اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فضيلة شهر شعبان للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد على آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم بشهر شعبان ما لا يهتم بغيره؛ ولهذا روى النسائي والإمام أحمد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! رأيتك تكثر من صيام شعبان أكثر من صيامك شهر رجب، فقال: صلى الله عليه وسلم: ذاك شهر بين رجب ورمضان وهو شهر تغفل الناس عنه، وهو شهر أحب أن أصوم فيه، وهو شهر ترفع فيه الأعمال، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)، فدل اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصيام شعبان على أنه أفضل من صيام رجب؛ ولهذا قال أهل العلم: أفضل الصيام بعد رمضان شهران، أولهما: شهر الله المحرم كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم )، وثانيهما شهر شعبان، وذلك لقول عائشة رضي الله عنها و ابن عباس: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً من شهر بعد رمضان من شهر شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً )، وقد جاء في حديث أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله ).
وقد اختلف العلماء هل يستحب صيام شعبان كله أم يصام فيه بعض الأيام حتى لا يشبه رمضان؟
فذهب عبد الله بن المبارك و سفيان وروي عن أحمد أنه لا ينبغي أن يصام شهر شعبان كاملاً.
وأما ما جاء في قول عائشة: ( كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً )، فإن عبد الله بن المبارك أشار إلى أن العرب تقول: كان فلان يصوم شهراً كاملاً، ويريدون من ذلك بعض الأيام؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً.
وأما ما جاء عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله )، فإن أهل العلم يقولون: إنه محمول على أن أم سلمة روت بما تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم، أو أن أم سلمة رضي الله عنها إنما أخذت بلغة العرب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله وتقصد إلا يوماً أو يومين.
وإذا ثبت هذا فإن استحباب صيام شعبان متأكد تأكيداً شديداً سواء صام المسلم أوله أو وسطه، ما دام أنه يقصد صيام شعبان.
والصحيح -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- أن هذا الحديث ضعيف وإن كان ظاهره الصحة، فإن العلاء من رجال مسلم ، لكن الإمام أحمد و ابن رجب و الأثرم و الطحاوي وغيرهم أشاروا إلى أن الحديث منكر، وأن الأحاديث الصحيحة تخالفه؛ فإنه قد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقدموا رمضان بصيام يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ).
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنه لا يُتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، لكنه لو أراد أن يتقدم بأكثر من ذلك جاز له ذلك، كما أشار إلى ذلك الإمام الأثرم وغيره، وقد حاول بعضهم أن يقول: إن الحديث منسوخ. والصحيح أن الحديث ضعيف، وإذا ثبت هذا فإننا نقول للناس: يشرع لكم أن تصوموا شعبان، سواء ابتدأتم صيامه من أوله أو من وسطه أو من ثلثه أو من الثلث الأخير شريطة أن لا يكون ذلك قبل رمضان بيوم أو يومين؛ لأجل أن لا يدخل من رمضان ما ليس فيه، وإذا ثبت هذا فإن شعبان فيه فضيلة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه.
أشار أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم إلى اختلاف أهل العلم في فضل ليلة النصف من شعبان؛ وذلك بناء على الأحاديث والآثار المروية في ذلك، فبعض أهل العلم صححها من المتأخرين والمتقدمين وكان مكحول رضي الله عنه ورحمه يبالغ في ذلك، ويراها فضيلة، بل إن بعضهم كان يرى أن أجر ليلة النصف من شعبان مثل أجر ليلة القدر، كما ذكر ذلك عبد الرزاق عن ابن أبي مليكة أنه حُدث أن زياداً المنقري النميري كان يقول: إن أجر صيام ليلة النصف من شعبان مثل صيام ليلة القدر، فقال ابن أبي مليكة: لو أني سمعت زياداً يقول ذلك وبيدي عصا لضربته. مما يدل على أن هذه مبالغة.
ولقد ذكر ابن وضاح في كتابه العظيم البدع عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رضي الله عنه أنه قال: لم ندرك أحداً من علمائنا ولا فقهائنا يذكرون في ليلة النصف من شعبان فضيلة أو عملاً، ولم أدرك أحداً يقول بقول مكحول، وقال ابن أبي زيد : لم يكن فقهاؤنا يهتمون بها، يعني: من باب العبادة.
وقد قال أبو العباس ابن تيمية كلاماً فصلاً في هذا فقال: أما فضلها فقد اختلف فيه، والصحيح مذهب أحمد وغيره أن لها فضلاً. لكن هذا الفضل لا يجوز الاحتفال فيه، ولا تخصيصه بعبادة صيام أو قيام أو غيرها من العبادات، فكونها لها فضل لا يلزم أن يكون لها عبادة تخصها.
ومما يدل على ذلك أن هذه اللفظة (إلا لمشرك أو مشاحن) جاءت من طرق غير طريق أبي بكر فمن ذلك حديث أبي موسى يرويه ابن ماجه وغيره من طريق مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فيغفر لكل عبد إلا لمشرك أو مشاحن )، وإن كان في الحديث انقطاع؛ وذلك لأن مكحولاً لم يسمع من مالك بن يخامر ، ولكن الحديث يدل على أن له أصلاً، وقد جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفي سنده أيضاً ابن لهيعة .
وأحاديث ليلة النصف من شعبان جاءت عن ثمانية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منها:
الحديث الأول: حديث عائشة وفي سنده ضعف؛ لأن في سنده الحجاج بن أرطأة ، وكذلك يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم كـالترمذي و البخاري .
الحديث الثاني: حديث أبي موسى وفي سنده أيضاً ضعف، فإن في سنده الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب لم يسمع من أبي موسى وكذلك فيه ابن لهيعة .
الحديث الثالث: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفي سنده ضعف. وكذلك حديث أبي بكر وقد مر معنا، وحديث معاذ بن جبل وقد مر معنا، وكذلك حديث أبي ثعلبة وقد مر معنا، وحديث علي بن أبي طالب ، وغير ذلك من الأحاديث الواردة.
وعلى هذا فإننا نقول: إن ليلة النصف من شعبان فيها فضل بينها الحديث على أن الله يغفر فيها لعباده، لكن ليس فيها ما يدل على تخصيصها بعبادة كما أشار إلى ذلك أبو العباس ابن تيمية في كتابه الفذ اقتضاء الصراط المستقيم، وعليه فالاحتفال ليلة النصف من شعبان لا يجوز، وتخصيصها بعبادة لا يجوز؛ لأن كل عبادة خصصت بزمن أو مكان أو أشخاص فإنها من البدع الإضافية التي يشير إليها أهل العلم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فضيلة شهر شعبان للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
https://audio.islamweb.net