إسلام ويب

ينادي الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين آمراً لهم بالتفسح وإنزال الناس منازلهم سواء في المجالس أو غيرها، وجعله من مكارم الأخلاق وجميل العادات التي توثق عرى الحب في الله والبغض في الله، ورتب الله على ذلك أجوراً عنده.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء السادس والسبعين في الآية الحادية عشرة من سورة المجادلة؛ قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].

سبب نزول الآية

سبب نزول هذه الآية كما قال المفسرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصفة، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة، فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس قد سُبقوا إلى المجلس، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يُفسح لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر، فقال لمن حوله: ( قم يا فلان! قم يا فلان! بعدد الواقفين من أهل بدر، فشق ذلك على الذين أقيموا )، يعني: الصحابة الذين أقيموا من مجالسهم شق ذلك عليهم ووجدوا في نفوسهم، وغمز المنافقون فقالوا: ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى مجلسه، فأنزل الله هذه الآية تطييباً لخاطر الذين أقيموا، وتعليماً للأمة بواجب رعي فضيلة أصحاب الفضيلة منها، ووجوب الاعتراف بمزية أهل المزايا، كما قال الله عز وجل: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، وقال سبحانه: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10]، وقال سبحانه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].

القراءات الواردة في الآية

يقول الله عز وجل: إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ [المجادلة:11]. هذه قراءة عاصم وحده، وقرأ الباقون : (إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا) .

وقول الله عز وجل: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا[المجادلة:11]. هذه هي قراءة نافع و ابن عامر و عاصم و أبي جعفر يزيد بن القعقاع ، وقرأ الباقون: (وإذا قيل انشِزوا فانشِزوا)، وهما لغتان كما قيل في: (يعرُشون ويعرِشون، يعكُفون ويعكِفون) فهنا أيضاً: (إِذَا قِيلَ انشُزوا)، (إِذَا قِيلَ انشِزوا).

معاني مفردات الآية

قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:11]. هذا خطاب لجميع المؤمنين سواء كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من سيأتي من بعدهم.

وقوله: إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا [المجادلة:11]. التفسح هو: التوسع، وهو نوع من تكلف التوسعة في المجلس.

وقوله: فِي الْمَجَالِسِ [المجادلة:11]. على العموم هكذا؛ لأن (أل) هنا للجنس، (في المجالس) أي مجلس من المجالس.

وقوله: فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة:11]. هذا تقرير لقاعدة شرعية: أن الجزاء من جنس العمل، وهذا نجده كثيراً في أدلة الشرع، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه )، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كما تدين تدان )، ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم ).

وقوله: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا [المجادلة:11]. من قولهم: نشز من المكان إذا ارتفع منه، وقيل للمرأة ناشزاً؛ لأنها تترفع على زوجها، فالنشوز هو الارتفاع، يقال: نشز ينشز، أو نشز ينشز من باب: ضرب يضرب، إذا ارتفع.

وقوله: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. تنكير الدرجات هنا للتعميم، وإشارة إلى أنها أنواع من الدرجات في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض ).

وختم ربنا جل جلاله هذه الآية بقوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11] أي: والله بأعمالكم أيها الناس! ذو خبرة، لا يخفى عليه المطيع منكم والعاصي، وهو مجاز جميعكم كلاً بعمله، المحسن بإحسانه والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو جل جلاله عنه.

فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ...)

أيها الإخوة الكرام! هذه الآية الكريمة قد اشتملت على فوائد:

منها: أن تفسح المسلمين بعضهم لبعض في المجالس محمود مأمور به وجوباً أو ندباً؛ لأنه من مكارم الأخلاق ومن الإرفاق، وهو من مكملات واجب التحابب بين المسلمين، خاصة مجالس العلم، ومجالس الصلاة كصلاة الجمعة ونحوها.

قال الإمام الطبري رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجالس، ولم يخصص بذلك مجلس النبي صلى الله عليه وسلم دون مجلس القتال.

قال الإمام مالك رحمه الله: ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر، يعني: بإطلاق.

ومن فوائد الآية: أن يتجنب المسلمون المضايقة والمراصة بحيث يفوت المقصود من حضور ذلك المجلس أو يحصل ألم للجالسين. يعني: بعض الناس يسم الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على أهل الصفوف الأولى)، فيفهم من ذلك: أنه يحشر نفسه حشراً ولو لم يكن في المكان سعة، خاصة إذا كان من أصحاب الأحجام الطيبة، فإنه بذلك يضر إخوانه ويوغر صدورهم، ويفوت عليهم الخشوع في الصلاة، فمن أجل تحصيل فضيلة فإنه يرتكب آثاماً عديدة، وهذا نقول له: لا. اترك المضايقة والمراصة وارتكاب الآثام.

ومن فوائد الآية: أن الجزاء من جنس العمل، كما في الحديث: ( من نفس عن مسلم كربة نفس الله عنه )، ( من يسر على معسر يسر الله عليه )، والحديث الآخر: ( من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة ).

أيضاً: مما يتفرع على هذه الآية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما )، يعني: لا تأت إلى اثنين وهما قاعدان يتحدثان مثلاً فتجلس بينهما.

ومن فوائد الآية: ما خص الله به أهل العلم من المزايا والفضل.

ومن فوائد الآية: أن المؤمنين ليسوا سواء بل هم متفاضلون في درجاتهم عند الله.

ومن فوائد الآية: أن علم الله محيط بكل شيء.

حكم القيام للشخص عند قدومه

يذكر العلماء في هذه الآية أيضاً حكماً؛ وهو ما يتعلق بالقيام، فمثلاً: لو أن إنساناً أراد أن يسلم، فقام له المسلم عليه هل يجوز أو لا يجوز؟

بعض أهل العلم رخص في ذلك؛ استدلالاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى سيدكم ) في شأن سعد بن معاذ رضي الله عنه.

ومن أهل العلم من منع؛ محتجاً بحديث: ( من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار ).

ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام لـجعفر بن أبي طالب لما رجع من خيبر، ويجوز للحاكم في ولايته يعني: القاضي ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قوموا إلى سيدكم )، لما جاء سعد ليحكم في بني قريظة؛ ولأن ذلك يكون أنفذ لحكمه وأبعث على توقيره واحترامه.

والصحيح والعلم عند الله تعالى: أن ذلك راجع إلى العرف، فإذا كان العرف يعد ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات فلا حرج إن شاء الله خاصة لمن كان كبيراً في سنه أو مقدماً في علمه أو نحو ذلك.

ونسأل الله أن يختم لنا بالمغفرة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سورة المجادلة - الآية [11] للشيخ : عبد الحي يوسف

https://audio.islamweb.net