اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الروض المربع - كتاب الطهارة [3] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وصلنا إلى قول المؤلف: [ إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة ] وقلنا: إن المؤلف استثنى أربعة شروط:
الشرط الأول: أن تكون من فضة، ولو كانت من ذهب لما جاز.
الشرط الثاني: أن تكون يسيرة، فلو كانت كبيرة لما جاز؛ لأن الجواز هنا إنما كان للحاجة، والقاعدة أن الحاجة تقدر بقدرها، وإذا كان الأمر كذلك فيمكن أن تزول الحاجة باليسيرة.
الشرط الثالث: أن تكون لحاجة، ومعنى الحاجة هو أن تدعو الحاجة إلى استعمال التشعيب، أو الربط، أو إزالة هذه الفتحة، واستعمال مثل هذه الضبة أياً كانت، وليس المراد أن تدعو الحاجة إلى استعمال الفضة نفسها، واضح الفرق؟ لأنه لو كانت الحاجة تدعو إلى استعمال الفضة نفسها لكان ضرورة، ولكن الفرق هنا أن تدعو الحاجة إلى التشعيب، مثلاً عندك كأس فيه ثلم أو فتحة، إذاً: دعت الحاجة إلى إزالة هذه الفتحة، أليس كذلك؟ لكن هذه الفتحة يمكن أن تزول بالفضة، ويمكن أن تزول بالصفر والنحاس، فنقول: لا يلزم أن تدعو الحاجة إلى استعمال الفضة، ولكن يلزم أن تدعو الحاجة إلى إزالة هذا التشعيب وإزالة هذا الثلم والكسر؛ لأن بعضهم يظن أن تدعو الحاجة إلى استعمال الفضة وليس هو المراد؛ لأنه لو دعت الحاجة إلى استعمال الفضة نفسها لكان ضرورة، وهذا يجوز حتى في الذهب، فلو دعت الضرورة إلى استعمال الذهب في ربط الأسنان لقلنا: جائز، مع أننا حرمنا استعمال الذهب ولو في اليسير.
وقولهم الحاجة هنا، لا بد أن يتعلق بها غرض غير الزينة، فلو استخدمت الفضة لأجل الزينة لما جاز، مثل ما ذكرنا في المنقوش، والمطعم، والمكفت، ونحو ذلك، فإنما جعل ذلك للزينة، فإذا كان للزينة فلا يجوز، واستثناء الحنابلة هنا لما روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: ( إن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة )، وظاهر هذا اللفظ: (فاتخذ مكان الشعب) من هو؟ النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن الذي فعل ذلك هو أنس بن مالك ، والذي قال هذا اللفظ هو محمد بن سيرين كذا بين البخاري في بعض طرق حديثه لهذا الباب، قال محمد بن سيرين: فاتخذ أنس مكان الشعب سلسلة من فضة، ولا يلزم أن يكون ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعد وفاته، فلو كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه فيكون هذا من الإقرار بالفعل، فيكون من ضمن السنة، ويحتمل أن أنساً صنع ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا من قول صحابي، ولعل الثاني أقرب.
المؤلف استدل على اليسير بأنه محرم بحديث ابن عمر : ( من شرب في إناء ذهب أو فضة، أو إناء فيه ذهب أو فضة )، فقوله: ( أو إناء فيه ذهب أو فضة ) يدل على أن الشيء من الذهب والفضة إذا لم يكن فيه حاجة محرم، وخرجت الفضة بفعل أنس ، على أنه حديث مرفوع، وهذا الحديث في سنده زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه إبراهيم ، و إبراهيم هذا وولده زكريا مجهولان، والحديث ضعفه أبو حاتم و أبو زرعة ، وقال عنه الذهبي : منكر، وعلى هذا فلا يفرح بهذا الحديث، وأحسن منه حديث أم سلمة : ( الذي يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وهو يصدق على الإناء الكامل، أو على الإناء الذي فيه ذهب أو فضة.
والقاعدة عند بعض الأصوليين: هل قول الصحابي أو فعله يخصص عموم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم؟ في ذلك كلام طويل عند الأصوليين، وقرر الشاطبي في الاعتصام وغيره على أن فعل الصحابي يخصص اللفظ العام عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وينبغي أن يقيد ذلك بما لا يعلم فيه خلاف عنهم، وإن كان الأظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أن فعل الصحابي لا يخصص عموم اللفظ النبوي إلا بقرائن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أطلق، وجاء أنس ، وجاءت أم سلمة ففعلوا الفضة، ففعل أنس وفعل أم سلمة من غير مخالف لهم خصص عموم لفظ الشارع، ومثل ذلك -للفائدة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خالفوا المشركين؛ أرخوا اللحى وحفوا الشوارب )، إذاً: (أرخوا اللحى) لفظ عام، جاء فعل ابن عمر ، وروي عن أبي هريرة أنهم كانوا يأخذون من لحاهم ما دون القبضة في الحج والعمرة، فهل فعل ابن عمر و أبي هريرة يخصص اللفظ العام أم لا؟ هذه صورة المسألة مع الأسف الشديد أن بعضهم يبحث المسألة، أو يقول بالجواز ولا يعرف منزع الخلاف الأصولي، فيرد عليهم من وجهين:
أولاً: أن لفظ الصحابي الأصل أنه لا يخصص اللفظ العام إلا بقرائن، والقرائن هي التي تدل على أنهم أخذوا ذلك أو فعلوه على مرأى أو مسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول لم ينكر عليهم، هكذا، أما إذا لم تدل فإن الأصل عموم اللفظ، فـابن عمر لم يأخذ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما فعله اجتهاداً، كما روى ابن جرير عن ابن عمر أنه قرأ: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، قال: أما الحلق فهذا وأشار إلى رأسه، وأما التقصير فلا أراه إلا هذا، وأشار إلى لحيته، فيدل على أن ابن عمر إنما فعله عن اجتهاد.
ثانياً: أنهم فعلوه في الحج أو العمرة، كما روى عطاء قال: كانوا يرخصون في الأخذ من لحاهم في حج أو عمرة، ويبقى الأصل أنه لا يجوز في غير الحج والعمرة.
إذا جوزنا الضبة اليسيرة من الفضة للحاجة، فيكره للإنسان أن يشرب منها، أو أن يضع فمه على الضبة من الفضة؛ لأن فيها استعمالاً للفضة، ولا تدعو الحاجة إلى ذلك، فإن دعت الحاجة لذلك فلا حرج، مثل تدفق الماء، مثلاً عندك كأس وفيه تشعيب، فجعلت مكان التشعيب فضة، وإذا وضعت فيه الماء بدأ يتدفق الماء على هذه الفتحات، فيقول المؤلف: إذا بدأ يتدفق الماء فلا حرج أن تضع فمك على هذه الفضة؛ لأن القاعدة أن ما كره فعله لغير حاجة جاز للحاجة مثل تدفق الماء، فلا بأس أن يباشر بفمه هذه الضبة للحاجة وهذا هو القول الأول.
القول الثاني: أنه لا يكره ولو لغير حاجة؛ لأننا إذا جوزنا الضبة اليسيرة، فإنها صارت بمنزلة الكأس نفسه، إلا إذا كان يتقصد هذا الفعل، فنقول: النهي أو الكراهة هنا ليس لفعله، ولكن لما وقع في قلبه من محبة هذا الأمر، أما الأصل فهو الجواز.
وقد (دعته امرأة إلى إهالة سنخة فأكل منها عليه الصلاة والسلام)، وهذا يدل على أن أواني الكفار الأصل فيها الحل.
يعني: الأصل في الأواني الإباحة والحل، والأصل في الذبائح الحرمة؛ لأنه لا بد أن يذكر فيها اسم الله: أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:119] فالأصل في اللحم الحرمة، إذا ثبت هذا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أواني الكفار، فكيف الجمع بين هذا وبين حديث أبي ثعلبة الخشني أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنا نفتح بلاداً ونجد أوانيهم، فهل نستعملها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها)، فالجمع بين هذا قالوا: إنه محمول على الكراهة والتنزيه، وهذا بلا شك محل نظر؛ لأن غالب فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يتوقى.
والقاعدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله، فإن فعله إنما كان للحاجة، هذه القاعدة الأصولية، فإذا كان كل فعل النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التوقي دل على أن فعله ليس لأجل الحاجة، بل هو الأصل؛ ولهذا الجمع الثاني وهو أولى، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال هؤلاء القوم عدم توقيهم للنجاسة، أو كثرة شربهم للخمور، وأنهم يكثرون من ملابسة النجاسات، ولعل هذا الأمر أقرب، بدليل أنه أمر بغسلها، مع العلم أنها لو كانت نظيفة، فلا معنى من الغسل، فهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم من حال هؤلاء القوم عدم توقيهم للنجاسات.
يعني: إن ثياب الكفار، ولو وليت هذه الثياب عوراتهم، يعني: مثل السراويل والتبان، وهي السراويل القصيرة التي يسميها العامة (الشورت)، فالأصل فيها الطهارة؛ لأن عرق الكافر طاهر قد يقول لك قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المؤمن لا ينجس )، فدل ذلك على أن الكافر ينجس، ولكن الدليل على طهارة عرق الكافر أن الرسول صلى الله عليه وسلم جوز نكاح الكتابية، والغالب أن الزوج لا يتوقى من عرق زوجته، هذا هو الدليل.
وقول المؤلف: (إن جهل حالها) لأن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك، والجهل بواقع الحال شك وليس يقيناً.
قال المؤلف رحمه الله: [ لأَن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك، وكذا ما صبغوه أَو نسجوه، وآنية من لابس النجاسة ].
فالحكم في المنسوج وهو الذي يصنعونه، أو المصبوغ الذي صبغوه، وكان الصبغ أولاً يتم بوضع لون في قدح، ثم يوضع هذا الثوب في هذا القدح، حتى يأخذ هذا اللون المراد إشباع الثوب به أو منه، والآن أصبح النسج والصبغ بمواد كيميائية، وربما لا تمسه الأيدي.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الروض المربع - كتاب الطهارة [3] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
https://audio.islamweb.net