إسلام ويب

إذا خرج الحاج من مزدلفة يوم النحر فإنه يتجه إلى منى ليرمي جمرة العقبة الكبرى، فإذا رمى جمرة العقبة شرع له أن يحلق أو يقصر، ثم يطوف طواف الإفاضة، فإذا طاف طواف الإفاضة حل له كل شيء، ثم يرجع فيبيت في منى ويرمي الجمرات أيام التشريق.

يوم العيد

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

فإذا خرج الحاج من مزدلفة قبل طلوع الشمس فإنه يأخذ بالسكينة، حتى إذا وصل وادي محسر فإنه يطأطئ رأسه، ويسرع بسيارته إذا أمكن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع.

رمي الجمار

فإذا وصل منى فإنه يشرع له أن يرمي جمرة العقبة بعد زوال الشمس، يرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، وهو من خروجه من مزدلفة إلى منى لم يزل يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وجمرة العقبة هي أبعد الجمار من منى وأقربها إلى مكة، له أن يرمي من حين وصوله، لكن السنة أن يرميها بعد الزوال، ولو رماها قبل ذلك جاز ولكن خالف السنة، كما قلنا في قصة أسماء بنت أبي بكر ، فالسنة أن يرميها بعد زوال الشمس، ويجوز أن يؤخرها بعد زوال الشمس.

وهل يجوز أن يرميها ليلاً؟ يقول ابن عبد البر : من رماها بعد طلوع الشمس قبل الزوال فقد رماها في وقتها الأفضلي، ومن رماها بعد الزوال إلى المساء فقد رماها في وقتها، ومن رماها بعد المغرب فاختلف العلماء فيه، والراجح جواز ذلك؛ لما روى مالك في موطئه: أن صفية جلست تنفس - أحد نساء ابن عمر - في مزدلفة فلم تأت منى إلا في ليلة الحادي عشر، فقال ابن عمر : الآن حين وصلت؟ قالت: نعم، قال: فارم، فرمت ليلاً، وهذا أصح شيء في الباب، وأما حديث أبي يعلى : ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرعاة أن يرموا ليلاً )، فهذا الحديث ضعيف ولا يصح، وأصح شيء في الباب كما قلت: حديث ابن عمر .

وينتهي وقت الرمي يوم العيد إلى طلوع الفجر، فمن رماها في اليوم الحادي عشر فقد أساء؛ ولكن ليس عليه شيء؛ لأنه من وقته، فإذا رمى الحاج جمرة العقبة شرع له أن يكبر، فيرمي جمرة العقبة ولا ينبغي له أن يتحلل إلا بأن يحلق، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حديث عائشة : ( إذا رميتم جمرة العقبة وحلقتم )، ففي سنده الحجاج بن أرطأة ، وكذلك حديث ابن عباس : ( إذا رميتم جمرة العقبة فقد حل لكم كل شيء )، فهو ضعيف أيضاً، فإن في سنده الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس ، وحديث ( إذا رميت وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء )، أيضاً ضعيف، وأصح شيء في الباب فعله عليه الصلاة والسلام وقوله، فإنه قال: ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )، وإنما نحر بعدما رمى، وإذا نحر شرع في التحلل، وهو الحلق.

وقت التحلل الأول

وعلى هذا فلا ينبغي له أن يخلع ثياب الإحرام إلا بعد أن يرمي ويحلق أو يقصر، ومن رمى ثم لبس الثياب المعتادة فقد أساء، ولكن ليس عليه شيء؛ لأن العلماء كما يقول ابن تيمية : أجمعوا على أن من رمى جمرة العقبة ثم جامع أهله قبل الحلق لا شيء عليه، بمعنى: أن حجه صحيح؛ ولكن عليه دم، ومعنى لا شيء عليه، يعني: لا شيء عليه في الحج بل حجه صحيح، لكن يجبره بدم، هذا هو الأقرب والله أعلم؛ لقول عائشة : ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، وأما زيادة: ( ولحله بعدما رمى جمرة العقبة )، فهذا حديث ضعيف يرويه عروة بن عبد الله بن عروة بن الزبير ، و عروة بن عبد الله مجهول، وقد روى البخاري و مسلم هذا الحديث عند هذا الرجل ولم يذكروا (بعدما رمى جمرة العقبة)، مما يدل على أن البخاري و مسلم تركاها عمداً رضي الله عنهما.

فإذا رمى الحاج جمرة العقبة شرع له أن يحلق أو يقصر، فإذا حلق أو قصر فقد تحلل التحلل الأول، فيباح له كل ما كان محظوراً عليه إلا النساء، والنساء بأن يكن ممنوعاً من الجماع، وممنوعاً من مباشرة المرأة، والمباشرة إما بالمباشرة المعروفة، وإما بالحديث معها كلاماً لا يصلح إلا من الرجل مع زوجته، فإنه ممنوع منها.

وقت التحلل الثاني

فإذا رمى وحلق أو قصر فإنه يشرع له أن يطوف طواف الإفاضة، ويجوز لمن معه نساء ويخاف عليهن أن يأتيهن العادة أن يذهب من مزدلفة إلى الحرم ليطوف معهن طواف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعي الحج، ولا حرج في ذلك؛ لأن أم سلمة طافت للإفاضة بعد الفجر أو قريباً من الفجر، فإذا رمى وحلق أو قصر وطاف فقد تحلل التحلل الأول والثاني، وجاز له أن يأتي أهله.

أما من لم يطف فلا يجوز له أن يأتي النساء، أو يباشروهن.

ويجوز له أن يؤخر طواف الإفاضة ليجمعها مع طواف الوداع بنية الإفاضة والوداع، ولو كان بعده سعي؛ لأنه يصدق أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف، وقد روى البخاري في صحيحه قال: باب إجزاء العمرة عن طواف الوداع، وذكر حديث عائشة : ( أنها أخذت عمرة ثم نفرت ولم تكن قد طافت طواف الوداع )، وفي رواية: ( أنها طافت بعد العمرة )، كما عند البخاري أيضاً.

لكن الأقرب والله أعلم أن من أخذ عمرةً أو طاف وسعى بعد ذلك ونفر يصدق عليه أنه جعل آخر عهده بالبيت الطواف.

المبيت بمنى

فإذا رمى وحلق أو قصر ثم طاف فإنه يشرع له أن يأتي منى ويبقى في منى، ومن لم يجد مكاناً في منى إلا بمبلغ عال عليه، أو يشق عليه النفقة فإن المبيت بمنى يسقط في حقه، وإن كنا نقول: إن الراجح المبيت بمنى أنه واجب كما هو مذهب الجمهور؛ لقول ابن عمر : ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب في البيتوتة عن منى لأجل سقاية الحاج )، فدل ذلك على أن من احتاج إلى الخروج من منى كالأطباء، وكرجال الأمن، وغيرهم من الذين تناط عليهم مسئوليات عظيمة، أنهم يجوز لهم ترك المبيت بمنى ولا شيء عليهم، وكذلك يجوز لمن لم يجد مكاناً يصلح لمثله أن يترك المبيت بمنى، ومعنى (مكاناً يصلح لمثله) لا يقف في الطرقات، أو يوقف سيارته في طرقات المسلمين فيؤذي الحجيج؛ بل إن وجد مكاناً في أمكنة يستطيع أن يأوي إليها، وإلا فلا يؤذ الحجيج في طرقاتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: ما لنا بد من مجالسنا، قال: أما وإن أبيتم فأعطوا الطريق حقه )، فمن أعظم حق الطريق عدم أذية المسلمين.

الصلاة بمنى

فإذا تحلل الإنسان التحلل الأول والثاني شرع له أن يبقى في منى، فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصراً كل صلاة بوقتها، هذا هو السنة، فلو جمع الحاج المسافر جاز؛ ولكنه خالف السنة. ويشرع له بعد رمي جمرة العقبة أن يكبر، في فسطاطه يعني في خيمته، ويكبر في طريقه إلى رمي الجمار، ويكبر بعد رجوعه من الجمار، ويكبر وهو في أكله وشربه، ويكبر أدبار الصلوات، كما ثبت عن الصحابة كـعمر و ابن عمر و جابر و أبي هريرة و ابن عباس و ابن مسعود كما حكى ذلك الحاكم عنهم يقول: بأسانيد صحيحة.

ليس من السنة للحاج أن يتقصد صلاة العيد؛ لأن تقصده لصلاة العيد يخالف سنةً مأموراً بها، إلا إن جاء إلى البيت والناس يصلون فلا حرج أن يصلي معهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخلتم المسجد والإمام يصلي فصلوا معهم تكن لكم نافلة ) فإذا رمى الحاج جمرة العقبة فإن الأفضل له أن يهدي، ومن المعلوم الآن أن غالب الحجاج بل تسعة وتسعون بالمائة من الحجاج ليسوا هم الذين يقومون بالهدي، إما أن يعطوا أصحاب الحملات فينحروا لهم، فإذا نحروا فالأفضل أن يُعلموا صاحب الهدي من أجل أن يحلق فإن لم يستطع فلا حرج أن يرمي ويحلق قبل النحر، لكن السنة الرمي ثم النحر ثم الحلق أو التقصير.

النحر والحلق بمنى

والنحر يبدأ صبيحة يوم الحج الأكبر بعد طلوع الشمس، فلو نحر قبل أن يرمي لا حرج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعل ولا حرج )؛ ولكن الأفضل أن يكون النحر بعد الرمي وقبل الحلق أو التقصير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )، والنحر إنما يكون يوم الحج الأكبر، وهذا هو الأولى؛ لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]. وأما لو طاف للإفاضة ورمى ثم نحر قبل الفجر فهذه تحتاج إلى مزيد بحث، والعلم عند الله.

ويوم العاشر يسمى يوم الحج الأكبر، ويبقى الحاج في منى، ومنى واجب المبيت بها، ويسقط مع العجز أو الحاجة للخروج منها، فمن وجد مكاناً يجب عليه أن يبقى، ومن لم يجد مكاناً، أو ذهب العصر إلى الحرم فلم يستطع الرجوع إلا بعد الفجر فلا حرج عليه أيضاً؛ لأنه من غير قصده وإرادته.

وفي اليوم الحادي عشر يشرع له أن يرمي الجمار بعد زوال الشمس، قال ابن عمر ( كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا الجمار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم )، وهذا هو السنة ولا شك، ولا يجوز أن يرمي الحاج الجمار قبل الزوال في اليوم الحادي عشر، والسنة أن يرمي الصغرى وهي أقرب الجمار إلى منى، ثم الوسطى، ثم الكبرى.

طريقة رمي الجمار

وطريقة الرمي: بأن يذهب وهو يكبر، ثم يرمي الجمرة الصغرى، والراجح أنه لا يشرع للحاج مكاناً معيناً، سواء استقبل البيت، أو استقبل الجمار، أو استقبل منى فإن كل ذلك جائز لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، وما جاء في كتب الحنابلة: من أن يجعل الجمرة عن يمينه ثم يرمي، فهذا كله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، بل لم يرد بحديث، وإنما فهم هذا وهو خطأ، ولكن السنة أن يرمي الجمرة الصغرى كيفما اتفق، ويبتعد عن زحام الناس؛ لأن العبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بمكانها وزمانها، فالناس بعضهم يستقبل القبلة، ولو زاحم الناس من غير خشوع، والأصل: أنه ينتظر حتى إذا وجد مكاناً قريباً فليذهب ويرمي بخشوع وخنوع، ويتذكر موقف النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الرمي إنما جعل وشرع لإقامة ذكر الله تعالى، فإذا رماها بسبع حصيات ينظر أسهل شيء إلى طريقه ذات اليمين أو ذات الشمال، قال ابن عمر : ( فرمى الجمرة الصغرى بسبع حصيات ثم أسهل فتقدم أمامه )، ومعنى أسهل يأخذ السهل اليسير أي لأن الجمار كان فيها نوع من الوعورة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رمى الصغرى يذهب نحو الجهة الأسهل.

وقد نص ابن قدامة و ابن تيمية و ابن حجر فقالوا: إن على الحاج أن يبتعد عن مرمى الحصى حتى لا يصيبه، وبعض طلاب العلم قالوا: إنه إذا رمى الصغرى يأخذ ذات اليمين، و ابن خزيمة يقول: يأخذ أمامه، والأقرب والله أعلم أنه ليس ثمة مكان يشرع فيه العبادة والدعاء، إلا أنه يستقبل القبلة بأي مكان اتجه، هذا هو الأظهر، والله أعلم.

والمشاهد مع الأسف الشديد أنهم بمجرد رميهم الصغرى، تجدهم يتزاحمون ذات اليمين زحاماً شديداً، والأقرب أن الحاج ينظر المكان الذي يكون لقلبه أخشع، ولنفسه في مناجاته لربه أنفع، فإن هذا هو أولى وأقرب في الدعاء.

ثم إنه لو ثبت كما يقول بعضهم: إنه سنة، فنقول: هذه السنة العبادة سنة في مكانها، ولكن تنشغل النفس في الدعاء، والقاعدة الفقهية أن العبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بزمانها ومكانها، فإذا رمى الصغرى يذهب بخشوع وهو يكبر إلى الوسطى، فيفعل في الوسطى مثلما فعل في الصغرى، ليس ثمة مكان خاص في طريقة الرمي، ولا في مكان الرمي، بل يبحث عن الأيسر والأسهل، ثم بعد ذلك يرميها بسبع حصيات، يأخذ ذات اليمين أو ذات الشمال فما كان أسهل له سلكه ويبتعد عن زحام الناس وعن موضع الحصى، ويستقبل القبلة ويتضرع في الدعاء.

ولا ينبغي للحاج أن يترك الدعاء بعد الصغرى ولا بعد الوسطى، بل قال سفيان الثوري : من ترك الدعاء؛ فعليه دم، وخالفه عامة أهل العلم، والراجح قول عامة أهل العلم، لكن لا ينبغي للحاج أن يترك الدعاء، فإن السلف كانوا يطيلون الدعاء، فقد ثبت عند مالك أن ابن عمر كان يجلس مقدار سورة البقرة، والواحد منا اليوم وهو يمشي يقول: الله أكبر، اللهم اهدنا فيمن هديت وهو يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، وربما دعا من غير خشوع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فهذا موطن يحب الإنسان أن يستجيب الله دعاءه؛ فليتضرع ولينكسر بين يديه، فإن الله سبحانه وتعالى يحب الملحين في الدعاء، (ينظر إليكم أزلين فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب).

فإذا رمى الحاج الجمرة الوسطى ذهب إلى جمرة العقبة، وتسمى جمرة العقبة؛ لأنه كان هناك عقبة جبل فيها، والسنة أن يرميها بأن يجعل منى عن يمينه ومكة عن يساره ويستقبل الجمرة فيرميها بسبع حصيات، كما قال ابن مسعود : ( هذا والذي نفسي بيده مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة )، فلو رماها من الجهة الخلفية بأن يجعل منى خلفه جاز، كما صنع عمر بأن رماها من العقبة حين رقى على الجبل ورماها، واليوم من أي مكان رمى جاز ذلك؛ لأنها تجتمع الحصى في المكان الذي خصصت له.

رمي الجمار أيام التشريق

إذا رمى الحاج اليوم الحادي عشر بعد الزوال، وقلنا: لا يشرع له أن يرميها قبل الزوال، ويجوز أن يرميها ليلاً، فاليوم الحادي عشر يسمى يوم القر؛ لأن الناس تقر في منى، ويسمى أوسط أيام التشريق، واليوم الثاني عشر يسمى يوم النفر الأول، ويشرع للحاج في الرمي مثلما شرع له في اليوم الحادي عشر، وإذا أراد أن ينفر فهل يجوز له أن يرمي الجمار قبل الزوال؟ فعامة أهل العلم منعوا ذلك، وجوز إسحاق بن راهويه و أبو حنيفة أن يرمي اليوم الثاني عشر قبل الزوال، ولعل هذا القول أظهر، وإذا قلنا: جائز، فليس معناه أنه سنة أو أن يتقاتل الناس على ذلك، أو أن يحرصوا عليه، فإن اتباع السنة أولى.

ومما يدل على الجواز: ما رواه عبد الرزاق في مصنفه المفقود الذي ذكره ابن عبد البر في كتاب الاستذكار، قال: حدثنا ابن جريج قال: حدثنا عبد الله بن أبي مليكة قال: رمقت ابن عباس رمى جمرة العقبة في النفر الأول في الضحى ثم نفر، وهذا نص في المسألة.

وأما تضعيف هذه الرواية بحجة أنها لم توجد في كتاب عبد الرزاق ، فنحن نعرف أن مصنف عبد الرزاق بعضه مفقود، وأن المصنف عند أهل المغاربة أكمل من أهل المشرق أو البغداديين، فإن ابن عبد البر يذكر في الاستذكار أحاديث نسبها إلى عبد الرزاق لم تكن موجودة في المطبوع.

كذلك روى الفاكهي في أخبار مكة من طريق ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: أقبلت أقول: هل رمى أبو عبد الرحمن ؟ قالوا: لا، ولكن هذا أمير المؤمنين أمير الحج عبد الله بن الزبير قد رمى، قال: فذهبت إلى ابن عمر في فسطاطه حتى إذا زالت الشمس رمى الجمرة، وهذا يدل على أن ابن الزبير رمى الجمرة قبل الزوال، وبعضهم يضعف هذه الرواية، ويقول: لأن الفاكهي مجهول، ولكن الفاكهي ذكر هذا في كتاب، والكتاب معلوم أنه أصح من رواية الحفظ.

ثم إن المسألة لا ينبغي أن يشدد فيها؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حدد زماناً، وأما استدلال بعضهم بما رواه وبرة ، كما عند البخاري قال: ( كنت جالساً عند ابن عمر فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن ! متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارم، قال: فأعاد، قال ابن عمر : إذا رمى إمامك فارم، فأعاد، فقال: كنا نتحين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا زالت الشمس رمينا الجمار )، قال بعضهم: فكون النبي صلى الله عليه وسلم يتحين في شدة الحر ويرمي مما يدل على أنه لم يكن جائزاً قبل ذلك.

نقول: إن حرصه عليه الصلاة والسلام ألا يرمي إلا بعد زوال الشمس دليل على تحريه للأفضلية، وليس للوجوب، وقولهم: إنه يشق على أمته، نقول: من قال: أنه يشق على أمته؟ وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين للناس السنة في ذلك، فلو كان القصد عدم المشقة؛ لرماها من غير أن يتحين أو لرماها قبل التحين، ولم يخرج يشق على الناس على كلام بعضهم والأقرب والله أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لأجل الأفضلية.

ثم إن ابن عمر رضي الله عنه إنما ذكر هذا، ليس لأجل بيان أول الوقت، ولكن لبيان أفضليته لما روى أبو عوانة عن سفيان بن عيينة عن وبرة عن ابن عمر أن رجلاً أتاه فقال: يا ابن عمر ! متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارم، قال: أرأيت إن أخر إمامي الرمي؟ قال ابن عمر : إذا رمى إمامك فارم، فـابن عمر أراد أن يبين أفضلية التقديم، لا بداية الرمي، قال: أرأيت إن أخر إمامي؟ قال: إذا رمى إمامك فارم، وهذا يدل على أن السائل إنما سأل ليبحث عن الأفضلية لا عن البداية، والله تبارك وتعالى أعلم.

وقت الخروج من منى

فإذا نفر فإنه ينبغي له أن يخرج من منى قبل مغيب شمس يوم الثاني عشر؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، واليومان يطلقان على النهار لا على الليل، وقد قال عمر و ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد صحيح: من أدركه المساء يوم الثاني عشر وجب عليه أن يبقى ليرمي يوم الثالث عشر، فإن خرج قبل غروب الشمس فله أن يجلس في العزيزية، أو يذهب إلى الحرم، فإن طاف للوداع جاز له أن يخرج إلى منى ويبقى فيها إلى حين يتهيأ له السفر، أو يذهب إلى العزيزية؛ لأن المقصد ألا يبقى قريباً من البيت، هذا الذي نص عليه الإمام أحمد رحمه الله، وإن كان الأولى والأفضل أن يخرج من مكة.

فإن بقي عليه طواف إفاضة غير طواف الوداع فلا حرج أن يخرج إلى جدة أو إلى الطائف، أما إذا لم يبق عليه إلا طواف الوداع فإنه لا يجوز له أن يخرج من مكة إلا أن يطوف طواف الوداع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف )، وطواف الوداع واجب يسقط في حق الحائض، وأما غير الحائض فلا، فإذا طاف للوداع، يكون قد أنهى المناسك كلها، وحينئذ يكون قد حج.

نسأل الله أن يتقبل منا ومنه صالح الأعمال، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

ونجيب على الأسئلة.

الأسئلة

من وقف قبل الزوال ثم خرج قبل الغروب

السؤال: ما حكم من خرج من عرفة قبل غروب الشمس لمن وقف بعد الزوال؟

الجواب: من وقف قبل الزوال ثم خرج قبل الغروب، أقول والله أعلم، كما هو مذهب الجمهور: يجبره بدم؛ لأن من ترك واجباً فليهرق دماً، وهذه قاعدة وهي الأظهر، والله أعلم.

وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن من ترك واجباً فليهرق دماً، وقول ابن عباس : من ترك من نسكه شيئاً أو نسيه فليهرق دماً، والترك هو في ترك الواجب لا في فعل المحظور، ومما يدل على أن ترك الواجب عليه دم:

أن من ترك إكمال العمرة أو الحج؛ وجب عليه أن يهرق دماً لتحلله، ويكون في حكم المحصر، فإن عمر بن الخطاب حكم فيمن فاته الوقوف بعرفة أن يهدي، وهذا يدل على ذلك، وقال ابن المنذر : أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمحصر بأن يذبح هدياً دليل على أن من ترك واجباً فعليه هدي، وهذا أمر متفق عليه بين الأئمة الأربعة، والذي قال إنه لا يجب عليه فإنما هو ابن حزم ؛ لأنه لا يرى القياس، والقياس لا يعتمد عليه ابن حزم ، والعتب على من يرى القياس ولا يقول بهذا، والله أعلم.

الدليل على أن السعي ركن

السؤال: ما دليل من قال: إن السعي ركن؟

الجواب: دليل من قال: إن السعي ركن؛ حديث عائشة الذي رواه عروة قال: يا أماه! ليس علي جناح ألا أطوف بين الصفا والمروة، قالت: لم؟ قال: لأن الله يقول: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، قالت: يا بني! لو كان كما قلت لقال الله: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، ولعمري ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته ما لم يطف بين الصفا والمروة. هذا دليلهم، وقلت: إن الأقرب والله أعلم أن السعي بين الصفا والمروة واجب، وأما قول عائشة فمعارض بقول ابن عباس وإذا اختلف الصحابة نظرنا إلى ما هو أقرب إلى الكتاب والسنة.

الاستدانة من أجل الحج

السؤال: ما حكم من يحج وقد تدين للحج بنصف مال الحج؟

الجواب: لا حرج في أن يحج الإنسان ويستدين للحج، أما من حج وعليه دين، ففيه تفصيل: إن كان دينه مقسطاً ولا يحل القسط إلا بعد أداء الحج فلا حرج عليه، أو كان عنده ما يفي لسداد دينه فلا حرج، أما من حج وليس عنده ما يسدد به الدين وهو في حكم المعسر، فوجد أحداً يعطيه دينه أو يعطيه حجه، فلا حرج أيضاً.

أما من حج وقد حل دينه، ومال الحج يستطيع أن يفي به الديون، ولكنه تقدم به للحج، فنقول: أساء، ولكن حجه صحيح، ويجب عليه أن يبرئ ذمته، ولو حج وعليه دين ولم يسدد الديون ولم يرض الدائنون بأن يحج فحجه صحيح مع الإثم، أما إن رضي الدائنون فلا حرج في ذلك.

من لم يقف بمزدلفة لعذر

السؤال: أنا حججت في العام الماضي مع زوجتي، ولم أقف بمزدلفة ليلاً، حيث أوقفنا الزحام حتى طلوع الشمس، فلم نمر بمزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، مع أني قادر أنا وزوجتي على المشي، ولكن خشينا البرد الشديد فماذا علينا؟

الجواب: لا حرج عليكم إن شاء الله؛ لأن الوقوف بمزدلفة واجب، وغاية الواجبات تسقط مع العجز وعدم الإدراك، والمشي في حقكما يضر بكما أو يشق ولا حرج في ذلك، وهذا هو رأي ابن قدامة ، وشيخنا عبد العزيز بن باز .

المتخلف عن الحج مع الاستطاعة

السؤال: ما توجيه قول عمر : فمن لم يحج وهو قادر على الحج: والله ما هم بمسلمين؟

الجواب: الحديث يرويه ابن كثير في مسنده عن عمر من طريق الحسن البصري قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار، فمن وجد سعة منهم فلم يحج أن يضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين، وهذا الحديث منقطع، فإن الحسن لم يسمع من عمر ، و ابن كثير يقول: هو صحيح موقوف إلى الحسن ، ولكن بين الحسن إلى عمر مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل، وصح أيضاً عن عمر من وجد سعةً فلم يحج فلا يضر مات يهودياً أو نصرانياً، وهذا من باب التغليظ والله أعلم.

وقت الأفضلية في رمي جمرة العقبة

السؤال: ما هو الوقت الأفضل في رمي جمرة العقبة؟

الجواب: الأفضل أن يرميها ضحى بعد طلوع الشمس؛ لقول جابر : ( فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة بعد طلوع الشمس )، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس.

وقت التحلل الكامل

السؤال: لو طاف يوم العيد طواف الإفاضة، وحلق أو قصر فهل يكون قد تحلل التحلل الكامل؟

الجواب: يكون قد تحلل التحلل الأول، والتحلل الكامل لابد من فعل الثلاثة الأشياء: الرمي، والحلق أو التقصير، وكذا طواف الإفاضة.

أثر السعي في التحلل

السؤال: هل السعي له أثر في التحلل؟

الجواب: الأقرب والله أعلم أن السعي واجب، وأنه لا علاقة له بالتحلل.

وقت طواف الإفاضة

السؤال: متى يبدأ طواف الإفاضة، ومتى ينتهي؟

الجواب: يبدأ طواف الإفاضة من مغيب القمر ليلة العيد، وليس له حد على الراجح، إلا أن أهل العلم اختلفوا فيما إذا أخر طواف الإفاضة عن شهر ذي الحجة فهل عليه دم؟

فذهب أحمد و مالك وغيرهما إلى وجوب الدم عليه.

والقول الآخر: إنه لا يجب عليه، ولعل هذا القول أظهر لعدم ورود ما يدل على الوجوب.

حكم من نوى بطواف الوداع الوداع والإفاضة وغربت الشمس قبل الخروج من مكة

السؤال: إذا نوى الحاج بطواف الوداع طواف إفاضة ووداع، ولكن غربت الشمس قبل خروجه من مكة، فما الحكم؟

الجواب: العبرة في غروب شمس يوم الثاني عشر إنما هي في بقائه في منى، أما أن يخرج يوم الثاني عشر مثلاً فهذا يوجد عند بعض الحجاج، فيقول: أريد أن أنفر، وعندي امرأة كبيرة، أو بنات لا يستطعن أن يرمين، أو حجهن تطوعاً، فأبعثهن إلى الحرم في الصباح، فأرمي عن نفسي وأرمي عنهن، وأقول: طفن للوداع، أو للإفاضة والوداع، ثم يذهب هو فيطوف فيخرجون جميعاً فلا حرج في ذلك، أما غروب الشمس من عدمه، فإنما هو في حق من بقي في منى بعد مغيب الشمس فإنه يجب عليه أن يبقى، أما طواف الوداع لا علاقة له بمغيب الشمس من عدمها.

طاعة الوالدين في ترك الحج غير الواجب

السؤال: من حج حجة الإسلام، وأراد الاستزادة، وأبى أهله عليه أن يذهب إلى الحج مرة ثانية فماذا يفعل؟

الجواب: نقول: إذا كان الإنسان والده يريده أن يبقى فإن الأفضل طاعة والديه؛ لقول أبي هريرة : والله! لولا الجهاد وبر أمي ما تركت الحج أبداً.

وقت لبس الإحرام للمتمتع

السؤال: لبس الإحرام للمتمتع متى يبدأ، أو متى الأفضل؟

الجواب: الأفضل ضحى يوم الثامن.

معنى التهليل

السؤال: ماذا تقصد بقولك: التهليل؟

الجواب: التهليل يعني: يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هذا معنى التهليل.

سفر الخادمة للحج

السؤال: ما حكم سفر الخادمة للحج؟

الجواب: إن سفر المرأة من غير محرم لا يجوز، إلا إذا لم تجد محرماً، وكذلك الخادمة التي تأتي من بلاد بعيدة من غير محرم وأحبت أن تحج، فإني أقول: ما دام أنها قد جاءت من غير محرم، فإن كفيلها لو أمرها أن تحج فإن ذلك فيه خير؛ لأنها لو أرادت أن تحج، فإن نفقة الحج عليها عسيرة وشديدة، وهي لا تجد محرماً، وقد قالت عائشة : رحم الله أبا عبد الرحمن ليس كل النساء تجد محرماً، وهي قد جاءت هنا وليس عندها محرم، فلو حجت ففيه خير إذا رغبت في ذلك.

رمي جمرة العقبة بعد منتصف الليل

السؤال: من رمى جمرة العقبة بعد منتصف الليل في ليلة العيد، فهل رميه هذا صحيح؟

الجواب: الأولى ألا يرمي بعد منتصف الليل، ثم إن قول منتصف الليل لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، والراجح: أن المتعلق بذلك بعد مغيب القمر، والله أعلم.

أداء فدية العام الماضي في حج هذا العام

السؤال: من كانت عليه فدية تغطية رأسه في حج العام الماضي، وأخرها إلى أن جاء الحج من هذا العام، فماذا عليه؟

الجواب: ليس عليه شيء إلا الفدية، والفدية: إما أن يصوم ثلاثة أيام، وإما أن يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وإما أن يذبح شاة يذبحها في الحرم، أو في المكان الذي وقع فيه المحظور.

عدم علم الموكل بالنحر بوقت الذبح وأثره على التحلل

السؤال: من وكل في الذبح ولا يدري متى ذبح الموكل، ماذا عليه؟

الجواب: نقول: الأولى أن يتبين ذلك، فإن لم يتبين لا حرج في ذلك؛ لأن الهدي الراجح فيه أنه لا علاقة له بالتحلل، كما حكا ابن حجر الإجماع على ذلك.

الدليل على أن التحلل الأول يكون بأمرين

السؤال: ما الدليل على أن التحلل الأول يكون بأمرين من ثلاثة؟

الجواب: لا يوجد شيء اسمه أمران من ثلاثة، ولكن التحلل فيه إجزاء وفيه سنة، فإذا رمى الحاج جمرة العقبة أجزأه أن يتحلل، لكنه أساء، ولا ينبغي له أن يتحلل إلا بالحلق؛ لأن الحلق نسك ومحظور من محظورات الإحرام على الصحيح.

لعلنا نقف عند هذا، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحني وإياكم رضاه والتقوى والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الهدى والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , بداية المجتهد - كتاب الحج [8] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net