اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وقفات مع الإجازة الصيفية للشيخ : خالد بن علي المشيقح
أما بعد:
عباد الله! فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن مرتع كثير من المشكلات الدينية أو الاجتماعية في فترات الإجازات الصيفية، ذلك الفراغ الهائل الذي يخيم على أكثر الناس في هذه الفترة، فما الإجازة عند أكثر الناس إلَّا كمٌّ كبير من الوقت الفارغ، الذي لا يحسن استعماله ولا تصريفه، فهي أوقات سائبة، وطاقات معطلة، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
وسر هذا التوجيه أيها المؤمنون! أن العبد إنما خلق لعبادة الله وحده لا شريك له في كل وقت وحين، قال سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، وقال سبحانه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، فإذا فرغ الإنسان مما لابد له من أشغال الدنيا، فليعد إلى غاية وجوده وهي عبادة الله سبحانه.
إن الفراغ السائب سبب لكثير من الأمراض الجسمية والنفسية والمعنوية، فحق على كل مؤمن أن يأخذ بما أمر به الله تعالى، وبما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك...).
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فاملئوا أوقتكم في هذه الإجازة بالنافع والمفيد، في دين أو دنيا، ولا تتركوها نهباً لشياطين الإنس والجن، وقد يسر الله تعالى لكم في هذه الأزمان قنوات عديدة تستغلون من خلالها أوقاتكم، وتنمون قدراتكم وعلومكم، بل وإيمانكم، فمن ذلك:
أولاً: حلق القرآن الكريم المنتشرة في المساجد، فإنها رياض من رياض الجنة، وفيها خير عظيم.
ثانياً: ومنها الدروس العلمية والدورات التي تقام هنا وهناك، وفيها يتعلم الشباب ما يجب عليهم معرفته من علوم الشريعة والدين.
ومنها: المراكز الصيفية التي يشرف عليها أساتذة فضلاء، ومربون نجباء، يعملون على إشغال أوقات الشباب بما يفيدهم وينفعهم، ففيها الأنشطة الترويحية، والدورات العلمية والثقافية، فاحرصوا أيها الشباب على الانضمام إليها والاستفادة منها، فإن فيها خيراً كثيراً.
فإن أبيت هذا وذاك، فاحرص على شغل وقتك بتجارة أو زراعة أو صناعة تملأ وقتك، وتحفظك من شرور الفراغ وأهله، فإن نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولابد، وإياك ورفقاء السوء وقرناء الشر؛ من الآلات والآدميين، الذين يزينون لك المنكر ويدعونك إليه، ففر منهم فرارك من الأسد.
أيها الشاب! كن صادقاً مشاركاً إيجابياً في حياتك، حاملاً هم قضايا أمتك، متفاعلاً في بناء مجتمعك، مفتاحاً لكل خير، مغلاقاً لكل شر، موازياً بين متطلبات روحك وجسدك، بكل فضيلة متحل، وعن كل رذيلة متخل، تكن بإذن الله خير خلف لخير سلف.
أما السلبية والبطالة والتضييع والتسويف والعطالة، فهي عتاد كل فارغ بطال، ولن تتحقق الآمال بعد توفيق الله إلا على أيدي الشباب الإيجابي الفعال.
منن الإله على العباد كثيرة وأجلهن نجابة الأولاد
وحملكم الله تعالى مسؤولية تربيتهم وحفظهم وتنشئتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فما تقومون به اليوم من حسن التربية والرعاية والحفظ لفلذات أكبادكم، تجدونه ثواباً وأجراً عند الله في الآخرة، وبراً وإحساناً في الدنيا، وقد كلفكم الله وأمركم بحفظهم ووقايتهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقال عليه الصلاة والسلام: (والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، متفق عليه.
فمحافظتك على أولادك ورعايتك لهم، والاجتهاد في إصلاحهم، وإبعادهم عن الفساد وأهله واجب كبير، ومقدمة ضرورية لاستقامتهم وصلاحهم، فالأب الذي أدار ظهره لأولاده وبيته فلم يجلس فيه إلا ساعات قصاراً في نوم أو أكل، وقد أخذت مشاغله بتلابيب قلبه، وشغلت لبه، فلم يلتفت لأولاده ولا لإصلاحهم، هل قام بما أوجب الله عليه؟! والأب الذي يترك الحبل على الغارب لأولاده يخرجون متى يشاءون، ومع من يريدون، يسهرون إلى الفجر وينامون أكثر النهار، ويصاحبون أهل السوء، ويهاتفون أهل الشر، هل قام بحفظهم ورعايتهم؟! والأب الذي أدخل إلى بيته وسائل الإفساد والدمار، وامتطت صحون الشر وأطباق البلاء صهوة بيته، وانتشرت مجلات الشر وأشرطة الخراب في حجر أولاده، هل قام بتنشئة أولاده على البر والتقوى؟!
إن الجواب على هذه الأسئلة ما ترونه من أحوال أبناء هؤلاء لا ما تسمعونه، فيا أولياء الأمور! اتقوا الله فيمن استرعاكم الله إياهم، مروا أولادكم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ونفروهم منه، واحفظوهم من قرناء السوء وأصحاب الشر، أبعدوهم عن وسائل الإعلام الفاسد، اشغلوا أوقاتهم في هذه الإجازة بما يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، شجعوهم بالجوائز المادية والمعنوية، وبادروا بذلك كله في أوائل أعمالهم، فإن هذا أنجع في تربيتهم.
إن مما يؤمل من الآباء والأمهات في تحمل العبء الأكبر في هذه الإجازة الصيفية، من مراقبة ومسئولية لبناتهم وأبنائهم، والأخذ بحجزهم عن مواطن الاختلاط والريبة، وعن ذرع الأسواق والطرقات، كما هو ديدن الخراجين والولاجين، والخراجات والولاجات، ودعهم دعا عن موجبات التغريب وصيحات التقليد وموضات التشبه والانفتاح اللامنضبط، التي زمجرت أمامهم، فخلفت جيلاً منهم مذبذبين صرعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه: حفظ أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)، رواه ابن حبان في صحيحه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سداً، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم.
وهنا ملحظ مهم في إيلاء قضية البنات نصيباً أكبر من الاهتمام والعناية والطرح، والتركيز في أطرهن على الحجاب والحشمة والعفة والحياء، والمحافظة عليهن من دعاة السفور والتبرج والاختلاط، لاسيما في هذا الزمن الذي زج فيه بالمرأة في سراديب الفساد، يتولى كبر ذلك أرباب فكر مهزوم، ويتلقفهم في سياق محموم ذوو أنفس مريضة، لا تقدر للمجتمع المصالح، ولا تدرأ عنه المفاسد والقبائح.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! ووقفة أخيرة مع أولئك الذين شدوا حقائبهم، وأعدوا أمتعتهم، وحجزوا مراكبهم للسفر إلى خارج البلاد، إلى مواطن الفتن، إلى هؤلاء أقول: اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، فإن السفر إلى تلك البلاد محرم ولا يجوز؛ لما فيه من تعريض النفس والأهل والولد للفتنة التي أعلاها الكفر بالله تعالى، وأدناها موافقة المعاصي والذنوب، أو على الأقل استساغة المنكر والفجور؛ فإن تلك البلاد والمصايف قد تعرت قلوب أهلها عن الإيمان، وانسلخت أجسادهم عن زي الحشمة والحياء والإسلام، وانتشرت بين أهلها الخمور، وظهر الزنا والخنا، فعاد المنكر معروفاً، والمعروف منكراً.
ولا شك أن من ذهب إلى تلك الفتن فقد عرض نفسه للخطر، وأنت يا عبد الله! مأمور بالنأي عن الفتن صغيرها وكبيرها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع بالدجال فلينأ عنه)، وقال عليه الصلاة والسلام عندما ذكر فتنة الدجال: (إن خير مال المسلم في آخر الزمان غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن)، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفتن.
وإنك لتأسف أن تجد طائفة من الناس افتتنت بالسفر إلى بلاد الكفار، معرضين دينهم وأرواحهم للمخاطر، ومصائد المحتالين، ولقد هيأ الله لبعض الناس السفر إلى هناك لتقبض أرواحهم في تلك الديار، في ديار الكفار، تهافت على المادة، وانحطاط الأخلاق والسلوك، وبعد عن القيم والمروءات، كم عاد منها من مسحور ومسلوب!! وكم عاد منها من مفتون ومبتلى!! وكم ذرفت فيها الدموع أسفاً وندامة! ولقد أفتى العلماء رحمهم الله بحرمة السفر إلى تلك البلاد، إلا لضرورة أو مصلحة، مع علم يدفع الشبهات، وإيمان يدرأ الشهوات، ومع إقامة لشعائر الدين.
ومن مخاطر ذلك حب المشركين وموالاتهم، قال الله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].
الزم حسن الصحبة في سفرك، وتحل بالمروءة وكرائم الأخلاق، واطلب لك رفيقاً صالحاً، إذا ضاقت بك الأمور لقيت منه ما يفرج كربك، وإذا نسيت ذكرك، وإذا ذكرت أعانك، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لا تؤاخي الفاجر فإنه يزين لك فعلك ويحب أنك مثله.
كن مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وفي عباداته في السفر، وتذكر حين تركب المركبة أنك مؤتمن على نفسك وعلى من معك، فلا يجوز لك أن تتعدى أو تفرط، والتعدي هو: فعل ما لا يجوز، والتفريط هو: ترك ما يجب، فلا يجوز لك أن تسرع سرعة تؤدي إلى إهلاك نفسك، وإلى إهلاك من معك، ولا يجوز لك أن تركب مركبة غير صالحة تكون سبباً للهلاك.
رحل الإمام إسحاق بن منصور من نيسابور إلى بغداد سيراً على قدميه، حاملاً كتبه على ظهره يسأل عن مسائل فقهيه.
ورحل ابن منده رحمه الله تعالى يطلب العلم وعمره عشرون عاماً، ولم يرجع إلى بلده إلا وعمره خمسة وستون عاماً، يدون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين الطويلة وقال أبو العالية رحمه الله تعالى: كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالبصرة، فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم.
وتردد أبو حاتم رحمه الله بين مكة والمدينة أربع مرات على قدميه، أخذاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها همة العلماء، وقوة العزيمة، ومصارعة الأخطار لخدمة الدين.
عباد الله! لا يكتمل النعيم إلا براحة الروح مع الجسد، وقراءة القرآن، وذكر الله يضفي على السفر راحة وطمأنينة، قال الله عز وجل: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وبذا ينعم جسدك، وتلتذ روحك، ويجتمع لك النعيمان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين من اليهود الظالمين الغاصبين، والنصارى الحاقدين، اللهم احفظ دماء المسلمين في فلسطين، واحفظ دماء المسلمين في العراق، واحفظ دماء المسلمين في أفغانستان، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك بالظالمين الحاقدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدميره في تدبيره، واجعل اللهم الدائرة عليه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، اللهم اقض الدين عن المدينين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اغفر لموتى المسلمين، واخصص بذلك الوالدين والأقربين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , وقفات مع الإجازة الصيفية للشيخ : خالد بن علي المشيقح
https://audio.islamweb.net