إسلام ويب

لقد دلت الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الزواج سبب الغنى ومفتاح من مفاتيح الرزق بإذن الله تعالى، فإن الله تعالى قد أمر في كتابه المؤمنين أن يزوجوا العزاب ممن ولاهم الله أمرهم، ثم ذكرهم ألا يخافوا إن كانوا فقراء، فإن الله سيغنيهم من فضله، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء يشكو إليه الفاقة أن يتزوج، وقد ورد هذا المعنى عن السلف الصالح.

حديث جابر: (أن رجلاً جاء يشكو إلى النبي الفاقة فقال له: تزوج)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مقاصد النكاح، ونحن في آخر شيء من مقاصده وهو المقصد الخامس، وتقدم معنا أن مقاصد النكاح الأساسية خمسة:

أولها: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية، سواء كانت حسيةً أو معنوية.

ثانيها: إيجاد الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.

ثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه ومساعدته في نفقته.

رابع المقاصد: تذكر لذة الآخرة.

وكل هذا تقدم معنا الكلام عليه مفصلاً، وكنا نتدارس آخر المقاصد والثمرات ألا وهو ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجه وقراباته، وقلنا: إننا سنتدارس في هذا المقصد خمس آيات كريمات، وقد تدارسنا أربعاً منها وشرعنا في مدارسة الخامسة، وهي آخر شيء معنا في هذا المبحث، وهي قول العزيز الغفور في سورة النور: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] .

وقلت: إن الآية تدل على أن النكاح باب للغنى ومفتاح للرزق عن طريق عدة أمور، منها: عن طريق انتفاع كل من الزوجين بصاحبه، هذا عدا عن تيسير الله وتوفيقه للمتزوج بأن يفتح عليه أبواب الرزق.

وذكرت أن هذه الدلالة التي تشير إليها الآية هو ما وضحته آيات القرآن الكريم، وهو الذي ورد في أحاديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام: أن معونة الله تكون للمتزوجين، وأن من تزوج امرأةً فستأتيه بالمال بفضل ذي العزة والجلال كما في الحديث: (تزوجوا النساء يأتين بالأموال).

وآخر شيء كنا نتدارسه حديث جابر بن عبد الله الذي رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الجزء الأول صفحة خمس وستين وثلاثمائة، وقلت: إن إسناده حسن لولا وجود سعيد بن محمد مولى بني هاشم في الإسناد، فهو الذي كدر حسن الإسناد وأنزله إلى الضعف، ولفظه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رجلاً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يشكو الفاقة فقال له: تزوج)، وقلت: هذا اللفظ هو الذي روي في الأثر في تاريخ بغداد، وأما يرويه الأئمة الفقهاء من أنه تزوج ولم يحصل الغنى، فعاد إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأمره أن يتزوج ثانيةً ثم ثالثةً، ثم عند زواجه الرابعة فتح الله عليه أبواب الرزق من حيث لا يحتسب، فهذه الرواية ما وقفت عليها وإن ذكرها الفقهاء وإنما الرواية الواردة في تاريخ بغداد أنه: أمره بالزواج وليس فيه ذكر العودة.

ترجمة محمد بن الحسن القطان

وتقدم معنا أن الخطيب البغدادي أورد هذا الحديث في ترجمة محمد بن أحمد الشافعي الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وكنا نتدارس رجال الإسناد: والشيخ الأول وهو شيخ الخطيب البغدادي يقول: أخبرنا محمد بن الحسين القطان ، وهو مجمع على ثقته وإمامته، وقد حدث عنه الخطيب وهكذا الإمام البيهقي ، والإمام اللالكائي ، فهؤلاء كلهم من تلاميذه: الخطيب البغدادي والبيهقي واللالكائي عليهم جميعاً رحمة الله، وثقته وإمامته مجمع عليها كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام الذهبي في السير في الجزء الثاني عشر صفحة واحدة وثلاثين وثلاثمائة.

ترجمة عبد الباقي بن قانع

وأما الراوي الثاني وهو شيخ محمد بن الحسين القطان فهو عبد الباقي بن قانع ، صاحب كتاب معجم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، توفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وأما تلميذه وهو محمد بن الحسين القطان فقد توفي سنة خمس عشرة وأربعمائة كما تقدم معنا، قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير في الجزء الخامس عشر صفحة سبع وعشرين وخمسمائة: كان واسع الرحلة، كثير الحديث بصيراً به.

وقال الإمام أبو بكر البرقاني : البغداديون يوثقونه، وهو عندي ضعيف، البغداديون أئمة بغداد وشيوخ الحديث في بغداد يوثقونه، وهو عندي ضعيف، وقال الدارقطني -وهذا كله في السير-: كان يحفظ لكنه يخطئ ويصر، يعني: إذا أخطأ يصر على خطئه ولا يتراجع عنه، قال الإمام الذهبي : حصل به اختلاط قبل موته بسنتين.

وقد نعته الإمام الذهبي في السير بأنه الإمام الحافظ البارع الصدوق إن شاء الله، هذا كلام الإمام الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ومثله لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، وأما الذي قبله فالحديث في أعلى درجات الصحة مجمع على ثقته وإمامته.

ترجمة محمد بن أحمد بن نصر الترمذي

الراوي الثالث: هو محمد بن أحمد بن نصر الترمذي ، وهو الإمام العلامة شيخ الشافعية في بلاد العراق في وقته، وكان إمام المحدثين في زمانه، قال الإمام الدارقطني عنه: إنه ثقة مأمون، وقد توفي سنة خمس وتسعين ومائتين للهجرة.

وقيل: إنه طرأ عليه الاختلاط بآخره، وتقدم معنا الاختلاط ضمن مباحث الترمذي ، وقلت: من اختلط قبل موته بيسير بشهر أو شهرين لا يعد هذا اختلاطاً، إنما الذي اختلط هو تلميذه ابن قانع اختلط قبل موته بسنتين وهذا اختلاط لا شك، أما قبل موته بقليل فقلت: كل إنسان يصاب بذهول، وفي آخر أيامه تضعف قواه، ونسأل الله حسن الخاتمة عند الممات.

إخوتي الكرام! ترجمه الإمام الذهبي في السير في الجزء الثالث عشر صفحة خمس وأربعين وخمسمائة، ونقل عنه أنه جزم بطهارة شعر النبي عليه الصلاة والسلام، ولا إشكال في ذلك، ووجه ذلك: أنه عند الشافعية: أن شعر الإنسان إذا انفصل عنه فهو جسمه، فهنا يقول: بالنسبة لشعر النبي عليه الصلاة والسلام أجزم بطهارته، ولو انفصل عن جسمه الشريف عليه الصلاة والسلام، قال الذهبي معلقاً على ذلك: قلت: يتعين على المسلم القطع بطهارة ذلك. أي: شعر النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال الإمام الذهبي : فوالهفي على تقبيل شعرة منها، وتقدم معنا ضمن مباحث النبوة أن نبينا عليه الصلاة والسلام وزع شعره في حجة الوداع على الصحابة الأتقياء رضوان الله عليهم أجمعين، والحديث ثابت كما تقدم معنا في صحيح مسلم وغيره.

إذاً: الإمام أبو جعفر الترمذي محمد بن أحمد بن نصر هذا ثقة مأمون، ومن كلامه الذي يكتب بماء العينين لا بماء الذهب: أنه سئل عن حديث النزول، ونقل عنه هذا الإمام الذهبي في السير في المكان الذي ذكرته، ونقله عنه أيضاً في كتاب العلو للعلي الغفار في صفحة ست وخمسين ومائة، سئل عن حديث النزول، وهو حديث متواتر روي عن أكثر من عشرة من الصحابة الكرام: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر)، وقلت: إنه حديث متواتر ثابت في الصحيحين وغيرهما، أقطع بذلك وأسأل أمام الله عز وجل.

سئل هذا الإمام المبارك عن حديث النزول، وعن معنى نزول ربنا الغفور سبحانه وتعالى، فقال كما في هذين الكتابين وغيرهما في السير وفي كتاب العلو للعلي الغفار: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. النزول معقول يعني معناه معروف، وهذا كما أثر عن الإمام مالك وعن شيخه ربيعة : الاستواء معلوم، وهنا النزول معقول أي: معناه معلوم ثابت معروف عند كل ذي عقل، لكن حقيقة استواء العزيز الغفور لا يعلمها إلا هو، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والإمام الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتاب العلو للعلي الغفار نقل هذه الجملة وما يشبهها عن إمامين: عن ربيعة شيخ الإمام مالك ، وعن الإمام مالك ، وذكر قبل ذلك أنها رويت عن أمنا أم سلمة زوج نبينا على نبينا وآله وأزواجه وصحبه صلوات الله وسلامه، لكن إسنادها لا يثبت عن أمنا أم سلمة ، وأما رواية ذلك عن ربيعة وعن تلميذه مالك وعن أبي جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي فهي ثابتة ثابتة. وانظروا -إخوتي الكرام- إن شئتم رواية أمنا أم سلمة رضي الله عنها في كتاب العلو للعلي الغفار، من رواية محمد بن أشرف وهو الآفة في الإسناد، قال: حدثنا أبو عمير الحنفي ، وأبو عمير قال الذهبي : لا أعرفه عن قرة بن خالد ، عن الحسن البصري ، عن أمه، عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ، قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول. أي: أنه معلوم معقول، فالاستواء معلوم، وغير مجهول، ومعقول، كل هذا بمعنى واحد، لكن الكيف غير معقول، بل هو مجهول، كل هذا أيضاً بمعنىً واحد، قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. قال الإمام الذهبي : هذا القول محفوظ عن جماعة كـربيعة الرأي ومالك الإمام، وأبي جعفر الترمذي ، فأما عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها فلا يصح؛ لأن أبا كنانة ليس بثقة، وأبو كنانة هو محمد بن أشرس ، وأبو عمير لا أعرفه. أبو كنانة محمد بن أشرس بالسين، يقول: ليس بثقة، وقد ترجمه في المغني في الضعفاء في الجزء الثاني صفحة سبع وخمسين وخمسمائة فقال: ضعيف بمرة، واتهمه بعضهم، وتركه محمد بن يعقوب وهو الإمام أبو عبد الله بن الأخرم شيخ حافظ زمانه الإمام أبي عبد الله الحاكم عليهم جميعاً رحمة الله، وتقدم معنا -إخوتي الكرام- ما يتعلق بترجمة الإمام الأخرم ضمن حديث من أحاديث سنن الترمذي في مباحث الترمذي ، وقلت: توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقلت: إنه أنكر على اختصار الصحيح المتفق عليه، وقال: نحن بحاجة إلى أن نجتهد في زيادة الصحيح لا أن نقلله وأن نختصره.

وقد تقدم معنا عند حديث بروع بنت واشق أنه قال: لو كان الشافعي حياً لقمت على رأسه وصحت بأعلى صوتي: يا إمام! يا أبا عبد الله ! قد صح الحديث فقل به، وذلك لأن الإمام الشافعي قال: ما بلغني من وجه يثبت، وإن ثبت حديث بروع بنت واشق قلت به، فيقول أبو عبد الله بن الأخرم محمد بن يعقوب وهو من الشافعية، يقول: لو أدركت الشافعي لقمت على رأسه وقلت: يا أبا عبد الله ! قد صح الحديث، فقل به، وتقدم معنا أن هذا القول قال به المتأخرون من الشافعية كما تقدم معنا كلام الإمام النووي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

وقال الذهبي في الميزان كما في اللسان مع الميزان في الجزء الخامس صفحة أربع وثمانين: محمد بن أشرس أبو كنانة متهم في الحديث، وتركه أبو عبد الله بن الأخرم ، هذا كلام الإمام الذهبي ، زاد عليه الإمام ابن حجر في اللسان، قال: وضعفه الدارقطني ، ثم قال: وخفي على الضياء -يعني المقدسي - حاله فروى عنه في الأحاديث الجياد المختارة، وصحح الحديث من طريقه. هذا من زيادة كلام الحافظ ابن حجر على الميزان، والعلم عند ذي الجلال والإكرام.

إذاً: هذا الكلام مروي عن جماعة. عن ربيعة ومالك وأبي جعفر الترمذي ، أما روايته عن ربيعة فانظروه في صفحة ثمان وتسعين من كتاب العلو للعلي الغفار صفحة ثمان وتسعين، يقول: عن سفيان : كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، فسأله رجل فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وانظروا أثر مالك في صفحة أربع ومائة من كتاب العلو للعلي الغفار.

وقد أورد روايات متعددة عن الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا منها: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة أخرجوه، يقول: ساق البيهقي بإسناد صحيح، ثم روى أيضاً ما يشبه هذا عن الإمام مالك وهو: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج. قال الإمام الذهبي : هذا ثابت عن مالك ، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك ، وهو قول أهل السنة قاطبةً أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به لا نتعمق ولا نتحذلق ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف رضي الله عنهم أجمعين، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم أجمعين، ولما وسعهم إقراره وإمراره. وقد قلت لكم مراراً: إيماننا بصفات ربنا يقوم على هاتين الدعامين: إقرار وإمرار، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هذا إمرار، وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] إقرار، من لم يقر فهو معطل، ومن لم يمر فهو ممثل، فلا تعطيل ولا تمثيل، قال: ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في نزوله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وانظروه في صفحة ست وخمسين ومائة في ترجمة أبي جعفر الترمذي ، يقول: سمعت أبا الطيب أحمد والد أبي حفص بن شاهين يقول: حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث نزول الرب، كيف هو؟ فقال: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، قال الذهبي : قلت: صدق فقيه بغداد وعالمها في زمانه، إذ السؤال عن النزول ما هو عي؛ لأنه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة، وإلا فالنزول والكلام والسمع والبصر والعلم والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء فالصفة تابعة للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر، وكان هذا -يعني الترمذي - من بحور العلم، ومن العباد الورعين، مات سنة خمس وتسعين ومائتين عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين.

ترجمة إبراهيم بن المنذر

إذاً: هذا الراوي الثالث، وهو في أعلى درجات التوثيق، الراوي الرابع: قال: نبأنا إبراهيم بن المنذر ، وهو أبو إسحاق القرشي الأسدي المدني ، روى له الإمام البخاري وأهل السنن الأربعة إلا أبا داود ، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في التقريب: صدوق، تكلم فيه الإمام أحمد لأجل القرآن، توفي سنة ست وثلاثين ومائتين. كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، والإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا هذه المصطلحات من أولها لآخرها يريد أن يوصد الباب في وجهها، ولذلك كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، مع أن اللفظ عندما نتكلم ألفاظنا مخلوقة لأنها من كسبنا، لكن نقول: اللفظ يحتمل أمرين: يحتمل الملفوظ، ويحتمل اللفظ الذي هو فعلك، ففعلك مخلوق، لكن الملفوظ وهو كلام الله ليس بمخلوق، وقال: من قال: لفظي بالقرآن ليس بمخلوق فهو مبتدع، فإن قال: مخلوق فهو مبتدع، وإن قال: ليس بمخلوق فهو مبتدع، لماذا؟ لأنه إن قال: لفظي بالقرآن ليس بمخلوق، فيحتمل أنه يريد فعله، فاللفظ موهم، ولذلك فالواجب ترك هذه الاصطلاحات من أولها لآخرها، صفات الله ليست بمخلوقة وانتهى الكلام، كما قررت هذا للإخوة الطلاب في كلية أصول الدين فقالوا: حيرتنا يا شيخ ماذا نقول؟ إن قلت: لفظي بالقرآن مخلوق جهمي مبتدع، وإن قلت: لفظي بالقرآن ليس بمخلوق مبتدع أيضاً، فماذا نقول؟ قلت: لا هذا ولا هذا، قل: هذا مصطلح حادث ما لنا وله، نقول: كلام الله ليس بمخلوق، ونترك قول (لفظ) لأن اللفظ يحتمل فعل العبد ويحتمل الملفوظ الذي هو كلام الرب، فبما أن اللفظ موهم فيجب أن تتركه.

وانظروا -إخوتي الكرام- البحث في هذه المسألة في كتاب السنة لـعبد الله ابن سيدنا الإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة الله في الجزء الأول صفحة ثلاث وستين ومائتين، وانظروا أيضاً سير أعلام النبلاء في الجزء الرابع عشر صفحة أربع وأربعين ومائة في ترجمة العبد الصالح ابن الأخرم ، وهو الإمام الكبير الحافظ الأثري أبو جعفر محمد بن العباس بن أيوب بن الأخرم الأصبهاني الفقيه، يقول الإمام الذهبي في آخر ترجمته: له وصية أكثرها على قواعد السلف يقول فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر، فكأنه عنى باللفظ الملفوظ لا التلفظ، وقد توفي ابن الأخرم سنة إحدى وثلاثمائة للهجرة، وعلق الإمام الذهبي على كلام ابن الأخرم في ترجمته أيضاً في تذكرة الحفاظ في الجزء الثاني صفحة سبع وأربعين وسبعمائة، فقال: رأيت له وصيةً يقول فيها: الله تعالى على العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، ويقول فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر. فالظاهر أنه أراد باللفظ الملفوظ وهو القرآن المجيد المتلو المقروء المكتوب المسموع المحفوظ في الصدور، ولم يرد اللفظ الذي هو فعل القارئ، فإن التلفظ والتلاوة والكتابة والحفظ أمور من صفات العبد وفعله، وأفعال العباد مخلوقة، ولذلك كان أئمتنا يقولون: الصوت صوت التالي، والكلام كلام الباري سبحانه وتعالى.

قال الإمام الذهبي : لكن السلف كانوا لا يسوغون إطلاق ذلك؛ لأنهم خافوا أن يتذرع بذلك إلى القول بخلق القرآن، ورأوا إطلاق الخلقية على اللفظ بدعة، وقد ورد عن الإمام أحمد بن حنبل ما يوضح ذلك فإنه قال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي، انظروا هذا الكلام في تذكرة الحفاظ، وانظروه في غير ذلك من كتب أئمتنا الكرام، وقد وضحه أيضاً الإمام ابن تيمية في كتابه درء تعارض العقل والنقل، في الجزء الأول صفحة إحدى وستين ومائتين، والعلم عند الله جل وعلا.

فهذا العبد الصالح الذي هو من شيوخ البخاري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا توسع بعض الشيء، فالإمام أحمد حمل عليه وتكلم فيه لأجل القرآن، وعلى كل حال: هذا الكلام من هذا الإمام حتماً معتبر، وهو مجتهد فيما قال، لكن لا يعتبر جرحاً في هذا العبد الصالح إبراهيم القرشي الأسدي ، والعلم عند الله جل وعلا.

قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير في الجزء العاشر صفحة تسع وثمانين وستمائة: هو الإمام الحافظ الثقة، حدث عنه البخاري وابن ماجه بلا واسطة، فهو من شيوخ البخاري وابن ماجه ، وأخرج له الترمذي والنسائي بواسطة، كما قلت: أخرج له أهل السنن الأربعة إلا أبا داود ، فـالترمذي والنسائي بواسطة ، وابن ماجه بلا واسطة، والبخاري بلا واسطة، فهو شيخ للبخاري ولـابن ماجه عليهم جميعاً رحمة الله.

وكما قلت: هو الإمام الحافظ الثقة، ولو لم يوجد في الإسناد آفة لكان الحديث صحيحاً أو على أقل تقدير في درجة الحسن، هذا الراوي الرابع.

ترجمة سعيد بن محمد وبيان أن ضعفه سبب تضعيف الحديث

الراوي الخامس: نبأنا إبراهيم بن المنذر ، قال: نبأنا سعيد ، وهذه هي البلية، سعيد بن محمد مولى بني هاشم على نبينا وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه، البلية من هذا، قال الإمام الذهبي في المغني في الجزء الأول صفحة خمس وستين ومائتين: روى عن محمد بن المنكدر ، قال ابن حبان : لا يجوز أن يحتج به، ووهاه أبو حاتم ، انظروا كلام أبي حاتم في الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم في الجزء الرابع صفحة ثمان وخمسين، قال أبو حاتم : حديثه ليس بشيء.

وفي الميزان يقول الإمام الذهبي في الجزء الثاني صفحة ست وخمسين ومائة: قلت: حديثه من رواية إبراهيم -يعني إبراهيم بن المنذر - عنه عن ابن المنكدر ، عن جابر رضي الله عنهم أجمعين: (جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام يشكو إليه الفاقة فقال له: تزوج)، فهذا الراوي فيه هذه الآفة، ومن طريقه روي هذا الحديث، وقلت لكم: لو أن هذا الحديث أفرد وتكلم عليه لما كنا في حاجة إلى دراسة الإسناد، فعند البحث عن أحوال الإسناد مر معي أن الذهبي يتكلم على هذا الحديث ضمن ميزان الاعتدال، والإمام ابن حجر في اللسان في الجزء الثالث صفحة إحدى وأربعين نقل كلام الحافظ الذهبي وما زاد عليه حرفاً، وافقه على ذلك.

وقال ابن الجوزي في كتابه الضعفاء والمتروكين في الجزء الأول صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة: قال ابن حبان : له أحاديث لا تشبه أحاديث الثقات، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، إذاً لا يحتج به، وقد وهاه أبو حاتم ، ولم يوثقه أحد من أئمتنا، وعليه فحديثه ضعيف بل شديد الضعف، ولذلك قلت: لولا هذا لكان الإسناد في درجة الحسن إن شاء الله، وكما قلت لكم في آخر الموعظة الماضية عندما بحثت في إسناد الحديث: ظننت أن الآفة ستكون في الغالب من الطرف الأخير بدءاً من شيوخ الخطيب فمن بعده، إلا أنها كانت في الطرف الأول من الإسناد بعد الصحابي رضي الله عنهم أجمعين، فما بين هذا الراوي وبين جابر بن عبد الله إلا الراوي التابعي وهو محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، فقبله أربعة: محمد بن الحسين القطان ، وعبد الباقي بن قانع ، ومحمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي ، وإبراهيم أبو إسحاق القرشي الأسدي المدني ، وهذا الخامس.

ترجمة محمد بن المنكدر

وأما السادس فسأذكره من باب نزول البركة والرحمة عند ذكر اسمه رضي الله عنه وعن أئمتنا، وإلا فبعد أن عرفنا حال هذا الراوي وهو سعيد بن محمد مولى بني هاشم لا داعي بعد ذلك لتكملة الكلام على رجال الإسناد، لكن كما قلت: من باب البركة، فالراوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين هو محمد بن المنكدر ، قال الإمام ابن حجر في التقريب: ثقة فاضل، توفي سنة ثلاثين ومائة أو بعدها، وحديثه في الكتب الستة، ونعته الإمام الذهبي في السير في الجزء الخامس صفحة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وقال: الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام، ثم نقل عن إمام أهل المدينة في زمانه الإمام ابن الماجشون أنه كان يقول: إني لأنتفع برؤية محمد بن المنكدر .

وقال في صفحة ستين وثلاثمائة من المجلد الخامس: وقال ابن الماجشون : إن رؤية محمد بن المنكدر لتنفعني في ديني. وتقدم معنا -إخوتي الكرام- أن رؤية الصالحين لها أثر معتبر، وبلغ من بر هذا العبد الصالح محمد بن المنكدر بأمه أنه كان يضع خده على الأرض ويقول لأمه: قومي فضعي رجلك على خدي، من أجل أن يتواضع وأن يتذلل لها، وأقول لكم عن نفسي: لقد فعلت هذا مراراً مع سيدتي ووالدتي الكريمة لكنها أبت، وكنت أظن أن هذا الشيء أعمله أنا فقط، فعند قراءة ترجمة هذا العبد الصالح قلت: أئمتنا يفعلون هذا مراراً أقول لوالدتي: نحن نضطجع وهكذا تطئين على رءوسنا بأقدامك بنعالك ونحن نتقرب إلى الله بذلك، مراراً أحاول معها فتأبى، فأقول: دعيني أمص أنفك وأبتلع ما فيه، فتتقزز رضي الله عنها وعن أمهاتكم وعن المسلمين أجمعين، تقول: دعني من هذا، قلت: والله إنني أجد لذلك حلاوة، وأما هذه اللحية فقد مسحتها بقدمي سيدي الوالد عليه رحمة الله مراراً، ويعلم الله عندما كنت أمسح لحيتي بقدميه أشم رائحةً كأنها من دار السلام، من دار الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن يحسن ختامنا، وأن يرزقنا البر بآبائنا وأمهاتنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

وكان يقول: بات أخي عمر يصلي ليلته حتى طلع الفجر، يقول: وبت أنا أغمز قدمي أمي، يدلكهما لوجع فيهما، يغمرهما في الماء ويدلكهما، يقول: وما أحب أن الليلة كانت في عبادة، يعني لو خيرت بين أن أجعل هذه الليلة في العبادة لقلت: هذه أعظم من تلك العبادة بر الأم وطاعة الأم وحق الأم. (الزم رجليها فثم الجنة)، كما تقدم معنا في الأحاديث الصحيحة.

إخوتي الكرام! والحديث بأن الجنة عند رجلي الأمهات حديث صحيح ثابت كما تقدم معنا، قد رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وصححه وأقره عليه الذهبي ، كما رواه الإمام النسائي وابن ماجه في السنن، وقد رواه الإمام البغوي ، وابن أبي خيثمة والإمام الطبراني في معجمه الكبير كما في الإصابة في الجزء الأول صفحة ثمان عشرة ومائتين، وانظروا جامع الأصول في الجزء الأول صفحة ثلاث وأربعمائة، والترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة ست عشرة وثلاثمائة، ولفظ رواية سنن ابن ماجه في الجزء الثاني صفحة ثلاثين وستمائة في كتاب الجهاد، باب الرجل يغزو وله أبوان، عن معاوية بن جاهمة السلمي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك، أحية أمك؟ قلت: نعم، قال: ارجع فبرها، ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك، أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فارجع إليها فبرها، ثم أتيته من أمامه فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك، أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: ويحك الزم رجلها، فثم الجنة).

وفي رواية النسائي في الجزء السادس صفحة عشر: (فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها).

وفي رواية المسند والمستدرك وانظروا رواية المستدرك في الجزء الرابع صفحة ست عشرة وثلاثمائة في مستدرك الحاكم ، ولفظ الرواية: (فالزمها، فإن الجنة عند رجليها)، والحديث كما تقدم معنا رواه الإمام الطبراني بسند رجاله ثقات كما في المجمع في الجزء الثامن صفحة ثمان وثلاثين ومائة، وقال عنه الإمام المنذري في الترغيب: بإسناد جيد، ولفظ الحديث: (ألك والدان؟ قال: نعم، قال: الزمهما، فإن الجنة تحت أقدامهما).

إخوتي الكرام! وقد روي الحديث في معجم الطبراني الكبير من رواية طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه وأرضاه: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أريد الجهاد في سبيل الله) بنحو ما تقدم في حديث معاوية بن جاهمة لكن عن طلحة بن معاوية ، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في الجزء الثاني صفحة تسع وثلاثين ومائتين في القسم الرابع من حرف الطاء، والقسم الرابع جعله -كما تقدم معنا- فيمن ذكروا في عداد الصحابة عن طريق الوهم، قال: وقع وهم -أي في اسم هذا طلحة بن معاوية - أوضحته في جاهمة ، وفي الجزء الأول صفحة تسع عشرة ومائتين ذكره فقال: وقع غلط نشأ عن تصحيف وقلب، والصواب عن محمد بن طلحة ، عن معاوية بن جاهمة ، عن أبيه، يقول: فحصل تصحيف في (عن)، فصارت (ابن)، فتصحفت إلى: محمد بن طلحة بن معاوية، يقول: وحصل تقديم في قوله: عن أبيه، فخرج منه أن لـطلحة صحبة، وليس كذلك، بل ليس بينه وبين معاوية نسب، وانظروا بقية كلام الحافظ في الإصابة في الجزء الأول صفحة تسع عشرة.

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- يغني عن الحديث الضعيف، ألا وهو: (الجنة تحت أقدام الأمهات).

والحديث إخوتي الكرام بهذا اللفظ (الجنة تحت أقدام الأمهات) رواه الإمام الخطيب البغدادي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، في الجزء الثاني صفحة إحدى وثلاثين ومائة، كما رواه الإمام القضاعي في مسند الشهاب في الجزء الثامن صفحة اثنتين ومائة، وذكر المعلق أن أبا الشيخ رواه في فوائده وفي التاريخ، وهكذا رواه الثعلبي في تفسيره والدولابي في الكنى، وأبو بكر الشافعي رواه في الرباعيات أيضاً، ولفظ الحديث من رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه: (الجنة تحت أقدام الأمهات)، كما رواه ابن عدي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام: (الجنة تحت أقدام الأمهات )، وزاد في الرواية: ( من شئنا أدخلنا، ومن شئنا أخرجنا)، والحديث ضعيف كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة صفحة ست وسبعين ومائة، وهكذا تلميذه في تمييز الطيب من الخبيث في صفحة ست وستين، وهكذا الإمام العجلي في كشف الخفاء في الجزء الأول صفحة خمس وثلاثين وثلاثمائة.

ومعنى الحديث على هذه الرواية: (الجنة تحت أقدام الأمهات)، وهكذا الرواية المتقدمة: ما قال الإمام السخاوي في آخر كلامنا على الحديث المتقدم، قال: والمعنى: أن التواضع للأمهات سبب لدخول الجنة.

إخوتي الكرام! هذا الحديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات) عزاه الشيخ الحوت في كتابه أسنى المطالب صفحة أربع وعشرين ومائة إلى الحاكم ، فقال: أخرجه الحاكم وصححه، وتعقب بأن فيه مجهولين وهو منكر، وهذا وهم فيما يظهر والعلم عند الله جل وعلا، فـالحاكم ما أخرج هذه الرواية: (الجنة تحت أقدام الأمهات)، وقد عزا هذا الحديث بهذا اللفظ (الجنة تحت أقدام الأمهات) عزاه السيوطي في الدرر المنتثرة صفحة خمس وتسعين إلى صحيح مسلم من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وهو وهم قطعاً وجزماً، ولذلك قال الشيخ الحوت في أسنى المطالب: ومن عزاه إلى صحيح مسلم فقد ذهل، وإلى ذلك أشار الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة، فقال: وقد عزاه الديلمي لـمسلم عن أنس ، قال: فينظر، وكما قلت: لم يخرجه الإمام مسلم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في صحيحه.

وخلاصة الكلام: أن ما تقدم معنا من روايات للحديث: (الزم رجليها فثم الجنة)، (فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها)، (فالزمها، فإن الجنة عند رجليها)، (الزمهما، فإن الجنة تحت أقدامهما) روايات صحيحة ثابتة، وأما هذه الرواية: (الجنة تحت أقدام الأمهات) ففيها ضعف ومعناها صحيح، ويشهد لها ما تقدم لها من الروايات، والعلم عند رب الأرض والسموات.

وبلغ من شدة ورع وديانة هذا العبد الصالح: أنه ما كان يسأله أحد عن حديث إلا ويكتب، عليه رحمة الله وعلى أئمتنا الكرام، وأورد له الإمام الذهبي كرامة أحب أن أذكرها -إخوتي الكرام- من أجل نزول الرحمة والبركة علينا، أسأل الله أن يرحمنا بفضله ورحمته.

ذكر بعض كرامات محمد بن المنكدر

هذه الكرامة ينقلها الإمام الذهبي من طريق الإمام الفسوي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: أن محمد بن المنكدر كان مع أصحابه يسيرون، فقال له رجل منهم: أشتهي جبناً رطباً طرياً الآن آكله، فقال محمد : فاستطعمه الله، اسأل ربك أن يطعمك جبناً رطباً، ونحن في سفر في مفازة، فإنه قادر، فدعا القوم فلم يسيروا إلا شيئاً يسيراً حتى وجدوا متكلاً فيه جبن رطب، فقال بعض القوم: هذا الجبن يحتاج إلى عسل، معنا خبز، لكن نريد عسلاً، فقال محمد بن المنكدر : الذي أطعمكموه قادر على ذلك، فادعوا الله، فدعوا الله أن يرزقهم عسلاً مع الجبن، قال: فساروا قليلاً فوجدوا قارورة عسل على الطريق، فنزلوا فأكلوا الجبن والعسل، هذا كرامة يوردها لهذا العبد الصالح.

وهناك كرامة ثانية لرجل صالح مسكين، كان يزاول حرفة النجارة في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، ينقلها عنه محمد بن المنكدر ، وهي في السير في صفحة ست وخمسين وثلاثمائة فاستمعوا إليها.

يقول ابن المنكدر : إني في ليلة مواجه هذا المنبر منبر نبينا الشريف على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه في جوف الليل أدعو، وإذا إنسان عند أسطوانة مقنع رأسه فأسمعه يقول: أي رب! إن القحط قد اشتد على عبادك، وإني مقسم عليك يا رب إلا سقيتهم، يدعو في الروضة المشرفة، يقول: ولا يوجد في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أحد من الناس في وسط الليل، قال: فما كان إلا ساعة إذا سحابة قد أقبلت ثم أرسلها الله عز وجل، وكان عزيزاً على ابن المنكدر أن يخفى عليه أحد من أهل الخير، وهذا في المدينة المنورة، وهذا شأنه ولا يعرفه ابن المنكدر ، فقال: هذا بالمدينة ولا أعرفه، فلما سلم الإمام تقنع وانصرف، أي هذا العبد الصالح الذي دعا عند الاسطوانة، فاتبعه ابن المنكدر عليهم جميعاً رحمة الله، وانفرد حتى أتى دار أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، فدخل داراً قريباً من دار أنس ، قال: فرجعت،ـ فلما سبحت -أي صليت الضحى سبحة الضحى- أتيته فقلت: أدخل؟ يستأذن، قال: ادخل، قال: فإذا هو ينجر أقداحاً، مهنته النجارة، وليس له شأن، ولا يعرفه أحد، فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ قال: فاستنكرها وأعظمها لم أسأله؟ وما دخلي به؟ وليس بيني وبينه صلة، فلما رأيت ذلك قلت: إني سمعت إقسامك البارحة على الله، يا أخي! هل لك في نفقة تغنيك عن هذا؟ أنت تنجر الأقداح، تنجر عيدان وتسترزق بسببها وتأكل منها، أعطيك نفقة، وتتفرغ لما تريد من الآخرة؟ قال: لا، ولكن غير ذلك، لا تذكرني لأحد، إياك أن تذكرني لأحد، ولا تذكر هذا لأحد حتى أموت، هذه أمانة تبقى في عنقك فحافظ على هذا السر، ولا تأتني يا ابن المنكدر ، فإنك إن تأتني شهرتني للناس، فقلت: إني أحب أن ألقاك، قال: القني في المسجد، أما هذا البيت فلا تقربه، نجار ما أحد يأبه به ولا يلتفت إليه، قال: وكان فارسياً، فما ذكر ذلك ابن المنكدر لأحد حتى مات الرجل، قال ابن وهب : بلغني أن ذلك الرجل انتقل من تلك الدار بعد أن عرفه محمد بن المنكدر فلم ير، ولم يدر أين ذهب، فقال أهل تلك الدار: الله بيننا وبين ابن المنكدر ، أخرج عنا الرجل الصالح، كان هذا بجوارنا، فلما زاره وخشي من الشهرة انتقل إلى مكان آخر. والقصة -إخوتي الكرام- في حلية الأولياء في الجزء الثالث صفحة إحدى وخمسين ومائة، وأوردها الذهبي -كما قلت- في السير، ولا غر وفي ذلك ولا عجب، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث أغبر ذي طمرين -ثوبين خلقين باليين- لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبر قسمه)، والحديث ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا المعنى من رواية عدة من الصحابة الكرام.

ثبت في صحيح مسلم ومستدرك الحاكم ، وكتاب مشكل الآثار للإمام الطحاوي ، والحلية لـأبي نعيم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).

وروى الإمام أحمد والترمذي والإمام الضياء المقدسي وأبو نعيم في الحلية أيضاً والطبراني في معجمه الأوسط من رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه: (رب أشعث أغبر)، وفي رواية: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به، لو أقسم على الله لأبر قسمه)، وقد ثبت الحديث بذلك في المسند من رواية حذيفة رضي الله عنه بنحو ما تقدم.

وفي المسند والصحيحين وسنن ابن ماجه من رواية حارثة بن وهب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبر قسمه)، وهذا مسكين عبد نجار لا يؤبه ولا يلتفت إليه، جاء في وسط الليل وقام عند أسطوانة وقال: أقسم عليك أن تسقي عبادك، فقد اشتد القحط عليهم، فبمجرد دعائه ما هو إلا قليل حتى جاءت السحابة وأرسل الله منها الأمطار على أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! هذه ترجمة موجزة لرجال الإسناد، ويتبين لنا مما تقدم أن الحديث شديد الضعف فلا يجوز أن يعول عليه ولا أن يحتج به، نعم معناه صحيح ثابت كما تقدم معنا مثل هذا عن الإمام ابن كثير أن ما يورده كثير من الناس أنه حديث (تزوجوا فقراء يغنيكم الله) قال: لا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف، ثم قال: وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ولله الحمد والمنة، وأنا أقول: الحديث معناه صحيح، (تزوجوا النساء يأتين بالمال) وفي الحديث الآخر: (ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف)، وقول الله جل وعلا في منتهى الظهور والوضوح: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] ، (وهذا جاء يشكو فقال له: تزوج)، وقد عللت هذا بما دلت عليه آيات القرآن: أن الزواج طاعة، ومن فعل طاعة فهو لله تقي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].

ذكر ما ورد عن السلف أن النكاح باب للغنى ومفتاح للرزق

إذاً: القرآن الكريم يدل على هذا المعنى والسنة المطهرة والآثار المنقولة عن سلفنا البررة وأقوال المفسرين، انتهينا الآن من دلالتين، نشرع في الدلالة الثالثة في أقوال سلفنا الكرام رضوان الله عليهم في تقرير هذا الأمر من الآية، ألا وهو أن النكاح باب للغنى، ومفتاح للرزق.

ثبت في تفسير ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور في الجزء الخامس صفحة خمس وأربعين عن صديق هذه الأمة وخير خلق الله بعد النبيين والمرسلين على نبينا وأنبياء الله ورسله وسيدنا أبي بكر وسائر الصديقين صلوات الله وسلامه، يقول سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، ثم تلا قول الله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] . أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح الذي أحله الله؛ ينجز لكم ما وعدكم من الغنى والرزق واليسار، والله على كل شيء قدير.

هذا الأثر الأول والأثر الثاني عن الصديق الثاني الفاروق ثاني الخلفاء الراشدين عليه وعلى جميع الصحابة رضوان رب العالمين.

يقول كما روى عنه ذلك الإمام عبد الرزاق في مصنفه في الجزء السادس صفحة إحدى وسبعين ومائة وثلاث وسبعين ومائتين أيضاً، ورواه أيضاً ابن أبي شيبة في مصنفه عن سيدنا عمر رضي الله عنه قال: ابتغوا الغنى، وفي رواية: ابتغوا الفضل في الباءة. ابتغوا الغنى والفضل والرزق والسعة في الباءة، أي: في النكاح والزواج، وكان يقول: ما رأيت مثل رجل يلتمس الفضل في الباه. وهو النكاح، والله يقول: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].

ونقل ما يشبه هذا عن حبر الأمة وبحرها سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، كما في تفسير الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم أنه قال: أمرهم الله بالنكاح ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى، فقال: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] ، وثبت هذا أيضاً في تفسير الطبري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه إنه قال: التمسوا الغنى في النكاح، فإن الله يقول: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].

ذكر أقوال المفسرين في تقرير أن الزواج باب للغنى ومفتاح للرزق

هؤلاء أربعة من سلفنا الكرام من جم غفير من سلفنا يقولون بهذا القول: أولهم صديق هذه الأمة أبو بكر ، وثاني الصديقين عمر، وبحر الأمة وحبرها ترجمان القرآن، وبعد ذلك ابن أم عبد الذي هو يقرأ القرآن بقراءة غضة رطبة نقية رضي الله عنه وأرضاه، فهؤلاء منقول عنهم هذا الأمر وهو تقرير أن هذه الآية تدل على أن النكاح سبب للغنى وباب للرزق، وطريق لحصول الفضل، وهذا هو ما قرره أئمتنا في كتب التفسير، وإنما ذكرت هذا لأرد تأويلين باطلين قيلا في تفسير هذه الآية فانتبهوا لذلك، فهذا هو سبب التوسع في تقرير هذه الدلالة.

قال الإمام الطبري شيخ المفسرين في تفسيره في الجزء الثامن عشر صفحة ثمان وتسعين عند تفسير هذه الآية: إن يكن هؤلاء الذين تنكحونهم من أيامى رجالكم ونسائكم وعبيدكم وإمائكم، إن يكونوا أهل فاقة وفقر فإن الله يغنيهم من فضله، فلا يمنعنكم فقرهم من إنكاحهم، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ثم ذكر كلام السلف في تقرير هذا المعنى الذي ذكره للآية.

وهكذا فعل الإمام ابن عطية في كتابه المحرر الوجيز في تفسير كلام الله العزيز في الجزء العاشر صفحة ثمان وتسعين وأربعمائة فقال: وعد الله بإغناء الفقراء المتزوجين طلباً لرضى الله عنهم، واعتصاماً من معاصيه، ثم قال: وهذه الآية وعد بالإغناء، أي: أن يغني الله الفقراء إذا تزوجوا.

وهكذا فعل الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء الثاني عشر صفحة إحدى وأربعين ومائتين، ونقل كلام الإمام ابن عطية وما زاد عليه كلمة، لكنه ما نسب ذلك إليه، وهذه عادة كثير من أئمتنا المتقدمين، ينقلون من الكتب التي سبقتهم دون أن يعزوا إليها؛ لأنه في البداية في أول كتابه يبين أنه اعتمد على كذا وكذا من الكتب فهو غنية عن ذكر المصدر وعن التصريح بالقائل في تفسير كل آية؛ لأنه في مقدمة تفسيره ذكر أنه سينقل مثلاً من كتاب أحكام القرآن لـأبي بكر بن العربي ، ومن المحرر الوجيز للإمام ابن عطية ، فلا داعي أن يكرر هذا في تفسير كل آية، والعلم عند الله جل وعلا.

وهكذا قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير في الجزء السادس صفحة ست وثلاثين، قال: أخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر.

وهكذا الإمام ابن كثير في تفسيره في الجزء الثالث صفحة سبع وثمانين ومائتين يقول: والمعهود من كرم الله ولطفه أن يرزقه ما فيه الكفاية لها وله، يعني إذا تزوجا فقيرين فالمعهود من كرم الله ولطفه أن يرزقه بمقدار كفايته لها وله.

وقال الإمام السيوطي ، -وقد بعد جميع من تقدم- في الإكليل في استنباط التنزيل صفحة ثلاث وستين ومائة: في الآية حث على النكاح، وأنه مجلبة للرزق. وهكذا قال الإمام الألوسي في روح المعاني في الجزء الثامن عشر صفحة ثمان وأربعين ومائة: الظاهر من الآية أنه وعد من الله بالإغناء، ولا يبعد أن يكون في ذلك سد لباب التعلل بالفقر، وعده مانعاً، يعني بعض الناس يعتبر أن الفقر مانع له من النكاح، فيقول: الله سد هذا الباب ووعده بالغنى، وهكذا قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان في الجزء السادس صفحة سبع عشرة ومائتين، قال: هذا وعد من الله بإغناء الفقراء المتزوجين، والله لا يخلف الميعاد، وكما قلت: هذا المعنى هو الذي دلت عليه آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو الذي فهمه السلف الكرام، وهو المنقول عن المفسرين العظام.

رد قول ابن المنير أن قوله تعالى: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) لا يدل على أن الزواج سبب الغنى

هناك قولان وتأويلان مردودان منكران باطلان في تفسير الآية:

الأول: ذهب إليه ابن المنير وتقدم معنا أنه أحمد بن محمد بن منصور ، وهو عالم الديار المصرية، ومن أهل الإسكندرية، وانظروا ترجمته في شذرات الذهب في الجزء الخامس صفحة إحدى وثمانين وثلاثمائة وهو من الأئمة المالكية، وضبطه (المنير) كما حقق ذلك الحافظ ابن حجر في تبصير المنتبه بتحرير المشتبه في الجزء الرابع صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة بعد الألف، وقد ألف هذا العبد الصالح كتاباً يرد به على الزمخشري سماه: الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، والكتاب مطبوع مع تفسير الزمخشري في الحاشية.

يقول كلاماً -كما قلت- في تفسير هذه الآية غير صحيح، وهذا الكلام نقله عنه الإمام القاسمي في محاسن التأويل في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين ومائتين، وكلام ابن المنير الذي نقله القاسمي طويل أخذ قرابة صفحة ونصف، لا أريد أن أذكره بكامله إنما خلاصة يقول: إن وعد الله لعباده بالغنى إذا تزوجوا وهم فقراء مقيد بالمشيئة، وهذا كقوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28] ، وهنا إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] ، يقول: هذا مقيد بالمشيئة التي نص عليها هنا، فيكون قوله: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، أي: إن شاء أن يغنيهم، وعليه فلا يكون في الآية عدة كريمة من رب كريم، كأنه يقول: إن شاء له الغنى أغناه وإلا فلا، ثم قال ابن المنير زيادة على هذا: وكذلك العزب غناه مقيد بالمشيئة، يعني أن قوله: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] إذا تزوج، وإن لم يتزوج أيضاً غناه مقيد بمشيئة الله، يقول: ولا إشكال فكل شيء مقيد بمشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الجملة -كما قال الإمام أبو بكر بن العربي عليه رحمة الله- هي من نفيس اعتقاد أهل السنة، وإليها ينتهي سعي كل مخلوق: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد دل على هذا آيتان من القرآن وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30] ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وإلى هاتين الآيتين ينتهي سعي العوالم وحركاتها من العرش إلى الفرش، ولا يتحرك شيء ولا يسكن إلا بمشيئة الله، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، كما قال الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أبيات لطيفة كنت ذكرتها سابقاً، وقلت: هذه من أصح ما أثر عن الإمام الشافعي ، ومن أثبت ما روي عنه وهي أقوى شيء في الإيمان بالقدر:

ما شئت كان وإن لم أشأوما شئت إن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمتففي العلم يجري الفتى والمسن

إلى آخر الأبيات.

وهنا يقول: غنى العزب، وغنى الفقير المتزوج كلاهما مقيد بمشيئة الله جل وعلا، ثم قال: إذا كان غنى هذا مقيد بالمشيئة، وهذا بالمشيئة، فلم خص إذاً المتزوج بقوله: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32] يقول: لأنه ركز في الطباع -انتبه لكلامه ولتقرير كلامه ثم لرده بعد ذلك- لأنه ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها، والغفلة عن المسبب، حتى غلب الوهم على العقل، فخيل الوهم للعقل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتماً وجزماً، وأن عدمها -أي عدم العيال- سبب يوجب توفير المال جزماً.

إذاً: كأنه من المسلم به عند الناس أنه إذا لم يكن الإنسان متزوجاً وما عنده أولاد فسيحصل المال والغنى واليسار والفضل، وإذا تزوج وجاءه الأولاد سيصاب بالفقر من أجل النفقة على زوجته وعلى أولاده، يقول: فخيل الوهم للعقل هذا، أن الزوجة والأولاد سبب للفقر، وأن عدم الزوجة والأولاد سبب للغنى، تكدس الأموال وتكنزها ولا تنفق منها إلا بمقدار حاجتك، فليس عندك زوجة وأولاد يقول: هذا ركز بالطباع، فأراد الله جل وعلا أن يبين بطلان هذا الأمر، وكأن الله يقول: من قدر له الغنى سيحصل الغنى تزوج أو لم يتزوج، ومن لم يقدر له الغنى لم يحصل الغنى سواء بقي عزباً أو تزوج، هذا معنى الآية، وعليه كأنه يريد أن يقول: إن المراد من الآية: إن النكاح ليس بمانع للغني، وليس سبباً للغنى، بل إذا قدر الله لك الغنى ستغتني تزوجت أو بقيت عزباً، فقد جرد الآية عن هذه الدلالة التي تطرب لها العقول، وتأمل فضل العزيز الغفور، يقول: والمعنى: لا يمنعهم النكاح من الغنى، فعبر عن نفي كونه مانعاً بوجوده معه، يقول: ومن هذا قول الله جل وعلا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] ، فالغرض تحقيق زوال المانع، وليس المراد وجوب السعي على العباد وطلب الرزق بعد صلاة الجمعة؛ لأنهم نهوا عن مزاولة العمل بقوله: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9] ، ثم قال الله جل وعلا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] ، يقول هنا: المقصود من هذا الأمر: تحقيق زوال المانع، سواء تريد الانتشار وطلب الرزق أو لا تريد، وهنا الله يريد أن ينفي ما علق بالعقل عن طريق الوهم من أن النكاح مانع من الغنى وسبب للفقر، فقال: لا، النكاح لا يمنعكم من الغنى، ولا يتسبب في حصول الفقر، مرد هذا إلى المشيئة، وعليه فغنى العازب مردود للمشيئة، وغنى المتزوج مردود للمشيئة.

نقول: لا شك أن كل شيء مردود للمشيئة، لكن التسوية بين هذين: أن المتزوج غناه موكول إلى المشيئة، والعازب غناه موكول للمشيئة، في الحقيقة ليس بصحيح ولا مستقيم، مع أن مرد الأمور كلها إلى مشيئة رب العالمين؛ لأنه هنا يوجد معونة من الله للمتزوج، والله وعد من تزوج بأن يحصل له الغنى، لكن مع ذلك هذا بمشيئة الله، هذا لا شك فيه، فالله وعد لكن هذا لن يحصل إلا بمشيئة الله وإرادته، فعندما يقول الله: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] ، نصر الله لنا إن نصرناه والتزمنا بشرعه هو بمشيئته لا شك حصول النصر بمشيئة الله وتقديره، لكن بعد أن وجد فينا سبب نصر ربنا، وهنا غنى المتزوج في الحقيقة يختلف عن غنى العازب، كل منهما غناه مردود إلى المشيئة لكن هنا يوجد معونة خاصة، يوجد لطف إلهي بالمتزوج (حق على الله عونهم)، نعم العازب حق على الله عونه، جميع المخلوقات ضمن الله رزقها، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] ، لكن هذا بحاجة إلى مزيد رزق، وإلى زيادة عناية، فنبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ( ثلاثة حق على الله عونهم )، ( تزوجوا النساء يأتين بالأموال) كما تقدم معنا، وهذا الذي فهمه صديق هذه الأمة فقال: (التمسوا الغنى في النكاح) ثم تلا الآية الكريمة.

وعليه إخوتي الكرام فما ذكره ابن المنير من أن هذه الآية ترد ما علق في العقل بسبب الوهم من أن النكاح يمنع من الغنى فقط، ولا تدل على أن الزواج سبب للغنى، بل ذلك تابع للمشيئة، فإذا شاء الله له الغنى ولو تزوج أربع زوجات وعنده مائة من الإماء وصار عنده ألف من الأولاد، وقدر له الغنى سيأتيه، ولو قدر عليه الفقر لو لم يكن عنده ولا زوجة واحدة لو اكتسب عشرة ريالات في النهار يضيعها وهو عائد إلى بيته، ولم يقدر له غنى، نقول: نعم مرد الأمور إلى مشيئة العزيز الغفور، لكن هنا معونة ضمنها الله، فلا بد من التفريق بين هذا وذاك، هذا مطيع: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] ، وهنا إذا تيسر له هذا وأعرض بعد ذلك عن تنفيذه وتحقيقه فقد قصر، وإذا تركه رغبةً عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام فليس من عداد المسلمين، فلا بد من أن نفرق بين هذا وذاك، هذا المعنى الأول المردود.

رد قول الرازي أن قوله تعالى: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) لا يدل على أن الزواج سبب للغنى

وقال به الرازي أيضاً في تفسيره في الجزء الثالث والعشرين صفحة أربعة ومائتين عند هذه الآية، ووالله لولا جلالة قدره لقلت: بئس هذا القول الذي قاله، ولا يجوز أن يقال هذا القول أبداً، قال: الأصح أن الآية ليست وعداً بإغناء من يتزوج، وهو بعد أن نقل حتى عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وغيره من السلف هذا المعنى قال: الأصح أن الآية ليست وعداً بإغناء من يتزوج، بل معناها: لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون الزواج منها، ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح، وليس في الفقر ما يمنع الرغبة في النكاح، كأنه يقول: لا تنظروا إلى فقر الخاطب وغناه، بل ولا إلى فقر المخطوبة وغناها، تزوج من أجل الله، وإذا قدر لك الغنى سيأتيك، لكن الآية ليست وعداً بإغناء الفقير المتزوج، وهذا قول مردود مع جلالة من قال به.

وقول سلفنا لا يمكن أن نتركه لقول من تأخر عنه، ثم قول السلف هو الذي عليه جمهور المفسرين، وهو الذي شهدت به أحاديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام وأيدته آيات القرآن الكريم، فهذا قول مردود.

والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net