اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التعليق على مقدمات الشاطبي في الموافقات [1] للشيخ : يوسف الغفيص
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا يا ذا الجلال والإكرام الهداية والسداد، وبعد:
ففي هذا المجلس نبدأ التعليق على المقدمات التي ابتدأ بها العلامة الإمام أبو إسحاق الشاطبي كتابه الذي أسماه: الموافقات.
وبين يدي هذه المقدمات أحب الإشارة إلى جملة من المعاني على سبيل الإجمال والاختصار:
المعنى الأول: أن هذا الكتاب صار له قدر من الذيوع والشيوع والاعتبار عند أهل العلم، باعتبار مؤلفه من جهة، وباعتبار موضوعه من جهة أخرى، ولا بد لطالب العلم أن يفقه حال المؤلفين والموضوعات التي كتبوا فيها، ففيما يتصل بـأبي إسحاق الشاطبي رحمه الله من حيث السيرة وما إلى ذلك، فأظن أن هذا قريب من طلبة العلم، بل حتى المبتدئين فيه، من جهة اسمه ونسبه وعمن أخذ ومن أخذ عنه.. إلى آخره، فإن هذا من جملة السير المعروفة.
وإنما أحب الإشارة فيما يتعلق بالمؤلف إلى أنه يعد من المؤلفين الذين يجملون فيما ينقلونه من الكتب، فيكون ما يتحصل في مؤلفاته وهذا الكتاب -أعني: كتاب الموافقات من أخصها- يعد من الذين يركبون المعاني المنقولة على قدر من التصرف، مع أنه مستصحب لمنهج مختص به، وهذا المعنى من الفاضل أن يفقه في أبي إسحاق الشاطبي ، وهو يقع في غيره من أهل العلم المتأخرين.
وطرائق المتأخرين في التأليف يمكن أن نقول فيها: إنها تنقسم إلى ثلاث طرق:
الطريقة الأولى: التي يعتني صاحبها بالنقل المحض والجمع، وهذا له مثالات في سائر كتب أهل العلم، سواء في كتب المفسرين، أو في كتب الفقهاء، أو في كتب أصول الفقه، أو غيرها من الكتب، وتجد أن النقل والجمع يغلب على هذا المؤلف، أو على هذا الكتاب من كتب المؤلف.
والطريقة الثانية: أن يكون المؤلف في كتابه هذا، أو في جمهور طريقته معتنياً بالتركيب، أي: بتركيب المعاني من الكتب المنقولة، ولكنه تابع لها من حيث المنهج.
الطريقة الثالثة: أن يكون المؤلف معتنياً بتركيب المعاني من الكتب المنقولة، ولكنه يكون مستصحباً لمنهج فيه كثير من الاختصاص، و الشاطبي من هذا النوع، فإنه استقرأ كتباً كثيرةً من كتب أصول الفقه، واستقرأ فروعاً كثيرةً من الفروع، ولا سيما فروع المالكية، وفقه الإمام مالك باعتبار مذهبه، فهذا الاستقراء العام عنده، وهذه النقولات التي أحاط بها، ركبها من حيث المعاني، ولكنه يحمل تصوراً مختصاً في صياغة مسائل المقاصد، ولهذا تجد أن في كلامه هذا قدراً كبيراً من الاختصاصات العلمية التي صرح بها، إما أنه لم يصرح بها الآخرون على هذا الترتيب، وهذا بين من جهة اختصاصه، أو أنه يقع مستدركاً على كثيرين ممن سبقوه، فمقام الاختصاص في كلام الشاطبي تجد أنه بين.
وهذه الطريقة الثالثة التي وقع الشاطبي عليها في كتابه الموافقات وفي كتابه الاعتصام، هي طريقة من طرق المحققين في العلم، ولكن ينبغي لطالب العلم عند القراءة في هذا النوع من الطرق، أن يكون مترفقاً في الاعتبار، وأقصد بذلك: أن كل المتحصلات التي أخذها هذا المؤلف أو ذاك بنوعٍ من الجزم، لا يلزم أن تكون منضبطةً كذلك.
فهذا تنبيه على طريقة الإمام الشاطبي ، أو هي جزء من شخصيته بعبارة أوضح في تأليفه وفي ما يؤخذ على غيره من أهل العلم في طرقهم أو في كلامهم.
أما باعتبار الكتاب: فإن هذا المؤلف -وهو كتاب الموافقات- يعد من أخص الكتب التي كتبت في مقاصد الشريعة، وإذا ذكر القول في مقاصد الشريعة، فإن العلماء من بعد الشاطبي ، ولا سيما بعد شيوع كتابه هذا، يجعلونه من أخص المراجع بفقه مقام المقاصد، وهو كذلك، فإنه كتاب متين من حيث التحصيل، ومن حيث التنظيم، ومن حيث المعنى.
أما من حيث التحصيل، فإنه نتيجة استقراء موسع، وهذا بين من حال مؤلفه، ومن حيث التنظيم، فإنه منظم على قدر عالٍ من حسن الترتيب الذي لا مبالغة فيه؛ لأن بعض كتب أصول الفقه -كما هو معروف- قد بلغ الترتيب فيها درجة من التعقيد على كثير من الناظرين فيها.
وهو كذلك من حيث المعاني، فإن المعاني التي توصل إليها هي في الجملة من المعاني القوية المنضبطة في أكثر مواردها، هذا من جهة أن هذا الكتاب يعد كبيراً في باب المقاصد.
وهذا هو المعنى الأول بين يدي الدخول في المقدمات.
المعنى الثاني: أن هذا الكتاب جعله المؤلف خمسة أقسام:
القسم الأول: ذكر فيه أبو إسحاق رحمه الله جملةً من المقدمات، وهي ثلاث عشرة مقدمة، وسيكون القول في هذا القسم في هذه المقدمات التي افتتح بها الإمام الشاطبي هذا الكتاب.
القسم الثاني: جعله في الأحكام، وتكلم فيه عن الأحكام التكليفية الخمسة، التي هي: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم. وتكلم في باب الأحكام التكليفية بكلام حسن في كثير من الموارد، وهذا إنما يشار إليه مجملاً، وأما الدخول فيه فإنه ليس مقصوداً في هذه المجالس.
القسم الثالث: في مقاصد الشريعة، وكأن هذا القسم هو القسم الذي أراد به الشاطبي الإشارة إلى اختصاصه في هذا الباب، وما جرى عليه تأمله ونظره في باب مقاصد الشريعة.
القسم الرابع: في الأدلة.
القسم الخامس: في أحكام الاجتهاد والتقليد.
هذا جملة الكتاب من حيث الأقسام العلمية فيه.
المعنى الثالث: إن موضوع هذا الكتاب، وهو مقاصد الشريعة، هو استقراء في نصوص الشريعة ابتداءً، بمعنى: أن هذه الكتب التي كتبت في المقاصد كهذا الكتاب، تعرف بمقامٍ من هذا المعنى، وإلا فإنه عند التحقيق من رام الفقه لمقاصد الشريعة فعليه بكثرة الاستقراء، أو كما يقول العز بن عبد السلام في كتاب القواعد: معرفة نفس الشارع لا بد لطالب العلم فيه من كثرة الاستقراء.
وأول مقامات الاستقراء: الاستقراء لنصوص الكتاب، وهي منتهية كما هو معروف، وكذلك الاستقراء في كتب السنة وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فالكتب التي جمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم كالكتب الستة أو الكتب التسعة، وما فيها من آثار الصحابة، أو الكتب التي كثرت فيها آثار الصحابة كمصنف عبد الرزاق و ابن أبي شيبة ، فهذا الاستقراء الأول هو من أخص المواد التي تجمع الفقه لمقاصد الشريعة.
المقام الثاني: حسن الاستقراء في لغة العرب، ويقصد بحسن الاستقراء في اللغة: أن يكون طالب العلم على اطلاع على قواعد اللغة وعلى قواعد فقهها، وعلى بيان اللغة، فإن اللغة -كما تعرف- هي في الأصل مادة مركبة، وليست مجرد الكلمات المقطوعة عن التركيب.
وإنما أشرت إلى حسن الأخذ للغة والنظر في اللغة؛ لأن كثيراً من طلبة العلم يقصرون نظرهم في علم اللغة على علم النحو، ولا شك أن لهذا العلم مقاماً كبيراً في هذا الباب، ولكن ينبغي لطالب العلم أن ينظر في كتب اللغة وكلام العرب، ولا سيما في أول طلبه للعلم، فإن الإكثار من هذا النظر يكسب الإنسان قدراً من الانطباع والسليقة في حسن الفهم، وتعرفون أن السالفين كانوا على عناية بكثرة القراءة في كتب اللغة وفي كلام العرب، وهذا لا بد لطالب العلم منه.
المقام الثالث لتحصيل فقه المقاصد: القراءة في كتب المتقدمين من الأئمة قدر الطاقة، سواءً الكتب التي كتبوها في الفروع أو الكتب التي كتبوها في الأصول والمقاصد، فاستقراء أجوبة الأئمة كـمالك و أحمد و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم، استقراء لطريقة المتقدمين وما كتبوه في الفقه، وما حصلوه من الفروع والنتائج وطريقة الاستدلال، وليس المقصود بالقراءة هنا في هذا المقام أن تعرف النتائج الفقهية الفرعية التي تحصلت مذهباً لـأحمد أو للشافعي أو لـمالك أو لـأبي حنيفة ، فإن هذا مقام يمكن ضبطه كتخصص أو كمنهج فقهي محض في كتب الفقه التي رتبت المذاهب الفقهية. وأنتم تعرفون أن لكل مذهب من المذاهب كتباً صارت هي التي تضبط المذهب عندهم، وصار عندهم طريقة لمتقدميهم وربما متوسطيهم ثم لمتأخريهم، فهذا ليس هو المقصود هنا، كأن تقول مثلاً: إن الحنابلة يعتبرون المذهب بكتاب الإقناع والمنتهى، وإنما المقصود أن تقرأ في فقه الإمام أحمد وكبار أصحابه؛ لتعرف طريقتهم في ترتيب الأحكام الشرعية على الأدلة.
فإن المقاصد لها مقام عظيم في علم أصول الفقه، وعلم أصول الفقه ينبني على هذا الترتيب، فلهذا ينبغي لطالب العلم على أقل الأحوال أن يستعرض الكتب الشائعة من كتب المتقدمين، سواءً المسائل المروية عنهم، أو الجوابات المروية عنهم، أو كتب كبار أصحابهم، وكذلك ما جاء في كتاب الشافعي وما جمع للشافعي في كتاب الأم.. إلخ، فهذا مقام ثالث.
المقام الرابع: القراءة في كتب المقاصد والأصول التي كتبها المتأخرون، وهذا الكتاب يعد من أمتنها وأخصها، فإذا أخذ طالب العلم قصد الفقه إلى علم المقاصد بهذا الترتيب، وصار واسع النظر في النصوص من جهة، وقرأ في لسان العرب وقرأ في كتب المتقدمين، لا لمعرفة الفروع كنتائج، وإنما لمعرفة منهج التطبيق بين الأدلة والأحكام، وبين الدلالة والحكم، فهكذا ينبغي أن تكون القراءة في هذه الكتب.
وإنما أشرت إلى ذلك؛ لأن الكثير من طلبة العلم ربما يبتدئ علم المقاصد وفقه المقاصد بالقراءة في كتب المتأخرين، وهي كتب شريفة كبيرة القدر، ولكن لا بد لطالب العلم من هذه المقدمات الأولى ليكون فقيهاً في هذا الباب الشريف من العلم وهو باب المقاصد؛ لأنه ليس من الأبواب التي تتحصل بنتائج وأحكام منضبطة، وإنما هو نوع من الاستقراء وحسن التدبير للعلم وبناء الملكة العلمية.
فهذه المقدمة إشارة إلى هذا المعنى، حتى لا يكون عند طالب العلم نوع من الاختصار لهذا العلم، وهو علم المقاصد.
المعنى الرابع والأخير في هذه المقدمة: أشار كثير من المصنفين إلى أن علم أصول الفقه مركب من ركنين:
الركن الأول: علم بلسان العرب.
الركن الثاني: علم بمقاصد الشريعة.
وكتاب الموافقات للشاطبي غلب عليه العناية بالركن الثاني، في حين أن بعض المصنفات التي كتبت في أصول الفقه غلب عليها العناية بمقام دلالات الألفاظ. والجمع بين هذين الركنين في هذا العلم يتحصل لطالب العلم بحسن الاستقراء.
ولكن هل من المتحصل بالتحقيق أن هذا العلم يدور على هذين الركنين: علم المقاصد والعلم بلسان العرب؟
هناك إشارة عامة إذا ما اعتبرها طالب العلم في منهج القراءة العلمية استقرت عنده كثير من الأمور: وهي أن كل حكم فإنه لا ينازع فيه بإطلاق ولا يؤخذ على التصديق المطلق أيضاً، إلا بعد معرفة التصور السابق له، فإنه إذا قيل: إن علم أصول الفقه يدور على هذين الركنين ربما استدرك بعضهم وذكر ركناً ثالثاً، في حين أن الخلاف هنا يكون في جملة الأمر من الخلاف اللفظي؛ لأنه ما المراد بعلم اللسان من جهة؟ وما المراد بعلم المقاصد من جهة أخرى؟ فهذا يرجع إلى تفسير المعنى الأول وتفسير المعنى الثاني، فربما كان التفسير هنا وهنا جامعاً، وربما لم يكن كذلك.
وعلى كل حال فهذه مقدمات بين يدي كلام المؤلف، ثم بعد ذلك نأخذ في قراءة كلامه في المقدمة الأولى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ المقدمة الأولى: إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك: أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي ].
هذه المقدمة التي افتتح المصنف رحمه الله كتابه بها، فقال: (إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية): لا بد هنا من الكلام في الأصول والكلام في الفروع، مع العلم أن سائر الطوائف إذا تكلموا في أصول الدين، فإنهم يعتبرون القول في مسائل أصول الدين من القطعي، وأما ما يتعلق بالفروع، فإن سائر المذاهب يعتبرون باب الفروع مما يدخل فيه الظني كثيراً.
إنما الأمر الذي حصل فيه كثير من التردد: هو ما يتعلق بأصول الفقه، فهل هي قطعية لسائر مواردها، أم يدخل فيها الظني؟ الغالب على من كتب في هذا العلم بعد استقراره كاصطلاح ذكر أن منه ما هو ظني؛ لأن هذا العلم لم يستقر كاصطلاح -أعني: علم أصول الفقه- في الصدر الأول وما قاربه، فلما كان هذا العلم علماً مستقراً وانضبط، فإن الناظرين فيه تكلموا فيه من جهة دخول الظني في هذا العلم.
وأكثر المصنفين في أصول الفقه يجعلون في هذا العلم ما هو ظني، وهذا المنهج هو الذي عليه الأكثرون ممن كتب في أصول الفقه، فيجعلون هذا العلم ليس قطعياً في سائر موارده، بل منه قطعي ومنه ظني، وأنت إذا استقرأت في كتب أصول الفقه، وجدت أن الخلاف في هذه الكتب شائع وكثير.
والشاطبي رحمه الله من الذين صرحوا بقطعية علم أصول الفقه، فأول مقدمة ابتدأ بها هنا هذه المقدمة (إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية)، فهذه نتيجة من حيث النظر والألفاظ، لكن ثمة خلاف بين أصحاب هذا الشأن وأصحاب هذا العلم في هذه المقدمة، هل يقال: إن أصول الفقه قطعي، أم يقال: إن منه ما هو ظني؟
فـالشاطبي كما ترى من أكثر المنتصرين لكون أصول الفقه من القطعي، وأرى أن هذا الإطلاق بالإثبات أو بالنفي ليس بمتحقق؛ لأنك إذا رجعت إلى مدارك العقل والنظر، وجدت أن ما يكون قطعياً يكون منضبطاً من جهة العلم والثبوت، فإذا كان هذا العلم منتهياً إلى هذه الدرجة من القطع في سائر موارده، فلا ينبغي أن يختلف فيه، بل المختلف في هذا العلم مع هذه المقدمة، لا بد أنه بنى خلافه على أن ثمة مقاماً من هذا العلم ليس من القطعي عنده، فتكون النتيجة أن هذه الجملة مجملة.
فإذا قيل: هل قواعد أصول الفقه قطعية أو ظنية؟ قيل: هذا تصور مجمل، لا يناسبه حكم مفصل إلا بعد معرفة المقصود بهذه الجملة.
فإن قصد بأصول الفقه -كما يريد الشاطبي رحمه الله- القواعد الكلية، والمعاني الكلية، والدلائل الكلية، فإنه يمكن هنا كنتيجة أن يقال: إن أصول الفقه قطعي. وإن قصد بأصول الفقه ما هو أوسع من ذلك، كما هو الترتيب الذي جرى عليه الأكثرون من الأصوليين، فإن أصول الفقه يدخل في مادته ما هو قطعي وما هو ظني.
فهذه المسألة عند التحقيق ليست من الخلاف المحكم، بل هي من الخلاف اللفظي، لأني أرجع إلى المعنى الأول وهو أن القطعي: ما يتفق النظار عليه، ولو كان كل مادة علم أصول الفقه قد اتفق عليها بهذا الاعتبار لما وجد فيه هذا النزاع، فوجود النزاع بين الأصوليين وبين الناظرين في هذا العلم، هل سائره قطعي أم فيه قطعي وظني؟ ليس دليلاً على حكم القطعي من الظني، فإن حكم القطعي منته، كما أن حكم الظني يكون كذلك، وإنما هو دليل على أنهم مختلفون فيما يدخل في مادته: هل هو القطعيات وحدها، أم القطعيات مع الظنيات؟
قال المصنف رحمه الله: [ والدليل على ذلك: أنها ]، يعني: أصول الفقه، قال: [ راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي ]، والكليات قطعية، وهذا صحيح: أن كليات الشريعة قطعية، لكن هل كل موارد أصول الفقه راجعة إلى الكليات؟
علم أصول الفقه اصطلاح لا يكتسب قدراً من التفسير بذاته مثل علم أصول الدين، فعلم أصول الدين يكتسب التفسير بذاته لأنك أضفته إلى كليات الدين، فهو بالضرورة لا بد أن يكون قطعياً، حتى يكون أصلاً في الدين، لكن أصول الفقه لا يكتسب التعريف بذاته وإنما يكتسبه بالتعريف أي: بالاصطلاح عليه؛ لأن هذه الأصول ترجع إلى الفقه، والمقصود بالفقه هنا: فقه الفروع.
وهنا لما قال رحمه الله: (أنها راجعة -يعني: الأصول- إلى كليات الشريعة)، فيقال: هل كل موارد علم الأصول راجعة إلى كليات الشريعة من جهة؟ هذا السؤال الأول.
والسؤال الثاني: هل يلزم أن كل ما رجع إلى كليات الشريعة القطعية يكتسب حكمها من جهة القطعية؟
الجواب: لا يلزم ذلك؛ لأنه حتى عند الكلام في الفروع، فإنه يقال: إن الفروع راجعة إلى دلالة الكتاب والسنة، حتى لو ذكرت أدلةً أخرى منفكة نوعاً من الانفكاك عن هذا كالقياس أو غيره في الفروع، فإنك تعرف أن القياس: هو إلحاق فرع بأصل، فهو لا بد أن يرجع إلى دلالة النص على هذا التقدير.
فأولاً: لا يلزم أن كل مسائل أصول الفقه ترجع إلى الكليات الشرعية، وثانياً: أنه لا يلزم من رجوعها إلى الكليات الشرعية أن تأخذ حكمها، فربما كان الراجع إلى الكلي يأخذ حكمه، وربما كان الراجع إلى الكلي لا يأخذ حكمه، لأن الصلة في رجوع هذا الفرع إلى الكلي قد تكون صلة ظنية، فهنا لا يتحقق ثبوت الحكم الكلي عليه.
وعليه: فهذه المقدمة التي افتتح الشاطبي رحمه الله كتابه بها، نقول: إنها مقدمة مجملة.
وقد رام الشاطبي رحمه الله تجريد علم أصول الفقه مما ليس من مادته في الأصل، وتجريد هذا العلم من كثير من الخلاف النظري والخلاف اللفظي، وقد أشار إليه في المقدمة الآتية.
وهذا المنهج في الجملة حسن، ولكن ليس هو المعنى الذي يذكره هنا، صحيح أن في كتب أصول الفقه التي كتبها الأصوليون فيها بعض المسائل اللفظية والنظرية، وهذا أمر شائع معروف.
فـالشاطبي يرى أن دخول مثل هذه المسائل اللفظية والنظرية تكلف في علم أصول الفقه، لكن ليس محل الكلام على هذه المسائل في هذه المقدمة، فهو في المقدمة يريد أن يثبت أن أصول الفقه قطعية، مع أنه إذا أراد أن يطبق هذا المعنى في تفصيل كتابه، لا يستقر له هذا المعنى، فلعله أراد بهذه المقدمة اعتبار أوائل هذا العلم وقواعد هذا العلم وكليات هذا العلم، فهذا يناسبه الحكم بالقطعية إلى حد ما، وأما إذا أراد بذلك أن كل هذا العلم لا يدخله إلا قطعي، وما ليس قطعياً فإنه لا يكون من عداد علم أصول الفقه، فهذا يكون صعباً من حيث النتيجة.
فعلى كل حال: خلاصة هذا المبحث الابتدائي في المقدمة: هل أصول الفقه قطعية أو ظنية؟
لم يقل أحد: إنها ظنية على الإطلاق، وإنما الكلام: هل يدخلها الظني أم أنها تختص بالقطعي وحده؟
فالجواب: بحسب ما يقصد بأصول الفقه، فإن قصد بها الكليات والقواعد الكلية القطعية بالإجماع ونحوه فهذا يمكن أن يكون كذلك ويناسب أن تسمى كذلك، وأما إن قصد بعلم أصول الفقه: العلم بمفهومه الواسع وتراتيبه الواسعة عند الأصوليين، وهذا الشائع عند أكثرهم، فإن هذا العلم يدخله القطعي ويدخله الظني.
قال المصنف رحمه الله: [ بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه: أحدها ] .
في الحقيقة قوله: بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، هذا من حيث إن قواعد أصول الفقه راجعة إلى كليات، فهذا صحيح، وأما إذا أريد به أن تفصيلات وجزئيات هذا العلم في سائر موارده راجعة إلى كليات، فهذا ليس منضبطاً بالاستقراء.
قال المصنف رحمه الله: [ وبيان الثاني من أوجه: أحدها: أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهي قطعية ].
قوله: (بيان الثاني)، يقصد بالثاني: أن ما كان كذلك فهو قطعي، أي: ما كان من الكليات فلا بد أن يكون قطعياً؛ لأن هذه الكليات إما أنها ترجع إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة وهو قطعي أيضاً، وأراد بذلك: أن الكليات تكون مركبةً من قطعي عقلي، واستقراء شرعي، ولا تخرج الكليات عن هذا المعنى.
وبمناسبة ذكر الكليات، فإن الكاتبين في علم أصول الفقه والمقاصد، إذا ذكروا مصطلح (كليات) ذكروا الكليات الخمس الضرورية، وبعضهم كالشاطبي قسم باب المصالح إلى ثلاثة أقسام، فجعل فيه الضروريات وهي أعلى المصالح، ثم جعل فيه الحاجيات، ثم جعل فيه التحسينيات، وإذا ذكروا الكليات: فيذكرون حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وبعضهم يذكر النسل، وهو يرجع إلى حفظ النفس من هذا المعنى، فيكون الخلاف إلى حد كبير من الخلاف اللفظي.
وعلى كل حال: فهذه الكليات الخمس يعني: الضروريات التي يذكرونها، ويذكرون ما يتعلق بالحاجيات، ويذكرون لها العقود المالية ونحوها، ويذكرون التحسينيات كمحاسن العادات، ويقولون: إن الشريعة جاءت بحفظ المصالح وهي على هذه الرتب الثلاث.
وابن تيمية رحمه الله في تعليق له على مثل هذه التراتيب لا يستشكل في معناها، وإنما يستشكل أو يقيد في تفسيرها، فإن مقام رعاية المصالح في باب الضروريات الخمس أو الكليات الخمس، يقول: إنه لم يفسر عند كثير ممن تكلم عليه بالتفسير المناسب الذي كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، من جهة سعة المقصود بمقام الدين ومقام ما بعده.
على كل حال: هذا تعليق ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا الباب.
قال المصنف رحمه الله: [ وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة، وذلك قطعي أيضاً، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه ].
قوله: (والمؤلف من القطعيات قطعي): هذه أيضاً مقدمة فيها قدر من النزاع؛ لأن المتحصل من القطعي لا يكون قطعياً إلا إذا كانت صلته بالقطعي قطعية، فهنا لزوم عقلي يأخذ حكمه، أما إذا كانت صلة التحصيل غير قطعية فهو ظني؛ لأنه الآن يقول: إن أصول الفقه محصل من القطعي باعتبار الكليات المحصلة من دليل العقل القطعي، أو من الاستقراء الشرعي القطعي، ويقول: إن الدليل العقلي، أو الأصول العقلية قطعية، وإن الاستقراء الكلي للشريعة قطعي.
ويقول: إن الأصول محصل من هذين فحسب: والمحصل من القطعي قطعي، أو بعبارة الشاطبي: (والمؤلف من القطعيات قطعي)، هل هذه الجملة على إطلاقها؟ نقول: المؤلف من القطعي قطعي إذا كان اتصاله بالقطعي قطعياً، فلا بد من هذا القيد، أما إذا كان الاتصال أو التحصيل من هذا القطعي ظنياً، فإنه لا يلزم أن يكون هذا التحصيل قطعياً، بل قد يكون قطعياً وقد يكون ظنياً، فإذا أخذت مثالاً بسيطاً في الفروع، فعندك دليل كحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وعندك الحكم كالقول بالوجوب، لا بد أن يكون بينهما اتصال، هذا الاتصال الذي يحصل به الحكم، إذا قلت: إن هذا الدليل قطعي من جهة الصحة -أي: السند- ومن جهة الدلالة، فلا بد أن يكون الاتصال هنا قطعياً، حتى تتحصل المناسبة، أما لو كان كل محصل من القطعي يكون قطعياً، للزم من ذلك كثرة القطعيات في الفروع؛ لأنهم يحصلونها من أدلة قطعية من جهة الثبوت، لكن بقي اتصالها بالحكم، يعني: دلالتها على الحكم، أهو قطعي أو ليس بقطعي؟
هذا محل تردد في الغالب.
وتأمل قوله: (والمؤلف من القطعيات قطعي) إن أراد رحمه الله بالتأليف التركيب المحض، وليس التحصيل الذي فيه قدر من الاتصال بين المحلين، فيقال له: إن هذا يستلزم الدور، لأنه أعاد أصول الفقه تفسيراً إلى القطعيات المحضة، وهي الكليات، فكأن الشاطبي رحمه الله يقول: أصول الفقه قطعية لأنها هي الكليات، ولو كان هذا لقيل: الحكم صحيح، ولكان هذا اصطلاح له: أن أصول الفقه هي الكليات وحدها، لكنه لم يقل هذا، فهو يقول: إنها راجعة إلى الكليات فقط.
فأنت تقول: الحكم راجع في الفروع إلى الدليل.
وهنا سؤال: هل الحكم هو عين الدليل؟
الجواب: لا.
فعندما تقول: هذا الحكم للوجوب، والدليل هذا الحديث، هل الحكم هو الدليل؟ لا، لكن الحكم راجع إليه، فإن أراد رحمه الله بالتأليف التركيب المحض فهذا دور، ومعناه كأنه يقول: أصول الفقه قطعية، والدليل على ذلك: أنها كليات الشريعة، لو كان تعبيره هكذا لكان الكلام مسلماً ابتداءً، ويقال: هذا اصطلاح لـأبي إسحاق رحمه الله، لكنه ما قال هذا، هو يقول: (لأنها راجعة إلى الكليات).
بقي الرجوع، عندما تقول: الحكم رجع إلى الدليل، أن الأصول رجعت إلى الكليات، هذا الرجوع هو الاتصال الذي نشير إليه، هل هذا الرجوع قطعي، أي: الصلة بين المحلين هل هي قطعية؟
إذا كان الاتصال قطعياً فلا شك أنه إذا كان عندك قطعي وقطعي، والاتصال بينهما قطعي، فالنتيجة تكون قطعية، لكن إذا كان عندك قطعي وقطعي، والاتصال بينهما ظني، فالتحصل منهما هل يأخذ حكمهما أو لا يأخذ؟
الجواب: لا يأخذ. فإذا بنيت نتيجةً على هذا الترتيب، فإنها مشروطة بهذا الشرط.
فخلاصة قوله: (والمؤلف من القطعيات قطعي) أن يقال: إن أراد به التركيب فهذا صحيح، ولكنه يستلزم الدور، فكأنه قال: إن أصول الفقه قطعية؛ لأنها كليات الشريعة، وليس لأنها راجعة إلى كليات الشريعة، فكأنه يقول: هي الكليات فحسب، وإن أراد كما هو ظاهر كلامه: أنها راجعة إلى القطعيات، فيقال: المحصل من القطعي قطعي إذا كان التحصيل بينهما قطعياً، فأما إذا كان ليس كذلك، فإن الرتبة تنزل عن هذا القدر.
قال المصنف رحمه الله: [ الثاني: أنها لو كانت ظنيةً لم تكن راجعةً إلى أمر عقلي؛ إذ الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي؛ لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات ] .
يقول: (إنها)، يعني: أصول الفقه، (لو كانت ظنيةً)، يعني: لو دخل الظني في أصول الفقه، للزم من ذلك أنها لا ترجع إلى أمرٍ عقلي، (لأن الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي).
جواب هذا: أنه إن أريد به أن كليات هذا العلم، أو أصول هذا العلم، لو كانت ظنية للزم عليها هذا اللزوم وهو عدم رجوعها إلى أمر عقلي وهذا صحيح، ولا شك أن كليات هذا العلم وقواعده قطعية، لكنَّ الكلام في التفاصيل.
وإذا قيل: هذا القدر الظني من العلم ألا يرجع إلى أمر عقلي أو إلى كلي شرعي؟
قيل: بلى يرجع، ولكن رجوع الظني إلى القطعي ممكن، بمعنى: أنه يمكن أن يتحصل عن القطعي والسبب لا يعود إلى أن هذا الأمر ليس قطعياً، وإنما يعود إلى أن جهة الاتصال به ظنية، فإذا كانت جهة الاتصال ظنيةً فإنها لا تكسب الدليل القطعي القطعية.
فمثلاً: الإجماع، هل الإجماع دليل قطعي أو دليل ظني؟
في كتب الأصوليين والنظار خلاف كثير في دلالة الإجماع وحجيته، وحين أقول: خلاف كثير، باعتبار المدارس المتعددة التي تكلمت عن الإجماع، وإن كانت أصولها العقدية مختلفة في كثير من الأحوال.
وعلى كل حال: إذا رجعت إلى التركيب العقلي البسيط، فإن الإجماع الذي يتفق بين سائر العلماء على حكم معين، ويكون هذا الاتفاق معلوماً، ولا أحد ينازع فيه، ولا يتردد في شأنه وثبوته، فهذا لا شك أنه يكون إجماعاً قطعياً، فكونه صار قطعياً؛ ليس من جهة تسميته إجماعاً أو عدم تسميته، وإنما لأن سائر الناظرين في هذا المعنى لا يختلفون عليه، بل هو عندهم من الضروريات في العلم، فلا بد هنا أن يكون إجماعاً وأن يكون قطعياً، لكن إذا كان الإجماع إنما قصد به مقام من تحصيل بعض المجتهدين والفقهاء، الذي قد يعبرون عنه بقولهم: لا نعلم فيه مخالفاً، أو: لا يعرف مخالف في هذه المسألة فتجد أن هذا الاتفاق ينسبه أعيان من الفقهاء ولا يكون مستفيضاً، يعني: كونه إجماعاً.
وهذا له مثالات في تعبيرات ابن عبد البر و الموفق بن قدامة وكثير من العلماء، وخاصة في مسائل الفروع يقولون: لا نعلم فيه خلافاً، وهذا مروي عن فلان وفلان من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف .. إلخ، فهل هذا هو الإجماع القطعي الذي هو حجة لازمة لا تجوز مخالفتها في سائر الأحوال، ومخالفها مخالف للنص، بل كما يقول ابن تيمية : أشد من المخالف لآحاد النصوص؟
الجواب: لا، إذاً: ربما سمي هذا بالإجماع وهذا بالإجماع، ولهذا فإن بعض المحققين ومنهم ابن تيمية يقولون: إن الإجماع منه ما يكون ظنياً بهذا الاعتبار، ومنه ما يكون قطعياً بالاعتبار الأول.
فعلى كل حال: لماذا قلنا عن الإجماع الثاني: إنه ظني؟ لأن ثمة تجوزاً في تسميته إجماعاً، وإلا لو ثبت أنه إجماع للزم أن يكون قطعياً، وعند التحقيق فإنك تجد في النظر والعقل وحتى في ترتيب أدلة الشارع، لا يسمى هذا إجماعاً؛ لأن الإجماع هو الكلام في ثبوت العلم، فإذا علمت أن هذا إجماع فلا بد أن يكون دليلاً قاطعاً؛ لعدم وجود المخالف، والإجماع بهذه الرتبة لا بد أن يكون له نص صريح بحكمه، والنص الصريح بالحكم الثابت من حيث الورود يكون قطعياً.
لكن ما قالوا فيه عن الرتبة الثانية: لا نعلم فيه مخالفاً، هذا من باب التجوز يسمى بالإجماع، وإلا فالإجماع في الترتيب العقلي، بمعنى انتفاء المخالف في نفس الأمر، فإذا علم به وتحقق منه، فهو قطعي.
أما إذا كان العلم بالإجماع ظنياً، فلا يكتسب الإجماع الحكم القطعي؛ لعدم ثبوته بالقطع، وإنما ثبت كونه إجماعاً على التجوز فقط، فهو في الحقيقة لا يسمى إجماعاً؛ لأن الإجماع إذا ثبت قطعاً فهو حجة قاطعة، فلما كان العلم بكونه إجماعاً ظنياً، قيل: إن حكمه ودلالته ظنية؛ لأن العلم بكونه إجماعاً هنا ظني، فالعلم هو الذي يشير إليه هنا بالاتصال.
ومسألة فقه الاتصال بين هذه المسائل لا بد لطالب العلم من إدراكه.
فإذاً قوله: (إنها لو كانت ظنيةً لم تكن راجعةً إلى أمر عقلي، إذ الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي)، يقال: بل يتحصل عن القطعي ما هو ظني، ويكون سبب النزول إلى الظنية هنا، لا باعتبار القطعي، وإنما باعتبار درجة الاتصال، فإذا كان العلم بدرجة الاتصال بين القطعي والظني قطعياً، امتنع أن يكون الحكم أو النتيجة ظنيةً، أما إذا كان الاتصال ظنياً فقد يكون الحكم أو النتيجة ظنية، يعني: تحصل هذه النتيجة من هذه المقدمة.
فلو كانت المقدمة قطعية، واتصال النظر فيها قطعي، فيلزم أن تكون النتيجة قطعية، لكن إذا كان اتصال النظر فيها ظنياً، فيلزم أن تكون النتيجة ظنية.
قال المصنف رحمه الله: [ إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة، لجاز تعلقه بأصل الشريعة، لأنه الكلي الأول وذلك غير جائز عادة ] ويقصد بأصل الشريعة الكلي الأول: أصول الدين؛ لأن الكليات الخمس والضروريات الخمس أولها الدين، فيقول: إنه يلزم على هذا أن تكون أصول الدين يدخلها الظني، وهذا حقيقةً ليس لازماً بالضرورة هنا؛ لأنه لا أحد يقول: إن كليات الشريعة ظنية، فكليات الشريعة قطعية باعتبار ذاتها، أما باعتبار ما يترتب عليها من النتائج، فهذه المحصلات عن هذه الكليات قد تكون قطعية، لكون مبناها الذي هو الكليات قطعياً، ولكون اتصالها بالقطعي كذلك.
وقد يكون المتحصل عن هذه الكليات ظنياً لا باعتبار المبنى الذي هو الكليات، وإنما باعتبار ظنية الاتصال، وهذا لا ورود له في العقائد والأصول؛ لأن ما يتعلق بأصول الدين لا يرد عليه مسألة الظني لا في المبنى ولا في الاتصال.
قال المصنف رحمه الله: [وأعني بالكليات هنا: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وأيضاً لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز تعلق الشك بها] .
هذا صحيح: لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز تعلق الشك بها، ولكن الأمر ليس كذلك، فأصل الشريعة ليس ظنياً، وتقدم أن أبا إسحاق رحمه الله لو كان يقول: إن أصول الفقه هي الكليات وهي أصل الشريعة، فيجب أن تكون قطعيةً، لقيل: هذا كلام منتظم، وهو منهج اقترحه واصطلح عليه في كتابه، وله حظ كبير من الاجتهاد فيه، لكنه ابتداءً لا يقول: إنها هي، وإنما يقول: إنها راجعة إليها، وفرق بين أن تقول: إن هذا الشيء هو هذا الشيء، وبين أن تقول: إنه راجع إليه، وهذا الرجوع هو الذي نشير إليه بالاتصال، ويتعذر تحققه في سائر الموارد، فإذا كان متحققاً بالقطع صار قطعياً، وإذا كان بالظن صار ظنياً.
قال المصنف رحمه الله: [ وهي لا شك فيها، ولجاز تغييرها وتبديلها، وذلك خلاف ما ضمن الله عز وجل من حفظها.
والثالث: أنه لو جاز جعل الظني أصلاً في أصول الفقه لجاز جعله أصلاً في أصول الدين، وليس كذلك باتفاق، فكذلك هنا ]. يعني: كما أنه لا يجوز في أصول الدين وكليات العقائد أن تكون ظنيةً، أو أحد أصولها ظنياً، فأصول الفقه يلزم أن يكون كذلك.
هذا اللزوم يكون متحققاً إذا ما قصد بأصول الفقه القطعيات أو الكليات؛ لأن أصول الدين كما قلت سابقاً يكتسب بذاته ويلزم من خلال الاسم نفسه أن يكون ما تحته قطعياً، أما أصول الفقه، ويقصد بالفقه هنا الفروع، وفقه الشريعة، والنظر في مفصل أدلتها وما إلى ذلك، فالاصطلاح بذاته لا يستلزم هذا، أي: أن يكون ما تحت مسماه قطعياً، إنما يرجع إلى اصطلاح المصطلحين، فإن أراد بأصول الفقه عنده أنها الكليات، فهذا صحيح، ولهذا قوله رحمه الله: (إنه لو جاز جعل الظني أصلاً في أصول الفقه)، نقول: أصول هذا العلم، -أعني: علم أصول الفقه- قطعية.
والأصل في علم أصول الدين أنها أصول محضة، ويجب على المسلمين أن يتفقوا عليها، لكن في أصول الفقه منه ما هو أصل، ومنه ما هو فرع؛ لأن المحصل عنه وهو الفقه، منه ما هو قطع ومنه ما هو ظن، وأصول الفقه لو كانت قطعيةً لسائر مواردها للزم أن الذي يتحصل عنها يأخذ نفس الحكم.
فـالشاطبي رحمه الله يقول: (لأنها راجعة إلى كليات الشريعة)، والراجع إلى القطعي قطعي، فقد يرد السؤال هنا ويقال: إن فقه الفروع راجع إلى أصول الفقه، والراجع إلى القطعي قطعي، وهذا لا أحد يقول به، يعني: لا أحد يقول: إن الفقه كفروع في سائر موارده يكون قطعياً، بل الظن فيه كثير كما هو معلوم.
قال المصنف رحمه الله: [ لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين، وإن تفاوتت في المرتبة، فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة، وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات ] .
وكأن الشاطبي هنا يميل في الترتيب إلى أنه يريد بالأصول: الكليات، وإذا كان كذلك فهذا صحيح، ولهذا يقول: (فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة)، إذا أراد بالقطعيات هنا المعتبرة في كل ملة، فهذا لا شك أنه قطعي ولا جدل في هذا، أما إذا كان المقصود كل ما يدخل تحت اصطلاح هذا العلم -على ما أشار إليه في أول كلامه- فهذا هو الذي تحته نوع من السؤال.
قال المصنف رحمه الله: [وقد قال بعضهم: لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن؛ لأنه تشريع، ولم نتعبد بالظن إلا في الفروع، ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب من الأصول تفاصيل العلل، كالقول في عكس العلة ومعارضتها، والترجيح بينها وبين غيرها، وتفاصيل أحكام الأخبار، كأعداد الرواة والإرسال، فإنه ليس بقطعي].
الشاطبي رحمه الله يقول: (وقد قال بعضهم: لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن؛ لأنه تشريع، ولم نتعبد بالظن إلا في الفروع) وإذا أريد بالأصول على هذا المعنى أنها الكليات التي تبنى الفروع عليها، فلا شك أن هذا يستلزم لو أمكن رجوع الظن إلى أصل الشريعة، وأما إذا قصد بهذا جملة من فروع هذا العلم ومحصلاته، فكما أنه يحصل عن هذه الأصول الفروع من حيث الأحكام، فقد يحصل عن هذه الأصول بعض الفروع من حيث نظم علم أصول الفقه، فإن تسميته: أصولاً، لا تستلزم اصطلاحاً أن يكون قطعياً، لكن تفاصيل هذا العلم فيها ما يكون ظنياً وما يكون قطعياً.
قال: (ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب ) يقصد: الباقلاني (من الأصول تفاصيل العلل) فالظني لا يعد من الأصول، ولا ينبغي في العلم والنظر أن يسمى أصلاً، فكل ظني في الفروع أو في مقدمات أصول الفقه، لا ينبغي أن يسمى أصلاً بذاته، أما علم أصول الفقه، فإذا كان الكلام عن أصول الفقه على معنى الأصل، فالأصول لا بد أن تكون قطعية، لكن إذا قصد بأصول الفقه هنا العلم كاصطلاح، فإنه يحتمل أن يدخل تحته ما يكون دون هذه الرتبة.
قال المصنف رحمه الله: [ واعتذر ابن الجويني عن إدخاله في الأصول، بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها داخلة بالمعنى فيما دل عليه الدليل القطعي ]. وهذا هو الجواب الذي سبقت الإشارة إليه: أن دخول هذه الفروع أو دخول بعض الظنيات في مصطلح علم أصول الفقه، إنما هو باعتبار أنها محصلة ونتيجة من هذه الأصول القطعية، ولو أريد بأصول الفقه مسألة أصول الدين فالقياس فيها غير متأتٍ بالجملة؛ لأن أصول الدين سمعية محضة، بخلاف مسائل الفروع، فإن أصول الفقه إنما نظم باعتباره علماً يعرف به الناظر منهج ترتيب الأحكام في الفروع. والفروع لا حصر لها ولا تتناهى، لا من جهة العلم والوقوع، ولا من حيث درجة الحكم فإنها تختلف في الدرجة، فمنها ما يكون ظنياً ومنها ما يكون قطعياً.
فلو أن أصول الفقه قصد به المعنى الكلي القطعي وحده لضاق هذا العلم أن يعرف الفقيه أو الناظر بطريقة الترتيب، فما دام أن علم أصول الفقه ترتيب لأمر يكثر فيه الظن فلا بأس أن يأتي في مقدماته ما هو ظني.
وقد يقول قائل: لو كان هذا العلم قطعياً لكان أولى له وأقوى، فيجاب عنه: بأنها لو كانت الشريعة من أولها إلى آخرها قطعيةً كان هذا أولى لنا، وحكم الشارع واحد في الأصل العقدي وكذلك في الفرع العقدي، لكن في مسائل الفروع بعد النبي صلى الله عليه وسلم حصل الخلاف في هذه التراتيب والوصول إلى الأحكام.
فلو قيل: إن هذا العلم عندما نستبعد منه الظني فهو أتم له، فهذا صحيح، لكن سيكون قاصراً؛ لأنه لو قيل: إن علم أصول الفقه هو القطيعات فقط، فلن تكفي القطعيات وحدها أن تعرف بكل الموارد المتحصلة بعدها؛ لأنه بين القطعيات وبين الأحكام محل الاتصال، وهذه هي الظنيات التي ترد في هذا العلم، ويختلف عليها بين الأصوليين، فمثلاً اختلفوا: هل الأمر للوجوب أو ليس للوجوب؟ فهذا يعتبر مبدأ في فهم خطاب الشارع، فإذا أمرنا الله سبحانه وتعالى أو رسوله عليه الصلاة والسلام، فهل أمره للوجوب أم لا. فيقال: الأصل فيه الوجوب، والصارف له عن الوجوب كذا. والصحيح عند الجمهور أن الأمر يفيد الوجوب، وأن الأصل فيه الوجوب، فهذا مثال مما حصل الاختلاف فيه، مع أنه في أوائل هذا العلم، وفي أطراف هذا العلم، فالخلاف في دلالة الأمر على الوجوب أو عدمه، وإن كان بعضهم يقول: إن إجماع المتقدمين من السلف على أن الأمر يفيد الوجوب، هذا مبحث، لكن إذا دخلنا في كتب أصول الفقه باعتبار المدارس التي كتبت في هذا العلم، فتجد أن خلافاً يذكر، وإن كان قول الجمهور وهو الصحيح أن الأصل في الأمر الوجوب.
إذاً: لو قصرنا أصول الفقه على القطعيات وحدها، لكان هذا أشرف من جهة المقام، ولكنه أقصر من حيث تعريف الناظر والمجتهد بتحصيل الفروع، أي: بترتيب الأحكام في الفروع وتخريجها على قواعد الأصول.
والشاطبي رحمه الله إمام محقق، ويميل في كتبه كما في الاعتصام إلى العناية برفع مقام الشريعة، وهذا المقصد لا يختص به فقط، بل هو مقصد عند سائر العلماء، بل عند جميع المسلمين يجب أن يكون كذلك، لكن أقصد أن هذا الوارد من الأمر، ربما يغلب عليه أحياناً مثل هذه النظرات التي ينتهي إليها، فلا شك أن القول: إن أصول الفقه قطعية أشرف من حيث المقام والرتبة والقوة، لكنه أقصر وأقل من حيث الغرض الذي نظم هذا العلم من أجله، فهو لم يكن منظماً كعلم اصطلاحي، بل كان موجوداً كفقه ومعانٍ في نفوس أئمة الاجتهاد من الصحابة والتابعين ... إلخ، لكن تنظيمه كاصطلاح وتراتيب جاء بعد ذلك، فهو أشرف من حيث المقام ولكنه أقصر في التعريف.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التعليق على مقدمات الشاطبي في الموافقات [1] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net