اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عبادة القلب للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو نضل، أو نزل أو نُزل، أو أن نظلم أو نُظلم، أو أن نجهل أو يُجهل علينا.
أحبتي الكرام!
كثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم علهم يصومون النهار ويقومون الليل، كثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم في مثل هذه الأيام علهم أن يزيدوا في الصدقة وينفقوا ابتغاء مرضاة الله.
كثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم علهم أن يزيدوا في صلاتهم ويكثروا من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، وكثيرون هم الذين ربما أنبوا أنفسهم وضمائرهم على ترك نافلة من النوافل، أو على ترك صدقة من الصدقات غير أن هؤلاء ربما لا نراهم يوماً من الأيام جاهدوا أنفسهم عن إزالة الإحن والبغضاء والحسد الذي في قلوبهم.
وأعمال القلوب هي المحك وهي الإكسير كما يقول ابن القيم رحمه الله، وهي التي لأجلها يثيب الله سبحانه وتعالى من يثيب ويفضل فيها من يفضل، قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ) وفي رواية: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم )، فأعمال القلوب كما يقول أبو العباس ابن تيمية : هي من أصول الإيمان وقواعد الدين.
وقال سلمان الفارسي رحمه الله: لكل امرئ جواني وبراني فإذا أصلح جوانيه أصلح الله برانيه، وإذا أفسد جوانيه أفسد الله برانيه.
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: فإن عبادة السر هي السبب في ثبات المرء في دنياه، وإن ترك عبادة السر هو السبب في أن يحور المرء بعد الكور، والعياذ بالله.
ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: يا عبد الله! داو قلبك؛ فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم.
وربما تجد من يكثر في دعوة الناس، وفي العلم، وفي التعليم، غير أنه -ربما قبل أن يتكلم وقبل أن يعمل- لم يجاهد نفسه، فلربما أراد حظوة الناس والإقبال عليهم؛ فلهذا فتش عن قلبك.
هذا أحمد بن حنبل كان جالساً وكانوا يتحدثون عن أمر الزهد، وأعمال القلب، فذُكر يوماً عنده معروف الكرخي ، وكان معروف الكرخي قد أقبل على قلبه، وتكلم في الورع، وفي محاسبة النفس، ربما لم يرتح لأحد قبله، فقال أحد الطلاب عند الإمام أحمد : حسبك بـمعروف أنه قصير العلم، يعني: أنه ليس بفقيه، وليس بكثير الحديث، وليس بكثير الرواية، حسبك بـمعروف أنه قصير العلم، قال الإمام أحمد : يا هذا! أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف ؟
وقال بكر بن خنيس : قلت لـسعيد بن المسيب -وقد رأيت أقواماً يتعبدون ويقومون في المسجد- يا أبا محمد ! ألا تتعبد مثل ما يتعبد هؤلاء؟ فقال أبو محمد سيد التابعين: إنها ليست بعبادة، قال: فقلت: وما هي العبادة يا أبا محمد ؟ قال: التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله، وأداء فرائض الله، والتفقه في الدين.
التفقه في الدين عند السلف هو: الإقبال على الله سبحانه وتعالى وإزالة الجهل عن نفسه وعن إخوانه المسلمين.
ويقول الغزالي رحمه الله: وما أكثر من يعمل للدين، وما أقل من يعمل لله، وإذا أردت أن تعرف هذين فناظره، إذا قام أحدهم يدعو إلى الله وأقبل الناس عليه ماذا يقول في قلبه؟ فإن انشرح صدره وقال: قد قام بما لم أقم به, فإن ذلك دليل على صحة عمل القلب، وإن حسده وفتش عن أخطائه, علمت أنه صاحب هوى في ثوب صاحب دين، والعياذ بالله.
هذا الحبيب عليه الصلاة والسلام ( صلى يوماً مع أصحابه، ثم التفت إليهم، وقال: كيف أنتم إذا فتحت عليكم فارس والروم؟ قال: فأرم القوم، ثم أعاد عليه الصلاة والسلام: كيف أنتم إذا فتحت عليكم فارس والروم؟ فقام عبد الرحمن بن عوف وقال: نكون كما أمر الله وأمر رسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: أو غير ذلك؟ أو غير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون ).
ولهذا لو رأيت أن المسألة هي كثرة العبادة لرأينا من التابعين من سطر التاريخ وكتب مآثر عباداتهم وكثيراً من قصصهم، لكن ذلك لن يكون أفضل من عبادة الصحابة، وإن كانوا ربما عملوا قليلاً.
أنت لو فتشت عن سير الصحابة أيضاً لوجدت تميماً الداري ، ووجدت عبد الله بن عمرو بن العاص ، ووجدت عبد الله بن عمر ، ووجدت أبا ذر ، هؤلاء العباد من الصحابة رضي الله عنهم، وأين يكون إيمان هؤلاء الأربعة بل إيمان الصحابة كلهم من إيمان أبي بكر رضي الله عنه، وقد جاء في الرواية وإن كان في سندها بعض الضعف: ( لو وضع إيمان أبي بكر في كفة وإيمان الخلق كلهم في كفة، لرجح إيمان أبي بكر ).
إذاً: ما الذي جعل أبا بكر أكثر؟ هو قول الحسن البصري و أبي عبد الرحمن السلمي : والله! ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صوم، ولكن شيء وقر في القلب.
إن الذي وقر في قلب أبي بكر هو أنه لا يحمل في قلبه على إخوانه شيئاً من الأغلال والإحن والبغضاء، ولهذا كان من عقيدة أهل السنة والجماعة كل من كتب في عقيدة المسلمين إن أهل السنة والجماعة هم أرحم الخلق بالخلق.
إذاً: الذي جعل أبا بكر يذكره المولى جل وعز: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33]، هو ما وقر في قلبه من الإيمان ومحبة الخلق.
واليوم ربما يختلف بعض الإخوة في العمل لأجل معاملة، فربما يتأخر أحدهم فيضطر المدير إلى أن يحيلها إلى بعض الموظفين, فتجد في قلبه من الإحن والبغضاء بسببها؛ لأجل تأخر فلان، وربما تجد أناساً في المسجد الواحد لا يسلم بعضهم على بعض، وربما بالغوا في تصنيف بعض الأخطاء؛ بحجة أن فلاناً يريد أن يقلب عليّ ظهر المجن كما يقولون.
أما عن قضايا النساء وما أدراك ما النساء! فربما حسدت المرأة أختها لأجل نعمة أنعم الله بها عليها، أو لأجل وظيفة، أو حسن وجمال، أو لأجل حسن عمل، أو لأجل حسن منظر، أو لأجل ثوب، أو لأن زوجها قد نال منصباً عظيماً، فتجد الحسد في مثل هذا كثيراً كثيراً.
بل أقول: لا تكاد تجد إماماً من أئمة الإسلام علا كعبه وظهر صيته؛ لأجل أنه حفظ للأمة فقط حديثها، أو لأجل أنه حفظ دينها فقط, بل مع ذلك وراء هذا القلب أمور من العبادات الباطنة التي لا يعلمها أحد، كما قال أبو الدرداء : ينبغي للمؤمن أن يكون له خبيئة من عمل.
قال ابنه صالح : ورأيت رجلاً حسن البزة والهندام، بعيداً عن الناس، حتى إذا نفر الناس عن الإمام أحمد ، أقبل إلى أبي عبد الله رحمه الله، قال: فجثى على ركبته، وطأطأ رأسه، ثم قال: أبا عبد الله ! استغفر لي قال: وكان أحمد إذا جلس يطأطئ رأسه، ثم رفع رأسه وقال: يا هذا مم ذاك؟ قال: أبا عبد الله! كنت أحد الشُرط الذين يضربونك لأجل خلق القرآن، فهل قال أحمد : لا والله! فسوف أقف بين يدي الله وآخذ حقي منك؛ لأنكم وأنكم؟ كلا، بل سكت رحمه الله ثم طأطأ رأسه، وسكت هنيهة ثم رفع رأسه بعد ذلك، وقال: يا هذا! أحدث لله توبة، قال: أبا عبد الله ! والله! ما جئتك إلا تائباً من ذنبي، وأنا أستسمحك في حق المخلوق عليّ، قال صالح : فرأيت أبي وقد طأطأ رأسه وله نشيج، ثم رفع رأسه ولحيته تخضب دمعاً وقال: قم قد غفرت لك! قم قد غفرت لك! قم قد غفرت لك! إني لا أحب أن يؤذى مسلم بسببي، إني جعلت كل من آذاني في حل, إلا أهل البدع فإن أمرهم إلى الله.
الواحد منا -يا إخواني- إذا قيل له: أنت على عقيدة من؟ يفتخر ويقول: أنا على عقيدة أحمد بن محمد بن حنبل ، أنا على عقيدة إمام أهل السنة والجماعة أموت عليها وأحيا، و أحمد لم ينل هذا المنصب لأجل أنه فقط حفظ ألف ألف حديث، وإن كان هذا ذخراً له وفخراً عند الله سبحانه وتعالى وعند الخلق.
هذا نصر المنبجي من علماء الشافعية، ومن علماء الأشاعرة، كان يبغض ابن تيمية ؛ لأنه ينصر عقيدة أهل السنة والجماعة، حتى آذاه في جسده، وأمر الوالي أن يسجنه في قلعة دمشق، وآذاه أيما إيذاء، ثم يخرج ابن تيمية رحمه الله فيقول له الوالي: ما ترى في هؤلاء؟ فقال ابن تيمية : إنهم من علماء الإسلام، وإني أقول: مهما حصل لعلماء المسلمين من التقصير والخلل فإنهم خير من عوامهم، بخلاف اليهود والنصارى فإن علماءهم شر من عوامهم, فأبقه فلعل الله أن يصلح أمرك بسبب استشارةٍ أو رأي فيه.
ابن القيم هو من أحب الناس إلى ابن تيمية حتى كان يسر إليه ما لا يسر لغيره، يقول ابن القيم : فتنكر عليّ وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! وظهر أثر الحزن على وجهه، قال: فخرج ثم ذهب إلى السوق، فاشترى بعض الطعام وبعض اللباس، وذهب إلى أهل الميت وعزاهم في ميتهم وقال: أنا لكم بمنزلة الوالد, فاستحسنوا ذلك منه، وعظموا أمره، رحمه الله ورضي عنه.
إذاً: أحبتي الكرام! المسألة بحاجة إلى إعادة نظر، نحن بحاجة إلى ترتيب أوراقنا، وإلى النظر إلى ما في قلوبنا، كما قال الإمام أحمد قيل له: أبا عبد الله ! رجلان أحدهما أكثر قنوتاً وسجوداً، والآخر أكثر حديثاً وتعليماً، أيهم أحب إليك؟ اسمع، يعني: بعضنا يريد مفاصلة، قال الإمام أحمد : أنصحهم وأصدقهم لله.
ففتش عن قلبك -أُخي- فإننا إلى صلاح قلوبنا أحوج إليه من أعمالنا في الظاهر.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح منا الحال والمآل، وأن يرزقنا وإياكم صدق القول والعمل، وأن لا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عبادة القلب للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
https://audio.islamweb.net