلب من الله هذا؟ فتخلق بأخلاق الله، فالله يعاملك كما تعامل عباده، فإذا كنت تستر العباد أبشر بأن الله سيسترك، وإذا كنت تفضح العباد فحقيقة تستحق الفضيحة في الدنيا وفي الآخرة.

آثار معاني الغفور

إخوتي الكرام! لا يخلو مخلوق من كمال ونقص، وحسن وقبح، فالله جل وعلا عندما عاملنا أظهر الكمال والحسن، وستر القبيح والنقص، والوجه أكمل ما في أعضائك أظهره، السوأتان اسمها: سوأة يسوء الإنسان أن يراها أحد فسترها. هذه هي آثار مغفرة الله، وآثار اسم الله الغفور، كونك تأكل مع أصحابك وتجتمعون هذا كمال، تقضي الحاجة لا تجتمعون على قضاء الحاجة ذاك ستر الله، هو الغفور سبحانه وتعالى، فمن آثار مغفرته: ستر القبيح، ستر النقص، وأنت إذا كنت تطلب من الله أن يستر قبائحك الأخرى التي ينبغي أن تعاقب عليها من عيوب وذنوب وكلنا نخطئ مع علام الغيوب في الليل وفي النهار، فإذا كنت تريد هذا فاستر عباد الله، فالله يريد منا أن نستر عباده كما سترنا، استر أنت ما تطلع عليه من نقص على مخلوق، وكل مخلوق فيه كمال وفيه نقص، فيه حسن وفيه قبح، فأنت إذا اطلعت على نقصه لا تظهره ولا تذكره، وإذا اطلعت على قبحه لا تذكره ولا تشهره، إنما اذكر الجميل.

يذكرون في أخبار نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: أنه مر مع أصحابه الحواريين عليهم وعلى جميع الصديقين رحمة الله ورضوانه، فرأوا كلباً ميتاً متفسخاً منتفخاً، فقال الحواريون: يا نبي الله! يا روح الله! على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ما أنتنه! قال: ويحكم هلا قلتم: ما أشد بياض أسنانه؟ يعني: تذكرون القبيح أي ما تقع نفوسكم إلا على القبح، هذا كلب فيه قبح وفيه حسن، أسنانه بيضاء جميلة سبحان من ركبها في فيه! فهلا قلتم: ما أشد بياض أسنانه؟ ما أجمل هذه الأسنان! وفي ذلك إشارة إلى أنه ينبغي دائماً أن تتخلق بخلق الغفور، أظهر الجميل واستر القبيح، أظهر الكمال، واستر القبيح كما عاملك الله عامل عباده، عامل عياله، عامل خلقه، إذا اطلعت على نقص منهم استره، وإذا اطلعت على كمال حاول أن تبديه وأشهره، فهذا هو صفة العاقل وصفة المؤمن الموحد يظهر الحسن ويستر القبيح ويستر السيئ.

وحقيقة هذه هي النفس الطاهرة التي تنظر إلى هذا الاسم ألا وهو الغفور، ستر للقبيح ووقاية لأثره، فلم تظهروا عفونة الكلب ونتنه ولا تنظر إلى ما فيه من صفات الجمال الأخرى، قل هذه الصفة التي فيه وعود لسانك ونفسك على هذا الخلق الكريم.

تأديب الله عز وجل لنبيه

إخوتي الكرام! هذا الأمر حقيقة ينبغي أن يعيه المسلمون، وقد ربى الله نبيه عليه الصلاة والسلام على هذا المعنى، وربى نبينا صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته على هذا المعنى، أما تربية الله للنبي عليه الصلاة والسلام وهذا كله من آثار اسم الله الغفور، يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] ، (فبما رحمة) ما زائدة للتوكيد، فالأصل: فبرحمة من الله لنت لهم، أي: بسبب رحمة الله التي جعلها الله في قلبك ورحمته بك صرت لينا، وصرت غفوراً رحيماً مع أصحابك وأتباعك.

استمع للتوجيه الرباني الذي وجه لنبينا عليه الصلاة والسلام: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159] ثلاثة أمور: فاعف عنهم في حق نفسك إن أخطئوا معك، أو جهلوا عليك هؤلاء بشر، ولا ينفك مخلوق من نقص، لكن مثلك الآن الموحدون اتبعوك وأحبوك، وقدموا طاعتك على هوى أنفسهم فإذا أخطئوا كمال ونقص، حسن وقبح، فأنت اعف عنهم ما يجري منهم من نقص وقبح.

ثم قال: (استغفر لهم)، ليس في حقوقك فقط تتساهل وتعفو بل في حقوق الله لو قدر أنهم عصوا الله وأخطئوا اطلب من الله المغفرة لهم، فإذا استغفرت لهم غفرت لهم، وبعد هذين الأمرين: أن عفوت عنهم واستغفرت لهم فأهلوك لإعطاء الرأي والمشاورة، فهم من عباد الله المخلصين، فشاورهم في الأمر لكن متى؟ بعد أن عفوت واستغفرت، أما إذا كانوا متلطخين وأنت ما عفوت عنهم كيف سيقبلهم الله؟ كيف سيوفقهم للرأي السديد عندما تستشيرهم؟ إذا ما استغفرت لهم ما زالوا إذاً في بعد عن رضوان الله كيف سيوفقون إذاً للصواب وللهدى؟ لكن إذا غفرت لهم ما يتعلق بنفسك وطلب المغفرة لهم من ربك فيما يتعلق بحقوق الله فهؤلاء ليس عليهم تبعة لمخلوق، ولا تقصير في حق الخالق، تأهلوا هؤلاء لمشورة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]. انظروا لهذا التأديب الرباني لنبينا عليه الصلاة والسلام، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فإذا عزمت على أمر من الأمور بعد مشورتهم لا تعول على رأي أحد ولا تعتمد على أحد من الخلق، ولا تضمن أن هذا الرأي سيحدث النصر بنفسه اربط قلبك بربك جل وعلا، لكن هذه أمور أنت أمرت بها فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] والتوكل: ثقة القلب بالرب جل وعلا، عفوت عنهم، استغفرت لهم، شاورتهم ثم قم بعد ذلك بنتيجة هذه المشورة معتمداً على الله لا على رأيهم، ولا معولاً عليهم فهم ومن عداهم لا ينفعون ولا يضرون ومقالد الأمور بيد الحي القيوم: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2] ، سبحانه وتعالى!

إذاً: هذا الخلق ربى الله نبينا عليه على نبينا صلوات الله وسلامه، وربانا نبينا صلى الله عليه وسلم عليه، ففي مسند الإمام أحمد، وصحيح مسلم ، والسنن الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، استر ما فيه من قبح ومن نقص، يسترك الله في الدنيا والآخرة، ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )، ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ) وتكملة الحديث: ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة )، وهي الطمأنينة والرحمة، وسكون القلب وتعلقه بالرب جل وعلا، وليس المراد من السكينة: الملائكة؛ لأن الملائكة سيأتي ذكرها في آخر الحديث: ( إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه ).

إذاً: هنا من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، تعلم هذا الخلق من الخالق جل وعلا، فهو الغفور، وأنت كل يوم تقول: غفرانك، تطلب من الله مغفرته ولا تغفر لعباد الله، والله ما حالك إلا كحال خنزير.

رحمة الله على الإمام ابن القيم عندما ذكر في مدارج السالكين في الجزء الأول صفحة ثلاث وأربعمائة، يقول: من الناس من طبعه كطبع الخنزير، هو في صورة بشر، لكنه في الحقيقة خنزير، وإذا مات سينسخ إلى صورة خنزير، يمر بالطيبات والفواكه لا ينظر إليها، فإذا قام الإنسان عن حاجته، فالخنزير ينتظرك بمجرد ما تقضي حاجتك يأكل. هذا هو وصف الخنزير، مع أنه يرى الطيبات أمامه، ولو وضعته في الورود والرياحين لمات، يقول الإمام ابن القيم : وهكذا كثير من الناس، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها، ولا يتحدث بها، ولا تناسبه، فإذا رأى سوءاً أو كلمة عوراء جعلها فاكهته.

من منا يخلو من الخطأ؟ نحن نخطئ في الليل وفي النهار، ذنوبنا أكثر من طاعاتنا، لكن سبحان من سترنا! وكما قلت: كل إنسان فيه كمال ونقص، فيه حسن وقبح، فتحدث بالكمال والحسن، واستر الناقص والسيئ، ونسأل الله أن يعاملنا بعفوه ورحمته، وأن يجعلنا ممن يذكرون عباده بالكرماء إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

ولعلكم تعرفون في هذه الحياة وترون ما فيها من المنكرات، تسمع كلمة، لا أريد أن أقول: إنها حق، حيث أنها باطلة، فإذا سمعت ساعتين أو ساعتين ونصف كلاماً بأدلة، وآيات وأحاديث ما رأيت إلا هذا الخطأ، إذا كان خطأً كما ترى فغير معقول أن كل هذا الكلام خطأ، لكن هذه هي أحوال خنازير البشر، وكرره الإمام ابن القيم فيما يزيد على صفحة ونصف، فعند قول الله جل وعلا: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، يقول الإمام أبو محمد بن عيينة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: (إلا أمم أمثالكم) أي: في الأخلاق والصفات، وأنتم تشبهونها، يعني: هذه الحيوانات على حسب طبائعكم، وأنتم على شاكلتها، فيوجد فيكم من هو حمار، كما قال الله في حق اليهود: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ [الجمعة:5] وفيكم من هو كلب، كما قال الله جل وعلا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، وصدق الله عندما يقول في هذا الصنف من الناس: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، وهذا المعنى حقيقة، وانقسام الناس إلى معادن، كمعادن الذهب والفضة والحديد، والغائط والبول والقمامة. هذا يحتاج إن شاء الله إلى موعظة نتدارسها حول هذه الآية كما أشار إلى ذلك إمام التابعين، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38].

وفصل الإمام ابن القيم -كما قلت لكم- في هذا المكان أصناف الناس: ففيهم من هو حقود كالجمل، وفيهم من فيه سكينة كالغنم، وفيهم وفيهم، لكن لما جاء لوصف الخنازير، قال: وفيهم من هو كالخنزير، يمر بالطيبات فلا ينظر إليها ولا يلتفت إليها، فإذا جلس الإنسان ليقضي حاجته راقبه، فإذا قام جاء وأكله، وكثير من الناس يسمع لمئات من الكلمات الطيبات فلا ينظر إليها ولا يتحدث بها، إنما يتصيد عثرة، يراها عثرة وليؤولها بعد ذلك لما يريد، فإذا سمع شيئاً من هذا النحو وهذا الصنف جاء ووشوش حوله، نسأل الله أن يكفينا شر كل ذي شر إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.

هذان أمران إخوتي الكرام! ينبغي أن نعيهما عند كلمة غفرانك.

إذاً: هذا الذكر مستحب بالاتفاق، والحكمة من إتيانه على غيره لأمرين: لأننا منعنا من الذكر فنستغفر الله من التقصير الذي حصل منا في حق الله من عدم ذكره، والأمر الثاني: أن هذه النعمة تحتاج إلى شكر، ونحن مقصرون، فنطلب مغفرة الحي القيوم، ثم بعد ذلك ينبغي أن نستفيد وأن نعتبر بهذا، فكما أننا نكره ما يخرج منا ونتأفف منه، فلنكره الذنوب والعيوب، فهي أشنع عند علام الغيوب، وكلمة الغيبة التي تقولها، لو مزجت بماء البحر لمزجته ولأنتنته ولغيرته، ولو وضع غائط أهل الدنيا بأسرهم في ماء البحر لما غيره، لكن كلمة فقط تعير بها أخاك، لو مزجت بماء البحر لأنتن منها، فاعلم شناعة الذنوب والعيوب، فهي أشنع من الغائط الذي يخرج منك، فتأفف منه، فإذا تأففت من هذا تأفف من شهواتك وشبهاتك، فهي أشنع من النجاسات الحسية التي تخرج من البشرية.

والأمر الثاني: كما أنك تطلب من الله المغفرة، وقد عاملك الله بذلك.. في هذه الحياة، وقد جعل هذه النجاسة تخرج من مكان لا يراها أحد عندما تخرج منك، فعامل عباد الله بما طلب الله منك أن تعاملهم، وبما عاملك الله، فهو الغفور، هو الذي سترهم، ويقيهم سبحانه الله وتعالى المكروهات والضر، فاستر عباد الله واحفظهم؛ لتتخلق بخلق الله ألا وهو خلق المغفرة.

تخريج حديث عائشة: (كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك) وبيان درجته

إخوتي الكرام! ننتقل إلى المبحث الثاني والثالث، ألا وهو ما يتعلق بتخريج الحديث وبيان درجته.

هذا الحديث: حديث أمنا عائشة رضي الله عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك ) رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وإنما قدمته على غيره؛ لجلالته ورفعة قدره، ولكن لم يخرج هذا الحديث في صحيحه، رواه في الأدب المفرد، فانظروه في صفحة واحد ومائة بالطبعة المختصرة، أو لعله بدل المختصرة، الذي ليست محققة في الجزء بقرابة مائة وثمانين صفحة، ورواه أيضاً في التاريخ الكبير، وهو في ثمانية مجلدات، انظروه في الجزء الثامن صفحة ست وثمانين وثلاثمائة، في التاريخ الكبير، ورواه أبو داود وابن ماجه والترمذي ، أما النسائي فلا، ووهم جمع غفير من الناس أن الحديث رواه أهل السنن الأربعة، وهذا وهم منهم، رواه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، ولم يخرجه في سننه، وهو في صفحة مائتين وسبعين ومائة.

والحديث رواه الإمام أحمد في المسند في الجزء السادس صفحة خمس وخمسين ومائة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه في الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين، والحاكم في مستدركه وصححه في الجزء الأول صفحة ثمان وخمسين ومائة، وهو في السنن الكبرى للإمام البيهقي في الجزء الأول صفحة سبع وتسعين، ورواه الإمام ابن السني في عمل اليوم والليلة صفحة تسع عشرة، ورواه الإمام البغوي في شرح السنة في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين وثلاثمائة، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف في أوائله في الباب الأول أو الثاني، في الجزء الأول صفحة اثنين، أوائل المصنف لـابن أبي شيبة ، وهو في المنتقى لـابن الجارود .

والحديث إخوتي الكرام! صححه جم غفير من أئمة الإسلام، منهم الإمام النووي في المجموع في الجزء الثاني صفحة خمس وسبعين، وصححه أيضاً في الأذكار في صفحة اثنين وعشرين، وقد صححه الحاكم أيضاً، وأقره عليه الذهبي ، وصححه أبو حاتم ، وصححه ابن خزيمة ، وصححه الإمام ابن حبان وعليه فالحديث مروي في هذه الكتب وهو صحيح كالشمس.

عندنا تنبيهان يتعلقان بهذا المبحث:

التنبيه الأول: تصحيح الحديث هو صحيح، وما تقدم معنا في ترجمة بعض رواته ألا وهو يوسف بن أبي بردة قلنا: إنه مقبول، وعليه يقبل حديثه عند المتابعة، وإلا فهو لين الحديث، كنت قلت: إن هذا الحكم من إمام المحدثين وشيخهم الإمام ابن حجر العسقلاني غير مسلم مع احترامنا له، وإدلالنا لمقاله، وهو قد صحح هذا الحديث أيضاً، فالحكم على يوسف بن أبي بردة بأنه مقبول، وعليه يقبل حديثه إذا توبع، وإلا فهو لين الحديث، فهذا الحديث -كما سيأتينا- انفرد به إسرائيل بن يونس عن يوسف بن أبي بردة عن أبيه عن أمنا عائشة ، ولا يوجد متابع لهذا الحديث، وعليه ينبغي أن يكون ضعيفاً على حسب اصطلاح الحافظ ، يقول: مقبول إذا توبع، وإلا لين الحديث.

وكان تقدم معنا الكلام إخوتي الكرام! على يوسف ، وقلت: أراد الحافظ بقوله: مقبول أنه ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، فإن توبع وإلا فحديثه لين، قلت: إن هذا غير مسلم في يوسف بن أبي بردة ، فـالحافظ نفسه نقل توثيقه عن إمامين عن ابن حبان في تهذيب التهذيب، وعن الإمام العجلي ، ولذلك حكم الإمام الذهبي في الكاشف في ترجمته بأنه ثقة، وما زاد على ذلك ولا نقل شيئاً آخر، قال: يوسف بن أبي بردة ثقة، ثم بين بعد ذلك من روى حديث يوسف ، وتقدم معنا حديث مروي في الكتب الستة، أو ليس كذلك؟ أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأهل السنن الأربعة، لكن قال عنه الذهبي في الكاشف: ثقة، وعليه إذا كان ثقة فالحديث -كما قلت- صحيح وتصحيحه هو الصحيح، وقول الإمام الترمذي هنا: هذا حديث حسن غريب، لا يعكر على هذا؛ لأنه قد تتفاوت أحكام الأئمة على الحديث، هو خرج عن الضعف قطعاً وجزماً، أما أنه حسن أو صحيح، الحسن في الأصل كالصحيح من حيث الاحتجاج، لكن أحياناً الإمام يتردد نظره نحو الرواة، هل بلغوا أعلى صفاة الضبط فحديثهم صحيح، أو خف الضبط فحديثهم حسن، فقوله: حسن غريب، لا يعكر على تصحيح الحديث كما نص على ذلك أئمتنا، وقوله: (غريب) لا يذكر فيه على الإطلاق؛ لأنه يقصد أن الحديث ما روي إلا من طريق واحد، هذه هي الغرابة فيه.

وأما الحسن فتقدم معنا في اصطلاح الترمذي أن يروى من غير وجه نحو ذاك.

وتعريف الحسن عند الترمذي يريد به ما أطلق عليه لفظ الحكم فقط، فإذا قال: (حسن صحيح)، لا ينطبق عليه وصف الحسن عند الترمذي ، وإذا قال: (حسن غريب)، لا ينطبق عليه وصف الحسن عند الترمذي ، إذا قال: هذا حسن، فقد روي من غير وجه نحو ذاك، ولذلك وصف الحسن عند الترمذي هذا ما اقتصر عليه في إطلاق ذلك اللفظ عليه، وإذا أتبعه بلفظ آخر، فلا إشكال؛ لأنه تقدم معنا حسن صحيح، وقلنا: إما حسن وصحيح، أو حسن أو صحيح، فقد يرد إشكال، حسن أو صحيح، إذا كان له إسناد واحد كما تقدم فهو واحد، إما حسن وإما صحيح، قلنا: يأتي إشكال، وهو أن الترمذي يقول: الحسن روي من غير وجه نحو ذاك، وهنا أنتم تقولون: إما حسن وإما صحيح وله طريق واحد، قلنا: هذا فيما أطلق عليه لفظ الحسن فقط، أما ما قال: حسن غريب فليس هذا على اصطلاح الترمذي في تعريف الحسن، وما قال: (حسن صحيح) ليس هذا على اصطلاح الترمذي في تعريف الحسن، تعريفه للحسن فيما قصر عليه لفظ الحسن فقط، إذا قال: هذا حسن، لا بد من أن يروى من غير وجه نحو ذاك كما سيأتينا في الكتاب.

كلام الحافظ ابن حجر قال: فإن جمعا يعني: وصف الصحة والحسن. فللتردد في الناقل حيث التفرد، وإلا فاعتبار إسنادين، يعني: إذا جمع الصحة والحسن حسن صحيح، إما للتردد في الناقل حيث التفرد، يعني: إذا كان الحديث مروياً من طريق واحد، فتردد الإمام الترمذي هل هو حسن أو صحيح، فلا يقال الحسن عنده ينبغي أن يروى من وجهين، نقول: هذا في الحسن فقط، لا في الحسن الصحيح، فللتردد في الناقل حيث التردد، وإلا فباعتبار إسنادين، يعني: حسن وصحيح، فهو حسن بناءً على إسناد، وصحيح بناءً على إسناد، وعليه ما يقول به حسن صحيح أقوى مما يقال فيه صحيح، إذا قلنا: حسن وصحيح، وعليه ما يقال به حسن صحيح أقل مما يقال فيه صحيح، إذا قلنا إن المعنى حسن أو صحيح.

إذاً: تقدم معنا تعريف الحسن مطولاً، وقلت: يقصد بالحسن أن يروى من غير وجه نحو ذاك فيما أفرد فيه هذا الوصف، ومتى ما نعته بوصف آخر فلا يقصد به هذا الاصطلاح، وإلا هنا ستقع في إشكال؛ لأنه يقول: حسن غريب، غريب يعني: طريق واحد، حسن طريقان، كيف ستجمع بينهما؟ قلنا: هذا لا إشكال فيه، إذا عرفت مراده، زال عنك الإشكال، هذا كقول: حسن صحيح، عندما نقول: حسن أو صحيح، ما يرد علينا أن الحسن عند الترمذي ينبغي أن يروى من غير وجه، وأنتم تقولون: إما حسن وإما صحيح وله طريق واحد، قلنا: لا يرد هذا أبداً؛ لأن تعريف الترمذي للحسن فيما أطلق عليه ذلك الوصف دون غيره.

إخوتي الكرام! كما قلت: التنبيه الأول من التنبيهين أن الحديث صحيح، والحكم على يوسف بن أبي بردة بأنه مقبول وعليه لم يتابع هنا، فينبغي أن ينزل الحديث عن الحسن لا عن الصحة هذا ليس بمسلم، فـيوسف بن أبي بردة ثقة كما قلت، وقد نص الإمام ابن حجر على ذلك في تخريج أحاديث الأذكار، فالكتاب ليس عندي لكن هذا بواسطة نقل الفتوحات الربانية للإمام ابن علان في شرح الأذكار النووية، في الجزء الأول صفحة ثلاث وأربعمائة، ينقل عن الحافظ ابن حجر أنه قال: سند هذا الحديث حسن صحيح، وقال ابن حجر: مداره عند جميع رواته، يعني: عند جميع من خرجه من أهل الكتب المتقدمة، على إسرائيل بن يونس، قال الدارقطني: تفرد به إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة عن أبيه، وأبوه عن عائشة رضي الله عنهم أجمعين، فهو غريب كما قال الترمذي، لكن جميع رجاله ثقات أثبات، له طريق واحد، لكنه حديث صحيح وقد نص شيخ الإسلام نفسه على هذا، وهذا لا يتناسب مع قوله في يوسف بن أبي بردة أنه مقبول، وقلت لكم: لما رجعت إلى التهذيب هو حكم عليه بأنه ثقة، ونقل هذا عن ابن حبان والعجلي، نعم أن ابن حبان متساهل في التوثيق، لكن العجلي ليس كذلك، وعليه فهو ثقة، وهذا هو حكم الإمام الذهبي عليه بأنه ثقة، والعلم عند الله جل وعلا.

شواهد لحديث: كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك

التنبيه الثاني: قول الترمذي عليه رحمة الله: لا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها عن نبينا عليه الصلاة والسلام، قوله: لا نعرف إلا حديث عائشة، أي: لا نعرف حديثاً ثابتاً بنصه صحيحاً، وهو قوله: هناك أحاديث أخرى، لكنها ضعيفة كما سيأتينا، لا نعرف حديثاً ثابتاً بنصه صحيحاً دون تقوية له من شواهد أخرى، إلا حديث أمنا عائشة، وهذا هو مراد الترمذي كما حقق ذلك الإمام المنذري في تهذيب السنن في الجزء الأول صفحة ثلاث وثلاثين، وهذا هو الذي حققه أيضاً الإمام النووي في المجموع في المكان المتقدم، فقال الإمام النووي: وجاء في الذي يقال عند الخروج من الخلاء أحاديث كثيرة، ليس فيها شيء ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها المذكور: ( غفرانك )، وهذا مراد الترمذي : لا يعرف في الباب إلا حديث أمنا عائشة، وهو حديث حسن غريب، وإن قيل: هل هناك أحاديث أخرى؟ أقول: نعم، أشار إليها الإمام المنذري في تهذيب السنن فقال عليه رحمة الله: وفي الباب حديث أبي ذر وحديث أنس وحديث ابن عمر . وأنا أقول: وحديث ابن عباس أيضاً، وحديث سهل بن أبي حتمة، وهذه خمسة أحاديث سأذكرها إن شاء الله.

قال المنذري: إن هذه الأحاديث أسانيدها ضعيفة، ولهذا قال أبو حاتم: أصح ما فيه حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

إذاً: عندنا أحاديث أخرى فيما يقال عقب الخلاء رويت من غير طريق أمنا عائشة رضي الله عنها، وفيها أذكار أخرى تقال كما تقدم. معنا أيضاً حديث أنس: ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )، ورد في روايات أخرى عن زيد بن أرقم، وعن غيره كما تقدم معنا وقلت: منها التسمية وهي ثابتة، وهكذا أدعية أخرى: ( اللهم إني أعوذ من الخبيث المخبث الرجس النجس من الشيطان الرجيم )، وقلت: تجمع وتقال عند دخول الخلاء.

أما رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه فقد رواها ابن ماجه في سننه، قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ) فاجمع هذا مع ما تقدم، تلك الصيغة لا تفرط فيها، كحديث أنس الذي تقدم معنا، أصح ما يقال عند دخول الخلاء: ( بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )، ثم قلنا أدعية أخرى معه، وأن هذه لا تفرط فيها، إذا خرجت قل: ( غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )والحديث هذا الذي في سنن الترمذي ضعيف، ففيه إسماعيل بن مسلم في سنن ابن ماجه ، ورقمه في سنن ابن ماجه ثلاثمائة وواحد، فيه إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحاق من البصرة، ثم سكن مكة المكرمة، كان فقيهاً، لكنه ضعيف الحديث من رجال الترمذي وابن ماجه فقط، وهو من الطبقة الخامسة، وما حدد سنة وفاته يعني: توفي بعد مائة ودون المائتين، هذا الذي في التقريب في ترجمته، فيه إسماعيل بن مسلم المكي . إذاً: هذه الرواية الأولى عن أنس رضي الله عنه ( كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ).

وهذا الدعاء رواه ابن أبي شيبة عن نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، حتماً منقول عن أخبار أهل الكتاب، هو في المصنف في الجزء الأول صفحة اثنتين أن نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني.

وحديث أنس أيضاً، لا زلنا في رواية أنس، لكن صيغة أخرى رواها ابن السني في كتابه عمل اليوم والليلة، في المكان المتقدم صفحة تسع عشرة، بلفظ يختلف عن لفظ ابن ماجه ولفظ ابن السني ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أحسن إليّ في أوله وآخره )، (في أوله) أي: في هضمه وبلعه، (وآخره) في إخراجه، تجمع الآن بين هذه الصيغ الثلاث ( غفرانك ) ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ) ( الحمد لله الذي أحسن إليّ في أوله وآخره ).

أما الرواية الثانية رواية أبي ذر فرواها ابن السني في عمل اليوم والليلة في المكان المتقدم بمثل رواية حديث أنس الرواية الأولى: ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ) ورواه أيضاً الإمام ابن الجوزي في كتاب العلل المتناهية في الجزء الأول صفحة ثلاثون وثلاثمائة، ورواه الإمام الدارقطني في كتاب العلل.

وقد حكم الإمام النووي في المجموع على سندها بالاضطراب والضعف، لكن الحافظ ابن حجر لم يرتض ذلك، فحسن حديث أبي ذر على انفراده، وقال: إنه حديث حسن، وروي موقوفاً ومرفوعاً، وقد مال الشيخ -يريد الإمام النووي - إلى أن الحديث موقوف، وإذا كان مرفوعاً فهو مضطرب ضعيف، قال: وهذا خلاف صنيع الشيخ، فعند الشيخ إذا تعارض الوقف والرفع يقدم الرفع؛ لأن هذا زيادة علم وخبر، والاضطراب منتف عن الحديث، هذا كلام الحافظ ابن حجر، وعليه أنه حسن، ( الحمد لله الذي أذهب عن الأذى وعافاني ) من طريق أبي ذر، بسند حسن، ومن طريق أنس بسند ضعيف رضي الله عنهم أجمعين.

يقول ابن علان في الفتوحات الربانية في المكان المشار إليه: ولعل ابن حجر قواه من شواهده، والعلم عند الله جل وعلا، وقد رجح الإمام ابن الجوزي أيضاً القول بالوقف، وأن هذا من كلام أبي ذر، وليس مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ورواه أيضاً ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي ذر موقوفاً عليه، ورواه أيضاً عن حذيفة موقوفاً عليه، وفي رواية أخرى عن أبي ذر في مصنف ابن أبي شيبة، أنه كان يقول موقوفة عليه من قوله: ( الحمد لله الذي أماط عني الأذى وعافاني ).

خلاصة الكلام: رواية أنس قلنا فيها دعاءان وذكران: ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ) و( الحمد لله الذي أحسن إليّ في أوله وآخره ) رواية أبي ذر كـرواية أنس الأولى، واختلف في وقفها وفي رفعها، والمعتمد أنها مرفوعة وإسنادها حسن عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

الرواية الثالثة رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، رواها ابن السني أيضاً في عمل اليوم والليلة في الصفحة عشرين، ورواه الإمام الدارقطني في العلل، ورواها الإمام الطبراني في كتاب الدعاء، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه ( كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ قوته، وأذهب عني أذاه ) تلذذت به، وما ينفعك بقاءه والأذى خرج، والحديث ضعيف، كما قرر أئمتنا، لكن له شواهد في رواية أبي ذر المتقدمة، ورواية أنس رضي الله عنهم أجمعين، وهذا الدعاء رواه ابن أبي شيبة أيضاً في مصنفه عن نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فكان يقول الدعاء المتقدم: ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )، وكان يقول: ( الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ قوته، وأذهب عني أذاه ).

الرواية الرابعة: عن ابن عباس رضي الله عنهما رواها الإمام الدارقطني كما في عمدة القاري في شرح صحيح البخاري للإمام العيني في الجزء الثاني صفحة ثلاث وسبعين ومائتين عزاها إلى كتاب العلل للإمام الدارقطني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظ الرواية عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه ( كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني )، وفي رواية: ( أخرج عني ما يؤذيني، وأمسك عليّ ما ينفعني )، بمعنى رواية أبي ذر ورواية ابن عمر ورواية أنس رضي الله عنهم أجمعين، وإن كانت الألفاظ فيها شيء من الخلاف، وهذه الرواية رواها ابن أبي شيبة في مصنفه عن طاوس مرفوعة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وطاوس من التابعين فالأثر مرسل.

والرواية الخامسة وهي الأخيرة: رواية سهل بن أبي حتمة وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، رواها الإمام ابن الجوزي في العلل، في الجزء الأول صفحة ثلاث وثلاثمائة، ورواها الدارقطني أيضاً في العلل بنحو رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، بالرواية المتقدمة: ( الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني، وأمسك عليّ ما ينفعني )، وقد أشار إلى هذه الرواية الإمام العيني أيضاً في عمدة القاري.

وهذه الروايات الخمس عن أنس وأبي ذر، وابن عمر وسهل بن أبي حتمة فيها كلام، أما رواية أبي ذر فتقدم معنا أن الحافظ ابن حجر حسنها، وعلى التسليم بضعفها، فتتقوى وتعتضد ببعضها، وعلى التسليم بأنها لا تتقوى؟ فيؤخذ بها في فضائل الأعمال كما قرر الأئمة الأبرار، فالحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال عند أئمتنا -كما تقدم معنا- إذا لم يشتد الضعف ولم يخرج إلى درجة الترك ولا النكارة والأمر هنا كذلك، مع أن حديث أبي ذر على انفراده حسن وببعضها تتقوى.

ولذلك الشيخ الخطاب السبكي في كتاب المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود ، في الجزء الأول صفحة مائة وتسع عشرة، يقول: هذه الأحاديث، وإن كانت ضعيفة فيقوي بعضها بعضاً، على أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، والعلم عند الله جل وعلا.

خلاصة الكلام: إذا خرج الإنسان يقول: غفرانك، لا بد من أن يتبعها بالصيغة التي حسنها الحافظ ابن حجر : ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )، ويقول بعد ذلك: ( الحمد لله الذي أحسن إليّ في أوله وآخره ) ويقول أيضاً: ( الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ قوته، وأذهب عني أذاه )، ويقول أيضاً: ( الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني، وأمسك عليّ ما ينفعني )، فلو جمع بين هذا كان أحسن، وإذا اقتصر فلا أقل من أن يقتصر على الصيغتين: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني).

تخريج زيادة: (غفرانك ربنا وإليك المصير)

إخوتي الكرام! عندنا أيضاً أمر مهم ينبغي أن ننتبه له حول رواية حديث أمنا عائشة رضي الله عنها ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك )، ورد في سنن البيهقي عند تخريج الحديث في المكان المشار إليه في الجزء الأول صفحة سبع وتسعين زيادة في الحديث: ( كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك ربنا وإليك المصير )، لكن هذه الزيادة لا تثبت، كما سأقرأ عليكم، وأذكر لكم كلام الإمام البيهقي، قال البيهقي .

وهذه الزيادة لم أجدها إلا في رواية ابن خزيمة. ورواية ابن خزيمة في صحيحه ذكرتها لكم في الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين ليس فيها إلا غفرانك، لا يوجد فيها: ( غفرانك ربنا وإليك المصير ) يقول: لم أجدها إلا في رواية ابن خزيمة، وهو إمام، يقول: وقد رأيت نسخة قديمة ليس فيها هذه الزيادة، ثم ألحقت بخط آخر بحاشية الكتاب. هذا الذي يقوله البيهقي الذي توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة غالب ظني أو ليس كذلك؟ على كل حال، في هذا الحدود تقريباً يقول: وقد رأيت نسخة قديمة ليس فيها هذه الزيادة، ثم ألحقت بخط آخر بحاشية صحيح ابن خزيمة فالأشبه أن تكون: ملحقة بكتابه من غير علمه، يعني: ليست هذه ثابتة في رواية ابن خزيمة، فالأشبه أن تكون ملحقة بكتابه من غير علمه، ثم ساق الإمام البيهقي الحديث من طريق أبي عثمان الصابوني شيخ الإسلام عن ابن خزيمة بدون هذه الزيادة، وهي ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك ) دون قوله: ( غفرانك ربنا وإليك المصير )، قال الإمام البيهقي: وقد صح بذلك بطلان هذه الزيادة في الحديث ولله الحمد، وعليه زيادة (غفرانك ربنا وإليك المصير)، بعد غفرانك لا تثبت، والأحسن أن لا يأتي الإنسان بها على أنها ذكر مشروع؛ لأنها لم تثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن كما قلت: إن أردت أن تأتي بالصيغ الأخرى فهي مروية، وهذه ملحقة، ولا علم للإمام ابن خزيمة بها، والنسخة المطبوعة الآن بين أيدينا ليس فيها هذه الزيادة، وخلاصة الكلام يقول الإنسان: غفرانك، وإذا ضم إليها: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) لكان حسناً أيضاً، والعلم عند الله جل وعلا.

ندخل إخوتي الكرام! في المحاضرة الآتية إن أحيانا الله في الباب السادس والسابع مع بعضهما والكلام عليهما سيكون بشكل واحد، باب في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، والباب السابع: باب ما جاء من الرخصة في ذلك، وفي ذلك عدة أحاديث نتدارسها فيما يأتي إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب الأرض والسماوات، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [14] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net