اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإسلام بين جهل أبنائه وكيد أعدائه [2] للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإسلام بين جهل أبنائه وكيد أعدائه [2] للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فمن مجالات كيد أعداء الإسلام: الإعلام.
فالإعلام يعتبر في عالم الغرب السلطة الرابعة في الدولة، وهو مهم جداً في صياغة عقليات الناس، فالإعلام يمكن أن يروج الباطل حتى ينطلي على الناس، فيعلموا أنه هو الحق ويقتنعوا به، فكل من كرر عليه أمر كثيراً وسمعه كثيراً، وسمعه بلغات مختلفة أو بأساليب مختلفة في لغة واحدة، وتكررت سماعه له من فئات من الناس لا بد أن يجد في قلبه مقراً ولو يسيراً، فلذلك كان الإعلام من هذا الوجه وسيلة من وسائل صياغة الرأي العام، فلذلك وضع للإعلام برامج كثيرة متنوعة، وكثير منها لا تبدو مصلحته لنا، فالآن من المسلَّم لدى كثير من الناس أو لدى جمهورهم أنه لا يمكن أن توجد إذاعة تبث ما ينفع فقط، وتنقطع عما لا يفيد من البرامج غير النافعة، ولا أن توجد محطة تلفزيون تبث ما ينفع الناس فقط ولا تبث تلك السموم.
إذاً ارتبط في أذهان الناس أن وسائل الإعلام لا بد أن يكون فيها شر لا بد منه، ولذلك يقول بعض العقلاء: إنه لا يمكن الاقتصار على ما يفيد منه دون ما لا يفيد، وهذا انخداع للإعلام نفسه، فالإعلام هو الذي كون هذا الرأي العام لدى الناس، ولذلك تجدون أن الصنعة الإعلامية أصبح تخصص ذا دراسات معمقة، يصاغ الشخص فيه صياغة تأثير، معناه: كيف تختار العناوين المؤثرة التي تجلب الناس للاستماع إلى خبر رغم كل مشاغلهم، فالناس غارقون في المشاغل والهموم، وكل شخص منهم لديه من الواجبات ما هو أكثر من الأوقات، ولكن مع ذلك كل المشاغل لا تشغلهم عن الاستماع إلى الإعلام؛ لأن هذا الإعلام صيغ صياغة مبهرجة متناسبة مع أذواق الناس، ويقصد بها جلبهم وأخذ جزءٍ من أوقاتهم عن طريق القرصنة والسطو عليها، فينتزع من أوقات الناس وقت لو صرفوه في عبادة أو صرفوه في درهمٍ للمعاش أو صرفوه حتى في تدبر، أو صرفوه حتى في راحة بدن أو اكتساب علم دنيوي لنفعهم، ومع ذلك لو سألت شخصاً: هل لديك وقت لنذهب فيه إلى صلة رحم أو إلى عيادة مريض أو إلى زيارة المقبرة، أو إلى الذهاب إلى المسجد لنقمه، هل لدينا وقت الآن يمكن أن نقمّ فيه هذا المسجد، وأن نخدمه وأن تعطي من كل شهرٍ ساعةً واحدة من جهودنا جميعاً لخدمة المسجد؟ ومن الملاحظ أن الساعة التي يمكن أن نجلسها لاستماع درسٍ هذه الساعة ما استطعنا الجلوس فيها إلا من أجل الإعلام وللإعلانات وللدعاية، فهي التي جعلتنا نستطيع أن ننتزع هذه الساعة من أنفسنا، وإلا فلو اتفقنا فيما بيننا على أن نخصص ساعة واحدة من كل سنة لخدمة بيت من بيوت الله، لكان المسجد قد توسع كثيراً، وشمل الصفوف التي تصلي في الشمس؛ لأن ساعة واحدة من جهود هذا الملأ من البشر كفيلة بتحصيل مال طائل، وبتحصيل جهدٍ جهيد، ولكن الإعلام هو الذي يحول دون هذا، فلو قمنا بالدعاية لهذا لوجدنا كثيراً من المستجيبين له.
إذاً هذا الإعلام ذو خطورة بالغة في حياة الناس، ولذلك اختير له أهل الفساد، فهم الذين يُجعلون على رءوس المؤسسات الإعلامية، فكل مؤسسة إعلامية يختار لها ثعلب من ثعالب الشر فيوضع عليها، وهو يعرف المكائد وينتقي الأشخاص الذين يحيطون به، ويعرف كيف يؤثر في المجتمع وكيف يختار البرامج؟ ومع ذلك لا يرضون عن أدائهم، ففي كل فترة يأتي تغيير البرامج وإعداد مسطرة جديدة لوسائل الإعلام كلها.
وكذلك توجد هذه الدعايات المغرضة في الإعلام المقروء، كالجرائد والمجلات والنشرات والدعايات المختلفة، حتى إن هذا الإعلام الذي ينبغي أن يكون وسيلة جماهيرية في كثير من الأحيان ينصرف عن ذلك حتى تجد لدى المؤسسات الرسمية أو المؤسسات الشعبية إعلاماً مختصاً بها، فتجد في المؤسسة الواحدة نشرات للدعاية لأنشطتها ولما تزاوله داخل المجتمع، ومن هذا القبيل ما اهتدى إليه دعاة التنصير، والذين يتسترون بعباءة الأعمال الإغاثية الخيرية، فاستطاعوا أن يستغلوا الإعلام استغلالاً بالغاً، فالنشرات التي يوزعونها والكتيبات الصغيرة المطبوعة التي يوزعونها، وأيضاً المقابلات الصحفية، والنشرات التي تنشر في الجرائد والمجلات كلها استطاعت أن تصل إلى تحقيق بعض أهدافها، وإن كانت لم تصل إلى المستوى الأعلى الذي يرضون عنه؛ لأنهم لا يمكن أن يرضوا إلا إذا كفر المجتمع، فلذلك قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، فهم لا يرضون عن أدائهم، ولذلك تجدون في نشرة تقويمية قد أصدرتها كنيسة نواكشوط في فترة من الفترات، قد رأيناها يقولون: إن هذه الصحراء صحراء قاحلة يصعب فيها فن الزراعة، ولكنها بدأت فيها شجيرات تنمو لتصل إلى المستوى المطلوب، ما معنى هذا التقويم؟ معناه أنهم يقولون: إن الشعب بيئة قاحلة بالنسبة للعمل الكنسي، فالشعب مؤمن بطبعه، شعب يكره النصارى ويكره اليهود، ويكره الكنائس، ولكن مع ذلك وجدوا فيه بذرات خرجت فكانت شجيرات، ومعناه أشخاص استجابوا لهم وذلك في الخفاء فأثروا فيهم، واستجابوا لمطالبهم فصاروا نعوذ بالله من الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا.
هذه الدعاية الإعلامية تجدون أنها تنقسم إلى أقسام، بعضها دعاية للكفر، مثل: النشرات التي تحدثنا عنها، ومثل: الكتيبات الخضراء التي توزعها الكنيسة هذه الأيام هنا في نواكشوط، والتي يقوم على توزيعها بعض العاملين في السفارات الموجودة في نواكشوط، فالكتيبات الخضراء التي ترونها توزع في المساجد، كل كتيب منها من تسعة وأربعين صفحة، وهذا الرقم مخصوص، وهو تسعة وأربعون، رقم يرمز إلى مستوىً معين من التطور في خطة الكنيسة المقصودة هنا، وهي كتب طبعت في الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك مطبوع في الصفحة الأخيرة منها في الخلف (USA)، و(USA) معناها رمز للولايات المتحدة الأمريكية، فهم يوزعون هذه ويبذلون فيها الأموال الطائلة؛ من أجل أن تغزو البيوت، وقد كتب على أحد الكتيبات محبة الله، وعلى الآخر (كيف تعرف الله) وهي توزع بين المسلمين لينخدعوا بهذه الشعارات، وهذا نظيره كثير جداً، وهذا في المسجد في بيت من بيوت الله، في يوم الجمعة الأخيرة من رمضان، يوم وصل إلى صفوف المصلين بين ظهرانيكم، فما بال أهل الفساد إذا كان لديهم.
إذاً هذا النوع من الدعايات المغرضة هدفه واضح، وهو مكيدة من المكايد التي يقوم بها أعداء هذا الدين، لأن يجدوا موطئ قدمٍ في قلوب المسلمين، وهذا بلغة عربية وبأسلوبٍ مبسط، وهذا الكتيب الصغير جاء فيه كل شيء حتى أحكام الطلاق، بدأ أولاً بالعقيدة، وهذا العنوان محبة الله، ثم بعده بدأ بكثير من العنوانين الأخرى، مثلاً هنا -نعوذ بالله- أن المسيح عيسى بن مريم نسبوه إلى أنه ابن الله، كتبوا يسوع ابن الله، وهكذا في كل هذه.. إلى أن وصلوا إلى هذا العنوان مثلاً، ذكروا فيه أمور الطلاق، يقولون: الله يكلمنا عن الطلاق، فماذا قالوا؟ قالوا: وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني، وأن كل من طلق امرأته وتزوج بأخرى فإنه يزني.. وهكذا، فهذا أمر بسيط جداً من مكايدهم، ومما أقدموا عليه داخل صفوفنا، فهذا إذاً دعاية إعلامية للكفر الصريح.
لكن لدينا أنواعاً من الدعاية الإعلامية ليس للكفر الصريح، ولكن للكفر الملبس، فمثلاً: الدعاية للإباحية، الدعاية للربا، الدعاية للمحافل الراقصة، الدعاية لانتخاب ملكة الجمال، الدعاية لهذه الليالي التي يسمونها ليالينا، أو يسمونها المحفل الليلي، أو يسمونها المرقص أو نحو ذلك، هي دعاية لمعاقرة الخمور، ودعاية لإباحة ذلك وتعويد الشباب عليه، حتى إن أحدهم في مدينة نواذيبو هنا، وهو أب في الكنيسة أخذ مجموعة من الشباب فجعل لهم برنامجاً للتعليم، هذا البرنامج ما هو؟ فيه دروس في أمور تفيدهم يخدعهم بها، دروس في الحساب، ودروس في أمور تفيدهم في الميكانيك، لكن بعدها دروس أيضاً في ممارسة الجنس، معناه في اللواط في الانحلال، هذه الدروس يعلمهم إياها.
ونظير هذا كثير جداً، فأنا في هذه السنة قد لقيت رجلاً قد شاب من أفراد هذا المجتمع في ولاية تكانت، فحدثني عن رجلٍ من الألمان يعمل هناك في أوساط البدو، يقول لي: أقسم بالله إن كان المحسنون موجودين فهو أحدهم، فقلت: لماذا؟ قال: ما رأيته أتاه أحد إلا ذهب بحاجته أو بنصفها، هذا المطلوب، فالمطلوب فقط الأمور المادية التي صارت هي المعيار، معيار الإحسان معيار الفضل عند الله أصبح فقط إذا أتاه أحد ذهب بحاجته أو بنصفها.
إذاً هذا من الدعاية الإعلامية المغرضة، والدعاية إلى الكفر الملبس؛ لأن مجرد ولاء الكفار ومحبتهم والركون إليهم كفر، ولكن لو دعوا أمثال هذا الشيخ الكبير السن إلى الكفر الصريح، مثل الموجود في هذا الكتيب لما استجاب، ولكنهم يدعونه فقط إلى ولائهم أو إلى محبتهم.
شخص آخر في نواديفو يقول لبعض كبار السن الذين دأبوا ودربوا على الجهل ولا يصلون الصلاة بطهارة، وإنما تعودوا على هيئة للتيمم، ومن كان التيمم حكمه لا تجزئه هذه الصورة التي يعملونها، ويعلقون كثيراً من التمائم التي لا يعرفون ما فيها، دعاهم هذا الرجل فوزع عليهم مالاً، وقال: أنتم أهل الإسلام الحقيقي الذي عرفناه وأدركناه عند آبائنا، ولستم مثل هؤلاء الذين يتصفون بالصقالة والنظافة. كأن النظافة والصقالة معادية للإسلام، يريد أن يبعث في نفوس هؤلاء حزازةً وبغضاً للذين يدعون إلى المنهج الصحيح، وإلى الحق وإلى الصواب والعدل.
كذلك نجد بعض وسائل الإعلام تروج لبعض الأمور التي هي أقل ضرراً مما سبق، إلا أنه بالتدريج تتكامل هذه الوسائل كلها، بالتدريج إذا سمعنا الترويج لبعض الصفقات المربحة التي هي رباً محض، وتحركت غريزة الذين يحبون الدنيا ويتكالبون عليها وسال لعابهم من أجل تلك الصفقات المربحة، فإن ذلك عمل في داخل أوساط المجتمع للدعوة إلى إظهار الربا وتقوية أمره داخل المجتمع.
ونظير هذا إخراج المسرحيات الماجنة، والدعايات المغرضة التي فيها في كثير من الأحيان السخرية من الدين، والسخرية من أهله، والسخرية من الالتزام حتى من الأخلاق الطيبة، ويوجد في كثير من النشرات أو من الجرائد الساخرة، السخرية حتى من بعض القيم التي يتفق المؤمنون والكفار على أهميتها لحياة الناس، كالالتزام بالمواعيد أو كالالتزام بقول الحق، وتجدون الترويج لما يسمونه بالرأي العام لتبتيب، تبتيب معناه: كل ما هو مخالف للالتزام بالشرع وبالأخلاق وبالآداب الشرعية هذا يطلقون عليه هذه الأسماء الفضفاضة التي لا تدل على أي مدلول، فيشيعونه بين الناس.
ونظير هذا تركيز كثير من وسائل الإعلام في كثيرٍ من برامجها على بعض الأشخاص الذين يلمعون، ويبرزون على أنهم يمكن أن يتقبل منهم، وأن يسمع إلى كلامهم على أنهم علماء أو على الأقل على أنهم دعاة، أو على أقل من ذلك على أنهم مثقفون، فيأتون بفتاوي مخالفة لشرع الله تعالى، أو على الأقل بأمور تنافي الأخلاق والآداب الشرعية، فيسمعها ضعاف العقول وينخدعون لها؛ لأنهم لا يميزون في كثيرٍ من الأحيان بين أهل الحق وأهل الباطل، ولذلك توجد وسائل الإعلام التي تطلق الألقاب الفضفاضة الكبيرة على أشخاص لا يستحقونها، فأنتم تسمعون كثيراً من العلامات في وسائل الإعلام، ومع ذلك هذا الاسم كبير جداً إذا اتصف به شخص واحد أو شخصان فقط في بلادنا كلها فهذا شرف عظيم لنا.
فهذا الوصف وهذه الدعايات كلها تخدع كثيراً من الناس عن الرجوع إلى الحق، وتجعل لدى كثيرٍ منهم انفصاماً في الشخصية، فيسمع هذا يقول هذا الحكم، وهذا يقول خلافه، وهذا يقول وسطاً بين هذا، فيضيع مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ لأنه قد تعارضت عليه الفتاوي المتضاربة، وتعارضت عليها الأقوال المختلفة، فيظن أن معناه أن الإسلام غير منضبط، أو أن العلم الشرعي مدعاة للخلاف والتطاحن والتنافر بين الناس، وهذا خلاف الواقع، فكان هذا نتيجة للإعلام السيئ، إذاً هذا جانب من جانب المكايد.
من الجوانب البارزة في مكايدهم أيضاً: المكائد المتعلقة بالاقتصاد، ومن المعلوم أن النفوس مجبولة على حب الدنيا وعلى حب المال، والغربيون يسمون المال عصب الحياة، ويسمون الاقتصاد عصب الحياة؛ لأنه هو الذي يتحرك به الجسم الحي أياً كان، ويركزون على إفساد هذا الجانب بين الناس إفساداً عجيباً جداً، ومعلوم أن الأمانة سترفع من قلوب الرجال، كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأنه يقال في آخر الزمان: في بني فلان رجلٍ أمين.
ومعلوم في الصحيح أن حذيفة بن اليمان قال: ( والله ما كنت أبالي مع من أبيع منكم، فإن كان مؤمناً رده علي إيمانه، وإن كان ذمياً رده علي من عرفه، ولقد أصبحت لا أبايع إلا فلاناً وفلاناً )، فانتزعت الأمانة من كثيرٍ من القلوب، فعلى هذا الأساس أصبح كل ذي مالٍ يخشى على ماله، ويريد إيداعه في الوجه الصحيح الذي يحفظه عليه.
في هذا الوقت جاء اليهود فأقاموا المؤسسات البنكية، التي وفرت مكاناً لإيداع وحفظ هذه الأموال، والواقع أنها ليست لحفظ المال، بل هي لإتلافه، هل يتصور أن أي بنك من البنوك الربوية الموجودة يمكن أن يسدد الديون المودعة لديه في فترة عمره كلها؟ إنما يسددون الديون بالديون، فيأخذون مالك أنت فيصرفه، ثم يأخذ مال شخصٍ آخر فيقضيك أنت به، ومال شخص آخر فيقضي به ذلك الشخص وهكذا، فإذاً ليس هذا من الأمانة في شيء، وإنما هو خدعة ينخدع بها الناس، وهو كذلك ترويج للتعامل الربوي المخالف لشرع الله تعالى، وإدخال لبعض المؤسسات في حياة الناس حتى أصبحت داخلة في كيانهم، وأصبحوا لا يظنون أنه يمكن أن تقوم دولة بدون بنوك ربوية، وكثير من الناس يظن أن وجود البنوك الربوية من مقومات الدولة، وأنه لا يمكن أن تقوم دولة بدون بنوك ربوية.
والواقع اختلاف هذا فقد جربنا أشرف دولة وأعدلها وأقواها، هي التي كانت الأموال فيها تودع في المساجد، ولذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص : انظر إلى المسجد الذي بالتمارين فانقله واجعل بيت المال في قبلته، فإنه لا يزال في المسجد مصلٍ. بيت المال يجعل في المسجد، فلا يزال بالمسجد مصلٍ والمصلي أمين.
فالذين يرتادون المساجد ويعمرونها دائماً يوكل إليهم حفظ بيت مال المسلمين، هكذا ربانا أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ، وهكذا كان الأمر في عهد تلك الدولة، عندما كان علي بن أبي طالب يأتي إلى بيت المال فيخرج ما فيه وينفقه على مستحقيه، ويقمه بردائه، ويرش فيه الماء ويصلي فيه ركعتين لله تعالى.
وعندما كان عمر بن عبد العزيز يوقع تحت الورقة التي كتب إليه واليه على مصر كتب له: إن أهل الذمة قد أسلموا فخرب بيت المال، وارتفعت الجزية عنهم، فوقع تحتها عمر : بسم الله الرحمن الرحيم، سلام على من اتبع الهدى، إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً، لم يبعثه جابياً ليأخذ الدراهم والدنانير من الناس.
كذلك في هذا الجانب في جانب الاقتصاد حصلت المحاولات التي يقصد بها إغراق البلدان الإسلامية ممثلة حتى في أنظمتها التي وضعها الغرب واصطنعها، ومع ذلك لا يرضون عنها ولا يريدون أن يبقى لها ذكر ولا مقام، بل يريدون أن تبقى دائماً حليفة لهم دائرة في فلكهم القريب، ولذلك توجد التكتلات العصرية في عصرنا هذا، كلها تكون مستندة إلى ركنٍ ركينٍ من دول الكفر.
فمثلاً: تنظرون إلى منظمة الجامعة العربية من الذي اقترحها؟ بريطانيا ، الوحدة الأفريقية من الذي اقترحها؟ فرنسا، منظمة دول غرب أفريقيا من الذي اقترحها؟ فرنسا، منظمة استثمار نهر السنغال من الذي اقترحها؟ وهكذا.
فإذاً كل هذه التكتلات والمنظمات يقصدون بها السيطرة على منابع الاقتصاد واستغلال خيرات هذه البلدان، ولذلك تجدون أن الفرنكفونية مثلاً ما زالت تعقد مؤتمراتها ويدعى لها رؤساء هذه الدول، ولا يستطيعون التخلف عنها، ومن اعتذر عنها عوقب على ذلك، لماذا؟ لأنها بيعت لهذا النظام العالمي الجديد.
وفي عصرنا هذا وفي هذه السنة بالذات وقع جميع رؤساء الدول الإسلامية على وثيقة الجات وكثير من الناس يسمع هذا الاسم ولا يدري ما هو، فيظن أن الأمر من البساطة بمكان حتى كثير من الرؤساء الذين وقعوها لا يدرون ما وراءها؛ لأن الوثيقة التي وقعوها هي تشفير لأربع حاويات، معناها أربع كونتينارات مليئة بالأوراق، هل تظنون أن هؤلاء الرؤساء يمكن أن يدرسوا خلال ثلاثة أيام أربع كونتينارات من الأوراق مليئة بالطباعة.
إن هذه الاتفاقية نتاج لسبع وثلاثين سنة من التفكير الغربي للسيطرة على الاقتصاد في العالم الإسلامي في العالم كله، فأرادوا من خلالها أن يزداد الفقير فقراً، وأن يزداد الغني غنىً، ومن أبسط بنود هذه الاتفاقية اتفاقية رفع الضرائب الجمركية عن السلع المستوردة، ومن المعلوم أن البلدان الإسلامية غير مصنعة، وأن الدول المصنعة هي دول الكفر الكبرى، وأن البلدان الإسلامية إنما لديها بعض المواد الخام التي يعتمد عليها في التصنيع، فالغرب إذا أسقط الضريبة الجمركية عن المواد المصنعة لا يتضرر هو بشيء؛ ولذلك في ميزانية فرنسا لا تجدون أن بنداً من بنود الميزانية ذا بال في الإستراتيجية العامة الفرنسية يعتمد على الضرائب وعلى الموارد المستوردة؛ لأن فرنسا أصلاً لا يستورد إليها مواد، وأكثر المواد المهمة والمطلوبة مصنعة محلياً، فلا تحتاج إلى الاستيراد من موريتانيا أو من السنغال أو من المغرب، لا تحتاج إلى هذا، إنما تستورد المواد الخام، مثل الحديد، مثل الصلب، مثل النحاس، مثل النفط وهكذا، لكننا نحن كل ما لدينا مستورد حتى الصبغ الذي نصبغ به مساجدنا، والفراش الذي نبسطه في مساجدنا، والأجهزة التي نستغلها في دعوتنا، حتى الآلات التي نطبع بها مصاحفنا كل هذا الأمور مستوردة، الحرير الذي تكسى بها الكعبة المشرفة مستورد من ألمانيا، إذاً كل ما لدى المسلمين من هذه الأمور مستورد.
فالضريبة الجمركية الذي يتأثر بإلغائها هم المسلمون فقط، وكذلك المقصود به فك الحصار عن كثير من السلع التي يحتاج الناس إليها في المجتمعات.
فمثلاً: نحن نعلم أن السلع تنقسم إلى قسمين: سلع استهلاكية ضرورية في حياة الناس، لا بد للناس منها، وسلع تكميلية يحتاج إليها بعض الناس دون بعض، هل كل الموجودين في المسجد كل واحد منهم يحتاج إلى تلفون نقال، أو يحتاج إلى البيجر اتصال، أو يحتاج إلى مسجل كاست، أو يحتاج إلى سيارة مثلاً، أو يحتاج إلى تلفزيون، ليس الأمر كذلك؛ بل حاجتهم إلى المطعم والملبس والمسكن أبلغ وأكثر من هذه.
فإذاً هذه المواد إذا كانت غالية الأثمان لا يشتريها إلا قلة من الناس؛ لأن كثيراً من الناس يجد ضرورة إلى شرائها، فإذا رفعت عنها الضرائب انتشرت بين الناس واشتروها جميعاً، فأثرت في حياتهم، ومن المعروف التأثير البالغ لهذه السلع، فالتلفزيون الآن في البيوت التي دخلتها اتفاقية الجات تقتضي أن يرخص ثمن التلفزيون حتى يصير كل بيت في نواكشوط، وكل براد وكل خيمة يمكن لأهلها أن يشتروا تلفزيوناً، فيصاغ صياغة معينة مناسبة للبث الذي سيتجاوز الحدود؛ لأن هذا البث الذي يبثون فيه قيمهم وسمومهم، هذا البث يكون عبر أمواج الأثير.
وأمواج الأثير تنقسم إلى قسمين: أمواج أرضية، وأمواج سماوية.
فالأمواج الأرضية مقصورة على مكان معين، ولذلك يكون الاتصال بينها عن طريق الأسلاك بطريق الكيبلات، أو عن طريق الألياف الزجاجية وعن طريق غيرها من الوسائل، أما الأمواج السماوية فهي تنقسم إلى قسمين: أمواج إذا ارتفعت تعكسها طبقة اليونسفير فتردها إلى الأرض وبها يتم الاتصال العادي بين وسائل الاتصالات المقطوعة، أما الأمواج الأخرى فإنها تخترق طبقة اليونسفير وترتفع ولا بد في ردها وعكسها إلى الأرض بجرم في الفضاء الخارجي، وهذا الجرم هو الأقمار الصناعية، وهذه الأقمار الصناعية نحن لا نقدر على صناعتها ولا نستطيع إرسالها، ولكن الدول الصناعية التي وصلت إلى هذا المستوى تحتكر التكنولوجيا التي من أجلها وصلوا إلى هذا، وتحتكر الآلات وتحتكر الوسائل فهم الذين يستطيعون بث الإعلام الذي يخترق القارات.
ومن المعلوم أن الذين يسمعون إذاعة لندن في نواكشوط أكثر من الذين يسمعون إذاعة نواكشوط.
والذين يسمعون إذاعة القرآن الكريم مثلاً من القاهرة أو من بيروت أو من مكة المكرمة، أو إذاعة القرآن الكريم في أفريقيا من أم درمان من السودان، لا يعتبرون نسبة واحد في المائة من أفراد الشعب الموريتاني مثلاً، أو أفراد المسلمين كلهم، لكن الذين يسمعون إذاعة مونتكارلو أو إذاعة ميدي آه، أو إذاعة فرنسا الدولية، أو إذاعة لندن مثلاً لا شك أنهم هم الأكثرية في هذا المجتمع، هذه الإذاعات هي وسائل إعلامهم هم، وهم الذين يملكونها وهم الذين يوجهونها، ويضعون فيها ما شاءوا، ولذلك تسمعون أن البث المباشر التلفزيوني سيفتح قنواته على غرب أفريقيا في هذه السنة، وسيكون في هذه السنة بث مباشر لتلفزيون الخلاعة في فرنسا يصل إليكم هنا، فيمكن كل شخص من الشباب الصغار أو من ضعاف العقول أن يحرك زراً في التلفزيون، فيطلع له قناة من قنوات البث في ليون، أو في أي مدينة من مدن فرنسا من قنوات الخلاعة التي تروج لانحلال الخلق والأعمال الفاسدة.
إذاً هذه السيطرة المادية تقتضي أيضاً وجهاً آخر من الوجوه الماكرة في اتفاقية الجات، وهو أن الدول المصنعة الكبرى صناعتها غالية الأثمان؛ لأنها متقنة محكمة، ومعلوم الفرق بين الصناعة الألمانية والصناعة اليابانية مثلاً وبين الصناعة الكورية أو التايوانية، والصناعة التايوانية أو الكورية أو الصينية ضعيفة؛ لأنها تقليد للصناعة الألمانية أو الفرنسية أو الأمريكية أو البريطانية أو اليابانية مثلاً.
ومعلوم أن الساعات السويسرية ما تقارن بالساعات الصينية، ولكن الفرق أن الساعات الغربية التي هي لهذه الدول قوية، ومعها ما يسمى ببراءة الاختراع، وبراءة الاختراع معناه أنه حرم قانوناً أن يحاك هذا الجهاز بجهاز يشبهه، فيمنع الاقتباس منه، ويمنع صناعة جهاز على غراره، وبذلك كانت براءة الاختراع مقتضية بأن تبقى هذه الشركة دائماً متمسكة بأرباحها المتطاولة خلال خمس وعشرين سنة، في كل اختراع اخترعته، أي: يبقى كل شخصٍ اخترع أي جهاز أو أي فكرة محتوياً على كل أرباحها وكل نتائجها طيلة خمس وعشرين سنة.
أما الدول الشرقية التي تعتبر في عداد العالم الثالثة فصناعتها كلها تقليد، فالتقليد يدخل إلى الأسواق هناك يباع بأثمان رخيصة، والمعلوم أن السلع الرخيصة الآن هي من الصناعات الشرقية سواء كانت من الملابس أو من الأجهزة أو نحوها، التي تأتي من ماليزيا ومن تايوان ومن كوريا ومن الصين ونحوها.
هذه الآن باتفاقية الجات يمنع استيرادها؛ لأنها لا تحتوي على براءة الاختراع، فستبقى الأرباح كاملة دون منافس للدول الكفرية الغربية ذات الطاقات القوية، ويبقى الفقير مفروضاً عليها أنه يجد هذه السلع بنفسها بسعر أرخص لكن لا يستطيع شراءها، والأدوية التي تباع في الصيدليات، وهذه الأدوية أصلها يكون واضحاً معروفاً لدى الناس، ونسبة الدواء في كل عقار منها هي خمس وعشرون بالمائة، ونسبة خمس وسبعون بالمائة ليست دواء، وإنما هي تعتبر مواد حافظة أو مواد مصيغة، فمعناه الكثير منها مسحوق، وهذا المسحوق لا يمكن أن يأخذ دورته في المكينة إلا إذا خلط بمواد أخرى تسيره داخل المكينة، وكذلك مواد تغليف تغلف هذه الأدوية، هذه المواد كلها يمكن أن توجد بأثمان أرخص بكثير وصناعات تختلف عن الصناعات الغربية؛ ولكن لأن الغرب قد فرض براءة الاختراع، منع أن نستورد نحن نفس السلع بأسعار أرخص ولتؤدي نفس الدور؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى أرباح طائلة للغرب.
كذلك فإن أموال العالم الإسلامي كله تصب في بنوك الغرب، مثلاً: أسواق المال في العالم لا توجد إلا في ثلاثة مناطق: في طوكيو، وفي لندن، وفي نيويورك، فهذه أسواق المال في العالم، كلها هي التي تحتوي على عصب الحياة في العالم كله، وعلى أساسها يتم تقويم العملات وارتفاع أسعارها، والحكم في ميزان المدفوعات فيما يصدر من الخدمات أو ما يصدر من المواد أياً كانت ومن السلع، وهذا كيد من كيدهم لا يطلع عليه كثير من الناس.
كذلك من كيد هؤلاء ما يسمى بالبعثات والتعاون، ومعلوم أن في بلاد الإسلام حاجة إلى كثير من التخصصات، فالغربيون يختارون أشخاصاً فشلوا في القيام بمهماتهم في الدول الغربية، ويرسلونهم للدول الإسلامية للتجربة فيها.
فمثلاً: أنا أعرف مؤسسة إسلامية عربية كبرى للعلوم التقنية، وقد صنع جهاز في ألمانيا جديد، متطور جداً أنفقت عليها أموال طائلة، ولكنه كان من الغلاء بحيث لا يستطيع النزول إلى الأسواق العالمية، فجاء الخبراء والمستشارون الذين هم من المساعدة الفنية في البلدان الإسلامية هي التي ترسم هذه الحاجة، تحدد الحاجة للجهاز الفلاني، ويقترح المستشار على المؤسسة ومدير المؤسسة شراء الجهاز الفلاني، فاقترح على هذه المؤسسة شراء هذا الجهاز، فاشترته بأثمان طائلة، وكان الجهاز لا يستطيع تشغيله إلا رجل ألماني فجاء معه لتشغيله، وشغله ليس ليفيدنا به، وإنما ليجربه عليهم، فجرب عليه تجاربه حتى خربه وسافر وتركه خرباً.
إذاً الأثمان الطائلة التي أنفقت من بيت مال المسلمين استفاد منها ذلك الألماني فقط تجربته على هذا الجهاز وخرب الجهاز ونفد.
نفس الشيء في الولايات المتحدة الأمريكية تقام دورات تكوينية كثيرة، سواء في المجال العسكري أو غيره، وهذا الدورات تطلبها بعض البلدان الحليفة لأمريكا من البلدان الإسلامية والعربية، فأمريكا تقوم هذه الدورات بمبالغ طائلة، وهذه المبالغ إذا كان المهم تكوين ثلاثة أشخاص في الطيران مثلاً، أو تكوين ثلاثة أشخاص في البحرية، فتكتب ويأتي التقويم من البنتاجون مثلاً بمقابل ثلاثة وعشرين شخصاً، فتدفع الدولة الطالبة تمويل هذه الدورة التي تشمل ثلاثة وعشرين شخصاً، ثلاثة أشخاص فقط هم المستفيدون من تلك الدولة، والعشرون الآخرون يؤخذون من البلدان الإسلامية على أنها مساعدة من أمريكا، وأمريكا ما نقصت ميزانيتها دولاراً واحداً في هذه الدورة، والدورة كلها ممولة من بلد عربي إسلامي، لكن الحمد فيها والثناء سيكون لأمريكا؛ لأنها التي دعت الأفراد الذين كونتهم من بلدان مختلفة، وبذلت هذا المال الذي هو من بلدان الإسلامية لتكوين هؤلاء الرجال الذين هم من أولاد المسلمين، وهذا النوع من المكايد يفوت الحصر، وهو كثير جداً.
يأتي وجه آخر من أوجه المكائد فيما يتعلق بالأخلاق والآداب، ومعلوم أن لكل مجتمع آداباً وأخلاقاً وقيماً يألفها، وتعتبر معياراً للفضل فيه، ونحن قد حدد لنا الشرع أخلاقاً وآداباً وقيماً مشروطة علينا، رضيها لنا خالقنا الذي هو أعلم بما يصلح لنا، ولا يمكن أن تقبل النقاش، ولا يمكن أن يرشح أن غيرها أنسب منها أو أولى، فالله هو الذي خلق الناس وهو أعلم بهم: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
وإذا كانت هذه الأخلاق مقررةً شرعاً، والله تعالى هو الذي رضيها لعباده، فليس من الممكن أن تناقش أصلاً ولا أن يبحث هل يمكن أن يكون غيرها أنسب منها، أو يمكن أن تطور، أو يمكن أن تكون المصلحة مخالفة لها؟
مع هذا نجد أن كثيراً من الأخلاق والآداب تضفى عليها بعض العبارات الفضفاضة، فتسمى تارة بالرقي وتارة بالتطور، وتارة بالتقدم، وتارة بالازدهار، وتارة بغير هذا من الألقاب الكثيرة: المدنية الحضارة الثقافة، وكثير من هذه الأسماء تنقل عن مسماها، فيسمى بها بعض هذه القيم والأخلاق المنحلة المخالفة لما شرع الله لنا؛ ليكون ذلك ترويجاً لهذا الباطل وتمويهاً على الناس لينخدعوا بذلك البهرج.
فهل يمكن أن تسموا شخصاً ما من الملتزمين بالشرع أنه مترقٍ مثلاً لدى الناس أو مثقف أو متحضر؟ لا، بل هذه مرتبطة في الأذهان بأوصاف معينة، المتحضر معناه الذي يقطع رحمه، ويأكل خيره لنفسه ولا يصل خيره إلى غيره، ويقوم بسلوكيات معينة منصوصة معروفة بين الناس مخالفة لشرع الله تعالى.
إذاً هذا هو الذي سار الناس عليه وانتشر؛ لأن هذه القيم وهذه الأخلاق هي أخلاق الغرب، وهذه الآداب هي آدابهم، ففي العالم الغربي دور الحضانة مفتوحة لكبار السن، كل من لديه شيخ كبير في السن، سواء كان أباه أو أمه أو عمه أو خاله، إذا وصل إلى سن معينة وانتقص إنتاجه، ولم يكن مشاركاً في ميزانية الأسرة يذهب به إلى دار الحضانة ويسلمه لهم.
وكذلك من كان لديه فائض من المال أكثر من حاجته وهو كبير السن، لا يدعه ميراثاً لأولاده، وإنما يوصي به لكلبه مثلاً، أو لبعض المؤسسات التي تعمل في مجالٍ تافهٍ معين.
وأنا أعرف وأعلم علم اليقين بقضية سيستنكرها كثير منكم، ويزعم أنها من مجرد هراء ومن القول الذي لا يثبت، ولكنها ثابتة، وهي أن رجلاً إنجليزياً كان من الأغنياء، فلما كبر في السن جفاه ذووه؛ لأنه ليس فيه بركة ولا انتفاع، وهو سيئ الخلق والدين فلا حاجة بأحد إليه، فعاملهم بجفائهم وأخذ ماله كله وأوصى به لكلبه وأثبت ذلك عند المحكمة، فالكلب الآن يعتبر من الأثرياء في لندن، وتضرب له المواعيد لمقابلته، وله قصاص خاص هو الذي يحلق شعره، وله شخص هو الذي ينظفه، وتشترى له المضاجع الفخمة وغرف النوم الفخمة لهذا الكلب، وله سكرتير ينظم له المواعيد، مواعيد مقابلة هذا الكلب، ويعتذر عن المقابلة والموعد غداً أو بعد غد.
هذه كثير من الناس ينكرنها ولا يستطيع أن يستوعبها عقله، ولكنها واقع.
كذلك من هذه المكايد التي يقوم به أعداء الدين لهم: تقطيع الصلات والوشائج بين المسلمين، فالمسلمون جسد واحد وأمة واحدة كما وصفهم الله بذلك، والقبلة التي يستقبلونها بصلاتهم واحدة، والفرائض التي يقومون بها موحدة، ومصيرهم موحد، ومستقبلهم واحد وآمالهم واحدة وآلامهم واحدة، ولكن أعداءهم استطاعوا أن يقطعوهم إلى دويلات، هذه دويلة هنا، وهذه دويلة هنا، والذي يقف على حدود هذه وهذه لا يجد أن أرض هذه من الذهب، ولا أن أرض تلك من التراب، الأرض واحدة والشعب واحد، والعقيدة واحدة هنا وهناك، والقبلة واحدة، والقرآن واحد، فهذه التفرقة دخلت في كياننا.
كل شخص لو سئل: هل أنت من الدولة الفلانية، لو قيل لشخص ما: هل أنت من المغرب؟ لامتعض من هذا وأنكره، ولو قيل له: هل أنت من السنغال؟ لامتعض من هذا وأنكره، هل أنت من مالي؟ لأخذته الحمية والسخرية، لماذا؟ ما الفرق بين هذه الدول؟ لا فرق بينها، فهؤلاء كلهم مسلمون، وكلهم عباد لله يرجعون إلى أبٍ واحدٍ وأمٍ واحدة، مستقبلهم واحد، وكلهم بمنظار الغرب من العالم المتخلف بمثابة الشياه التي تباع وتشترى، وكلهم في منظار الإسلام من أهل العزة: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، وذوي الأخوة وذوي الخير، ومن الذين ينبغي أن تزول الفوارق بينهم، وأن ينظروا إلى المعيار الحقيقي: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لكن في معيار الغرب ينظر إليهم على أنهم كلهم أرقاء للغرب، وكلهم من الشعوب المتخلفة التي لا تصلح حتى للنصرانية، ويقولون: هؤلاء لا يصلحون لأن يتحملوا أعباء النصرانية ولا أعباء اليهودية، وإنما نعطيهم منها ما يشككهم في دينهم ويخرجهم منه فقط، ولا يصلحون لأن يتحملوا أعباء النصرانية، فيحصل لهم الشرف بها.
إذاً هذا دخل في كياننا ووضع لنا كثير من الأعلام والأسماء البعيدة، التي ما ندري من أين أتت؟ هل فيكم من سمى هذه البلد بموريتانيا؟ إن الذي سماها هو لجنرال ديغول ، والواقع أنك إذا بحثت عن هذه الكلمة وعن مكانها وتحديده في الكتب القديمة تجد أن موريتانيا معناها مكان من تونس وليبيا من مورقا إلى شرق الجزائر إلى التلمسان فقط، وموريتانيا في لغة الرومان معناه أرض العرب أو أرض البيض، أو أرض السمر، وأصبح المورو معناه المسلمين في اللغة الأخيرة، فمثلاً الآن: الموريس في أسبانيا معناه بقايا المسلمين الذين كانوا في الأندلس، والمورو في جنوب الفلبين معناه المسلمون في ذلك البلد، لكن المهم أن هذه الكلمة المقصود بها قطع تعلق هذا الشعب بأسلافه، وبالذين سبقوه، وأتوا إلى هذه البلاد حاملين مشعل هذا الدين، وناصرين لدين الله تعالى ومجاهدين في سبيله.
ولو كان ديغول اقترح أن تسمى هذه البلاد بلاد المرابطين، وهل معنى هذا أنه سيثور على نفسه؟ فالمرابطون لا يمكن أن يستكينوا لـديغول ؛ لأن هذه الكلمة ترمز لفترة زمنية ذهبية مرت على هذه البلاد، والمرابطون لا يمكن أن يستكينوا وأن تخضع جباههم ووجوههم لغير الله، إنا لغير الله لا نركع، لا يمكن أن يستسلموا لهذه المكايد التي ذكرناها، والمرابطون هم الذين أخضعوا الأسبانيين يوم الزلاقة، وقتلوا منهم مائة وعشرين ألفاً حين ثاروا في وجوههم في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان، وهم الذين نشروا الإسلام في أدغال إفريقيا ونصروه، وهم الذين أقاموا دولة الإسلام في المغرب والأندلس وهذه البلاد، وهم الذين حرروا الناس من الرق للناس وأخلصوهم للعبودية لله سبحانه وتعالى.
فإذاً إذا ربط هذا الشعب بالمرابطين لا يمكن أن يقبل الانفصال عما سلف، وعن حياة أسلافه وعما كانوا فيه.
كذلك لو سمي هذا البلد بأي اسم آخر، لو سمي باسم عقبة بن نافع أو سمي باسم عبد الله بن ياسين أو سمي باسم أبي بكر بن عمر ، كما سماه الشيخ ابن درماني قال:
بلاد العامري لنا اصطفاها فبارك ربه فيها وفينا
لو سمي باسم من هذه الأسماء المثيرة، التي تصل هذا الشعب بتاريخه وحضارته ومجد أسلافه، فإن ذلك منافٍ لما يريده الغرب منا، فلذلك يختارون الأسماء التي لا نعرف معناها، ولا نعرف مدلولها، ولا ندري من أين أتت، ويقطعوننا بها.
وكذلك الرمز والعلم الذي يكون في كل بلد، مثلاً الأرز في لبنان، والأعلام الموجودة لكل بلد، هذه الأعلام ما علاقتها بحياة الناس، وما فائدتها فيه، وما الفرق بين هذا العلم وهذا؟ هذا إنما هو بمثابة طقوس كنسية مسيحية، تربط الناس ببعض الإشارات، مثل إشارات المحف الماسوني ونحوها.
فمن المعلوم أنه عند رفع العلم لا بد أن يثبت كل شخصٍ على هيئةٍ معينة؛ لئلا يتحرك حركةً، حتى إن كثيراً من الذين يثبتون ذلك الثبات لو وقف الخطيب على المنبر يوم الجمعة لتحركوا كثيراً من الحركات المنافية للأدب الشرعي، الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت )، وفي الحديث الآخر: ( من حرك الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له ).
فإذاً هذه الرموز وهذه الطقوس، إنما قصدوا بها تفريقنا وبث السموم فيما بيننا.
كذلك داخل البلد الواحد يأتون بالتفريق وإثارة بعض الناس على بعض ببعض النعرات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فيأتون داخل البلد الواحد إلى أن يجعلوه ولايات معينة لها حدودها، وهم الذين رسموا هذه الحدود؛ ليقع التنافس بين هذه الولايات في كثير من الأمور الدنيوية.
يفصلون أيضاً بين هذه الولايات فيما يتعلق بالثقافة، ويركزون ثقافتهم في ولاية معينة ويأخذون أولادها ويثقفونها بثقافتهم ليكون لها المناصب، وليكون ذلك على حساب الولايات الأخرى، ثم يثيرون نفس النعرة لدى الولايات الأخرى، يقولون: هذه الولاية متخلفة ما فيها مثقفون، ولم تنل وظائف ولا مناصب في الدولة، ولم يكن لها تأثير على خلاف الولايات الفلانية الأخرى، وهذا ليس من عمل الدولة ولا من عمل المثقفين أنفسهم، وإنما هو من قبل المستعمر الذي اختار النخبة التي درسها من هذه الولاية أو من تلك وأهمل الأخرى.
وكذلك يقومون ببث روح التفرقة بين فئات الشعب، ونحن نعلم أن الله عز وجل فاضل بين الناس في الرزق، وجعلهم متفاوتين فيه؛ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، وهذا التفاضل في الرزق والتفاوت فيه، والتفاوت بين طبقات المجتمع ليس للفخر ولا للخيلاء، ولا لأن يعتزوا عليهم ويسخروا منهم، بل قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11]، ولكن للتكامل والتكافل، فهذا الشخص يستطيع أن يقوم بعمل حرفي يدوي يخدم به إخوانه، جزاه الله خيراً، وقام بمهمة لا بد منها والعمل شرف، وهذا آخر يقوم برعاية مواشٍ لو لم ترعَ لضاعت، فقام بخدمة جليلة للمجتمع قام بها الأنبياء من قبل، فهذا ينبغي أن يكون شرفاً، وألا يجد في نفسه مسكنة ولا مذلة بسبب العمل الذي قام به؛ لأن العمل شرف، وهذا عمل الأنبياء.
كذلك هذا يعلم الناس الخير وهذا أيضاً شرف ومهمة، وليست أشرف من كل الأعمال الأخرى، بل هي مثلها، وهذا الآخر يحمي الناس ويمنع الظلم ويقوم بالعدل بين الناس وهذه مهمة شريفة ونبيلة، وليس هي كل شيء، فإذا تكافل الجميع وكل شخص منهم قام بدوره الناسب، ولم يجعلوا ذلك للفخر ولا للخيلاء ولا لتكبر بعضهم على بعض، بل جعلوه من أوجه التعاون لم يكن فيه شيء، ولم يكن فيه خلل، لكن إذا جاء المستعمر إلى كل فئة من هذه الفئات، وجعل لها مكانة اجتماعية معينة، وأنها مسحوقة أو أنها مظلومة، أو أن هذه الطبقة من الناس هي المضطهدة، وبث هذا في نفوسها، وبث أيضاً في نفوس الطبقات الأخرى التكبر عليها والنفرة من هذا العمل وازدراءه واستهجانه، فهذا يكون سبباً للنفرة بين طبقات الشعب، وسبباً لحصول ما حصل في أوروبا أيام الطبقية التي كانت سبباً للثورة الفرنسية.
في أيام المرابطين كان كل العمل شرفاً، فالذي يعمل بحرفة يدوية حرفية يخدم دينه وأمته بخدمة لا يستطيعها غيره، فهو في مقدمة الشرف بالنسبة لهذه الأمة، وأنتم تعلمون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم ذلك، أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيهم خباب بن الأرت وكان حداداً، وهو الذي يحد السيوف والذي يصنعها، وهو من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الذين لهم مكانة عالية في قلوبكم، ومنهم تجار من أمثال عمار بن ياسر ، ومن أمثال عبد الرحمن بن عوف ، ومن أمثال عثمان بن عفان ، فهم يمارسون التجارة وهذه مهنة، وليست منقصة فيهم، بل هي مهنة لخدمة دينهم، بذلوا الكثير في سبيل الله، وأحسنوا إلى إخوانهم الفقراء وساعدوهم، وكانوا بذلك أيضاً يحتلون هذه المكانة العليا في نفوس الناس. ومنهم رعاة للأغنام مثل: ابن مسعود ومثل غيره من كبار الصحابة وذوي الفضل عند الله تعالى وعند الناس، والذين لهم المكانة في صدوركم، ولا ينقص ابن مسعود لديكم اليوم بعد ألف وأربعمائة سنة أنه كان يرعى الغنم، وينال عيشه من ذلك، لا بل هذا يزيد منزلته عندكم، ولا يزيد منزلة خباب بن الأرت أنه كان حداداً، ولا يزيد منزلة عمار أنه كان يقوم بالوساطة في البيع بين الناس.
وهذه وظائف للمجتمع هم بحاجة إليها وليس لهم غنىً عنها، ومن قام بها قام بفرض كفاية لا بد منه، فعلى المجتمع أن يحبه لما يقوم به من خدمتهم، وعليه أن يقدر له وصفه، ونحن نعلم أن هذه الفئات التي تقوم بهذه الأعمال فيها الطالح والصالح، فمن كان صالحاً منها فهو في الدرجة الأولى في المؤمنين من حيث الفضل، ومن كان طالحاً منها، فهو مثل غيره من الطالحين من المؤمنين ليس أقل منهم ولا أعلى.
إذاً هذا التمايز بسبب مجرد العمل، أو بمجرد أنساب مستورة لا نعرفها، والله أعلم بها وهي منقطعة يوم القيامة كل سبب ونسب منقطع، إنما كان كيداً من كيد أعداء الإسلام؛ ليكيدوا به المسلمين في عقر دارهم؛ ليقع التنافس بينهم والتكاثر في أمور الدنيا، وينصرفوا عن أمور الآخرة، ولئلا يقع التنافس على أمور الآخرة، ولو أنهم أقبلوا جميعاً على أمور الآخرة وكل فئة رأت الفضل لأهله من بينها، وكل فئة كان فيها أتقياء رآهم الشعب والمجتمع وكله على أنهم فوق الرءوس وأمام الأعين، وأشير إليهم بالبنان، وكان ذلك مدعاة إلى أن تكون مهنتهم شريفةً محمودةً من الناس.
ومعلوم أن كثيراً من السلف نظراً لصلاحهم وحسن حالهم، ولحب الناس لهم تعلق الناس بالأعمال التي كانوا يقومون بها، وحياة العلماء مثلاً في سيرهم وأوصافهم، فـسعيد بن المسيب كان تاجراً في الزيت، لا يبيع إلا ثمن أربعمائة من الزيت، وما زاد عنها تصدق به في سبيل الله، فإذا ربح ربحاً زائداً على أربعمائة تصدق به، فرأس ماله أربعمائة، ولا يريد زيادتها أبداً لأنها تكفيه لنفقة أهله.
وغيره مثل مطر الوراق كان يكتب كتباً للناس ويبيعها، وهذا يقوم بخدمة لا بد منها، ومثل لوين كان يبيع الخيل للناس، وكان إماماً من أئمة الحديث، وغيرهم كثير جداً، وتجدون في ألقاب العلماء الدباغ، وغيره من الذين يقومون بأعمال كثيرة، من الأعمال التي يحتاج إليها الناس، وهي شرف وخدمة للمجتمع وخدمة للدين، وبحسب فضل صاحبها يكون فضلها هي.
فكيد أعداء الإسلام هو الذي جعل من هذه الحرف منقصة لدى بعض الناس، وجعل الذين يمارسونها حتى ولو كانوا أتقى الأتقياء لديهم منقصة في أنفسهم، وشخصياتهم ضعيفة مهزوزة؛ لأنهم يتخيل إليهم أن الآخرين ينظرون إليهم نظرة ازدراء، ويكون الواقع في كثيرٍ من الأحيان خلاف هذا، بل إني موقن أن كثيراً من الجالسين هنا لا ينقص لديهم أحداً من الأتقياء أو من ذوي الفضل من المؤمنين أنه يمارس حرفة يدوية, بل أوقن يقيناً أن كثيراً منهم يعجب كثيراً إذا رأى شخصاً من الدعاة المخلصين، أو من العلماء البارزين يمارس حرفةً يدويةً يعيش منها، ولذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعيشون من كسب أيديهم؛ لأنهم سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما عاش امرؤ بعيشة أحل من كسب يده، وكان نبي الله داود يعيش من كسب يديه ).
فـ سلمان الفارسي رضي الله عنه لما ولاه عمر على مدائن كسرى كلها، ما كان يأخذ راتباً من بيت المال، وإنما كان يعيش بخدمة يديه، وكان يؤبر النخل للناس ويعطونه مقابل ذلك فيعيش عليه.
و علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يعيش من كسب يده، فكان ينزع الماء من الآبار يجلبها على ظهره، ويأخذ مقابله تمرات فيحملها في كفه ويطعمها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره وخليفته.
إذاً هذا العمل شرف وازدراؤه وازدراء من يقوم به خدعة يخدعنا بها أعداؤنا، فعلينا أن نزيلها من أنفسنا، وأن نعلم أن مجرد تفاوتنا في العمل والخدمة حكمة ربانية، فالله تعالى هو الذي قسم الأرزاق، فكتب بين عيني هذا الشخص أن رزقه في صياغة الذهب، وكتب بين عيني هذا الشخص أن رزقه في السمك في البحر، وكتب بين عيني هذا أن رزقه فيما يتعلق بالصناعة اليدوية، وكتب بين عيني هذا أن رزقه فيما يتعلق ببيع الماء وجلبه على الحمر الأهلية، وكتب بين عيني هذا أن رزقه بالتجارة، وكتب وكل هذه وظائف شرعية، والله تعالى كتب حاجة المجتمع إليها وصرف أقواماً ليقوموا بهذه الخدمة، فلو لم يقوموا بها. فمثلاً لو أن أهل نواكشوط لم يكن فيهم أحد مستعداً لخدمة المجاري أعزكم الله، الصرف الصحي ما نسميه بالكباين، فإنهم سيتضررون بذلك ضرراً بالغاً كثيراً، وأصحاب البيوت يعرفون هذا الضرر.
إذاً فحكمة ربكم ظاهرة حين صرف أقواماً إلى هذه الخدمة، ورأوا أن أرزاقهم فيها، وكتب الله لهم الرزق في هذه القضية، فلذلك ليس هذا مدعاة لأن نزدريهم ولا أن نحتقرهم، فهم قاموا عنا بعمل لا نستطيعه وفيه خدمة لنا، فينبغي أن نحمدهم عليه وأن نثيبهم، ومن كان منهم صالحاً كان من الشرفاء منا، ومن كان طالحاً كان مثل طلحائنا الآخرين، لا يزيد عليهم ولا ينقص منهم.
إذاً لا بد من ملاحظة هذا الوصف.
ولو أن هذه المكايد لم تجد غفلة من المؤمنين أنفسهم، ولو لم تجد غفلة في أبناء الإسلام لما عملت عملها فيهم، وهذه الصحوة المباركة هي الأمل بعد الله تعالى لإزالة هذه المفاهيم وصقلها من النفوس، وتطهير القلوب عن هذه الأدران التي جعلتها محلاً لكيد أعداء الإسلام، والله تعالى ناصرٌ دينه لا محالة ومظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وسيعز الله تعالى هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، والله هو الذي يشرف أقواماً بأن هيأهم لخدمة دينه وهو غني عنهم، ولو شاء لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإسلام بين جهل أبنائه وكيد أعدائه [2] للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net