اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الروض المربع - كتاب الطهارة [17] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
يعني لو أن إنساناً قذف أو كذب أو اغتاب أو نم أو فعل محرماً فإنه لا ينقض وضوءه, وكذلك القهقهة, وأما القهقهة فالحديث الوارد فيها ( توضأ من القهقهة ) حديث منكر, إلا أن أبا العباس بن تيمية رحمه الله وكذا النووي من الشافعية نصا على أن من أذنب ذنباً استحب له الوضوء، إشارة إلى حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : ( إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه، كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء, وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ) وهذا حسن.
يعني: أن ما مس النار، والقهقهة لا يسن الوضوء منهما على كلام المؤلف رحمه الله, واستدل على ذلك بأن ( النبي صلى الله عليه وسلم احتز من كتف شاة ثم قام فصلى ولم يتوضأ ) وحينما احتز كتف الشاة كان مطبوخاً, ولم يتوضأ عليه الصلاة والسلام.
قالوا: ولا يسن, لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مما مسته النار, وأما الحديث: ( توضئوا مما مست النار ) فحديث ضعيف, وأحسن منه حديث يرويه شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر أنه قال: ( كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار )، وهذا الحديث ضعيف, كما أشار إلى ذلك الإمام أبو حاتم الرازي و أبو داود ، وقال أبو داود : رواه علي بن عياش عن شعيب بن أبي حمزة اختصاراً, وإلا فالحديث ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحماً من كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ ), فجاء شعيب أو علي بن عياش على الخلاف فرواه بالمعنى, وإلا فإنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ مما مست النار, ولكن شعيب رواه بالمعنى، والحديث مع ذلك منقطع فإن محمد بن المنكدر لم يسمع من جابر كما قال الإمام الشافعي رحمه الله.
وعلى هذا فما ذكره ابن القيم رحمه الله من استحباب الوضوء مما مست النار, وذكر خمسة أوجه أو ستة أوجه على ذلك، هذا محل نظر, إذ الحديث الوارد في هذا الباب ضعيف, فعندنا حديثان: ( توضئوا مما مست النار ), وهذا حديث ضعيف، وحديث ( كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ), وهذا أيضاً ضعيف, والمحفوظ هو: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحم كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ ).
إذاً قول المؤلف رحمه الله: (ولا يسن الوضوء منهما) وهذا أرى أنه قول قوي -والله تبارك وتعالى أعلم- وليس ثمة نسخ أصلاً بعكس ابن القيم حيث أشار إلى النسخ.
وهذا مبني على القاعدة المعروفة عند أهل العلم أن اليقين لا يزول بالشك, فمن تيقن الطهارة وشك في الحدث فالعبرة بوجود اليقين، ولا ننتقل عنه إلا بيقين, ومن تيقن الحدث وشك هل توضأ أم لا فالأصل بقاء الحدث حتى يحصل اليقين.
يقول المؤلف رحمه الله: سواء كان في الصلاة أو خارجها لحديث: ( فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )، وهذا حديث عبد الله بن زيد بن عاصم .
يقول المؤلف رحمه الله: (تساوى عنده الأمران أو غلب على ظنه)، يعني: لا يخرج من هذا اليقين إلا بيقين، تيقن الطهارة وغلب على ظنه أنه أحدث، أو تساوى عنده الأمران فإنه يبني على اليقين, فلا نخرج من هذا اليقين إلا بيقين مثله، فلا نخرج بشك ولا بغلبة ظن.
والرواية الأخرى: أنه يعمل بغلبة الظن, لما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وإذا شك أحدكم فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن ), والذي يظهر -والله أعلم- أن هذه المسألة تختلف عما نحن بصدده؛ لأن هذا ليس ثمة يقين ولا شيء, صلى ولا يدري كم صلى ثلاثاً أم أربعاً, فعلى المذهب يبني على اليقين وهو الأقل، وعلى الرواية الثانية يبني على غلبة الظن، لكن لا يوجد أصل قبله، أما هنا ففيه أصل قبله، هو الطهارة, فغلب على ظنه أنه أحدث، فنقول: لا يبني على غلبة الظن، إن توضأ فحسن لكن لا يلزمه؛ لأن التعارض هنا بين يقين وغلبة ظن، وليس بين غلبة ظن ولا شيء.
فالذي يصلي لا يدري أهل صلى ثلاثاً أو أربعاً قلنا: الراجح أنه يبني على غلبة ظنه إن كان عنده ظن, يقول: والله غلبة الظن عندي أنها أربع، والثاني يقول: غلبة الظن عندي أنها ثلاث، نقول لهما: اعملا بغلبة الظن, هل عندهم يقين؟ لا, لكن مسألتنا هذه أنه تيقن الطهارة وغلب على ظنه الحدث، هل يعمل بغلبة الظن وعنده يقين قبله؟ نقول: الأقرب أنه لا يعمل بغلبة الظن, إن عمل فحسن لكن لا يلزمه؛ لأن اليقين لا يزول إلا بيقين مثله.
يقول المؤلف رحمه الله: إن قال المتوضئ: أنا أذكر أنني توضأت، وأذكر أني أحدثت، لكن لا أدري أيهما الأول، مثلاً: أذكر وقت الظهر أني توضأت، ووقت الظهر أني أحدثت، لكن ما أدري أيهما الأول.
فنقول له: اطرح هذين الأمرين وانظر قبلهما, في الضحى ماذا كنت؟ قال: في الضحى كنت طاهراً نقول: إذاً أنت محدث, بضد حاله قبلهما, كيف صار محدثاً؟ قالوا: لأنه في الضحى كان طاهراً، وبعده في الظهر كان منه طهارة وكان منه حدث, فتعارضا فنسقطهما, فننظر ضد حاله الذي حال الطهارة؛ لأننا تيقنا أن بعدها حصل حدث.
اعكس المسألة, جاءنا شخص يقول: العصر أذكر أني توضأت وأذكر أني أحدثت, نقول له: أيهما الأول؟ قال: لا أدري, قلنا: اطرح هاتين الحالتين, انظر نفسك في الظهر ماذا كنت؟ قال: في الظهر كنت محدثاً, قلنا: إذاً أنت طاهر؛ لأنه تيقن وجود طهارة بعد الحدث.
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن كان قبله متطهراً فهو الآن محدث، وإن كان محدثاً فهو الآن متطهر؛ لأنه قد تيقن زوال تلك الحالة إلى ضدها، وشك في بقاء ضدها -وهو الأصل- وإن لم يعلم حاله قبلهما تطهر ].
أنت الآن شككت، ما تدري أيهما الأول في وقت العصر، أنت تعلم أنك توضأت العصر، وتعلم أنك أحدثت في العصر أيضاً, نقول لك: انظر إلى حالك قبل ذلك في الظهر ماذا كنت؟ قال: والله ما أدري أكنت طاهراً أو محدثاً, قلنا له: والصبح؟ قال: والله ما أدري أيضاً, نقول: إذاً يلزمك أن تتوضأ؛ لأنك حينئذ لا تعلم، والأصل أن الإنسان يجب عليه أن يخرج من عهدة الطلب بيقين.
لو أن شخصين كانا جالسين فسمعا صوتاً أو شما ريحاً، ولا يعلمان من أين جاء، هذا يقول: والله أنا ما أحدثت, والثاني يقول: والله أنا ما أحدثت، وكل واحد منهما يتيقن عدم حدث نفسه، أي يتيقن طهارة نفسه, فلا وضوء على واحد منهما؛ لأنه لا يخرج إلا بيقين؛ وكل واحد منهما يرى أن صاحبه وقع منه ذلك.
هذا لنفترض أنهما في مكان واحد، وليس معهما أحد حتى يقع الشك في غيرهما, لكنهما مع ذلك -وإن لم نلزم كل واحد منهما بالوضوء- لا يصح لواحد منها أن يأتم بالآخر؛ لأن كل واحد منهما يرى الحدث من صاحبه.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يأتم أحدهما بصاحبه ولا يصاففه في الصلاة وحده ].
كلمة (وحده) يفهم أنه لو كان معهما أحد جاز, والأقرب عند الحنابلة ولو كان معهما أحد لم يجز, فعبارة (وحده) موهمة عند المؤلف، وإن كان المراد عند الأصحاب أنه لا يأتم أحدهما بالآخر.
وهناك مسألة أخرى عند الحنابلة لا يصح الائتمام من أحدهما بالآخر، وهي مسألة ما إذا اختلفا في القبلة, فأحدهم يقول: شرقاً, والآخر يقول: غرباً, صليا كل واحد منهما على اجتهاده، ولا يأثم أحدهما بالآخر, أما من صلى خلف من يعتقد بطلان صلاته باجتهاد، صحت الإمامة والائتمام, فلو صليت خلف من يرى أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء, أكون قد صليت خلف من أعتقد بطلان صلاته، لكنه فعل باجتهاد، فصح الائتمام, وهي غير مسألتنا هذه والله أعلم؛ لأن هذه المسألة متنازع فيها، وأما الحدث فليس متنازعاً فيه والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ وإن كان أحدهما إماماً أعادا صلاتهما ].
وإن كان أحدهما إماماً أعادا الصلاة؛ لأن كل واحد منهما يعتقد بطلان صلاة صاحبه.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الروض المربع - كتاب الطهارة [17] للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي
https://audio.islamweb.net