اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عبادة القلوب للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
وإنك لتعجب حينما تجد الواحد منا يجاهد نفسه عله أن يأتي إلى المسجد قبل الأذان، ولا يريد أن يضيع دقيقة أو دقيقتين ليكثر من قراءة القرآن فإذا جلس بجواره أحد من بعض أصحابه الذين ربما خالفوه في معاملة مالية، أو معاملة أسرية تجده يتجه إلى قبلته ولا يلتفت ذات اليمين ولا ذات الشمال حتى لا يسلم عليه، ففتش عن قلبك فربما كنت في واد ورفع الدرجات إلى الله في واد آخر، فقد ورد في الحديث: ( أنظرا هذين حتى يصطلحا ).
خرج من السجن وقد جُلد أكثر من ثمانية وعشرين شهراً، فكان لا يستطيع أن يتكئ من شدة الضرب وبينما الناس حوله في المسجد يسألونه، إذا رجل حسن البزة والهندام قد ابتعد عن الناس، فلما رأى الناس قد تركوا أحمد ، أقبل عليه وطأطأ رأسه وجثا على ركبتيه وقال: أبا عبد الله! السلام عليك، قال أحمد : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: أبا عبد الله! استغفر لي، قال: أُخي! مم ذاك؟ قال: كنت أحد الشُرط الذين يضربونك؛ لأجل خلق القرآن.
كان أحمد يضرب؛ لأجل بدعة أجمع أهل العلم على أن من قالها فهو كافر، وليست مسألة خلافية من مسائل الفروع التي ربما اختلف الواحد منا مع أخيه، وحاول جاهداً أن يجعل المسألة عقدية حتى يقبل الناس خصومته مع صاحبه.
قال: كنت أحد الشُرط الذين يضربونك؛ لأجل خلق القرآن، قال: فسكت أحمد ، قال صالح : فرأيت أبي قد وضع رأسه بين فخذيه ثم رفع رأسه وقال: يا هذا! أحدث لله توبة -يعني: تب إلى الله- قال: أبا عبد الله ! والله ما جئتك إلا مستغفراً من ذنبي، مستسمحك لحق المخلوق عليّ، قال: فسكت أحمد وطأطأ رأسه، قال صالح : فرأيت لأبي نشيجاً، يعني: بكاء، ثم رفع رأسه وإذا لحيته تخضب دمعاً، ثم قال: قم قد غفرت لك، إني لا أحب أن يؤذى مسلم بسببي، إني جعلت كل من آذاني في حل إلا أهل البدع فإن أمرهم إلى الله.
وهذا من الأسباب التي جعل الله سبحانه وتعالى بها محبة في قلوب العباد لهؤلاء الأئمة.
يقول ابن القيم في مدارج السالكين في مسألة سلامة القلب: ولم تر عيناي أحداً حقق مثل هذا الأصل مثل ما رأيت من شيخنا أبي العباس ابن تيمية، والله ما رأيته دعا على أحد من أعدائه بل كان يثني عليهم، ويدعو لهم، حتى قال بعض أقرانه: وددت أن أصحابي عاملوني كما يعامل ابن تيمية أعداءه.
ويقول ابن القيم: ولقد توفي ألد أعداء شيخ الإسلام فجئته مسرعاً مستبشراً جذلان، فقلت: أبا العباس! أبشر أبشر، قال: ما ذاك؟ قلت: قد أهلك الله عدوك فلان بن فلان، قال: فتنكر وتغير وجهه، وقال: اسكت، ثم استرجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ذهب إلى أهل الميت وعزاهم في ميتهم وقال لهم: أنا لكم بمنزلة الوالد، ومتى احتجتم إلى شيء فأنا بمنزلة والدكم. فاستحسنوا ذلك منه.
و ابن مخلوف من علماء المالكية، وكان يسمى إذ ذاك بقاضي القضاة يقول لـابن طولون: اسجن ابن تيمية فإن كان ثمة ذنب فأنا أتحمله عنك يوم القيامة.
يقول ابن تيمية: و ابن مخلوف هذا مهما عصى الله فيّ فلن أزيده إلا أن أطيع الله فيه.
والعبد كلما سامح الخلق لله عفا الله عنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل يُنظر المعسر ويخفف عنه، فكان يقول لغلامه: خفف عنه وأنظره قال: فخفف الله عنه وأنظره)، وهذا من جزاء الإحسان، و هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60].
وهذا محيي الدين النووي الذي لو حلف الواحد منا أنه لا يعلم مسجداً من مساجد هذه البلاد إلا وقد قُرئ فيها كتاب رياض الصالحين لما حنث، كل ذلك دلالة على صدق إيمانه وإخلاصه في كتابه. فقد كان في أول طلبه للعلم يرى -كما في بعض أقوال الشافعية- أن الهبة لا تقبل من الواهب حتى يقول الموهوب له: قد قبلت، وحدث أنه اشترى رحمه الله نعلين حسنتين -أعزكم الله- فذهب إلى المسجد فوضع نعليه في مكان النعال، ثم صلى، فلما سلم خرج فوجد رجلاً قد أخذ نعليه حين رأى أنها أحسن النعال، فهرب مسرعاً، فلما رآه النووي رحمه الله ومعه حذاؤه، أسرع وراءه وجعل يقول له: أُخي! على رسلك، على رسلك قد وهبتهما لك. قل: قبلت، يخشى أن يعذب يوم القيامة بسببه، ولكن اللص ليس بفقيه، فقد ذهب مسرعاً لا يلوي على شيء. فظهر على النووي أثر الحزن رحمه الله رحمة واسعة.
فقد روى الطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن من أشراط الساعة: اختلاف الأهلة، حتى يقول بعض الناس: هو ابن ليلتين ويقول البعض الآخر: هو ابن ثلاث، وهذا الخلاف إن دل على شيء فإنما يدل على أن المسلمين يحتاجون إلى أن يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان -بأبي هو وأمي- فخرج ليخبر الناس عن ليلة القدر، فلما خرج أُنسيها بسبب عصيان ومخالفة بعض المسلمين، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيها الناس! إني خرجت لأخبركم عن ليلة القدر فجاء فلان وفلان يحتقان معهما الشيطان فأُنسيتها، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر من رمضان )، فنسي النبي صلى الله عليه وسلم، وحُرمت الأمة ليلة هي خير من ألف شهر بسبب رجلين جاءا يحتقان معهما الشيطان، ناهيك عن اختلاف المسلمين، وقد امتلأت المحاكم باختلاف الواحد مع لا أقول مع صديقه أو جاره بل مع أخيه الذي ولدته أمه معه، أسأل الله سبحانه أن يصلح الحال.
ثقافة الاعتذار أيها الإخوة! هي عبادة تستحق منا الاجتهاد، والطاعة، والمثابرة، كما قال الله تعالى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل صيامنا مقبولاً، وأن يجعل قيامنا مقبولاً، وأن لا يجعل حظنا السهر والتعب، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عبادة القلوب للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
https://audio.islamweb.net