اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أشراط الساعة للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وقد بين أن هذه الأمة آخر الأمم، فهي ختام الأمم، فلن تقوم الساعة إلا على بقاياها، والساعة حدث عظيم، يقتضي من هذه الأمة التهيؤ بأن تكون ختام هذه الدنيا، وأن تستعد لأن تكون فاتحة الآخرة: (فنحن الآخرون السابقون ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأمة تختم بها الدنيا، فهي آخر أممها، وتفتتح بها الساعة فهي أول أممها، وأول الأمم تدعى بين يدي الله هذه الأمة، وأول خصوم يلتقون بين يدي الله لفصل الخصام دعاة التوحيد من هذه الأمة، مع خصومهم دعاة الشرك.
كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما قرأ قول الله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ[الحج:19]، قال: ( الله أكبر، أنا أول من يجثو للخصام بين يدي ربي )، فهو من الذين يخاصمون دعاة الشرك بين يدي الله سبحانه وتعالى، فهذه الأمة هي السابقة يوم القيامة، وهي آخر الأمم في هذه الدنيا، فما أحوج هذه الأمة إلى أن تتحمل مسئولياتها، وأن تعرف دورها، وأن لا تتراجع في مدها، بعد أن قادها خير البشرية، وأنزل الله إليها خير الكتب، وشرع لها أفضل الشرائع، وجعلها خير أمة أخرجت للناس.
إن مسئولية الأمة تقتضي منها أن تعرف هذه الأشراط التي لا توجد إلا فيها، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر الأمم السابقة بالأشراط نذارة، وأخبرنا بها وهي واقعة فينا لا محالة، فقد صح في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: (ما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال ، وما من نبي إلا وأنذره قومه، ولقد أنذره نوح قومه، ألا وإني أنذركموه فأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة).
وهذا يقتضي منا: أن نتعرف على هذه الأشراط وأن نعد لها.
إن الأشراط جمع شرط بالتحريك: وهو العلامة، فالشرَط بالتحريك العلامة، والشرْط بالإسكان: التعليق.
وأشراط الساعة معناه: علاماتها التي تبرز بين يديها، نذارة وتذكيرًا للناس بها، وهذه الأشراط تنقسم إلى قسمين: إلى أشراط كبرى وأشراط صغرى، ويمكن أن تقسم تقسيمًا آخر إلى ثلاثة أقسام: إلى أشراط كبرى، وأشراط وسطى، وأشراط صغرى، والأشراط الوسطى هي من الأشراط الصغرى في العموم.
فمن أشراطها الكبرى: ختم الأنبياء ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حصل هذا، فقد بعثه الله بين يدي الساعة، وقال: ( بعثت أنا والساعة كهاتين)، وما حصل من امتداد العمر لهذه الأمة كله تشريف لنبيها صلى الله عليه وسلم؛ ليزداد أتباعه يوم القيامة، ويزداد أجره بذلك، وقد قال فيما أخرج عنه البخاري في الصحيحين: (ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة).
وقد حقق الله رجاءه، فجعل أتباعه أكثر أتباع الرسل، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بطول الأمد، وقد حصل بين الأمد ما رأيتم، وقد أخذ أهل العلم من باب الإشارة أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة مربيًا ثلاث عشرة سنة، فعاشت دولة الإسلام بعده ثلاثة عشر قرنًا، كل قرن نتاج تربية سنة، فقد سقطت الخلافة بعدما كمل القرن الثالث عشر، وانطمست آثارها، فبهذا كل سنة من العهد المكي يقابلها قرن من قرون هذه الأمة.
وقرون هذه الأمة بين النبي صلى الله عليه وسلم تعددت، وقسمت من ناحية الحكم إلى ثلاثة أقسام:
فقد أخرج أحمد في المسند وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة وسكت )، فبين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الحكم في هذه الأمة.
فالمرتبة الأولى: مرتبة النبوة والخلافة التي هي على منهاج النبوة، وهذه المرتبة هي خير القرون، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون، القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ).
وقد اختلف أهل العلم في معنى القرن هنا في الحديث: فقالت طائفة منهم: المقصود بالقرن الطبقة، والطبقة من ناحية الرواية فالصحابة رضوان الله عليهم ثلاث طبقات.
وعلى هذا فالصحابة وحدهم ثلاثة قرون:
القرن الأول: هم الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فعاصروا بعثته، وصدقوه وآمنوا به، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله.
القرن الثاني: هم الذين أسلموا بعد انتشار الإسلام وبعد الفتح، فكانوا مددًا للإسلام، وسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورووا عنه، ويدخل فيهم أولاد الصحابة الذين شبوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث: الذين ولدوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي وهم صغار، فلم يحدثوا عنه، أو كان حديثهم عنه بالواسطة وهؤلاء يدخلون في عموم الصحبة؛ لأن تعريف أهل الحديث للصحابي: أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به وعاش معه على الوجه المتعارف في الدنيا، ومات على دينه ولو تخلل ذلك ردة على الصحيح.
فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الصحابة، وكل واحدة منها طبقة.
وأما القسم الرابع الذي ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة؛ حيث عد القسم الرابع: الذين قيل فيهم إنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك، وتوسع في العد رحمه الله حتى عد الخضر وحتى عد عيسى بن مريم ، وعد طائفة من الناس اختلف في إسلامها أصلًا، كـحليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف في إسلامها، وعد من هذه الطبقة كذلك أبا طالب ؛ لأن العباس ذكر أنه شهد أن لا إله إلا الله وقت موته ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك! وعلى هذا: فمجرد شهادة العباس لا يمكن أن تدخله في الصحبة، فقد مات على دين عبد المطلب، وعلى هذا فليس هو من المسلمين ولا من الصحابة، ومع ذلك فقد عده الحافظ في القسم الرابع المختلف في صحبتهم بناءً على القول الضعيف أن العباس سمعه: شهد أن لا إله إلا الله، عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عم: قل كلمة أجادل بها عنك بين يدي الله، قل: لا إله إلا الله ).
فهذا القول الأول، يقتضي أن القرون المفضلة كلها ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، وقد ختمت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه، فهو آخر راءٍ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي سنة تسع وتسعين بمكة على الراجح، وفي حديث ابن عمر في صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم العشاء ثم التفت إليهم فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإنه لا يبقى بعد مائة سنة منها على وجه الأرض ذو نفس منفوسة)، فما كملت مائة سنة حتى انتقل كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختموا كما ذكرنا بــأبي الطفيل رضي الله عنه فقد كان يقول: أنا آخر راءٍ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت طائفة أخرى: بل القرون المقصود بها، لكل قرن منها مائة سنة، وعدوا القرن الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوهم قرنًا واحدًا.
والقرن الثاني: هم التابعون الذين أخذوا عنهم ورووا عنهم العلم.
والقرن الثالث: هم أتباع التابعين الذين رووا العلم عن التابعين، والواقع أن الطبقات الثلاث: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين لا يكمل منهم ثلاثمائة سنة، بل إن أتباع التابعين الذين رووا عنهم، مات أكثرهم في نهاية القرن الثاني الهجري، ولم يبقَ منهم بعد القرن الثاني الهجري إلا عدد يسير، ولذلك فإن البخاري رحمه الله قد أدرك بعض الذين أدركوا التابعين وهم قلائل، فأدرك منهم المكي بن إبراهيم ، وكان يقول: كتبت بإصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أني يحتاج إلي لكتبت عن أكثر، ولذلك فثلاثيات البخاري التي ليس فيها بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة رجال أربعة وعشرون حديثًا، هي من رواية المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الثلاثيات تمثل هذه القرون حيث روى المكي وهو من أتباع التابعين عن يزيد بن أبي عبيد وهو من التابعين عن سلمة بن الأكوع وهو من الصحابة.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود تمام المئين، وعلى هذا فيستمر القرن الثالث، حتى يشمل أئمة الإسلام كـأحمد بن حنبل و يحيى بن معين ، و البخاري و مسلم ، وأصحاب السنن وغيرهم من الذين ماتوا قبل المائة الثالثة، بل يشمل الذين عاشوا حتى ماتوا في بداية القرن الرابع الهجري كـالنسائي ، فقد مات سنة ثلاثمائة وثلاث، وكـمحمد بن جرير الطبري فقد مات سنة ثلاثمائة وعشر، وكـعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي فقد مات سنة ثلاثمائة وسبعة وعشرين، وعاش عدد من الأئمة في هذا القرن وفيه تطور العلم وانتشر، وألفت فيه مؤلفات الإسلام ودواوينه الكبيرة.
وعمومًا فقد اختلف: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين أو ثلاثًا؟ فلا شك أنه فضل القرن الذين بعث فيهم، ثم ذكر قرنًا بعدهم، لكن اختلف هل ذكر القرن الثالث أم لا، قال ذلك مرتين أو ثلاثًا.
ومن أشراط الساعة كذلك: ختم الوحي عن أهل الأرض، فإن أهل الأرض بدءوا سيرتهم بإهباط آدم إليها، وفي كل فترة من فترات التاريخ ينزل وحي من عند الله تعالى فيه تشريع يناسب الطور الذي تمر به البشرية، فإذا بلغت البشرية نضجها، وخاضت جميع التجارب ختم الله الوحي إلى أهل الأرض بالقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وختم تنزيل الأحكام فيه بقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، وقد أنزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في حجة الوداع، وعاش بعد ذلك اليوم اثنين وثمانين يومًا، وقد تواتر بعد ذلك الوحي حمية، كما في حديث عائشة رضي الله عنها؛ ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي أشد ما يكون تتابعًا )، لكن لم ينزل منه شيء من الأحكام بعد هذه الآية، بل ذكر بعدها ما يدل على انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا كنزول سورة النصر، وهي آخر سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فختم بها نزول السور.
وهذه السورة لمناسبة اسمها تفضيل لهذه الأمة وتشريف لها، حيث كان آخر عهدها بالله سبحانه وتعالى أن نصرها وأنزل عليها سورة النصر، فقال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:1-3]، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن مهمة الرسالة وأداء هذه الأمانة إلى البشرية قد انتهى بنزول هذه السورة، ومهمته الأولى في هذه الأرض هي بيان الرسالة للناس، وبيان الوحي الذي أنزل إليه، فإذا ختم ذلك وأدي على الوجه الأكمل، وشهد الله له بالتبليغ فإن مهمته قد انتهت، ولذلك خير بين أن يعيش وأن يذهب إلى لقاء الله فاختار لقاء الله.
ولذلك في حديث أبي بكر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( إن عبدًا خيره الله بين أن يعيش وبين لقائه، فاختار لقاء الله. فبكى أبو بكر فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يبكيك يا أبا بكر )، ولم يفهموا ما فهم أبو بكر ، لذلك فإن أبا بكر فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عبدًا )، أن المقصود بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اختار الرفيق الأعلى، وبذلك ينتهي عمره في هذه الدنيا، وقد انتهت مهمته حين أنزل الله عليه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ[الذاريات:54]، وبقوله: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ المُبِينُ[النور:54]، فقد بلغ رسالات الله وأدى الأمانة وشهد الله له بذلك، ومن هنا: نقله الله إلى دار الكرامة، فليس التعمير في هذه الدنيا كرامة عند الله سبحانه وتعالى، بل التعمير فيها إنما يقصد به زيادة العمل وترجيح كفة الحسنات، وقد زادت كفة حسنات النبي صلى الله عليه وسلم وترجحت بأتباعه وبمن يسير على ملته، فكل عابد لله وموحد يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ثوابه إلى أن تقوم الساعة.
ومن هنا: فإن هذه الدار دار أكدار، فاختار الله له مجاورته، فنقله إلى الرفيق الأعلى، وبذلك انقطع الوحي عن هذه الأرض، وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين: ( أن أبا بكر قال لـعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب بنا نزور أم أيمن ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما أتياها، سلما عليها فبكت بكاء شديدًا، فقال لها: وما يبكيك، يا أم أيمن ؟ ألا تدرين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، قالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم إنما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي عن الأرض، فبكيا لبكائها )، فهذا شرَط كبير من أشراط الساعة وهو انقطاع الوحي عن هذه الأرض، فلم يبقَ إلا اجتهادات الناس بعد انقطاع الوحي.
وقبل أن ينقطع الوحي، يمكن أن يجتهد الناس فإما أن يقروا على اجتهادهم بالوحي، وإما أن يرد عليهم اجتهادهم بالوحي، أما بعد انقطاع الوحي فلم يبقَ إلا الاجتهادات يأتمن الله سبحانه وتعالى أهل العلم، على ما ائتمنهم عليه من الوحي، ويوجب عليهم أن يبذلوا اجتهاداتهم في بيان أحكام الله سبحانه وتعالى، وطلب الوصول إلى الحق، وهم بذلك لا يدرون هل يوفقون للصواب أم لا يوفقون له، ولهذا كان مالك رحمه الله تعالى يقول في الاجتهادات: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين.
ثم من هذه الأشراط كذلك: ما يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم مما حدثنا عنه، فقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بأمور عظام تقع بعد موته صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري أنه استيقظ ليلة، فقال: (لا إله إلا الله، ماذا أنزل من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحب الحجرات أو الحجر، فيا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)، فتلك الليلة اطلع النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي على ما فتح من الخزائن وما أنزل من الفتن، فخزائن خيرات هذه الأرض، وما فيها من المال، قد فتحت في تلك الليلة، واختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يشهدها، وهذا يدلنا على أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في عشرين مدًا من الشعير، وانتقل من هذه الدنيا ولم يتعجل شيئًا من أجره، وانتقل أصحابه كذلك على هذا الوجه، فعندما فتحت عليهم خزائن كسرى وقيصر أنفقوها في سبيل الله، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (ولتفتحن عليكم كنوز كسرى وقيصر فلتنفلنها في سبيل الله).
وصح في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف، و سعد بن أبي وقاص وغيرهما: ( أن عبد الرحمن كان صائمًا، فقدمت له مائدة الإفطار ليفطر، فلما وضعت بين يديه رأى عليها صنوفًا من الطعام، فبكى بكاءً شديدًا حتى أبكى من حوله، فقال: يا أبا المنذر! وما يبكيك؟ قال: إنا كنا أهل جاهلية فبعث الله إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم فآمنا به وصدقناه، وجاهدنا معه، فمنا من مات ولم يتعجل من أجره شيئًا، منهم أخي مصعب بن عمير ، مات يوم مات وليس معه إلا بردة، إن سترنا بها رأسه بدت رجلاه، وإن سترنا رجليه بدا رأسه، فمات ولم يتعجل شيئًا من أجره، وخلفنا بعدهم فأثمرت علينا الدنيا فنحن نهدم ثمراتها، فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا[الأحقاف:20]، فرفعت المائدة وبكى من حوله ).
حصلت هذه القصة لـعبد الرحمن بن عوف ، وحصلت لـسعد بن أبي وقاص ، وحصلت كذلك لـعتبة بن غزوان ، وكل هؤلاء تذكروا حالهم عندما كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يشدون الحجارة على بطونهم من الجوع، وقد أخرج البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: ( والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام. خبت إذناً وضل سعيي ).
وكذلك عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أنه قال: ( لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق الشجر، ولقد خرج سعد بن مالك ذات ليلة لحاجته فوقع بوله على شيء فأخذه فإذا هو جلد، فغسله وشواه فأكلناه، ولقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو والٍ على مصر من الأمصار ).
إن الخزائن التي فتحت منذرة بقيام الساعة، فيها ضريبة لابد منها وهي ما يلازمها من الفتن، عندما فتحت الخيرات على المسلمين من الفتوح التي حصلت في خلافة عمر بن الخطاب وفي أول خلافة عثمان رضي الله عنهما، بدأ جيل من المسلمين ينشأ على الرفاهية وكثرة الأموال، وكان هذا الجيل سببًا للفتنة، وهم الذين شاركوا في قتل عثمان والخروج عليه، وهم الذين شاركوا كذلك في الخروج على علي وقتله، فهم جيل نشأوا في الرفاهية، أما الجيل الذي نشأ في الشدة والجهاد، فقد كانوا كما قال علي رضي الله عنه، حين سأله رجل من الخوارج، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما لك اختلف الناس عليك وعلى عثمان ، واتفقوا على أبي بكر و عمر ؟ فقال: اتفق الناس على أبي بكر و عمر حين كان الناس أنا و عثمان ، واختلف الناس عليّ وعلى عثمان حين كان الناس أنت وأمثالك).
فالفرق شاسع بين أولئك الذين تربوا تلك التربية الأصلية الصحيحة، وبين الذين نشأوا بعد ذلك.
كذلك فإن الخزائن التي فتحت هي سبب للانشغال عن الجهاد في سبيل الله، وقد أخرج أحمد في المسند و أبو داود في السنن وغيرهما من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا يرفعه عنكم، حتى ترجعوا إلى دينكم)، وإن هذا الحال مشاهد فقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأمة في بداية نشأتها في السنة الأولى من الهجرة كانت هناك ثلاث غزوات، وفي السنوات اللاحقة في كل شهر غزوة وسرية بهذا المعدل كانت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه، لاحظوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بنفسه في سبع وعشرين غزاة، وأخرج سبعين سرية في حياته، وأخرج بعوثًا ورسلًا بالكتب زيادة على ذلك.
وفي خلافة أبي بكر التي لم تدم إلا سنتين وستة أشهر، خرج من الجيوش مثلما خرج في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة عمر تضاعف العدد، لكن بعد أن فتحت الدنيا أبوابها، تقلص العدد وبدأ في النقصان والتراجع إلى أن وصل إلى ما وصل الحال إليه اليوم، فيولد المسلم في بلاد الإسلام، ويشيب ويموت وينتقل إلى الدار الآخرة ولم يرَ بعثًا طيلة حياته، ولا سرية ولم يخرج في غزو في سبيل الله.
إن هذه التربية غير تربية النبي صلى الله عليه وسلم وليست تربية أصحابه، ولا هي حياتهم ولا سنتهم أن يعيش المسلم عمره لم يرَ قط بعثًا في سبيل الله.
إن من المؤسف جدًا أن نعيش حياة الذلة والمسكنة، ونحن الأمة التي شرفها الله بأن جعل قائدها خير الرسل، إمام المرسلين، فمن المؤسف جدًا أن نرضى بالذلة والمسكنة، إن الذين ألفوا في التاريخ في صدر هذه الأمة، إنما كانوا يعتنون بما يتعلق بالغزو وإقامة الحج، فهذا خليفة بن خياط المشهور بشباب، وهو شيخ البخاري رحمه الله، ألف كتاباً في التاريخ، فاعتنى في كل سنة بمن قاد الشاتية وبمن قاد الصائفة، وبمن أقام الحج للناس، هذا أهم أحداث سنوات المسلمين، من الذي قاد الشاتية، أي: الفرقة المجاهدة التي تخرج في الشتاء، ومن الذي قاد الصائفة، أي: الفرقة التي تخرج في الصيف، ومن الذي أقام الحج للناس أي: قاد الحج؟
فهذا هو أهم اهتمامات المسلمين في تاريخهم.
ففلان الشاتية إلى جهة كذا، والشاتية إلى جهة كذا، قادها فلان، وهكذا، وقاد فلان الصائفة إلى الصين، وقاد فلان الصائفة إلى القوقاز وهكذا.
فحال المسلمين بعيد جدًا عن حالهم إذ ذاك، وما هذا إلا مصداق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فالفتن المترتبة على ذلك كثيرة، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فيها: (فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، وأن تكون الدنيا مبلغ علم الناس، وأكبر اهتمامهم، فهذه هي الفتنة الصماء، فمن جعل الدنيا جُل همه، ومبلغ علمه فسيبيع دينه بعرض من الدنيا، يقدم أعراض هذه الدنيا ومصالحها على علاقته بالله ودينه الذي هو شرفه وقيمته.
إن كثيرًا من الناس قد باعوا دينهم بعرض من الدنيا سواء كان هذا العرض منصبًا أو مالًا، أو مكانة اجتماعية، أو حتى مجرد ذكر بين الناس، وهؤلاء قد وقعوا في هذه الفتنة الدهماء التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك فإن من الفتن التي أنزلت: ما فتن بها الناس بما أوتوا من زخارف هذه الدنيا ومن شهواتها، فقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج الشيخان في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت)، فهذا تحذير بالغ من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، مما يفتح عليها من صنوف مفاتن هذه الدنيا وزخارفها، وقد قال له رجل: (يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فقال: إن الخير لا يأتي بالشر، ولكن من الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم).
كذلك فإن من هذه الأشراط التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم: خروج الدجال : (وما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم منه)، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه أصحابه في كثير من المشاهد والمواقف، وقد كان إذا ذكر أصحابه بـالدجال رعبوا، حتى يظنونه بطائفة النخل، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه إن بعث وهو فينا فهو خصيمه دوننا، وإن يبعث بعده فالله خليفته على كل مسلم، وقال: ( ما من نبي إلا وقد أنذره قومه إلا وإني أنذركموه )، وعلمنا علامة لم يعلمها نبي قبله أمته، وهي أنه: ( أعور عينه اليمنى كأنها عنبة طافئة )، وفي الحديث الآخر: ( أعور عينه اليسرى كأنها عنبة طافية )، وهنا لا تعارض بين هذين الحديثين: فهو أعور عينه اليمنى وأعور عينه اليسرى، لكن عينه اليمنى كأنها عنبة طافئة فعينه اليمنى لا ترى، فهي غائرة صغيرة جدًا، داخلة في مكانها ولا يرى منها، أما عينه اليسرى فهي عوراء أي: قبيحة وهي خارجة عن مكانها، كأنها عنبة طافية، أي: تطفو فوق الماء، فلذلك كلتا عينيه عوراء، لكن عينه اليمنى لا يرى منها، وعينه اليسرى يرى منها، فهي خارجة عن مكانها، وعينه اليسرى داخلة في مكانها، مكتوب بين عينيه (ك، ف، ر) أي: أنه كافر.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج بين العراق والشام فيعيث يمينًا وشمالًا، ويمكث في هذه الأرض أربعين يومًا، فاليوم الأول كسنة، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كجمعة، وبقية أيامه كأيام الناس، قالوا: ( يا رسول الله! أرأيت اليوم الذي كالسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، بل اقدروا له )، يعني: اقدروا له، يقدر وقت الصلاة على حسب الزمن، (ويعيث يمينًا) أي: يفسد في يمينه، أي: في الشمال، (ويعيث شمالًا) أي: يعيث إلى جهة الجنوب، وبين صلى الله عليه وسلم أنه سيغزو المدينة، فينزل مسالحه، أي: جيوشه من سباخها، ويصعد هو على جبل من جبالها، فيرى المسجد فيقول: ذلك القصر الأبيض، قصر محمد، وعلى أنقابها يومئذٍ الملائكة، ولها يومئذٍ سبعة أبواب، لا يدخل من باب منها إلا اعترضه الملائكة.
ويخرج له أهل المدينة فمن رأى ما هو فيه فتبعه ممن أراد الله به الفتنة، فسيكون شر أهل الأرض، ويخرج له رجل من أهل المدينة فيقول: ( والله إنك للمسيح الدجال الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدعو بمنشار فيضعه على مفرقه فيقسمه به نصفين، ويمشي بينهما ثم يناديه فيقوم وما به بأس، فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقينًا، فيضجعه ليذبحه فيجعل الله ما بين ترقوته وذقنه نحاسًا فلا يسلط عليه، ويمر بالخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويمر بالقوم وهم مخصبون فيكذبونه، فيأمر السماء فتمسك، ويأمر الأرض فتقحط فتروح عليهم مواشيهم، وليس لضروعها لبن، فيمسون وهم في قحط وشدة، ويمر بالقوم وهم في قحط فيصدقونه، فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، فتروح عليهم مواشيهم أسبل ما كانت ضروعًا )، كل ذلك من الفتنة التي معه.
ومعه دابة تضع حافرها حيث يقع بصرها لا يدرى قبلها من دبرها، أي: لا يعرف وجهها من قفاها، ويخرج معه على مقدمة جيشه سبعون ألفًا من يهود أصفهان على رءوسهم الطيالسة، والطيالسة: جمع طيلسان وهو ثوب مثلث يوضع على الرءوس، ويخرج معه اليهود عندما يجتمعون في الشام لآخر الحشر، فإن الله تعهد لهم بأن يحشرهم إلى الشام، كما قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[الإسراء:104]، أي: جمعناكم أجمعين إلى الشام، وحين أخرج النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع من المدينة إلى الشام، أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة الحشر، وفيها: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ[الحشر:2]، فأول حشر اليهود إلى الشام، هو إخراج بني قينقاع من المدينة، وسيجتمع اليهود الذين هم من ذرية إسرائيل في الشام، ولا يقتضي ذلك أن يجتمع جميع من هو على ملة اليهود إلى الشام، بل الذين يحشرون إلى الشام هم بنو إسرائيل لقول الله تعالى: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ[الإسراء:104] أي: تفرقوا في الأرض: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[الإسراء:104]، فمن كان من بني إسرائيل فلا بد أن يأتي إلى الشام، في آخر الزمان، وهنالك تكون الملحمة الكبرى التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أخرجه الشيخان في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر والشجر: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن مهاجر المسلمين في آخر الزمان الشام، فقال: (يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم )، وقال كذلك فيما أخرج الترمذي في السنن بإسناد حسن: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، وقال كذلك عندما ذكر الطائفة المنصورة، قال: (هم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)، وفي الحديث الذي أخرجه البزار في مسنده بإسناد فيه مقال عن نهيك السكوني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قتال اليهود فقال: (أنتم يومئذٍ شرقي نهر الأردن وهم غربيه. قال نهيك : ولا أدري ما الأردن يومئذٍ )، فلم يكن يدري ما الأردن يومئذٍ، فأول ما سمع هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن قتال المسلمين لليهود.
كذلك فإنه إذا جاء المسيح وعاث في الأرض وتبعه أهل الفساد وتعزز به اليهود فسيقع خراب المدينة، وهذا شرط آخر من أشراط الساعة، فالمدينة أعمرها الله برسوله صلى الله عليه وسلم، لكنها ستترك على خير ما كانت، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتتركن المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي، قالوا: وما العوافي يا أبا هريرة ؟ قال: عوافي السباع، حتى يأتي ذئب أبيض فيغذي على المنبر لا يرده أحد )، فيغذي على المنبر: أي: يبول عليه لا يرده أحد، ( وآخر من يغشاها، راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكب على وجوههما ).
وفي حديث آخر أخرجه أحمد في المسند وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عمران بيت المقدس خراب المدينة، وخراب المدينة فتح رومية، وفتح رومية خروج الدجال )، وسيعمر بيت المقدس أيضًا ويعمره المسلمون، وبعد ذلك تفتح رومية، وهي روما، وتنقل كنوزها وهي ما في كنيستها من الكنوز كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيستها هي كنيسة الفاتيكان اليوم تنقل خيراتها إلى بلاد المسلمين.
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى: نزول المسيح ابن مريم عليه السلام، وسينزل وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وهو واضع يمينه على ملك وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس إذا رفع رأسه تحدر معه مثل الجمان من العرق، وإذا طأطأه سال مع عنقه، فيأتي حكمًا عدلًا يحكم بشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينزل وقد أقيمت الصلاة بجامع دمشق وإمامكم منكم، فيقول: يا نبي الله تقدم فصلّ، فيقول: إمامكم منكم، ولا يحل لكافر أن يجد نفَسه إلا مات من حينه، ونفَسه يبلغ حيث يبلغ بصره.
والمسيح ابن مريم عليه السلام يلتقي بـالدجال عند رملة لد، أو عند باب لد، فيقتله، واختلف في طريقة قتله فقد ورد في بعض الآثار: أنه يضربه بسيف، وفي بعضها أنه إذا وجد نفَسه ذاب كما يذوب الملح في الماء، فظاهر الحديث أنه يموت بمجرد نفَسه لأنه قال: ( لا يحل لكافر أن يجد نفَسه إلا مات )، ونفَسه يبلغ حيث يبلغ بصره.
والمسيح ابن مريم عليه السلام ينزل مجددًا لشرع نبينا صلى الله عليه وسلم فيقتل الخنزير ويكسر الصليب، وتقوم به الحجة على النصارى، كما قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا[النساء:159].
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى: خروج الدابة بمكة، وهي دابة تخرج من شعب أجياد، أو من سبع خلف الصفاء، تخرج على الناس في رمضان في المسجد الحرام، لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، فتكلم الناس أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ[النمل:82]، وقد اختلف في معنى التكليم، هل معناه: التجريح، فتجرح وجوه الناس بما يعرف به الأشقياء من السعداء، أو أن التكليم معناه: الحديث، أي: تحدثهم بهذا الكلام بلسان فصيح، وعلى ذلك القراءتان السبعيتان، بفتح الهمزة وكسرها: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ[النمل:82]، أي: أن هذا كلامها هي، فهي تتكلم بهذا، أو ((إنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ)) فهي جملة مستأنفة. وهذه الدابة لم يرد أنها تخرج من مكة، بل تخرج في المسجد الحرام في أعظم المساجد حرمة، ولا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، ولم يرد أنها ترى في غير مكة، وما يعتقده بعض الناس أنها تخرج في كل البلاد لم يرد عليه أي دليل، بل هي تخرج في أعظم المسجد حرمة، تخرج من صدع أو نفق خلف الصفاء وترى بشعب بأجياد.
كذلك فإن من هذه الأشراط الكبرى: طلوع الشمس من مغربها، فإن هذه الشمس ستحبس فهي كل ليلة تخر ساجدة تحت العرش، وتستأذن فيؤذن لها بالانصراف، فإذا كان آخر الزمان وحق الوعد على الناس، فإنها لا يؤذن لها فتحبس ثلاثًا والناس ينتظرونها، فيطول عليهم الليل، وإنما يعرف ذلك العابدون وأصحاب المهن، أي: أصحاب الحرف يعرفون أوقات عملهم، والعابدون كذلك يعرفون أوقات الصلوات، فتحبس عنهم ثلاثًا وهم ينتظرونها، فإذا طال الانتظار طلعت عليهم من مغربها، يقال لها: ارجعي من حيث شئت، فتطلع من مغربها مقترنة بالقمر.
وحينئذٍ تطلع من باب التوبة، وهو باب من أبواب السماء قبل المغرب، تقبل منه توبة الناس، فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تقبل توبة أحد لم يكن تاب من قبل، ولهذا قال الله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا[الأنعام:158]، والمقصود (ببعض آيات الله) هنا إما الغرغرة وإما طلوع الشمس من مغربها، فالناس قسمان، من بعض آيات الله في حقه الغرغرة، وهو من يموت قبل طلوع الشمس من مغربها، أو من بعض آيات الله في حقه طلوع الشمس من مغربها، وهو من يعيش إلى ذلك الوقت.
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى: رفع القرآن، فإنه سيرفع ويسرى عليه فيمحى من المصاحف والقلوب، كما قال الله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ[الإسراء:86]، وقد أخرج أحمد في المسند و ابن جرير الطبري في تفسيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يوشك أن يسرى على القرآن فيمحى من المصاحف والقلوب)، فهذا القرآن أنزل من عند الله، وهو كلامه منه بدأ وإليه يعود، فلم يكن ليجعله بدار هوان، ما دام الناس يؤمنون به ويعملون به فهو يشهد لهم، فإذا تركوه وراء ظهورهم فإن الله سيرفعه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا[الفرقان:30]، فإذا هجر القرآن فسيرفعه الله إليه سبحانه وتعالى.
ورفعه يأتي بثلاث درجات:
الدرجة الأولى: موت العلماء وانتقالهم، وهذه الدرجة بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في الصحيحين أنه قال: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله، فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فاستفتوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، وقد شهدت في هذه السنة وغيرها من السنوات انتقال عدد كبير من علماء الأرض ومشاهير أهل العلم فيها في جمعة واحدة.
كذلك الرفع الثاني: هو بترك تحكيمه، بأن لا يتحاكم الناس إلى كتاب الله، ويعدلون عنه إلى الجبت والطاغوت، فيتحاكمون إلى غير ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي المرتبة الثانية من مرتبة الرفع، وقد شاهدتم القوانين الوضعية التي تحكم في أصقاع الأرض.
المرتبة الثالثة: وهي أن ينحى بالكلية، فيرفع من القلوب والمصاحف ولا يبقى له أثر، نسأل الله أن لا ندرك ذلك.
ثم من الأشراط الكبرى كذلك: الدخان الذي يظهر في هذه الأرض فيغشى الناس، فلا يدرون من أين أتى وتنتقص به الأبصار، وهذا الدخان يكون شديدًا على المؤمنين مذكرًا لهم بالله سبحانه وتعالى فيسألون الله كشفه عنهم: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ[الدخان:12].
وكذلك من هذه الأشراط نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، أي: تسوق الناس إلى أرض الشام، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا.
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى: حكم الأرض بالعدل بعد أن ملئت جورًا، وهو خروج المهدي الذي ورد فيه ألف وخمسون حديثًا، أكثرها أحاديث ضعيفة، وصح منها أربعة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بين فيها: أن المهدي رجل من ذريته، من أهل بيته يصلحه الله في ليلة، أي: أنه لم يكن من الصالحين، فيصلحه الله في ليلة واحدة، يطلبه الناس عند موت خليفة ليبايعوه في المدينة فيفر منهم، فيدركونه بمكة فيبايعونه بين الركن والمقام، فتأتيه عصائب العراق وبدلاء الشام، فيملأ الأرض عدلًا بعد ما ملئت جورًا، وعصائب العراق، أي: طوائف المسلمين الذين يأتون من جهة المشرق، سواء مما نسميه اليوم بالمصطلح الجغرافي بالعراق، أو غيره مما وراءه أو دونه، وبدلاء الشام، أي: علماء الشام وأهل الصلاح فيهم، فهؤلاء كلهم يلتحقون بهذا الرجل الصالح، ويملأ الأرض عدلًا بعد ما ملئت جورًا.
وكذلك يغزو جيش الكعبة من قبل الشام حتى إذا كانوا بالبيداء، جنوب المدينة خسف بأولهم وآخرهم، وفي حديث عائشة في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بأولهم وآخرهم، فقلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال: يبعثون على نياتهم). فهذه هي الأشراط الكبرى، التي إذا جاءت فإن الناس يؤمنون ويصدقون تصديقًا لا يقبل إلا ممن كان مؤمنًا قبلها.
ومن الأشراط الكبرى: خروج يأجوج ومأجوج، وسيخرجون من جهة المشرق، فيؤذون أهل الأرض ويشربون مياهها، ويضايقون المسلمون فيها، ويحاصرون نبي الله عيسى، ومن معه من المؤمنين على جبل فيدعو الله عليهم، فينزل عليهم النغف وهو دود يصيبهم في رقابهم فيموتون جميعًا ميتة رجل واحد، وتمتلئ الأرض من زهمهم ونتنهم، فيسأل المسيح الله سبحانه وتعالى أن يذهب بهم، فيأتي مطر فيذهب بجثثهم، فتبقى الأرض كالزلفة البيضاء، وتخرج خيراتها، حتى يشبع من البطيخة الواحدة النفر من الناس، ويستظلون بقشرها، والناقة الواحدة تروي القبيلة، والبقرة الواحدة تروي البطن من الناس.
وبالنسبة للبخت لها أسنمة متعددة، منها ما له سنامان، ومنها ما له ثلاثة أسنمة، والمقصود بذلك: أن تجعل النساء على رؤوسهن مثل الأسنمة.
كذلك فإن خروج يأجوج ومأجوج لا يبقى بعده إلا أن تأتي الريح الباردة التي تأخذ المؤمنين من آباطهم اليمنى، فتنتزع أرواحهم فينتقلون إلى الله سبحانه وتعالى ولا يبقى في الأرض إلا حثالة أو حفالة لا يبالهم الله باله، وهؤلاء هم شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة، فهؤلاء يفسدون في الأرض فسادًا لم يكن فيها من قبل، ولذلك فإن الأنبياء يقولون يوم القيامة: (إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله)، فغضبه إنما هو على أولئك الذين بقوا في الأرض وهم حثالة أو حفالة لا يبالهم الله باله، يتهارجون تهارج الحمر.
وخروج يأجوج ومأجوج هو الذي بينه الله سبحانه وتعالى من أشراط الساعة بقوله سبحانه وتعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ * وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ * حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ[الأنبياء:93-97].
فلا ينفعهم إيمانهم، ولا يغني عنهم من الله شيئاً؛ لأنه مثل إيمان الغرق الذي حصل لفرعون الذي قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]
أما الأشراط الوسطى، والتقسيم السابق، فمنها: ( نار تخرج شرقي المدينة تضيء لها أعناق الإبل بالبصرى )، فقد خرجت هذه النار في بركان المدينة في القرن السادس الهجري، وأضاءت لها أعناق الإبل بالبصرى.
وكذلك من هذه الأشراط الوسطى: فتح القسطنطينية وهي اسطنبول، ( فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشه ).
وكذلك من هذه الأشراط الوسطى: أن يفيض المال، حتى لا يجد آخذًا.
ومنها: أن يغزو الروم المسلمين تحت ثمانين غاية، أي: تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفًا.
ومنها كذلك: أن لا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، كما في صحيح مسلم : (.. قالوا: من قبل أي؟ فقال: من قبل الروم)، فالروم يمنعون العراق قفيزه ودرهمه، أي: يحاصرونه، فيمنعونه القفيز والدرهم، وهذا شرَط من أشراط الساعة.
وكذلك من هذه الأشراط: أن يحسر الفرات عن كنز من ذهب يقتتل الناس عليه قتالًا شديدًا، حتى يقتل من كل مائة تسعة وتسعون، فيقول: الباقي لعلي أنا آخذه.
وكذلك من هذه الأشراط: أن يشيع الموت في الناس، فيموت الناس من غير سبب، وسيكثر ذلك في آخر الزمان.
ومنها: أن يقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد.
ومنها كذلك: أن يخرج شباب حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يتكلمون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
ومنها كذلك: أن يخرج نساء كاسيات عاريات رءوسهن كأسنام الإبل البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام.
ومنها كذلك: غنيمة كلب التي تكون في آخر الزمان، والخسران لمن لم يشهد غنيمة كلب، وكلب قبيلة من العرب، من بني كلب بن وبرة بن إلحاف بن قضاعة ستكون له الغنيمة الكبرى في آخر الزمان.
وكذلك من هذه الأشراط الوسطى: خروج رجل يدعى السفياني ، وفي رواية أنه يدعى جهجاه يسوق الناس بعصاه، أي: يكون ذا ملك عظيم، يخضع له الناس.
ومنها كذلك: خروج ملك اسمه الوليد ، يجبي المال فيجمعه ولا يتعدى شيئًا منه.
ومنها كذلك: من هذه الأشراط أن تيبس بحيرة طبرية فلا يبقى فيها ماء.
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأشراط الصغرى في سؤال جبريل حين سأله، فقال: ( وسأخبرك عن أماراتها: أن تلد الأمة ربتها -وفي رواية: ربها- وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان )، فهنا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة الصغرى: (أن تلد الأمة ربتها)، وفي رواية (أن تلد الأمة ربها)، وقد اختلف العلماء في المقصود بذلك: فقالت طائفة: المقصود به انتشار العقوق بين البنات والأبناء، فتعتقد البنت أمها أمة لها من عقوقها بها، نسأل الله السلامة والعافية.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود بذلك انتشار الجواري وأمهات الأولاد.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود بذلك أن يكون عدد كبير من الأولاد الضعفاء الذين يحتاجون من يخدمهم، فتكون أمهاتهم خدمًا لهم.
قال: ( وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان)، وهذا شرَط آخر وهو تطاول الفقراء في البنيان، فإن ( كل مال ابن آدم مبارك له فيه إلا البنيان )، فالزراعة إذا اشتغل بها الإنسان بورك له فيها كما في حديث أنس : (من غرس غرسًا أو زرع زرعًا، فإنه لا يأكل منه شيء ولا يستظل به إنسان إلا كان له صدقة)، وكذلك التجارة فإذا صدق التاجر وبر، واتقى فإنه يبارك له في تجارته، وكذلك الصناعة من أنتج فيها عملًا فلم يخن، وأتقن عمله ولم يغش، فإنه يبارك له في عمله، لكن البنيان من زاد فيه على حاجته وتطاول فيه؛ فإنه لا يبارك له فيه.
ولذلك فإن بنيان الإنسان لما لا يسكنه، وإنما يجعله لمجرد التباهي والتفاخر لن يكن في كفة الحسنات يوم القيامة.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى هذا في الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ وغيره: (الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر)، فمثل الخيل المال كله، فهو على هذه الأقسام: ( فأما الذي هو له أجر، وهو لرجل احتبسه في سبيل الله، وتعفف عن الناس، وأخذه من حله ووضعه في محله)، فهذا المال له أجر كلما فقد منه، كانت مصيبته أجرًا له يوم القيامة، وكل ما وجد منه بورك له فيه، فهو له أجر كله.
القسم الثاني: ( وأما الذي هو لرجل ستر فرجل لم يحتبسه في سبيل الله، ولكنه لم يأخذه إلا من حله وتعفف به واكتفى بما آتاه الله، ولم يتعلق بما لم يؤته )، فهذا المال له ستر يستره من العيب والنقص.
القسم الثالث: الذي هو وزر، نسأل الله السلامة والعافية: ( من جمعه تكثرًا وخيلاء، أو إرصادًا لحرب الله ورسوله )، فهذا النوع من المال لا يبارك فيه، وهو على صاحبه وزر، فما فقد منه كان حسرة وندامة في الدنيا، ولن ينل ثوابه يوم القيامة، وما وجد منه لم يكن له فيه بركة ولا فائدة، وقد شاهدنا في زماننا هذا كثيراً من التجار الذين أصبحوا خدمًا للدنيا، يجمعون الأموال ويتعبون أبدانهم وعقولهم وأرواحهم لخدمة الدنيا، وتوفيرها، ومع ذلك لا يستفيدون منها. وحصلت حادثة غريبة لأحد التجار الكبار في هذا الزمان، فقد كان يراقب مؤشر الأسهم، فإذا ارتفع المؤشر ضغط الزر ليبيعوا ما معهم من الأسهم، وإذا انخفض ضغط الزر ليشتروا تلك الأسهم الهابطة، فاشتغل بذلك يومه كله، فكان العامل يأتي ويضع له كأس الشاي بين يديه، فيبرد ويأتي ويسحبه ويضع مكانه كأسًا آخر، وهو مشغول عن ذلك لا يلتفت إليه، حتى أغمي عليه، فدعيت سيارة الإسعاف فحملوه إلى المستشفى، فلما فحص لم يجدوا به أي مرض، إلا الجوع والعطش فقد شغل عن الشرب وعن الأكل وعن الراحة بمؤشر الأسهم.
وكذلك يحدثني أحد أغنياء هذا البلد، قال: إن أغنى تجار هذا البلد أنا وفلان وفلان، ذكر اثنين معه، وما منا أحد إلا وقد أنفق أوقاته في جمع المال والأسفار فيه، وقد أتعب نفسه وبدنه في ذلك، لا يستريح ليلة بين ذويه وأولاده إلا وقلبه على مضض، يخاف أن يفوته شيء من ماله.
وها نحن قد حرمنا كل ما هو حلو أو فيه ملح أو فيه دهن، فأصيب الثلاثة بأمراض حرم عليهم الأطباء السكر والملح والدهون، فمنعوا ما في هذه الدنيا من الملذات وأصبح غذاؤهم كما يقول: والله ما نتغذى إلا على عيش الشعير، بحليب البلورية. وهم أغنى تجار البلد.
كذلك ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم هنا، أن هؤلاء الفقراء كانوا من قبل حفاة عراة عالة يتصدق الناس عليهم، فإذا هم يتطاولون في البنيان.
والتطاول فيه يرمز إلى أمرين:
الأمر الأول: راجع إلى القلب، معناه: أن يفاخر غيره ببنيانه، سواء كان البنيان قصيرًا أو طويلًا.
والأمر الثاني: راجع إلى البنيان نفسه، أن يكون بنيان فلان أطول من بنيان فلان، فهذه من أشراط الساعة الصغرى.
ومنها كذلك: انتشار الجهل بين الناس، والجهل ينقسم إلى قسمين: جهل ضد العلم، وجهل ضد الحلم، فضد العلم إنما ينتشر بموت العلماء كما ذكرنا في الأشراط الوسطى، وضد الحلم معناه: النزغ وخفة العقل، بأن يعجب كل إنسان برأيه، وأن يعتبر نفسه أكمل الناس عقلًا، وأنه لا يحتاج إلى رأي غيره، فيحتكر الصواب على نفسه، وهذا ما تشاهدونه اليوم في الناس، فقد شاع إعجاب كل ذي رأي برأيه مع الأسف.
كذلك من هذه الأشراط الصغرى: أن ينتشر في الناس الأوبئة والأمراض التي لم تكن فيمن مضى من أسلافهم، وأن ينتشر القحط في الأرض، وقد أخرج أحمد في المسند و ابن ماجه في السنن بإسناد صحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمسًا: ما شاعت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، وما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المؤونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدوًا من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
إننا قد شاهدنا كثيرًا من هذه الأشراط، وأنتم الآن تسمعون حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في شرط من أشراط الساعة، وفتنة من الفتن التي بين يديها، فتشاهدون ذلك في حياتكم اليومية، وتسمعونه فيمن مضى من أسلافكم، ويشاهد بعضكم كثيرًا مما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد علم به، فإذا علم الحديث رآه واقعًا يعيشه، كما نشاهده من الفتن، وما نشاهده من القحط، وما نشاهده كذلك من انتشار الفجور في الأرض وملئها جورًا، وتعطيل كتاب الله تعالى عن الحكم، وما ذكر كذلك في سورة التكوير من الأشراط الصغرى، كقوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ[التكوير:1-5].
فهذه الأمور كلها مشاهدة! فالشمس كورت والناس اليوم جميعًا يعلمون أنها كرة، فهي بمثابة كرة تدور حول نفسها، وكذلك النجوم انكدرت، فقد تساقطت النيازك والشهب، وكثر ذلك كثرةً ملحوظة وبالأخص في هذه السنة التي اقترب فيها من الأرض مذنب أبقى كثيرًا من الآثار.
ومنها كذلك قوله: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ[التكوير:3] فقد أصبح في زماننا هذا، لدى الناس ولع بتسيير الجبال ونحتها، إما لأخذ ما فيها من المعادن والخيرات، وإما بتوسيع الأرض للبنيان والعمارة، وكل ذلك مشاهد يشاهده الناس، وقد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا رأيت بطون مكة قد تبعجت كوائم فاعلم أن الأمر قد أظلك)، وفي رواية كذلك: (إذا رأيت بنيانها يطاول القمم جبالها، فاعلم أن الأمر قد أظلك)، وقد شوهد هذا وحصل.
كذلك فإن قوله: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ[التكوير:4]، فإن الناس إنما كانوا ينتقلون، وينقلون الأثقال على الإبل، ولم تعد الإبل تستغل في نقل الأثقال ولا حملها، ولا في الأسفار كذلك، فعطلت عن وظيفتها التي كانت، وهي قوله: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ[النحل:7]، فقد عطلت العشار عن ذلك.
كذلك فإن من تعطيلها كما يذكر المفسرون: أن لا ترعى، وقد حصل في زماننا هذا إهمال كثير من الناس لإبلهم، فلم يعد الاهتمام بها كما كان، وكذلك قوله: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ[التكوير:5]، فقد حصل في زماننا هذا ولع لدى كثير من الدول والمؤسسات بفتح حدائق كبيرة للحيوانات، تجمع فيها الوحوش من مختلف الأزمان.
وكذلك تسجير البحار، فإن البحار ملئت بالسفن التي أصبحت السفينة الواحدة منها مصنعًا متحركًا، ففي هذا المحيط الذي لديكم للغربيين وحدهم مائتان وخمسون سفينة من سفن الصيد الكبرى وهي مصنع متحرك، فهذه البحار سجرت، أي: ملئت وشحنت بالسفن.
بالإضافة إلى التفسير الآخر، وهو أن التسجير معناه: إيقاد النار تحتها حتى تتبخر، وقد بدأت اليوم مشاريع تحلية المياه لتبخيرها وتقطيرها بأصقاع الأرض، ومع ذلك فهذا المحيط الذي تطلون عليه، يشقه بركان عظيم هو أكبر براكين الدنيا، وهو البركان الذي يسمى ...، فهذا البركان ينتقل من جنوب نيوزلندا إلى أن يصل إلى مقابل فلوريدا في الجنوب الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، فهو سائل دائمًا نار تسعر داخل المحيط، وتشاهد هذه النار بإقبالها بالمراسب، وتقاس سرعتها، وهم يعرفون سرعتها بالكيلو مترات الآن.
فهذه الأشراط قد شاهدتموها، وعرفتم إن: السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا[الحج:7]، فأين العمل؟ وماذا أعددنا لها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الرهط، فيسألونه عن الساعة فينظر إلى أصغرهم وأحدثهم سنًا فيقول: (لا يموت هذا حتى تقوم الساعة)، والمقصود بذلك القيامة الصغرى، فالقيامة قيامتان: القيامة الكبرى كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الساعة التي ننتظر قيامها وبدايتها بالنفخ في الصور، عندما يأذن الله لإسرافيل ، وقد أصغى ليتًا ينتظر الأمر، فيأمره بأن ينفخ في الصور نفخة الفزع أو نفخة الصعق، فتبتدئ مشاهد القيامة بذلك الوقت، تدحى هذه الأرض وتبسط وتكون جبالها كالعهن المنفوش، وتزول أوديتها وتخرج خيراتها وما دفن فيها من الناس والأموال وغير ذلك، وتطوى وتبدل غير الأرض، وتكون الأرض خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه، كما يتكفؤ أحدكم خبزته نزلًا لأهل الجنة، وتطوى السماء كذلك: كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104]، فتشقق: فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ[الحاقة:16].
إن الإيمان بهذه الأمور لا بد أن يترك أثرًا لدينا في العمل، وهذا المطلوب من تعلم أشراط الساعة، فتعلم أشراط الساعة لم يكن ذلك ليعجلها عن وقتها ولا ليؤخرها، ولم يكن ذلك ليصل إلى معرفة وقت قيامها فهي لا تأتي إلا بغتة، لكن فائدة التعلم لأشراطها أمران:
إحداهما: زيادة اليقين بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصديقه فيما أخبر، وهذا من مقتضيات شهادة أن محمدًا رسول الله، ومقتضيات شهادة أن محمدًا رسول الله ثلاثة: المقتضى الأول: أن يصدق في كل ما أخبر، فكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يجب تصديقه به.
والمقتضى الثاني: أن يطاع في كل ما أمر.
والمقتضى الثالث: أن لا يعبد الله إلا بما شرع.
فهذه ثلاثة مقتضيات من مقتضيات شهادة أن محمدًا رسول الله.
والفائدة الثانية المتوخاة من تعلم أشراط الساعة: هي أن تتأهب القلوب إلى الانتقال، وأن تتأهب الأرواح للعبادة، وأن تخف الأطراف لذلك والأجسام، فإن الساعة قد أتت مقبلة، وإن الدنيا قد ولت مدبرة، كما قال علي رضي الله، عنه فهذه الدنيا مدبرة، وهذه الآخرة مقبلة، فكونوا أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء الدنيا، اجتهدوا لأنفسكم في النجاة، فقد صح من حديث أبي ذر في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على المنبر خطيبًا فقال: اتقوا النار، ثم أعرض وأشاح ثم قال: اتقوا النار، ثم أعرض وأشاح، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة).
فاستعدوا يرحمني الله وإياكم لاستقبال هذه القيامة، فالقيامة الصغرى تشاهدونها يوميًا، فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، والقيامة الكبرى قد شاهدتم بعض أشراطها، وبقيتها على الأبواب، وإذا ظهرت إحداهما فالأخرى على أثرها، فاجتهدوا لأنفسكم بالتزود من هذه الدار للدار الآخرة.
فهذه الدار رغم نقصها ودناءتها، فالدنيا إما أن تكون مشتقة من الدنو لقربها، أو مشتقة من الدناءة لدناءتها عند الله، فهي على ذلك دار التزود للآخرة، فمن لم يتزود منها لا ينفعه عمل، فاجتهدوا لتتزودوا من هذه الدار لآخرتكم يرحمني الله وإياكم.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعلنا أجمعين هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك، وبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، وأصلح نياتنا وذرياتنا، ووفقنا لما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، واجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
السؤال: حديث: حدثاء الأسنان، الذين يخرجون آخر الزمان، المطلوب توضيح هذا الحديث وهل ينطبق على دعاة الصحوة الإسلامية اليوم؟
الجواب: بالنسبة للحديث المسئول عنه: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه: أنه قال: ( إنه في آخر الزمان يخرج قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يتكلمون من خير قول البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأوصاف الأخيرة الخوارج الذين يخرجون على عثمان و علي ، وقد أمر علياً بقتالهم، فذكر أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنه يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدكم في سنانه فلا يرى شيئًا، وينظر في قذذه فلا يرى شيئًا، ويتمارى في الفوق هل فيه أثر؟ وهؤلاء الخوارج خرجوا في زمن عثمان وهم الذين قتلوه، وخرجوا في زمن علي رضي الله عنه وقد قاتلهم رضي الله عنه.
وبين أن فيهم ذا الخويصرة وأنه سيقتله، وقد بحث عنه في القتلى فلم يجده، فأرسل عبد الله بن جعفر و الحسين بن علي رضي الله عنهم، فبحثا حتى وجدا ذا الخويصرة تحت القتلى فأتيا به، فكبر علي فقال: والله ما كذبت ولا كُذبت، فوالله إنه لفيهم، ثم شهد له ثمانمائة مِن مَن بايع تحت الشجرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقتالهم.
والفرق بين هذا الحديث وبين أحاديث الخوارج: أن أحاديث الخوارج ليس فيها ذكر في آخر الزمان، وهذا الحديث فيه ذكر لآخر الزمان، وبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم ميزة أخرى، وهي أنهم حدثاء الأسنان، وهذه الميزة لم تكن في الخوارج، بل ميزة الخوارج أنهم يجتمعون مع هؤلاء وأنهم يتكلمون من قول خير البرية، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وعلامتهم التحليق، والتحليق إما أن يكون معناه: أن يكون حلقًا في المساجد يعتزلون الناس ولا يحضرون الصلاة، أو أن معناه أنهم يحلقون رءوسهم ويخالفون بذلك الهدي، فكل هذا ممكن.
أما هؤلاء حدثاء الأسنان، فهم أصحاب الفتنة في آخر الزمان الذين يرتفع عنهم العلم، ويبقى هؤلاء يتمسكون ببعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يفهمونها، ولا ينزلونها على منازلها، فيحملون الحديث على غير مواضعه، وليس من هؤلاء طبعًا الذين يتسنون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويتمسكون بهديه ويبحثون عن علمه، ولا الذين يدعون إلى ما جاء به، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا مخالفين لهديه، بل هم الذين يدعون إلى ذلك.
وإنما هم الذين يخالفونه إلى ما يقولون، فيدعون الناس ويتكلمون بقول النبي صلى الله عليه وسلم وهم يخالفونه، فيشربون الخمور ويرتكبون المحرمات، فأقوالهم خير من أفعالهم، أفعالهم خسيسة خبيثة، وأقوالهم يتكلمون من قول خير البرية، وهذا هو النفاق، وسينتشر النفاق في آخر هذه الأمة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
ونحن نشاهد اليوم بدايات انتشار النفاق، فلم يعد أحد يثق بصدق أحد في المبايعة، ولا بصدق أمانته في الوفاء، وهذا ما حدث به حذيفة ، فقد صح عنه رضي الله عنه في الصحيحين أنه قال: ( اثنتان حدثني بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدت إحداهما وأنا أنتظر الأخرى، قال: والله ما أبالي من كنت أبايع منكم، فإن كان مسلمًا رد عليّ إسلامه، ولئن كان ذميًا رده عليّ ساعيه، ولقد أصبحت وأمسيت لا أبايع إلا فلانًا وفلانًا، وقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، وإنها يسرى عليها فتنزع من القلوب، فينام الرجل النومة، فتنزع الأمانة من قلبه، فيبقى أثرها كالوكت كجمر دحرجته على رجلك، فلبط وانتفخ فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، حتى يقال: في بني فلان رجل أمين )، فهذا بداية النفاق.
كذلك مخالفة القول للعمل، فكثير من الناس يخالفون ما يدعون إليه وما يرشدون إليه، ولا شك أن الذين يدعون إلى الحق ينقسمون إلى قسمين: منهم من يدعو إليه ويعمل به. وهؤلاء هم الذين سلكوا سنة الأنبياء، حيث قال خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ[هود:88]، ومنهم الذين يدعون إلى الحق ولا يعملون به، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء هم القصاص الذين حذر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون من الجلوس إليهم.
فالقصاص يحدثون الناس لينتزعوا أموالهم، فهم يقصون على الناس ليأخذوا منهم مقابل ذلك، وهؤلاء لا شك أنهم سيكثرون في آخر الزمان وينتشرون ويشتهرون، وحذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور )، وفي رواية: ( أو مراء)، وقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الذي نشأ في زمانه القصاص إذا رأى رجلًا يقص في طائفة المسجد جلس إليه، فإن علم منه الصدق قال له: قالون، أي: أحسنت، وإن علم منه أنه يخالف ما يقول أو أنه يتأكل بذلك، قال له: اجلس، إنما أنت رجل يقول: اعرفوني اعرفوني فقد عرفناك.
فلذلك ينظر إلى من يحدث الناس بالقصص، وهو الأخبار والإسرائيليات ونحوها، بهذه النظرة التي فعلها علي رضي الله عنه، فسنجدهم قسمين: من يريد تذكير الناس ووعظهم وإرجاعهم إلى الحق، ولا يتأكل بذلك، وهؤلاء هم الذين يستنون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.
والقسم الثاني: الذين يخالفون إلى ذلك ويتأكلون به، فهؤلاء هم القصاص الذين ينبغي أن يخرجوا وأن يسكتوا، وبالنسبة لما يتوهمه بعض الناس من هذا الحديث من أن كل من كان حدث السن لا ينبغي أن يتكلم في العلم، هذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على بعث فيه أبو بكر و عمر ، فقال: ( لئن تكلم الناس في إمرته لقد تكلموا في إمرة أبيه قبله )، وأمّر على مكة عتاب بن أسيد وهو في الرابعة عشر من عمره، ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بضع عشرة ليلة، جعله إمامًا للحرم وقاضيًا بمكة وواليًا عليها، وأمره أن يفصل بين الناس.
وأرسل علياً قاضيًا إلى اليمن وهو شاب حدث، فرجع إليه بعد أن وضع رجله في الغرز، فقال:
( يا رسول الله! إنك بعثتني على القضاء وأنا شاب حدث لا أدري ما القضاء، فضرب في صدري وقال: اللهم ثبت جنانه وسدد لسانه، وألهمه الصواب وعلمه الكتاب )، فما شككت في قضاء بعد ذلك، ولذلك قال فيه: ( أقضاكم علي )، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف ابن عباس بأنه ترجمان القرآن، وقد توفي عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكان عمر يدنيه، ويجعله من الملأ الذين يستشيرهم في أمور الأمة.
وكذلك الحر بن قيس بن حصن الفزاري كان شابًا حدثًا ليس في وجهه شعرة، وكان عمر يدنيه؛ لأنه كان من القراء، وكان القراء أصحاب مجلس عمر كما في حديث ابن عباس في الصحيحين، وكذلك من بعدهم، فقد كان مالك رحمه الله عندما تولى تدريس الحلقة شاب ليس في وجهه شعرة، وقال: ما جلست هذا المجلس حتى شهد لي سبعون محنكًا أني أهل لذلك، ومعنى: (سبعون محنكًا) أي: سبعون صاحب عمامة، ولم تكن العمامة في ذلك الصدر إلا لأهل العلم، الذين يتحنكون، أي: يجعلونها تحت الحنك.
وكذلك من بعدهم، فـالشافعي رحمه الله قدم على مالك ، وقد أتى بعلم اليمن وعلم مكة وهو في الخامسة عشر، من عمره، وذهب إلى العراق حينئذٍ ليأتي بعلم العراق، ولم يعش الشافعي رحمه الله إلا أربعًا وخمسون سنة، فقد ولد سنة مائة وخمسين، ومات سنة مائتين وأربع، مع كل هذا العلم الذي نشره وعلمه، وكذلك الإمام النووي رحمه الله لم يعش إلا إحدى وأربعين سنة، وكذلك البخاري لم يعش إلا ستًا وخمسين سنة، وهكذا كثير من أئمة الإسلام إنما درسوا في صغر أسنانهم وحداثتها، وهم الذين نشروا العلم، وحملوا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآفاق والأمصار، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثرهم من الشباب صغار الأسنان، ولذلك قال أبو سفيان لـهرقل حين سأله: ( أضعفاء الناس اتبعوه أم أغنياؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: هم أتباع الرسل )، وقد قال الله تعالى في حديثه عن موسى عليه السلام: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ[يونس:83]، فالذين يدعون إلى سبيل النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون بهذا السبيل، وهذا السبيل واضح لا مرية فيه، والذين يدعون إلى الباطل أيضًا يعرفون بالباطل الذي يدعون إليه، ولا مرية في ذلك الباطل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , أشراط الساعة للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net