إسلام ويب

اهتم أهل العلم بالقرآن الكريم دراسة وحفظاً وتدبراً، وأولوه عناية كبيرة؛ فهو المرجع الأول في الاستدلال، فكان لا بد من سلوك الطريق الصحيح للاستدلال به، ولذلك جعل العلماء قواعد ومناهج في طريقة الاستدلال السليم بالقرآن لا بد لطالب العلم أن يعيها.

الاهتمام بالقرآن والعناية به تدبراً واستدلالاً

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

أهمية تدبر القرآن والتأمل في معانيه

مازال أهل العلم رحمهم الله يوصي بعضهم بعضاً على التذاكر والاجتماع مع أهل العلم وطلبته للتدارس في أعظم كلام، وهو كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، فما عنيت همم الناس بأعظم من الاهتمام بكتاب الله سبحانه وتعالى؛ لأنه خير كتاب وهو أعظم ذكر يذكره العبد بينه وبين ربه، وقد قال خباب بن الأرت رضي الله عنه: ما تقرب العباد إلى الله بأفضل مما خرج منه، يعني: بذلك كلامه سبحانه وتعالى، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أحب الكلام إلى الله بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر )، فقوله صلى الله عليه وسلم: (بعد القرآن) دليل على أن ذكر الله هو أعظم الأشياء.

ولأجل هذا فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن ليكون هداية للخلق، فهو أحسن تقويماً وأحسن هداية كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وقد وجدت بعض الكتب التي تبين سلوكيات الناس وتطوير الذات، وما أدراك ما تطوير الذات من دورات ومؤتمرات، لكن هذه تبقى محدوديتها في المعرفة قليلة إلا أن تدبر القرآن، والتأمل في معانيه، والتبصر في آياته، يعطي الإنسان قناعة تامة على أن هذا القرآن هو الصراط المستقيم، وهو الطريق القويم، ومن اهتدى به رشد، ومن تركه غفل.

وما أدراك ما المغضوب عليهم والضالين؟ الذين تركوا صراط الله المستقيم، فتشبه من تشبه منهم باليهود حينما قست قلوبهم ولم تلين بذكر الله، وتشبه منهم من تشبه بالنصارى حينما بالغوا في اللين حتى تركوا ما أمر الله به من إقامة شرعه وتوحيده، وإقامة حدوده، والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ولأجل هذا كان أعظم ما صرفت فيه الهمم وتؤمل فيه من الكلام، هو كلام الله سبحانه وتعالى.

حال السلف مع القرآن

إذا قرأتم كتب السلف، فإن السلف رضي الله عنهم كان علمهم كله إنما هو من القرآن، لقول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، يقول أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد) عند شرحه لحديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً: ( تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها )، قال: فإذا كان هذا هو القرآن الذي كان هو علمهم كما قال الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، فما بالك بمن جاء بعدهم من الذين بدأت لغتهم تتغير، ووجد القرآن ولم يعلموه، فإن تفلت العلم في حق المتأخرين أعظم من تفلت العلم في حق المتقدمين، أو كما قال رحمه الله.

فهذا يدل دلالة واضحة أن العالم -لا أقول: العامي- لو صرف جهده فيما يدل على فهم القرآن من آلاته، مثل: آلة التفسير، وآلة المصطلح، وآلة البلاغة، وآلة العربية. لكان أولى، لكنه عندما يفرط في وقته، فإنه سوف يندم حين لا ينفع الندم، فهذا أبو العباس بن تيمية رحمه الله الذي فطر على نصرة دينه، ونبذ البدع، ومحاربة المشركين، والملحدين والمناطقة، فإنه حينما حبس في القلعة المعروفة كان كتابه فقط هو القرآن، فندم على ضياع وقته حينما لم يتأمل القرآن.

أهمية الاستدلال السليم بالقرآن

فأقول نصيحة لي، ونصيحة لكم، ونصيحة للناس الذين يقرءون هذا الكلام: لا نغفل عن كتاب الله سبحانه وتعالى تدبراً وتأملاً، وطريقة الاستدلال، فإن طريقة الاستدلال من أهم المهمات.

وكثيرون هم الذين يستدلون على بعض بدعهم بالقرآن، وقد قال من قال من السلف: رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه؛ لأنه يحتج على نفسه بالقرآن، والقرآن حجة عليه وليس حجة له؛ ولأجل هذا اهتم السلف رضي الله عنهم بالاستدلال؛ لأن طريقة الاستدلال بالقرآن معنىً ودرساً وعلماً ومن لم يحصله ولم يأخذه من معينه ومن أهله فإنه يضل حتماً، ولأجل هذا ضل من ضل من المتأخرين الذين جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا بطرق ليست هي طريقة الوحيين، وأتوا باستنباطات ليست هي استنباطات سلف هذه الأمة.

وكان أول من اقتبس بعض هذه الشعب من شعب الضلال وشبه الملاحدة هو الصبي الذي قرأ: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا [الذاريات:1-3]، فقال: كيف هذا؟ فلما ذهب إلى عمر رضي الله عنه، قال: ما معنى وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]؟ فعرف عمر أن هذا يريد أن يشكك في القرآن؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يشكك في القرآن، ولا يشكك في الذات الإلهية إلا أن يكون عنده مخزون من معرفة متأكدة، ومخزون من معرفة ضالة، فيجعل ما يستأنسه من معلومات ويستروح لها دليلاً لكي يشكك في القرآن، فأخذ عمر فضربه بالدرة حتى أغمي عليه، فلما أفاق أراد عمر أن يضربه مرة ثانية فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فأحسن قتلتي، وإن كنت تريد دوائي فقد شفيت، يعني: شفيت من هذه الشبهة، ويا ليت! لنا عشراً من درة عمر؛ لنقيم بها الطريق المعوج مثل الذي في كتب ومقالات بعضنا، وحملة الأقلام الذين ربما ضلوا وأضلوا.

لأجل هذا كانت هذه المحاضرة؛ لأننا وجدنا من يستدل أحياناً بالقرآن لأجل توجهات سياسية، أو يستدل بالقرآن لأجل توجهات اقتصادية، أو يستدل بالقرآن لأجل توجهات من الإعجاز والمبالغة في ذلك.

نعم! القرآن معجزة لكنه معجزة غيبية، ومعجزة بلاغية وهي أطول وأعظم من أن تكون معجزة علمية، بمعنى النظر إلى الطبيعة، فإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وكل معنى لم تعرفه العرب في لغتها وقت التنزيل، فليس هو المقصود والمراد من كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وإنما المقصود من تنزيله كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. فهذا هو الأساس الذي نزل لأجله القرآن هداية للخلق، هداية للبشرية، هداية للإنسانية.

نعم القرآن هداية عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ولو لم يأت من القرآن سوى أن قراءته نور وهداية واطمئنان كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] لكفى، ولأجل هذا فإن من كرم الله وجوده وإحسانه أن الإنسان لا يقبل على كتابه إلا أعطاه الله من النور، والاطمئنان والسكينة، والخضوع، والرضا أعظم ممن لا يتأمل ذلك النص، ولو كان الذي لم يتأمل ذلك النص أعظم عند الله من حيث الحسنات من ذلك الرجل.

ولهذا تجدون بعض الذين ضلوا من المبتدعة، وهم بعض الصوفية الذين خالفوا كتاب الله وسنة رسوله، وليسوا على منهج الصوفية السلفية، كما كان عليه المتقدمون من أهل العلم، تجدونهم حينما يقبلون على القرآن يقع فيهم من الرضا، والطمأنينة والسكينة وهم ضالون؛ لأن الله كريم، ومن كرمه أن الإنسان لا يقبل عليه إلا هداه الله الصراط المستقيم، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( ولئن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ولئن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ولئن أتاني يمشي أتيته هرولة ).

إننا نلاحظ في الآونة الأخيرة كثرة الأخطاء في الاستدلال بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يسعفنا الوقت لأن نذكر أخطاء الناس في الاستدلال بالسنة، ولكننا سنذكر أخطاء الناس في الاستدلال بالقرآن، والإنسان إذا لم يأخذ علم الاستدلال بالقرآن من معين صافٍ من أهل العلم، فإنه حتماً سوف يخطئ، ولو أعطي من العقل والذكاء ما أعطي.

أشار الإمام الشاطبي رحمه الله إلى أن أهل العلم كانوا يأخذون العلم عند علمائهم بالجثي على الركب، وعابوا على الإمام ابن حزم رحمه الله مع أنه جهبذ من أذكياء العالم، كما يقول ابن تيمية رحمه الله، إلا أنه قل جلوسه بين يدي أهل العلم الذين أخذوه عن غيرهم، وهؤلاء أخذوه عن غيرهم ، فأصبحت ثمة مدارس هي مدرسة العراق على طريقة ابن مسعود ، ومدرسة الحجاز على طريقة عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر ، ومدرسة أهل الشام على طريقة معاذ بن جبل ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

فعابوا على ابن حزم حينما أخطأ في طريقة الاستدلال فأنكر القياس، وعابوا عليه حينما أنكر ظواهر النصوص في ذات الله سبحانه وتعالى، وإن كان معظماً للكتاب والسنة إلا أنه حينما لم يأخذ هذا العلم من طريقه ومن معينه أخطأ، فإذا كان ابن حزم الذي كان حفظه للسنة معلوم، وتأمله للنصوص معلوم أخطأ في هذا، فما بالك بمن جاء بعدهم.

ولأجل هذا فإن مجرد استرواح النفس على معنى من المعاني من القرآن لا يلزم أن تكون هي الحق، ولو وافق معنى لغوياً في القرآن؛ حتى يكون على طرق أئمة السلف، وحتى يكون على طرق أئمة أهل العلم، وحتى يكون موافقاً لتفسير الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم، ولهذا يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فإن من قال بما سنح في وحله، وخطر على باله، من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ؛ لأنه خالف طريق أهل العلم، ثم قال: ومن استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو محمود.

الاستدلال معناه، ومصادره

المراد بالاستدلال لغة واصطلاحاً

الاستدلال في اللغة: هو طلب الدلالة وطلب الدليل، ولهذا فإن السين والتاء يقصد بها الطلب كما تقول: استلطاف، استنصار، أي: طلب اللطف وطلب النصرة.

وأما في الاصطلاح فله مفاهيم مختلفة، فالاستدلال عند المناطقة هو: استنتاج قضية مجهولة من قضية أو قضايا معلومة، وطريقة الأصوليين في الاستدلال هو: طلب الدلالة أو طلب الدليل، وهذا هو المراد عند أهل العلم.

وأما غيرهم من المتكلمين فلهم طرق، لكن الذي نقصد بذلك أن الاستدلال معناه: طلب الدليل أو طلب الدلالة، وهذا يعطيك قناعة أن النص الظاهر من القرآن أو من السنة هو حجة بذاته، لكن نستطيع أن نقتبس منه بعض العلل والمعاني.

ولعلنا نذكر أمثلة في هذا الباب، قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، فهذا حكم بأن السارق والسارقة تقطع أيديهما، فربما يقرأه الإنسان، فتقول: هل تقطع يد السارق؟ فيقول: نعم.

كيف استنتج الحكم من هذه الآية؟ استنتج أهل العلم من هذه الآية أن الحكم المعقب بفاء التعقيب عليه بعد سبب مشعر بعلميته أي: الوصف، فقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [المائدة:38] وصف جاء بعده حكم وهو فَاقْطَعُوا [المائدة:38]، قالوا: فإن الحكم الذي جاء عقب وصف، فإنه مشعر بالعلمية، فهذه قاعدة على أننا إذا وجدنا آية في القرآن، أو وجدنا حديثاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عقبه وصف منضبط فإن ذلك دال على أن السبب علة لهذا الحكم، وهذه طريقة أهل العلم رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.

مصادر الاستدلال الشرعية

أنواع الاستدلال كثيرة جداً، فالأدلة نوعان: أدلة متفق عليها, وأدلة مختلف فيها. فاستدلال العلماء إما أن يكون من المتفق عليها وهي الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، أو من القسم الثاني وهي الأدلة المختلف فيها، وهي كثيرة، أوصلها بعضهم إلى تسعة، وأوصلها بعضهم إلى أحد عشر، وأوصلها بعضهم إلى ثلاثة عشر، والعلم عند الله، والمسألة تحتاج إلى ضبط؛ لأن هذا محله الأصول.

لكن من الأدلة المختلف فيها: قول الصحابي هل هو حجة أم لا؟ وشرع من قبلنا، والاستحسان والاستصحاب، والاستقراء، وسد الذرائع، ووجود السبب قبل الحكم المشعر بالعلمية، وقياس العكس، والقياس الاستقرائي، والقياس الاستثنائي، وعمل أهل المدينة. كل هذا معروف عند أهل العلم في طرق الاستدلال.

إذا جاءنا شخص، فأراد أن يستدل بطريقة خالفه أهل العلم فيها، فإننا لا نقبل قوله، خذ مثالاً على ذلك: مالك بن أنس يرى أن عمل أهل المدينة حجة، يقول: لأن الصحابة كانوا موجودين، فإذا عملوا عملاً، وتناقله من بعدهم فإن قولهم حجة، فإذا جاءنا حديث ولو حديث آحاد خالف عمل أهل المدينة فإننا لا نأخذ بهذا الحديث؛ لأنه قطعاً سوف يكون ضعيفاً، هذه قاعدة مالك . لكن أهل العلم أنكروا على مالك هذا الأمر، وقالوا: إنما يؤخذ بعمل أهل المدينة فيما لم يكن ثم نص صريح، مثل الصاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدر الصاع بأربعة أمداد في لغة العرب، لكن كيف عرفناه تقديره وجدنا بعض الآصع الموجودة عند بعض الأنصار، وبعض المهاجرين الذين وجدوا في المدينة، فكان مالك بن أنس يقول لفلان الأنصاري: عمن هذا الصاع؟ فيقول: عن أبي عن جدي أنه كان يخرج هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء مالك بعائلة أخرى، فقال: عمن هذا الصاع؟ قال: عن أبي عن جدي أنه كان يخرج صدقة الفطر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لـأبي يوسف ، وهو يعقوب المعروف بـ(بصاحب أبي حنيفة)، فقال: يا أبا يوسف ! أترى هؤلاء يكذبون؟ قال: والله! ما كذبوا، ولو كان صاحبي حياً لقال مثل ما قلت يا مالك ! صاحبه من؟ يعني: أبا حنيفة ، فإن أبا حنيفة يرى أن الصاع خمسة أرطال من أرطال أهل العراق، فهو أكثر من الصاع الموجود، الذي نحن نقول: هو أربعة أمداد، وهو تقريباً ثلاثة كيلو إلا قليلاً، فإن أبا حنيفة يرى أنه أكثر؛ لأنه قدر ذلك بأرطال العراق، والمقصود إنما هي أرطال أهل الحجاز.

وأما إذا خالف عمل أهل المدينة حديثاً شرعياً ثابتاً فإننا نأخذ بالحديث، ولو كان حديث آحاد، ونترك عمل أهل المدينة؛ لأن هذا ليس بحجة وإن كان يستأنس به، فالعتب على من يأتي بعد معرفة هذه القاعدة، ورد أهل العلم على الإمام مالك أنا أقول بقول الإمام مالك ، ماذا تقول؟ أن صيام الست من شوال غير مشروعة، وهذا هو قول الإمام مالك، وأنا لم آتِ بشيء، قلنا له: هل أخذت بقاعدة الإمام مالك ، وهي أن حديث الآحاد إذا خالف أهل المدينة لا يقبله؟

يقول الإمام مالك: لم أجد أهل المدينة يصومون ستاً من شوال، فضعف حديث أبي أيوب : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر )، فأنكر أهل العلم على مالك ، وقالوا: العبرة بالدليل، قال الإمام الشافعي في الرسالة: وقد أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يدعها لكائن من الناس، لكن إذا كان بعض الناس في هذا الزمان يأخذ بقول مالك ، قلنا له: إذاً يلزمك أن تأخذ بقاعدة مالك ، وليس بمسألة من مسائل مالك ، فتقول: كل حديث آحاد لا يقبل إذا خالف عمل أهل المدينة، فتحتج به كما احتج به مالك ، أما أن تنتقي هذا لأنه يصلح لهواك، وتنتقي هذا لأنه يصلح لعصرك، وتنتقي هذا لأنه يوافق قول شيخك، فهذا هو الخطأ في الاستدلال الذي أنكره أهل العلم رحمهم الله.

أنواع الاستدلال بالقرآن

والاستدلال بالقرآن على معنيين: إما أن يكون استدلالاً محموداً، وإما أن يكون استدلالاً مذموماً.

الاستدلال المحمود

الاستدلال المحمود له معنيان: فالمعنى الأول: هو الاستدلال بالأثر أو بما كان عليه أهل الأثر، وهم الصحابة والتابعون، فالاستدلال بالأثر كتفسير القرآن بالقرآن، أو تفسير القرآن بالسنة، أو تفسير القرآن على ما كان معهوداً عند أهل التفسير من الصحابة ومن جاء بعدهم هذا معنى.

والمعنى الثاني: المحمود: هو تأمل الآية بما لا يخالف تفاسير الصحابة، وبما لا يخالف ظاهر سياق الآية، بل هو يؤيدها، ويوافق القواعد العامة، وهذا جائز، وقد كان الصحابة يعملون به.

روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة أنه قال: قلت لـعلي : هل عندكم شيء من القرآن غير ما هو موجود عندنا، قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ليس عندنا إلا ما في هذا الكتاب، إلا فهماً يعطيه الله أحداً من خلقه في القرآن، فقول علي : إلا فهماً، دليل على أن هذا الفهم ربما لم يسبقه أحد، لكنه لا يخالف ما كان عليه المتقدمون، ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم لـابن عباس كما في الصحيحين: ( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل )، فلو كان المقصود بالاستدلال والتفسير هو أن يكون بالأثر فقط لما كان لـابن عباس ميزة في ذلك، ولكان غيره من الصحابة الذين حفظوا أكثر من ابن عباس أولى بذلك، والصحيح أن ابن عباس إنما أتى بشيء لا يخالف القرآن، ولا يخالف مفاهيم السلف، وهذا هو المقصود بالرأي المحمود.

ولهذا قال عبد الله بن المبارك : خذ من الرأي ما يفسر لك الحديث، وهذا هو الفهم الذي يختص الله به من يشاء من عباده، وعلى هذا فإن المعنى المحمود يكون على نوعين كما سبق.

الاستدلال المذموم

النوع الثاني: الرأي المذموم: وهو الذي يفسر القرآن برأيه، ولو خالف تفاسير السلف، فهذا مردود على صاحبه، وقد جاء ما يؤيد هذا المنع بما رواه أبو داود و الترمذي من حديث جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)، وهذا الحديث في سنده بعض الضعف، ففي سنده رجل يقال له: سهيل بن أبي حزم القطيعي ، وهو ضعيف، وأصله في البخاري بلفظ: ( من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ )، فهذا قد جاء من أوجه، والله أعلم.

ومعناه والله أعلم هو أن يفسر القرآن بناءً على معنى من معاني العربية، ولو كان السياق يخالفه، وهذا يوجد عند بعض الطوائف، ويوجد عند بعض القرامطة والملحدين والمعتزلة، وبعض الذين انحرفوا عن الطريق المستقيم، فضلوا وأضلوا، ولعل من أمثلة ذلك ما قالوا في تفسير قوله تعالى، وهذا كثير عند الرافضة عليهم من الله ما يستحقون: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24-25] قالوا: الشجرة محمد صلى الله عليه وسلم، والفرع علي، والغصن فاطمة، وقوله: و تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ [إبراهيم:25] هم الأئمة الاثنا عشر، فهذا تفسير باطل ليس له ما يؤيده من كلام الله، ولا من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا من كلام صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مردود على صاحبه.

إذا ثبت هذا فإن أهل العلم بينوا أنه إذا كان الإنسان يأتي بشيء لا يخالف النصوص، إلا أن يكون عنده آلة هذا الفن فهو مردود على صاحبه، وإلا فإن كل من تأمل القرآن ربما أتى بأشياء غريبة، لكن لا يسوغ له أن يتجرأ في هذا الأمر إلا أن يكون عنده علم.

ولأجل هذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحابه، وهم يختلفون في القرآن، يعني: هذا يقول: تفسيرها كذا، وهذا يقول: معناها كذا، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو غضبان كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، ثم قال: ( أبهذا أمرتم، أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا ).

وهذه نصيحة وهي: أن الإنسان لا يهتم ولا يقرأ، ولا يطلع على هؤلاء الذين ضلوا وأضلوا عن طريق عباراتهم أو كتاباتهم، أو مقالاتهم، أو تويتراتهم، أو بعض رسائلهم، فإن بعض الناس ربما يقرأ من باب الاستطلاع ليس إلا، فلربما وقع في قلبه من الهوى والفتنة فضل وأضل، ولأجل هذا فقد نصح أهل العلم ألا يقرأ الإنسان ولا يستمع إلى أهل الأهواء، فهذا محمد بن سيرين رحمه الله كان إذا مر على عمرو بن عبيد وهو أعلم منه وأتقى منه، وأزكى منه، كان إذا مر وضع أصبعيه السبابتين في خماص الأذنين، وقال: إني أخشى أن أسمع شيئاً من الهوى، فيستقر في قلبي، فلا أستطيع أن أمنعه، أو أن أزيله، أو كما قال رحمه الله، فهذا يدل دلالة واضحة على أن الاستدلال بالرأي الذي هو مذموم، أنكره أهل العلم أشد الإنكار، وهذا هو المراد بقول أبي بكر رضي الله عنه: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا أنا قلت في كتاب الله برأيي.

إذاً فالمقصود بالرأي المذموم: هو الذي لا يوافق القواعد العامة، وإلا فإن أبا بكر رضي الله عنه اجتهد في مسألة الجد والأب، ولم يعلم في ذلك سنة، قال: أقول فيها برأيي، وأستغفر الله، فوافق الحق رضي الله عنه، فهذا يدل على أن العالم إذا أتى باستدلال، أو بدليل يوافق الحق، ويوافق النصوص الشرعية، ولم يكن بمستهجن من حيث العربية، ولا بمخالف لما كان عليه أهل العلم، فلا حرج في ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وأقول: إن أدعياء العلم قد كثروا في هذا الزمان لا كثرهم الله، فأتوا باستدلالات وأقيسة ونصوص، وكلها مخالفة لظاهر القرآن، ومخالفة لظاهر النص، حتى إني سمعت من يستدل بالقرآن على بعض بدعه، والعياذ بالله، وكما سمعتم وقرأتم قصة هؤلاء المعتزلة والجهمية، الذين حاولوا تفسير نصوص الصفات وآيات الصفات، على حسب أهوائهم، فلما قال الله سبحانه وتعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، قالوا: إن اليد هي القوة، قلنا: هذا التفسير مخالف للسلف، فإن اليد إذا سميت فإنها تكون على الحقيقة لا على المجاز، وهي حقيقة تليق بجلال الله وعظمته، قالوا: إن اليد تطلق على القوة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47]، قالوا: بأييد، وهذا دليل على القوة فالجواب على ذلك: إن الأيد جمع إيد، وليس جمع يد، واليد جمعها أيادي، والله سبحانه وتعالى أطلق اليد تثنية، وجمعاً، وإفراداً، فدل ذلك على الحقيقة، وليس على المجاز.

م إننا نقول: إن قول الله تعالى عن خلق آدم: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] خلقه بيده سبحانه وتعالى، فإذا كان ذلك معناه بقوة فهل معنى ذلك أن الله خلق غير آدم بغير قوة؟ أو أن الله عجز عن خلق آدم إلا بأن يظهر قوته عليه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

قال ابن مسعود في مثل هؤلاء: ستجدون أقواماً يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم، فكيف يدعوننا إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم؟

إذاً: المقصود في واقعنا المعاصر هو تفسير النصوص، أو تهذيب الخطاب الديني بما يتوافق مع الرؤى الغربية، فيفسر القرآن بما يوافق الرؤى الغربية، فقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [البينة:6] فقد جعل الله الكفار هم اليهود والنصارى وغيرهم، فيأتي من يأتي ممن ضل وأضل، فيقول: لا تقل لليهود والنصارى كفاراً، بل قل: إنهم أهل كتاب، أو قل: الرأي الآخر، أو قل: الطرف الآخر، فلماذا نخاف من تسمياتنا الشرعية التي أخذناها من الكتاب والسنة، ونبدلها بمعنى من المعاني التي ربما يكون سببها هو ضغط الواقع، أو الضغط الأجنبي والغربي على مفهومنا؟ وإذا كان اليهود يروننا كفاراً باليهودية، ويرون النصارى كفاراً باليهودية، والنصارى يروننا كفاراً بالنصرانية، فلماذا لا نقول عنهم بأنهم كفار بالإسلام، وهذا أمر معروف متداول، ولهذا لا يوجد دين مهما سمي ديناً إلا وفيه كفر وتصديق، كفر بغيره، وتصديق به، والله تبارك وتعالى أعلم.

ولأجل هذا فالخوف كل الخوف على مثل هؤلاء الذين يكتبون عن الإسلام، وتكون أسماؤهم عربية، ولهجاتهم عربية، وربما تربوا في جزيرة العرب، لكن رؤاهم ليست هي رؤى أهل الإسلام، وتفكيرهم ليس هو تفكير أهل الإسلام، ولأجل ذلك خاف منهم عمر رضي الله عنه، فقال رضي الله عنه: والله! ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إمامه، أو من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، يعني: حتى صار سهلاً عليه، وفي الاستدلال به حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله، ولأجل هذا شنع السلف أشد التشنيع على الذين يفهمون القرآن على معنى ورؤى في أنفسهم، ثم يطلبون لها الدليل من الكتاب والسنة، فإذا خالف الكتاب والسنة آراءهم حاولوا لي أعناق النصوص بأن يستدلوا بها على غير مفهومها.

وأذكر مثالاً للتوضيح: جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه )، فكلمة (واجب) عند جمهور أهل العلم يعني: حتم متأكد، هذه لغة العرب.

أما الواجب في الاصطلاح الفقهي فيقصدون به: ما يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، لكن الواجب في لغة العرب: السقوط، قال الله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36] يعني: سقطت على جنوبها؛ لأن الإبل تنحر فإذا نحرت سقطت، فجاء بعضهم فقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( غسل يوم الجمعة واجب )، يعني: ساقط، أي ساقط على كل محتلم، فليس واجباً على كل محتلم، وهذا تفسير مخالف لمقصود النبي صلى الله عليه وسلم، واللغة العربية لا تؤيده؛ لأن هذا يسميه العلماء التأويل المحرف، وهو إخراج النص من ظاهره لمعنى ضعيف وذلك لوجود وجه من أوجه العربية، وهذا هو التأويل الذي كرهه سلف هذه الأمة.

ولهذا أقرأ لكم كلاماً لـابن قتيبة رحمه الله حينما أراد أن يرد على أهل الأهواء الذين يستبيحون معنى من المعاني بسبب النظرة الفلسفية، أو النظرة الغربية، أو غير ذلك، ثم يطلبون لها الدليل، ولو أدى ذلك إلى تحريف النصوص عن موضعها.

قال رحمه الله: ولما اضطرب لهم القول على ما فصلوا، ورأوه حسناً ظاهراً، قريباً من النصوص، يروق السامعين، ويستميل قلوب الغافلين، نظروا في كتاب الله فوجدوه ينقل ما قاسوا، ويبطل ما أسسوا، فطلبوا له التأويلات المستكرهة، والمخارف البعيدة، وجعلوه عويصاً وألغازاً، وهذه هي طريقة أهل البدع، ولهذا يقولون عن القرآن بأنه ظني الدلالة، وأما قواعدهم التي تربوا عليها قطعية الدلالة وهذا والله هو الضلال، وهو الخسران.

أقول إن مما لا شك فيه أن إخضاع تفسير القرآن لميول شخصية، أو مذاهب ذات مفاهيم غربية فتح على المسلمين باب شر خطير، وكثر أدعياء العلم بتشويه صورته الجميلة، وإفساد أحكامه وعقائده، ولقد تنوعت مشارب المخالفين لنهج سلف هذه الأمة في طريقتهم للاستدلال بالقرآن على طرق وطرائق قدداً، منها الاستدلال الفلسفي في القرآن، فإن الفلاسفة مناطقهم وعقائدهم وطرائقهم على المنطق اليوناني الذي أسسه أفلاطون و أرسطو وغير هؤلاء الذين جاءوا إلى القرآن فوجدوه يخالف ما قعدوا، ففسروا القرآن بتفاسير تخالف الحق، والله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد.

وكذلك التفسير الفلسفي الصوفي، فإن الصوفية الباطنية يفسرون القرآن بمعان، ويقولون: إن القرآن له باطن وله ظاهر، فظاهره يعرفه العامة، وباطنه لا يعلمه إلا الخاصة، فلأجل هذا تنكفوا عن الأحكام الشرعية، ولم يعملوا بذلك؛ لأنهم قالوا: نحن بيننا وبين الله صلة، وأنتم بينكم وبين الله حجاب، وتلك الصلة بعنون بها، والله المستعان.

الاستدلال السياسي بالقرآن

النوع الثالث من الاستدلال: الاستدلال السياسي بالقرآن، فإننا نجد من الناس من يستدل بالقرآن على بعض أغوائه، وعلى بعض ضلاله، ولهذا حينما جاءت فتنة معركة الجمل بين علي رضي الله عنه وبين المسلمين قالوا في قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] أنها نزلت في معركة الجمل، فهل هذه الآية نزلت في عهد علي أم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟

فالجواب إنها نزلت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخلافه مع معاوية ، وعائشة رضي الله عن الجميع فلم يكن في وقت التنزيل، فقالوا: إن إحدى الطائفتين علي ومن معه، والأخرى معاوية ومن معه؛ لأجل أن يجعلوا الناس يقبلون بمثل هذا الأمر، وهذا ضلال؛ لأن خلاف علي مع معاوية إنما كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد استكمال هذا القرآن، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وكذلك تفسيرهم لآية الجبت والطاغوت، فقالوا: إن الجبت حفصة ، وقيل: عمر رضي الله عنه، وقيل: أبو بكر ، وكل هذا من ضلال الرافضة عليهم من الله ما يستحقون.

ومن الأخطاء أيضاً التفسير السياسي الذي يأخذ بعض النصوص، ويترك بعضها، فهؤلاء من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، فإذا أراد أن يستدل على الخروج على السلاطين أتى بآيات الظلم، وبعدم قبول الله سبحانه وتعالى أحكامه؛ لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، فيبالغ في هذه النصوص حتى يخرج النصوص الأخرى التي تعارضها عن مرادها، ثم يأتي آخرون فيعظمون السلاطين حتى يجعلونهم بمنزلة الأنبياء والمرسلين، وأنهم معصومون، وأن هؤلاء يقبل قولهم ولو خالفوا الحق؛ لأنه يجب طاعتهم، وكل هؤلاء وهؤلاء في ضلال، والواجب هو الطاعة بالمعروف، ومعنى هذا أننا نطيعهم ما أطاعوا الله ورسوله، ونخالفهم ما عصوا الله ورسوله، ولكن لا ينازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً.

وبعض الناس أحياناً يفهم النصوص على غير منوالها، وهذا أنكره السلف رضي الله عنهم، ومن ذلك الخوارج حينما ناظرهم ابن عباس ، فاستدلوا على القضية السياسية التي كانت بينهم وبين علي رضي الله عنه بأدلة أراد ابن عباس أن يلقنهم الحجة، ويلقمهم حجراً في عدم فهمهم المحجة، فقال علي رضي الله عنه لـابن عباس : ناظرهم بالسنة، قال ابن عباس : والذي نفسي بيده لأطرينهم يعني: أفهم منهم، قال: نعم، ولكن القرآن حمال لوجوه، ومع ذلك ناظرهم ابن عباس ، فما رجع حتى رجع منهم أربعة آلاف رجل رجعوا إلى الحق، والله أعلم.

الاستدلال الإعجازي للقرآن

النوع الرابع: الاستدلال الإعجازي للقرآن، فإننا نجد بعض الناس حاول أن يلوي أعناق النصوص لتوافق نظرية جيولوجية، أو نظرية طبية، أو نظرية فلكية، والقرآن لم ينزل لأجل هذا، كما أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي وقال: إن كل معنى من المعاني التي لم يفهمها العرب في لغتهم، فإن ذلك لا يقبل؛ لأن الله إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، ومن أمثلة هؤلاء مصطفى محمود فله كتاب عصري يفسر القرآن بالنظريات العصرية المتكلفة، ويجب أن يكون تفسير القرآن بالإعجازات العلمية موافقاً لتفسير السلف، وإذا لم يكن موافقاً لتفسير السلف فإنه لا يقبل، وهذا من التكلف الذي نهينا عنه.

قواعد وطرق الاستدلال بالقرآن

هناك قواعد وطرق في طريقة الاستدلال بالقرآن عند أهل العلم، وهي كثيرة منها قواعد عامة، ومنها قواعد متعلقة بالنص القرآني، ومنها قواعد متعلقة بالقراءات والرسم العثماني، وغير ذلك من القواعد، ولعلنا نذكر هذه القواعد.

قواعد عامة في طريقة الاستدلال بالقرآن

القسم الأول: قواعد عامة في طريقة الاستدلال:

القاعدة الأولى من القواعد العامة: يجب حمل كلام الله على ما أراده الله سبحانه وتعالى لا على الأعراف المستحدثة فقهية كانت أو غير فقهية؛ لأن للقرآن عرفاً خاصاً كما يقول ابن القيم ، ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيره، ولا يجوز تفسيره بغير ما عرف من طريقة القرآن، وما عهد من القرآن كما يقول ابن القيم ، وعلى هذا فكل استدلال أو تفسير خالف ظاهر القرآن فهو مردود على صاحبه، كما يفعله المعتزلة والجهمية، والآن يوجد كتب يسمونها قراءة التراث، وكتب تبين تحبيب الخطاب الديني، يحاولون فهم النصوص بمفاهيم غربية، وبمعان فلسفية تخالف ما كان عليه سلف هذه الأمة، فهؤلاء يجب أن نكون لهم بالمرصاد، ونبين أن فعلهم وطريقتهم خطأ؛ لأنهم ليسوا بأطهر من الصحابة الذين هم على الحق المستقيم، فإنهم أعلم وأقل تكلفاً، وأكثر علماً، كما قال عبد الله بن مسعود .

وعلى هذا فلا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات لأمور غيبية لا تعلم إلا برؤية أو بنص من الكتاب والسنة، أما أن يفسر الإنسان المعاني غير الظاهرة بمعان باطنة، فهذه طريقة الباطنية، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: وينبغي أن يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما أراده الله وأراده رسوله لا على ما أراده المجتهد، ويخطئ بعض الباحثين حينما يأتي إلى المسألة الخلافية وفيها أقوال فيقول: القول الأول استدلوا بالآية كذا وبالسنة كذا، ويقول: والراجح القول الثاني، ثم يقول: وما استدل به أصحاب القول الأول من الآية فهي تحتمل كذا، وتحتمل كذا، وتحتمل كذا، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، وهذا خطأ؛ لأن هذه احتمالات عقلية، ولا يجوز تأويل النصوص الشرعية باحتمالات عقلية، ليس عليها دليل من الكتاب والسنة.

القاعدة الثانية من القواعد العامة: كل استدلال بآية لم تؤخذ دلالتها من ألفاظ الآية أو سياقها فهو رد على قائلها؛ لأن هذا ضرب من التخرص ومن التقول على الله بغير علم، ولهذا فقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذا من الإلحاد في آيات الله، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت:40]، وقال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46]. والتحريف هو فهم للنصوص على غير ما أراده الله وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا عندما قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالوا: إن استوى بمعنى استولى، وهذا خطأ وضلال؛ لأن معنى استولى كأن غيره قد قهره فلذلك غلبه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وإنما معنى استوى يعني: علا وارتفع واستقر وصعد، وهذه المعاني الأربعة عند السلف، قال ابن القيم في نونيته:

فلهم عبارات عليها أربعقد حصلت للفارس الطعان

وهي استقر وقد علاوكذلك ارتفع الذي ما فيه من نكران

القاعدة الثالثة: ليس كل ما ثبت في اللغة صح حمل الآية عليه، فبعض الناس ينظر إلى الآية فيقول: اللغة تؤيد ذلك، فينظر إلى القاموس المحيط أو إلى لسان العرب، فيقول: إن هذا المعنى من لغة العرب، فيفسر القرآن بالعربية، وهذا ليس بصحيح، فلابد أن يكون هذا المعنى اللغوي مراداً لله ومراداً لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يأتنا نص من الكتاب والسنة يفسر هذه الآية، وهو تفسير القرآن بالقرآن، أو تفسير القرآن بالسنة، ولم يكن هذا المعنى اللغوي مقصوداً، فلا حرج أن نستفيد من لغة العرب، يقول ابن عباس رضي الله عنه: إذا أعيتكم الآية، فعليكم بلغة العرب؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، لكن ليس معنى هذا أن الإنسان ينظر إلى أي معنى من المعاني العربية فيقول: إن الآية يقصد بها هكذا، ومن الأخطاء قولهم: أن القرآن جاء بالقرينة، وجاء بالبينة، فيفسره بعض الفقهاء بالبينة التي هي الشاهدان، والقرآن لم يقصد الشاهدين فقط، إنما قصد البينة ما يبين الحق ويظهره، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

القاعدة الرابعة: أنه يجب حمل القرآن على حقيقته وعلى ظاهره، فلا يحمل على المجاز، وهذا أمر معروف، وكل آيات الصفات يجب حملها على ظاهرها، وبما تعرفه العرب في لغتها، كما يقول يزيد بن هارون رحمه الله ورضي عنه.

القاعدة الخامسة: أنه لا يسوغ الاستدلال بفهم أو معنى لم يكن عليه سلف هذه الأمة، كما قال الإمام الشاطبي : كل تفسير للقرآن لم تعرفه العرب في لغتها، فإنه مردود على صاحبه، وهو من الإحداث في دين الله سبحانه وتعالى.

قواعد في طريقة الاستدلال المتعلقة بالنص القرآني

أما القسم الثاني: وهي القواعد وطرق الاستدلالات المتعلقة بالنص القرآني، ومنها: أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا ثبت الدليل بنسخها، يعني: بعض الناس إذا تعارضت الآيات يدعي النسخ لأجل أن يجمع، فيقول: هذه آية متأخرة، وهذه آية متقدمة، والمتأخر قاض على المتقدم، قال أهل العلم: لا يصار إلى دعوى النسخ حال التعارض في ظاهر المجتهد إلا إذا علم التاريخ، ولم يمكن الجمع، كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر ، وكذلك أبو العباس بن تيمية و ابن قدامة و ابن القيم ، وغير واحد من أهل العلم رحمهم الله أجمعين، ولهذا قال الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ [الأعراف:3] قال ابن حزم رحمه الله: إن من ادعى نسخ الآية، فإن معناه أنه لا يعمل بما أمر الله، وهذه معصية، قال: فإنه من ادعى النسخ، فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه إلا بدليل، وإذا لم يكن ثمة دليل، فإنه لا يجوز دعوى النسخ، ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، يعني: أن الآية تفيد أنه يجوز للسلطان أن يقتل ويجوز أن يفتدي، قال: وفي آية أخرى قال الله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، اختلف العلماء في هاتين الآيتين، فقال بعضهم: إن قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5] ناسخة للآية، وقال بعضهم: إن هذه الآية: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ [محمد:4] ناسخة لقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5] والصحيح أن هذه لها معنى، وهذه لها معنى آخر، وأن قوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، معناه أن السلطان وأهل الحل والعقد، إذا رأوا أن يقتل هؤلاء الأسرى فإنهم يقتلون، وإذا رأى أنهم لا يقتلون بناءً على اتفاقات دولية، فإنهم أيضاً لا يقتلون، على حسب ما يراه السلطان، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، لعل في هذا كفاية، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الاستدلال الفقهي بالقرآن للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

https://audio.islamweb.net